مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 الإصلاح والتغيير .. والفرعونية‏

 

الإصلاح والتغيير .. والفرعونية‏

 

بقلم : سعد رجب صادق
........................

لا يمكن لمجتمع ما أن يُغَيِّر أوضاعه الفاسدة ، أو يُصْلح أحواله المائلة ، بدون أن يضع يده على علله وأمراضه ، فيحددها علة علة ، ويحصرها مرضا مرضا ، ويبين أسبابها ، وعوامل تمكنها وانتشارها ، ويبحث فى طرق مقاومتها ، وسبل الخلاص منها ، وكيفية تفاديها مستقبليا .. بدون ذلك تتعاظم احتمالات تكرار الأخطاء ، وتتزايد فرص الوقوع فريسة لنفس المعايب والزلات ، والفرعونية هى أقبح علل المجتمع المصرى ، وأشدها خطرا ، وخاصة أنها أصبحت على مر القرون لازمة لهذه الأمة ، ودلالة على العلاقة التى تربط شعبها بحكامه .. الفرعونية البغيضة صارت رمزا للطغيان والظلم والاستبداد ، تمارسه الطغمة الحاكمة ، وتهلل لها غالبية النخبة الضالة الفاسدة ، ليعانى من كليهما المجتمع ، الذى يقابل ذلك بالانتفاض والتململ أحيانا ، وفى أحايين أخرى كثيرة بالحيرة والسكون والاستكانة ، ولكنه بالقطع لا يمكن أن يكون راضيا بالذل والحرمان والهوان ، لأن الطبيعة البشرية السوية تتأبى ذلك ولا تتقبله .. ويتناول هذا المقال الفرعونية من جوانبها المختلفة ، وكما أبرزها القرآن الكريم فى قصة موسى عليه السلام .

أولا : ما هى الفرعونية ؟

يُعَرِّف معجم [ لسان العرب ] الفَرْعَنَة بأنها الكِبْر والتجبر ، وكل عاتٍ فهو فِرْعَوْن ، والعتاة هم الفراعنة ، وقد تَفَرْعَنَ ، وهو ذو فَرْعَنَة ، أى ذو دهاء ومكر ، والفرعون بلغة القِبْط هو التمساح ، وفى [القاموس المحيط ] أن الفرعون هو التمساح ، وهو أيضا لقب لكل من ملك مصر ، أو كل عات متمرد ، وتَفَرْعَنَ أى تخلق بخلق الفراعنة ، والفَرْعَنَة هى الدهاء ، وهى أيضا نفس التعريفات الواردة فى [ الصحاح فى اللغة ] .
وأصل الكلمة من اللغة المصرية القديمة أو الهيروغليفية Hieroglyphic هو ( بر- عا ) ( pr- aa ) ، وتذكر [ دائرة المعارف البريطانية ] Encyclopaedia Britanica , 2008 أن تلك الكلمة مركبة من ( بر pr ) ، وتعنى بيت house ، و (عا aa ) وتعنى عمود أو column دلالة على فخامة البناء ، ويكون المعنى البيت العظيم أو الكبير ، إشارة إلى القصر الملكى royal palace ، وقد بدأ استعمالها للمرة الأولى للدلالة على الحاكم فى خطاب موجه لـ " أمنمحتب الرابع " Amenhotep IV , 1353-1336 BC ، وكان ذلك فى زمن الأسرة الثامنة عشرة Eighteenth Dynasty فى فترة المملكة الحديثة New Kingdom ، حيث تم استخدامها وحدها : " فرعون .. لك الحياة والنجاح والصحة " Pharaoh .. all life , prosperity and health ، وأصبحت فى فترة الأسرة التاسعة عشرة متشابهة فى الاستخدام مع كلمة hm.f الهيروغليفية والتى تعنى جلالة أو فخامة His Majesty ، وفى أواخر الأسرة الحادية والعشرين ( القرن العاشر قبل الميلاد ) تم إضافة ألقاب أخرى مع الكلمة تسبق جميعها اسم الحاكم ، وفى زمن الأسرة الخامسة والعشرين ( القرن السابع والثامن قبل الميلاد ) أصبحت مرة أخرى اللقب الوحيد الذى يسبق اسم الحاكم ، ثم نقل الأغريق الكلمة إلى اليونانية القديمة ( pharao ) ، ثم اللاتينية ( pharao ) ، ومنها الكلمة الإنجليزية pharaoh ، وقد أصبح من المقبول الآن بين الكُتَّاب استخدام الكلمة للدلالة على كل حكام مصر فى كل العصور ، وأصبح من المقبول أيضا استخدام وصف الفرعونية للدلالة على نظام الحكم المتصف بالظلم والاستبداد والتفرد ، واستخدام وصف الفرعون للدلالة على كل حاكم متسلط لا يقيم لشعبه وزنا أو مكانة أو اعتبارا ، وتقابل الفرعونية فى الكتابات السياسية المعاصرة مصطلحات عديدة مثل absolutism , authoritarianism , autocracy , despotism , dictatorship , totalitarianism وغيرها ، وكلها تعنى حكم الفرد ذى السلطة المطلقة .

ملحوظة :
1- قسم المؤرخ المصرى Manetho فى بدايات القرن الثالث قبل الميلاد ، التاريخ المصرى القديم إلى فترات حسب الأسرة الحاكمة dynasty ، وتبدأ بالأسرة الأولى ( 2686-3100 قبل الميلاد ) ، وتنتهى بالأسرة الثلاثين ( 343-380 قبل الميلاد ) ، وتضم كل أسرة الملوك المشتركين فى الوراثة أو النسب ، وقد أتَّبعت التقسيمات الحديثة نفس منوال Manetho ، والذى هو المصدر الوحيد لتاريخ الأسر الحاكمة ، وترتيب فراعنتها ، ولكنها زادت عليه بأن وضعت كل مجموعة من الأسر فى مملكة : المملكة القديمة – المملكة المتوسطة – المملكة الحديثة ، ووضعت أيضا أزمنة الحروب والغزو الخارجى والقلاقل الداخلية فى ثلاث فترات وسيطة intermediate periods
2- تذكر مراجع التاريخ المصرى القديم كل حاكم أو فرعون باسمه عند الميلاد ، واسمه الملكى بعد توليه الحكم ، فمثلا Amenhotep IV المذكور آنفا كأول من أُطلق عليه لقب فرعون ، كان اسمه الملكى Neferkheperure ، وبعد دعوته إلى عبادة إله الشمس Aten غير اسمه إلى Akhenaten
3- لاحظت أثناء إعداد هذا المقال أن هناك تباينا بين مراجع المصريات فى السنوات التى حكم فيها الفرعون Amenhotep IV ، والتى تتفاوت حسب ستة مراجع مختلفة كالآتى : 1333-1349 ، 1334-1350 ، 1336-1352 ، 1336-1353 ، 1337-1360 ، 1360-1337 ، وهو أيضا ما يجعل فترة توليه لعرش مصر 23-16 عاما ، وقد لا يبدو الأمر مهما فى تاريخ يمتد لآلاف السنين ، ولكننى حرصت على إبرازه لأنه أول من استخدم لقب الفرعون فى التاريخ المصرى ، وكذلك لفتا لانتباه القارئ المهتم بالكتابات الأكاديمية فى المصريات Egyptology

ثانيا : صناعة الفراعين

هناك بديهية بسيطة ، وحقيقة تاريخية ومنطقية ، وهى أن الفرعون لا يصنع نفسه ، وأن الأنظمة الفرعونية لا تصنع نفسها ، إذ لا يُعْقَل أن حاكما يقول لشعبه فى أول خطاب له : ( ... أنا ربكم الأعلى ) النازعات : 24 ، ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى ... ) القصص : 38 ، وإنما يصنعهما المنافقون والأفاكون ، والكاذبون والمدلسون والانتهازيون ، والباحثون عن المنفعة والمصلحة والفائدة من طرقها السريعة وغير المشروعة ، والجهلاء والإمعات ، ومفتقدى الفهم والمعرفة ، ومن البديهيات والحقائق أيضا أن الفرعونية ليست حكرا على مصر أو البلاد العربية ، وإنما هى حالة موجودة فى كل زمان وفى كل المجتمعات ، وتتفاوت فى قبحها وعربدتها وعنجهيتها ، وتعامل الأمم والشعوب معها .. أليست الستالينية Stalinism فرعونية ؟! أليست النازية Nazism فرعونية ؟! .. أليس كهنة الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى مثل كهنة المعابد الفرعونية فى صناعتهم وتعاونهم مع الأنظمة الحاكمة المستبدة ؟! ، ولذلك كانت الفرعونية أكثر الظواهر التى تعرض لها القرآن الكريم ، حيث ورد ذِكْرُ فرعون فى 74 موضعا ، وذِكْرُ موسى عليه السلام فى 136 موضعا ، وينقسم صُنَّاع الفراعين إلى ثلاث فئات :

1- النخبة الضالة الفاسدة ، والتى كان يمثلها الكهنة فى التاريخ المصرى القديم ، ومثلتها الكنيسة الأوربية فى العصور الوسطى ، ويمثلها الآن فى مصر مشايخ السلاطين ، والكنيسة القبطية ، وغالبية أفراد النخبة السياسية والإعلامية والصحافية والفنية والثقافية .. من مصلحة هؤلاء جميعا إضفاء القداسة على النظام الحاكم ، بما يحقق لهم جميعا استغلال الشعوب ، واستنزاف طاقاتها ، واستعبادها واستحمارها ، من أجل المنفعة والثروة ، والحظوة والمكانة والوجاهة ، والحياة المترفة الرغيدة ، والمزايا والعطايا التى لا تنقطع لهم ولأسرهم ولمعارفهم ولحاشيتهم ولكل الدائرين فى فلكهم .. ألم يشترك غالبية هؤلاء فى تحويل جمال عبد الناصر إلى الزعيم الخالد ، والقائد المُلْهَم ؟! .. ألم يحولوا كل إخفاقاته وتجاوزات نظامه إلى إنجازات ؟! .. ألم يشترك نفس هؤلاء فى جعل السادات الرئيس المؤمن ، وكبير العائلة ، وبطل الحرب والسلام ؟! .. ألم يفعلوا نفس الشئ مع حسنى مبارك وصدام حسين والقذافى وغيرهم ؟! .. ألم يجعلوا كِتَاب القذافى الأخضر وكأنه وحى إلهى ، وهو كلام فارغ لا قيمة له ؟! .. ألم يضللوا الناس ليل نهار بكتاباتهم ومقالاتهم وأحاديثهم وفتاويهم وأعمالهم الأدبية والفنية ؟!

2- كثيرون من أصحاب الثروة والمال ، والذين يجدون فى الولاء والتبعية للنظام الفاسد مزيدا من الفرص لتيسير أعمالهم ، وممارساتهم المجافية للشرعية والقانون ، مثل الاحتكار ، والتلاعب بالأسعار ، والتهرب من الضرائب ، وإجحاف العمال فى حقوقهم ، وسرقة المال العام ، والاستيلاء على أراضى الدولة ، والرشاوى والبلطجة ، وغيرها مما يُعَظِم فرصهم فى التربح الحرام ، وجمع المزيد من الأموال ، وما يتبع ذلك من نفوذ وسطوة ومكانة ، وقد ذكر القرآن الكريم هامان وقارون كمثلين من تلك النوعية الطاغية بمالها وثروتها ونفوذها وتعاونها مع السلطة الفرعونية الحاكمة ( وقال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كاذبا ... ) غافر : 37-36 ، ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى فأقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه من الكاذبين ) القصص : 38 ، ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندى أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ) القصص : 78-76 ، وفى زماننا هذا تمتلك الأسر والأنظمة الحاكمة البلاد والعباد .. ألم يمتلك مبارك وعائلته وأحمد عز وحسين سالم وآل ساويرس وغيرهم من المقربين غالبية ثروة المجتمع ؟! .. ألا يمتلك جنرالات الجزائر أموال الدولة ومواردها ؟! .. ألا يمتلك مشايخ السعودية ودويلات الخليج الأرض بما فيها من ثروات وما عليها من بشر ؟! .. وحتى فى الدول التى تدَّعى الديموقراطية .. ألا تمتلك الشركات الكبرى غالبية ثروة المجتمعات ؟! .. ألا تمتلك النفوذ والسيطرة على الرؤساء والمشرعين والمجالس النيابية والتنفيذية وغيرها ؟! .. ألا تلعب شركات السلاح العملاقة دورا رئيسيا فى قرارات شن كثير من الحروب الظالمة فى زماننا المعاصر ؟!

ملحوظة : هامان كما ترجح التفاسير والمراجع المختلفة هو مسؤول المحاجر أو البناء والتشييد ، وقد يكون اسما عَلماً لشخص من المقربين لفرعون ، أو لقبا لنائبه .

3- أغلبية الناس والذين يقعون فريسة للتضليل الإعلامى ، ولأكاذيب النخبة ومبالغاتها ، وما تخلعه على الحاكم من ألقاب ، وعلى نظامه من نعوت وصفات ، ويقعون أيضا فريسة للفتاوى الباطلة لمشايخ السلاطين ، وكهنة الكنيسة ، ممن باعوا آخرتهم بدنيا الحكام ، ومصالح الأنظمة ، ويقعون كذلك فريسة للنخبة الفنية الماجنة ، التى تهلل وتطبل ، وتنشد الأغانى ، وتقدم الأفلام والمسرحيات ، فى تمجيد الزعيم ، وخلع كل صفات العظمة والبطولة عليه وعلى نظامه .

هذه الغواية الشيطانية التى تمارسها النخبة لا تُعفى الناس من مسؤولية الانسياق وراء الفرعون ونظامه ، والاستسلام لطغيانه وجبروته ، والتحول إلى جزء من منظومة فساده ، كما لا يعفيهم أيضا ما هم فيه من فقر وحاجة ، ولا ما يعانونه من ظلم وقهر واضطهاد ، ولذلك يصف الله تعالى قوم فرعون ( ... إنهم كانوا قوما فاسقين ) الزخرف : 54 ، ( ... وكانوا قوما مجرمين ) الأعراف 133 ، ( ... وكل كانوا ظالمين ) الأنفال : 54

ثالثا : الأنظمة الفرعونية

الفرعونية ليست فقط نظاما للحكم ، كما أنها أيضا ليست فقط مقصورة على الممارسات السياسية للنظام ، وإنما تتعدى ذلك لتصبح ثقافة عامة ، تقدس الحاكم ، وتعلى من شأن المحيطين به ، وتصنع فراعينا صغارا فى كافة المجالات والنواحى ، وتكره النصيحة والمشورة ، ولا تحب النقد والمساءلة ، ولا تتعظ من التاريخ ، ولا تعتبر بالآخرين ، ولا تقبل تصحيح الأخطاء .. إنها منظومة متكاملة من الأخطاء والمعايب والزلات ، ولكى نفهم طبيعة تلك المنظومة ، علينا أن نمعن التأمل فى قصة موسى عليه السلام مع فرعون مصر ، كما ذكر تفاصيلها القرآن الكريم فى عديد من السور ، وأن نتأمل النعوت والتعبيرات القرآنية فى وصف الفرعون ونظامه وأساليبه وأتباعه وقومه ونهايته ، وكلها مما يلزم الباحث والدارس والمتأمل ، وطالب الحكمة والعظة ، وراغب الفهم لأحداث التاريخ وسننه ، وهو ما يفيد أيضا فى مقاومة تلك الظاهرة القبيحة ، والخروج عليها ، والخلاص منها ، والتحرر من سطوتها وسيطرتها :

أولا : الفرعون
وصف الله تعالى فرعون موسى بصفات تمثل مقياسا ودلالة على الطغاة والمستبدين ، وإن اختلفت أسماؤهم وأزمانهم وأماكنهم ، ومنها :

- الطغيان والذى هو تجاوز الحد فى الظلم والبغى والجور على حقوق الناس : ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) طه : 24 ، ( قالا ربنا إننا نخاف ان يفرط علينا أو أن يطغى ) طه : 45 ، النازعات : 17 ، ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) طه : 43 ، ( وفرعون ذى الأوتاد * الذين طغوا فى البلاد ) الفجر : 11-10

- العلو فى الأرض ويعنى التكبر والتجبر ، الذى يتعدى ما يبتغيه الحاكم ، أو يطلبه لنفسه من نفوذ وسيطرة ، وقد وصف الله تعالى فرعون بالعلو فى آيات ، وبالتكبر فى آيات أخرى ، كما وصفه أيضا بالإسراف ، وكلها دلالات الكبر والبطر وتجاوز الحد : ( إن فرعون علا فى الأرض ... ) القصص : 4 ، ( ... وإن فرعون لعال فى الأرض وإنه لمن المسرفين ... ) يونس : 83 ، ( من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ... ) الدخان : 31 ، ( إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين ) غافر : 46 ، ( واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) القصص : 39
- الإفساد فى الأرض ، وهو عكس الإصلاح ونقيضه ، وهو دائما قرين التفرد بالسلطة ، وقرين الطغيان والعلو والتكبر والإسراف : ( وفرعون ذى الأوتاد * الذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد ) الفجر : 12-10 ، ( إن فرعون علا فى الأرض ... إنه كان من المفسدين ) القصص : 4

- الاستخفاف بقومه وشعبه ومن يقوم على أمرهم من رعيته ، وهى عادة الطغاة والمتجبرين ، حيث تُزين لهم أوهامهم أنهم فوق الجميع ، وأنهم يمتلكون البلاد والعباد ، وأنهم الوحيدون الذين يعلمون طريق الصواب ، والوحيدون القادرون على اتخاذ الاجراءات القويمة ، والقرارات النافعة : ( ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون ) الزخرف : 51 ، ( فاستخف قومه ... ) الزخرف : 54 ، ( ... قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) غافر : 29 ، ( فقال أنا ربكم الأعلى ) النازعات : 24 ، ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى ... ) القصص : 38
أليست تلك ورب الكعبة هى مواصفات عبد الناصر والسادات ومبارك ؟! .. ألم يتكبروا ويتجبروا ويُفسدوا فى الأرض ؟! .. ألم يستخفوا بالمصريين جميعا، ويهيئوا لهم أنهم العالمون الوحيدون بما يُصلحهم ؟! .. ألم يرفضوا آراء الآخرين ومشورتهم ؟! .. ألم تكن تعليماتهم وتوصياتهم وأوامرهم الخاطئة تسرى على جميع المسؤولين ، وعلى جميع الناس ؟! .. أليست تلك الخصال القبيحة منطبقة بحذافيرها على حافظ وبشار الأسد ، وبورقيبة وبن على ، وصدام حسين ، ومعمر القذافى ، وعلى عبد الله صالح ؟! .. أليست هى أيضا مواصفات الملوك والأمراء والمشايخ فى بلاد العرب ؟! .. ألم يكن كمال أتاتورك ، والشاهنشاه محمد رضا بهلوى من تلك النوعية ؟! .. ألا تنطبق تلك الصفات كذلك على ستالين Stalin ، وهتلر Hitler ، ومعظم حكام دول أفريقيا ، ومعظم حكام أمريكا الجنوبية حتى وقت قريب ؟!

ثانيا : قوم الفرعون

إذا كان الطغيان والتكبر والعلو ، والإفساد فى الأرض ، والاستخفاف بالشعوب ، من عاداتِ الفراعين ودأبِهم ، فإن شعوبهم وأقوامهم تقع عليها مسؤولية ترْكهم يطغون ويتكبرون ويُفسدون ، ولو راقبوهم وناصحوهم وحاسبوهم ووقفوا لهم بالمرصاد ، وخلعوهم إذا لم يؤدوا دورهم فى القيام على مصلحة الناس ، لما تفرعنوا ، ولما استخفوا بهم ، ولما تمادوا فى غيهم وفسادهم ، ولما طالت عليهم عهود الظلم والطغيان ، ولما رسَّخوا أنظمتهم الرديئة ، ومكنوا لها فى كل جنبات مجتمعاتهم ، ولذلك فإن الله تعالى لم يصف قوم فرعون بأنهم مغلوبون على أمرهم ، أو أنهم يعانون الضعف والفقر والمسكنة ، أو أنهم يستحقون المعذرة والرحمة والشفقة ، وإنما وصفهم بالفسوق والإجرام والظلم والفساد : ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) الزخرف : 54 ، ( ... إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ) القصص : 32 ، (... فى تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ) النمل : 12 ، ( ... فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) الأعراف : 133 ، ( فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ) الدخان : 22 ، ( ... قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) القصص : 25 ، ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون ) الشعراء : 11-10 ، ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) النمل : 14

ثالثا : الأساليب والآليات الفرعونية فى الحكم

تتشابه جميع الأنظمة الفرعونية فى ممارساتها القمعية ، وسلوكياتها الإجرامية تجاه شعوبها ، وقد بيَّن القرآن الكريم عديدا من تلك الممارسات والسلوكيات ، ومنها :

1- إشاعة الخوف بين الناس ، وهو ما يؤدى إلى خشيتهم من مجابهة الظلم ، وعزوفهم عن قول الحق ، وتثبيط هممهم عن المشاركة فى إدارة شؤونهم ، وتقرير مصالحهم ومصائرهم : ( اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى * اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) طه 45-42 ، ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إنى أخاف أن يكذبون ) الشعراء : 12-10 ، ( ... إنى أخاف أن يكذبون ) القصص : 34 ، ( ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون ) الشعراء : 14 ، ( قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ) القصص : 33 ، ( ففرت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين ) الشعراء : 21 ، ( ... فأصبح فى المدينة خائفا يترقب ... ) القصص : 18 ، ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين * فخرج منها خائفا يترقب ... ) القصص : 21 ، ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ... ) يونس : 83

كل هذا يحدث مع موسى وهارون عليهما السلام ، وهما النبيان المختاران ( واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مُخْلَصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) مريم : 53-51 ، ( ... وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى ) طه : 39 ، ( واصطنعتك لنفسى ) طه : 41 ، وهما المؤيدان أيضا من رب العالمين ( قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى ) طه : 46 ، فكيف بعوام الناس ، وهم الضعفاء أو الفقراء أو الذين يخشون على أنفسهم وأسرهم وأرزاقهم ومصالحهم ؟!

2- السجن : ( قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين ) الشعراء : 29

3- التعذيب : ( قال أامنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ) الشعراء : 49 ، ( قال فرعون أامنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين ) الأعراف : 124-123 ، ( فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال أامنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ) طه : 71 ، ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ... ) إبراهيم : 6 ، ( ولقد نجينا بنى إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ) الدخان : 30-31 ، ( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ... ) الأعراف : 141 ، ( ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ) الصافات 115-114

4- القتل : ( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه ... ) غافر : 25 ، ( وقال فرعون ذرونى أقتل موسى ... ) غافر : 26 ، ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ... ) غافر : 28 ، ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ... ) الأعراف : 127 ، ( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ... ) الأعراف 141 ، ( ... يذبح أبناءهم ... ) القصص : 4 ، ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ... ) القصص : 21

5- انتهاك الأعراض : ( ... ويستحيون نساءكم ... ) الأعراف : 141 ، ( ... ويستحى نساءهم ... ) القصص :4 ، ( ... قال سنقتل أبناءهم ونستحى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ) الأعراف : 127 ، ( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ... ) غافر : 25

6- إشاعة الفرقة بين الناس : ( إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين ) القصص : 4

7- تضليل الناس بالدعاية الكاذبة ، وتصوير المعارضين والمصلحين بالشراذم الفاسدة التى تبغى الانقلاب على الأوضاع ، والهيمنة على المجتمع : ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء فى الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) يونس : 78 ، ( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون ) الشعراء : 56-52 ، ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك ... ) الأعراف : 127 ، ( قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) طه : 57 ، ( قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ) طه : 63 ، ( قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ) الشعراء : 35-34 ، ( إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب ) غافر : 24 ، ( وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الأرض الفساد ) غافر : 26 ، ( قال فرعون أامنتم له قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ) الأعراف : 123 ، ( قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون ) الشعراء : 27 ، ( أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) الزخرف : 53-52

8- نشر العيون والجواسيس لمراقبة حركات الناس ، ورصد كلامهم وردود أفعالهم : ( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون ) الشعراء : 52 ، ( فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون ) الدخان : 23

9- اختيار أسوأ الناس وأفسدهم ، وأقلهم أمانة ونزاهة ، وأشدهم خسة ووضاعة ، وأميلهم للنفاق والتملق ، وأكثرهم قسوة وكذبا ، وأبعدهم عن خلق المشورة والتناصح ، وأنقضهم للعهد والوعد ، وأسرعهم للتهليل والتأييد ، ليكونوا عُصبة الحكم وأدواته ، من المشرعين والوزراء والمسؤولين والجنود ورجال الأمن ، وقد أشار إليهم القرآن الكريم بالملأ : ( ... إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ) النمل : 12 ، ( ... فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ) القصص : 32 ، ( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما ... ) المؤمنون : 48-46 ، ( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا إن هذا لساحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ) يونس : 77-75 ، ( قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) الأعراف : 110-109 ، ( واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) القصص : 39 ، ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) القصص : 8

10- رفض النصيحة ، وعدم الاستفادة من الأخطاء ، والإصرار على البغى والعدوان ، والاستمرار على طريق الفساد والضلال : ( فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من آية إلا هى أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ) الزخرف : 50-47 ، ( وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) الأعراف 133-132 ، ( وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فى تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ) النمل : 12 ، ( ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ) الأعراف : 135-134 ، ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ) الأعراف : 130 ، ( ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ) طه : 56 ، ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ... ) آل عمران : 11 ، ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) النمل : 14-13 ، ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الأرض وما كانوا سابقين ) العنكبوت : 39

رابعا : الفرعونية بين الأمس واليوم

لو تأملنا أحوالنا المعاصرة لوجدنا مشهد الفرعونية القديمة يتكرر بكل ملامحه وتفاصيله وجزئياته ، بل وبنفس مصطلحاته .. أليس الخوف هو الشعور الطاغى والمسيطر على غالبية المصريين والعرب طوال العقود الماضية ومازال رغم الانتفاضات الأخيرة ؟! .. الخوف من الأمن والشرطة والمخبرين ، والخوف من إبداء الرأى فى كل أمور الحكم والسياسة ، والخوف من الوقوف فى وجه الظلم ، والخوف من نقد أخطاء المسؤولين وتجاوزاتهم ، بل وحتى الخوف من الصلاة فى المسجد ، أو اقتناء كتب الدين والسياسة ، أو إطلاق اللحية ، أو حضور الندوات وحلقات الدروس الدينية .. ألم ينشر عبد الناصر وبورقيبة وبن على الخوف فى كل مكان فى مصر وتونس ؟! .. ألم يكن سجن المعارضين وتعذيبهم وقتلهم أمرا شائعا فى كل بلادنا المُبتلاة ؟! .. ألم يكن انتهاك الأعراض عملا تمارسه الشرطة المجرمة فى السجون ، قتلا لكرامة الإنسان ، وإهدارا لآدميته ، وشعوره بالعزة والرجولة ؟! .. ألم يجردوا النساء من ملابسهن ، ويساوموا المعارضين على بناتهم وأمهاتهم وزوجاتهم ؟! .. ومع شيوع الخوف شاعت كل الأخلاقيات المرذولة من النفاق والتملق والكذب والغش والتدليس ، وعمت الرشاوى كل القطاعات ، وأصبحت الوسيلة الوحيدة لتصريف الأعمال ، واعتلى عروش الإعلام والمؤسسات الصحافية نوعيات يتضاءل أمامها إبليس فى تزوير الحقائق ، تشويه وعى الناس وأذواقهم ومداركهم ، وتفشت كل أنواع المفاسد فى كل مؤسسات المجتمع وأجهزته ، حتى أصبحت الشعوب نفسها جزءا من منظومة الفرعون بكل فسادها وطغيانها وقسوتها .

لقد قتل الخوف من الأنظمة الفرعونية ، كل المعانى والآمال الجميلة فى الحياة فى نفوس المصريين والعرب ، وتحولت مصر فى زمن الفرعونية الناصرية إلى دولة التعذيب الأولى فى العالم ، واكتظت السجون فى مصر وغيرها من بلادنا بعشرات الألوف من الأبرياء ، حيث تُنتهك كرامتهم ، ويُداس على حقوقهم ، وتُبدد أعمارهم خلف قضبان الظلم والطغيان ، بل إن مصر وسوريا والأردن والمغرب وغيرها أصبحت الآن تمارس دور التعذيب بالوكالة عن الولايات المتحدة ، فى ما يسمى مكافحة الإرهاب ، وهى مهزلة من أقبح مهازل الزمن المعاصر .

لقد سارت الفرعونيات العربية المعاصرة على مسار الفرعونية المصرية القديمة ليس فقط فى إشاعة الخوف ، وفى السجن والتعذيب والقتل وانتهاك الأعراض ، وإنما أيضا فى إشاعة الفرقة والخلاف والصراع بين فئات المجتمع وأطيافه ، فالنظام المباركى بمساعدة القيادات الكنسية عمّق الهوة بين مسلمى مصر وأقباطها ، وساهم أيضا النظام المباركى فى تهميش أهلنا فى سيناء وفى الصعيد ، وساهم هو وسابقيه فى إثارة نفوس النوبيين ، وأوغر صدام حسين قلوب الشيعة والأكراد ، وفرَّق على عبد الله صالح قبائل اليمن ، وأشعل حربا خاسرة مع الحوثيين ، وفعل القذافى نفس الجرم مع قبائل ليبيا ، ومع كل يوم تتعاظم مشاكل الأمازيغ فى الجزائر ، ومشاكل الصحراويين مع المغرب ، وفى السودان مازالت مرارة انفصال جنوبه عالقة فى الأذهان ، وما زالت الصراعات متأججة فى دارفور وكردفان وغيرها .. كل تلك الممارسات الخاسرة تُضعف المجتمعات العربية ، وتفكك لُحمة شعوبها ، وتنقض عرى الروابط بين أبنائها ، وتنعكس عليها هوانا وهزالا وتبديدا للموارد والجهود والطاقات ، وجميع تلك التأثيرات تُسهم فى جعلها عرضة للتجزئة ، وفريسة لأطماع الغربيين .. أليس إضعاف وحدة المجتمع من أجل أن ينشغل الناس بصراعاتهم بعيدا عن مجابهة الحكام الفراعنة هو قمة الخيانة والإجرام فى حق الأوطان ؟!

وكما مارست آلة الدعاية الفرعونية دورها القبيح فى تشويه رسالة موسى عليه السلام ، ووصفه بالساحر ، ووصفه وأتباعه بالشراذم التى تبغى الفساد ، وتغيير أوضاع المجتمع ، تمارس آلة الدعاية الفرعونية المعاصرة نفس الدور القبيح فى وصف الداعين إلى الإصلاح بالمنقلبين على الشرعية ، وراغبى الفتنة ، والعملاء ، ووصف الإسلاميين بالظلاميين والرجعيين ، وأعداء الحداثة والتنويير ، حتى ليستطيع المتابع لأدبيات تلك الأنظمة وإعلامها وصحفها وأبواقها ، أن يرصد كماً هائلا من الأوصاف والنعوت والتهم الجاهزة لكل من تسول له نفسه أن يقول كلمة حق ، أو يقف فى وجه ظلم ، أو ينادى بعدل أو إصلاح .

كل تلك الأساليب والآليات الفرعونية يلزمها عصابة متكاملة للقيام على أمرها ، ولذلك وكما أسلفت يختار الفرعون أشد الناس وضاعة وانحطاطا ليكونوا النواب والوزراء والإعلاميين والقادة والمسؤولين ورجال المال والأعمال والاقتصاد.. فالانتخابات والاستفتاءات يتم تزويرها حتى يكون القائمون على أمر التشريع حثالة المجتمع من أعلام الزور والكذب والبهتان ، ويتم على نفس الأساس اختيار القائمين على الإعلام والثقافة والتعليم والمؤسسات الدينية الرسمية ، وبذلك يضمن النظام جهازا عاتيا فى إجرام تزييف الوعى ، وتضليل الناس ، وقلب الحقائق ، وإلباس الحق ثياب الباطل ، وإلباس الباطل ثياب الحق .. فماذا تكون النتيجة ؟! .. مجتمعا تائها ضائعا ، لا هوية له ولا قبلة ، ولا أسس ولا مبادئ ، ولا فهم ولا إدراك ، وإنما سطحية وضحالة ، ولهو وعبث .. ألا يشجعون هزليات الكرة فى الدورى والكأس وغيرها ؟! .. ألا يشجعون الفن المبتذل ليلا ونهارا ، ويقيمون المهرجانات والاحتفالات لتكريم غثاء المغنواتية والمشخصاتية ؟! .. ألم يحولوا هؤلاء إلى أعلام المجتمع وصفوته ؟! .. ألا يحاربون المفكرين الحقيقيين والمبدعين والنابغيين فى كل المجالات ، ويضطرونهم إلى الهجرة أو الإنزواء ؟! .. ألا تنتشر كالحشائش الضارة ، والطفيليات الخبيثة ، جموع الصحافيين المنافقين ، والإعلاميين الأفاكيين ، فى كل الصحف والتلفزيونات ؟! .. فرعون مصر القديمة يقيم أياما للزينة أو للعبث واللهو ( قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) طه : 60-57 ، وفى يوم الزينة يأتى سحرة فرعون ، ككل النماذج والأفراد فى منظومته الفاسدة ، يساومونه على الهبات والمنافع لو كانوا هم الفائزين على موسى عليه السلام ( فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين ) الشعراء : 42-41 ، ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) الشعراء : 44 .. تماما كما يساوم رؤساء المؤسسات الصحفية والإعلامية المعاصرة .. يقايضون دجلهم ونفاقهم ، تضليلا للناس ، وخدمة للنظام ، بأراضى الدولة ، وأموال الإعلانات ، وغيرها من العطايا والمكاسب ، أما الوزراء وغيرهم من قادة مؤسسات المجتمع وأجهزته فلا يختلفون عن النواب والمشّرعين والإعلاميين ، يبدأ الواحد منهم بالحديث عن المشاكل والعيوب فى وزارته أو مؤسسته ، ويغادر منصبه بعد سنوات أو عقود ، وقد أصبح أكثر ثراء ، وأفحش غنى ، وفى الجانب الآخر ازدادت العيوب ، وتفاقمت المشاكل ، ليخلفه آخر ليُلغى إرثه ، وليمارس نفس هواية التغيير والتبديل والتجريب ، ولذلك فلا عجب أن تم تخريب كل شئ فى المجتمع .. تم القضاء على الصناعة ، وتخريب التعليم ، وتلويث ماء النيل ، وتصحير الأرض الزراعية ، وتلويث البيئة ، وسرطنة الناس وإيقاعهم فريسة للعلل والأمراض .

وكما يلزمُ المنظومةَ الفرعونية واجهةٌ مزيفة تتمثل فى النواب والمشرعيين المزورين ، وآلةٌ إعلامية تمارس الكذب والتدليس ، وجهازٌ تنفيذي يخرب مؤسسات المجتمع ، فإن رجال المال والأعمال الذين كونوا ثرواتهم من الحرام ، وجمعوا أموالهم من الاحتكار والعمولات والرشاوى والسرقة واستيراد الأغذية الفاسدة ، والبضائع المغشوشة ، والاستيلاء على أراضى الدولة ومصانعها وثرواتها ، والأعمال الخدمية البعيدة عن الانتاج والاستثمار الحقيقى .. هؤلاء اللصوص يشكلون الدعامة الاقتصادية للمنظومة ، ويدَّعون كما يدَّعى كل أفرادها الشرف والأمانة ، ويزعمون تكوين ثرواتهم من أنشطتهم الاقتصادية المشروعة .. هكذا يقول أحمد عز ، وحسين سالم ، وآل ساويرس ، ويوسف بطرس غالى ، ورشيد محمد رشيد ، وغيرهم ، وهكذا تقول زوجة بن على ، وهكذا يقول جنرالات الجزائر ، وهكذا كان يقول قارون على زمن فرعون موسى عليه السلام ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما احسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما اوتيته على علم عندى أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ) القصص : 78-76 ، فماذا كانت النهاية ؟ .. ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ) القصص : 81 ، ..

كتب د . نادر الفرجانى مقالا على موقع " الدستور الأصلى " بتاريخ 19 سبتمبر 2011 ، تحت عنوان " لم يكونوا فقط فاسدين ولكن أيضا عملاء وخونة ! " ، يتحدث فيه عن يوسف بطرس غالى ويصفه بأنه " : " مندوب المؤسسات الرأسمالية الدولية ، والمصالح الغربية ، لدى نظام الحكم التسلطى الساقط ، والذى يحمل الجنسية الأمريكية ، وتردد أنه كان يسعى للحصول على الإسرائلية أيضا ... خطيئة العمالة للدول المعادية تصم مرتكبيها بالانحطاط إلى أدنى درك فى السفالة بين البشر ... والأول فى ذلك بلا منازع هو يوسف بطرس غالى الوزير المزمن الذى اشتهر بالترويج للرأسمالية الاحتكارية المنفلتة ، وإهدار القطاع العام الإنتاجى لمصلحتها ، وبالجباية المغالية للضرائب الجائرة ، إفقارا للكادحين من عامة الشعب ، وإثراء فاحشا لكبار أصحاب المال الفاسدين ، وعضو مجلس الشعب المزور ، قذر اللسان ، وبادى الاحتقار للمجلس والشعب ... كان عميلا للمخابرات الأمريكية منذ صيف عام 1979 ، وبعلم ومشاركة الطاغية المخلوع ، صاحب الملف فى الوكالة نفسها ، وحامل لقب الكنز الاستراتيجى للدولة العنصرية الغاصبة إسرائيل ... نشاطه تعدى مصر إلى مهام سرية للوكالة فى نيكاراجوا والبرازيل والبرتغال والمكسيك والدومنيكان وساحل العاج ... كان مسؤولا عن تهريب أموال عائلة مبارك واستثماراتها بمعاونة الوكالة وإدارة حسين سالم وعاطف عبيد ... هُرِّب شخصيا من مصر بمساعدة المسؤولين عن الحكم فى مصر فى يوم تنحى الطاغية المخلوع نفسه ... وأفرغ بأمر مباشر من زكريا عزمى وبمساعدة عاطف عبيد كل أرصدته البنكية فى مصر ، والتى لم تتجاوز وقتها 65 مليون دولار ... وحولها إلى صناديق أرصدته الحقيقيةالتى تجاوزت 9 مليارات دولار ... وعلى الرغم من كل هذا الثراء الفاحش لم يكن ليتورع عن النصب على الحكومة للعلاج فى الخارج على نفقة الشعب المصرى المطحون ... العمالة والخيانة تبدو سلسالا فى العائلة العريقة للسيد يوسف ، فجد العميل هو القاضى المصرى الذى حكم على فلاحى دنشواى الأبرياء بالإعدام إرضاء للمحتل البريطانى ، وبالمناسبة زوجة يوسف بطرس غالى اليهودية الديانة تحمل الجنسية اللبنانية بجانب الأمريكية والفرنسية والإيطالية ، والمصرية بالطبع ، وهل يفعل ذلك إلا عتاة المجرمين ؟! ... فما كل هذا الإجرام الملطخ بإنعدام الولاء للشعب والبلد ، والمدنس بالعمالة للأعداء ، والخيانة للوطن ، فى صفوف التشكيل العصابى الذى كان يحكم هذا البلد الطيب " .

يخطئ الكثيرون عندما يعتقدون أن الأنظمة الفرعونية تأتى بتلك الممارسات الإجرامية نتيجة الحمق أوالغباء السياسى ، أو بدافع الجشع والرغبة فى جمع المال ، أو هوى النفوذ والسطوة والمكانة والسيطرة ، أو نتيجة للسياسات الخاطئة ، والتقديرات المختلة ، أو بسبب التحجر والتكلس والجمود ، ورفض التغيير والتطوير والتحوير .. إنها تفعل كل ما تفعل عن وعى وفهم وإدراك ، وتسير على نهجها باستماتة وإصرار ، ولذلك كان التعبير القرآنى الدقيق لوصف فرعون وملئه وقومه بالعلو فى الأرض ( إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين ) المؤمنون : 46 ، أى أن الأمر تجاوز كل المطالب الغريزية لبنى البشر فى الحكم والنفوذ والثروة ، ووصل إلى مرحلة التكبر على الخلق ، والاستعلاء عليهم ، ولذلك أيضا وصفهم القرآن الكريم فى تعبير دقيق آخر بأنهم جحدوا الحق ظلما وعلوا رغم تيقنهم من خطئهم وسوء سلوكهم ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) النمل : 14 .. إنه إصرار على المعصية ، وعزم على المُضى على درب الضلال ( وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ) الأعراف : 132 ، ( ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ) طه : 56 ، ولذلك كان الوعيد الإلهى لكل تلك النماذج المتكبرة ( سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) الأعراف : 146 .. إن هؤلاء ( ... لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) الأعراف : 179

خامسا : نهاية الأنظمة الفرعونية

المتأمل فى أحداث التاريخ لا يجد نظاما فرعونيا إلا وكانت نهايته مأساوية على الفرعون ومنظومته ، وخرابا ووبالا على المجتمعات التى قبلت به ، يضاف إلى ذلك العقاب الأخروى الذى ينتظر كل الظالمين والفاسدين والطغاة ، وقد تحدث القرآن الكريم عن الانتقام الإلهى من فرعون وجنوده بالغرق ، وذهابهم غير مأسوف عليهم من أحد فى الأرض أو السماء ( واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) الدخان : 29-24 ، ( فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى إسرائيل ) الشعراء : 59-57 ، ( فانتقمنا منهم فأغرقناهم فى اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين * وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ) الأعراف 137-136 ، ( وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) يونس 92-90 ، ( وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين ) الشعراء 66-65 ، ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) الزخرف : 56-55 ، ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ) القصص 42-40 ، ( ثم بعثنا من بعدهم موسى إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) الأعراف : 103 ، ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) هود : 99-96 ، ( فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) غافر : 46-45 ، ( ... وما كيد فرعون إلا فى تباب ) غافر 37 ، ( ... وما كيد الكافرين إلا فى ضلال ) غافر : 25 ، ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى ) النازعات 26- 25 ، ( ... فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ) آل عمران 11 ، ( فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ) الفجر : 14-13 ، ( فكذبوهما فكانوا من المهلكين ) المؤمنون : 48
ألم يدمر صدام حسين العراق تدميرا ؟! .. ألم ينته به الأمر مطاردا بعد أن اُحتلت بلاده ، ليُؤسر بعدها من قِبل الأمريكان الغزاة ، ويتم إعدامه ؟! .. بعد أن بدد ثروات وطنه وإمكانياته فى حرب عبثية مع إيران ، استمرت زهاء عشر سنوات ، وتسببت فى مقتل مئات الألوف ، ثم كرر نفس الحماقات مع الكويت ، وها هى العراق على يديه تقع فريسة للخراب والتفكك والفوضى ، ويتولى أمرها الآن نيابة عن احتلال دام عقدا من الزمان أراذلها من الخونة والعملاء ، وستظل تعانى لعقود طويلة قادمة .. ألم يفعل القذافى نفس الشئ ؟! .. ضيّع ثروات ليبيا الطائلة فى مغامرات خرقاء ، وأنفق مئات البلايين على برنامج نووى ليفككه بعد ذلك ويشحنه بوثائقه ومعداته إلى الولايات المتحدة ، طلبا للرضا الغربى ، واشترى أسلحة بمئات بلايين أخرى ، ثم أدخل ليبيا فى حرب أهلية ، وجدها الغرب فرصة سانحة للتدخل ، لينتهى الأمر بقتله شر قتلة ، وتدمير كل شئ ، ولتدخل ليبيا بعدها نفقا ستظل تتخبط فى دياجيره إلى آماد بعيدة .. ألم ينقلب جنرالات الجزائر على شرعية الانتخابات ، ويجروا بلادهم إلى حرب أهلية على مدار سنوات أهلكت الحرث والنسل ؟! .. ألم يُوقع جمال عبد الناصر بجيشه أكبر هزيمة عسكرية فى تاريخ الحروب ؟! .. ألم تتحقق على يد السادات أقبح هزيمة سياسية أخرجت مصر من التاريخ والجغرافيا ، لينتهى به الأمر مقتولا ، وليخلفه مبارك الذى سار على طريقه فى نشر الفساد ، والتمكين للصوص ، والعمالة الكاملة للغرب وإسرائيل ، ليُزاح عن الحكم بعد ثلاثة عقود فى الانتفاضة الأخيرة تاركا مصر خرابا بلقعا فى كل شئ ؟!! .. ألا يمضى بشار الأسد وعلى عبد الله صالح على نفس درب الفساد والخراب ؟!
وتأثير الأنظمة الفرعونية لا يقتصر على الهزائم العسكرية ، وخراب العمران ، وتبديد الموارد والإمكانيات ، ونشر الفقر والفساد والفوضى ، وتحويل مؤسسات الدولة إلى واجهات مزيفة لا تؤدى دورها ، ولا تقوم بواجبها ، وإنما يمتد إلى أبعد من تلك الأضرار المادية التى يمكن إصلاحها .. إنه يمتد إلى تخريب الإنسان نفسه ، وتشويه عقله وفكره ، ومسخ شخصيته ، وحرفه عن جادة الصواب ، والإضرار بسلوكياته وأخلاقه ، والعبث بمبادئه ومفاهيمه وقناعاته ، وكلها أضرار شديدة التأثير على المجتمعات فى حاضرها ومستقبلها ، وتحتاج أمدا طويلا لتقويمها ، والتخلص من عواقبها .

سادسا : الإصلاح والتغيير والفرعونية

السؤال الآن : هل يمكن إصلاح المجتمع مع وجود الثقافة الفرعونية ؟! .. الإجابة القطعية هى : لا ، لا يمكن إصلاح مجتمع تسوده الثقافة الفرعونية ، بل يستحيل ذلك بتاتا ، لأن الفرعونية فى أصلها ومجملها ضد الإصلاح ، إنها ثقافة تؤصل للفساد والاستبداد ، والفساد والاستبداد يقودان إلى الخلل والفوضى فى كل شئ ، وهو ما يؤدى إلى الفقر واليأس والتعاسة ، وانسداد آفاق المستقبل ، واهتراء عرى التواصل بين أفراد المجتمع وطبقاته ، وخلخلة التوازنات بين جميع مكوناته ، ولذلك يصف القرآن الكريم النظام الفرعونى بأنه يفتقد إلى الرشاد ( ... وما أمر فرعون برشيد ) هود : 97 ، وأنه يسبب الضلال ، ولا تتحق به الهداية ( وأضل فرعون قومه وما هدى ) طه : 79 ، ويصف أعوانَ فرعون ومؤسسات حكمه وجنوده بأنهم جميعا خاطئون ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) القصص : 8 ، وهو ما يرد أيضا على المقولة الزائفة التى يرددها البعض عن المستبد العادل ، إذ لا يمكن أن يجتمع الاستبداد والعدل ، وكيف يجتمعان والاستبداد نقيض العدل فى معناه وأخلاقه وممارساته ؟!

السؤال الواجب أن نسأله فى مرحلة ما بعد الانتفاضة المصرية ، وانتهاء الحقبة المباركية : هل تخلصنا ، أو هل نحن فى سبيلنا للتخلص من الثقافة الفرعونية ؟!.. الإجابة القطعية هى : لا ، ويكون السؤال المنطقى بعد ذلك : إذا كانت الفرعونية متجذرة فى مفاهيمنا وسلوكياتنا وممارساتنا فهل نحن فعلا راغبون أو جادون فى التخلص من ذلك الإرث البغيض ؟! .. الإجابة : أشك فى ذلك كثيرا ، ودلالات ذلك واضحة جلية ، فإذا ما نظرنا مثلا إلى إرهاصات فترة ماقبل الهبّة الشعبية فى 25 يناير ، والأحداث التى تلتها ، رأينا نفس الذين لا يكفون عن انتقاد استبداد الرئيس مبارك وفساد نظامه ، يمارسون دورهم فى صناعة فرعون جديد متمثلا فى شخصية البرادعى ، بالمبالغة الفجة فى تمجيده وتقديسه ، وخلع كافة صفات الكمال والجمال عليه ، والتعويل عليه كمُخَلص ومُنقذ لمصر ، والملهاة والمأساة الأوقع على النفس ، والأشد دلالة ، أن النخبة الفاسدة لم تكن وحدها فى حملة التطبيل والتهليل للبرادعى ، بل شاركتها قطاعات من المصريين :

- وصفه جمال البنا بأنه أمل الأمة ، ومبعوث العناية الإلهية لقيادة التغيير : " لقد رأيت ومازلت أن الدكتور البرادعى هو مبعوث العناية الإلهية لقيادة حركة التغيير ... إنه أمل الأمة " [ عندما تهب رياح التغيير ، صحيفة المصرى اليوم ، 30-6-2010 ] .

- ووصفه د . محمد المخزنجى بأنه ضمير مصر : " باختصار نحن فى هذه المرحلة المتوترة والمضطربة أشد ما نكون حاجة للرجال الضمائر ، والدكتور البرادعى نموذج لهم ... أناس يمثلون الضمير كالدكتور البرادعى ... كان ضميرا وطنيا لا شك فيه ... الجيش كان الوجه العسكرى لضمير الأمة ... فلماذا لا يلتقى الضمير بالضمير " [ زيارة للضمير ، صحيفة الشروق ، 3-3-2011 ] .

- ووصفه مجدى الجلاد بأنه المفجر الحقيقى للانتفاصة المصرية : " الإنصاف يفرض على أن أقول إنه المفجر الحقيقى لهذا التحرك ، وأراه أيضا صاحب الدور الأكبر فى المرحلة المقبلة " ، وأن وجوده فى مصر مصدر للأمن والأمان : " كنت أشعر مثل الكثيرين بالفراغ والخوف على البلد حين يسافر ... كنت أريده بجوارنا لنستمد منه القوة فى مواجهة النظام " [ الأقباط والحقوق الضائعة .. البرادعى والثورة ، صحيفة المصرى اليوم ، 9-3-2011 ] .

- ووصفه علاء الأسوانى بأنه كالطبيب الماهر ، وأنه الأفضل لرئاسة مصر : " من الصعب أن يجد المصريون مرشحا لرئاسة مصر أفضل من الدكتور محمد البرادعى ... كما يُشّخص الطبيب الماهر أخطر الأمراض بكلمات قليلة استطاع الدكتور البرادعى أن يضع يده على مواطن الخلل فى النظام الاستبدادى الجاثم على أنفاسنا " [ الحرباء تهاجم البرادعى ، صحيفة الشروق ، 15-12-2009 ] .

- ووصفه إبراهيم عيسى بالخيال الجديد اللازم لقيادة التغيير فى مصر : " جاء البرادعى بجسارة الخيال بديلا ناسفا لمشروع التوريث ... من الناحية الأخرى كان البرادعى ممثلا للخيال الجديد فى ذاته ، فهو الرجل القادم من ثلاثين عاما من التلاحم مع الآلة السياسية الغربية ، التى تنفتح على أفق أوسع وأرحب من هذا الضيق الخانق الذى تعيش فيه مصر وعالمها الثالث ، ثم هو الرجل الذى انفصل عن ماكينة الدولة المصرية ، التى تكرس النفاق والطاعة عنصرين أساسيين فى جينات العمل السياسى والمؤسسى ... الشجاعة التى جاء بها البرادعى كانت تليق برجل من خارج الصندوق ... كان الرجل مستقيما فى فكره وحلمه وهدفه ... كان أكثر الذين حالوا دون تحويل الثورة إلى زعامة البرادعى هو البرادعى نفسه ... لم يصبح لدى الثورة أى قائد ولا قيادة ، الأيام عدّت والعبرة المهمة أن اختراع قائد لأى ثورة أهم كثيرا من تركها فى أيدى من لا قادة لهم " [ ثورة بلا قائد ، صحيفة التحرير ، 19 أغسطس 2011 ] .

- ووصفه وائل قنديل بأن يوم عودته كان يوما فاصلا فى تاريخ مصر الحديثة ، وأنه من أعاد الروح للمعارضة المصرية : " الموضوعية تقتضى التذكير بأن 19 فبراير 2010 كان يوما فاصلا فى تاريخ مصر الحديثة حين عاد محمد البرادعى إلى القاهرة ، وعادت الروح إلى معارضة مصرية كانت متناثرة ومتحنطة ومترددة على نحو لم يكن يقنع أكثر المتفائلين بأن التغيير فى مصر يمكن أن يأتى عبر طريق آخر غير طريق عزرائيل " [ البرادعى بتاع الفيس بوك ، صحيفة الشروق ، 26 أغسطس 2011 ] .

- وتجاوز البعض ( عصام العبيدى ) كل تلك الأوصاف فاعتبر الشعب المصرى بأكمله لا يستحق البرادعى : " الرجل الذى ترك مباهج الدنيا كلها ، وحضر إلى بلاده بعد أن شرفها فى ربوع المعمورة بأكملها حتى نال جائزة نوبل ، وفى بلده حصل على قلادة النيل ، وهى أعلى وسام مصرى يمنح لشخص من الأشخاص ، كل ذلك حصل عليه البرادعى وأكثر ، وكان المفترض أن يجلس فى قصره فى جنيف يستمتع بفترة تقاعده مع أولاده وأحفاده ، إلا أن الرجل رفض كل هذا النعيم ، ولبى نداء الوطنية وحضر إلى مصر ، فاستقبله رجالها أحسن استقبال ، نخبة مصر قضوا ساعات طويلة فى المطار ينتظرون حضوره ، وآلاف مؤلفة من الشعب تراصت خارج المطار يترقبون ظهوره ، وجاء البرادعى وكأنه نبى منتظر ، وتحدث إلى الشعب طالبا منه اليقظة والتغيير ... بل وأكثر من ذلك توقع الرجل وكأنه يقرأ من صفحات الغيب أن يختفى النظام الحاكم خلال عام واحد فقط ... وهنا أطلق النظام الغاشم كلابه الضالة المدربة لنهش الرجل ... لم ييأس رغم ما ناله من جراح ومضى مستمرا فى دعوته ورسالته وكأنه يحارب طواحين الهواء ، حتى بزغ الفجر ذات يوم وبالتحديد يوم 25 يناير المجيد ، وعلى الفور حضر الرجل مهرولا من الخارج ليقضى أيامه فى ميدان التحرير، متحملا القنابل المسيلة للدموع والطوب والأحجار رغم سنه الكبيرة ، وأخذ يبشر الثوار ويقوى من عزيمتهم ، ويتحدث إلى الفضائيات ، حتى تحقق النصر من عند الله وبعزيمة الشعب المصرى ، وهنا واصل المناضل نضاله ... ولم يدّع البطولة ... ونسى نفسه ، نسى أنه كان الممثل والأب الروحى للثورة وأول المنادين بها ، نسى أنه أول من أضاء شمعة فى ظلام مصر حتى تحولت إلى نهار وشمس ساطعة ، وجاء الاستفتاء ، وحضر البرادعى من الهند سريعا ... وأسرع من فوره إلى المقطم ، وبالتحديد بمساكن الزلزال ليدلى بصوته ، ويشارك فى العرس الذى صنعه ... قوى الجهل والظلام ... حملوا الطوب والحجارة لمهاجمة الرجل المحترم ، صاحب الدعوة إلى الخير والعدل ... سيدى البرادعى باسم كل مخلص ووطنى فى هذا البلد أقدم اعتذارى " [ دكتور البرادعى .. عذرا نحن لا نستحقك ، صحيفة الوفد ، 22-3-2011 ] .

- ووصفه أتباعه فى الجمعية الوطنية للتغيير ، وعلى شبكات التواصل الاجتماعى بأنه غاندى وجيفارا ومانديلا ، وأنه يمتلك فكرا سبق به فكر مصر كلها ، وأنهم يبايعونه قائدا ومهندسا ورئيسا مدى الحياة ، وأن شعب مصر خسارة فيه أمثال البرادعى !! .

لا يمتلك المرء بعد ذلك إلا أن يتساءل : هل يمكن لبشر عاقل راشد أن يتخيل مثل هذا النفاق الممجوج ، والتملق الفج ؟! .. هل يمكن لبشر أن يكون مبعوث العناية الإلهية ، وأمل الأمة ، وضمير مصر ، ومصدر الأمن والأمان لها ، وأفضل من يصلح لحكمها ، وأنه خيالها الجديد ، وأنه بداية تأريخ لمستقبلها الحديث ؟! .. هل يمكن لمن اشتكوا من تأبيد مبارك على كرسى الحكم ، ومن طالبوا بالانتخابات وتدوير السلطة أن يبايعوا البرادعى رئيسا مدى الحياة ؟! .. هل يمكن لعاقل راشد أن يعقد مقارنة بين البرادعى وثلاثة من الرموز الذين تركوا بصماتهم على بلادهم وعلى العالم ؟! .. غاندى الذى عاش حياة الشظف والتقشف ، وحرّر بلاده من الاستعمار البريطانى البغيض ، فى مقاومة سلمية أصبح دلالة عليها ورمزا لها ، ودفع حياته من أجل التأليف بين قلوب الهنود الهندوس والمسلمين .. وجيفارا الذى لم يكتف بالمشاركة فى تحرير بلاده من الحكم الديكتاتورى المستبد ، بل مضى مقاتلا لتحرير غيرها من بلدان أمريكا الجنوبية ، التى عانت القمع والاستبداد من أنظمتها فى تلك الفترة .. ومانديلا الذى قضى 27 عاما فى سجون النظام العنصرى الكريه ، حتى تحررت بلاده من وصمة من وصمات العار الكبرى فى تاريخ البشرية المعاصر .. أليست هذه ورب الكعبة هى الثقافة الفرعونية فى أقبح صورها ؟! .. نصنع لأنفسنا فرعونا وصنما ، ونخلع عليه الصفات الخارقة ، ثم نقدم له أنفسنا عبيدا أذلة صاغرين ، لنعانى بعدها العسف والخسف والهوان .. متى نتعلم كيف نزن الأشخاص والأشياء بالقسطاس المستقيم ؟! .. ومتى نتعلم كيف نقيِّم الشخصيات العامة حسب برامجها وخططها المتوازنة والواقعية والطموحة فى نفس الوقت ، وحسب انجازاتها ، وحسب ما تحققته للمجتمع بجميع أطيافه وأبنائه ؟! .

ولكن .. ألم نفعل نفس الشئ مع الجيش بعد الانتفاضة الأخيرة ، حيث قام الهتِّيفة والمهللون بخلع كل نعوت الكمال عليه ، وكأن وظيفة الجيش ليست حماية البلاد وناسها من أخطار الداخل والخارج ؟! .. ألم نفعل نفس الشئ مع من يُسمون شباب الثورة ، حتى نسينا كل فئات المجتمع الأخرى ؟! .. ألم نفعل نفس الشئ مع ميدان التحرير حتى نسينا كل مدن مصرى وقراها وبقاعها فى طول البلاد وعرضها ؟! .. ألم يحول وائل قنديل بمقالاته اليومية لشهور طويلة شباب الثورة إلى النبلاء والأطهار الوحيدين فى بر مصر ، ويحول ميدان التحرير إلى الأرض المقدسة التى تُشد إليها الرحال للتظاهر والاعتصام وغيرها من طقوس الثورجية ؟! .. ألم نفعل نفس الشئ مع أردوغان فى زيارته الأخيرة لمصر حيث استقبلناه بالحشود والهتافات وكأننا نستقبل نبى آخر الزمان ؟! .. ألا تقتضى الامانة أن نذكر له فضله ، ودوره فى بناء تركيا الحديثة ، بدون أن نخلع عليه صفات القداسة ، وبدون أن ننسى طريقا طويلا من الجهد الجماعى ، لتهيئة الظروف لإنجازاته ، وإنجازات حزبه ، وإنجازات الشعب التركى بأكمله ؟! .. ولكنها مرة أخرى الثقافة الفرعونية التى لا يقر لها قرار إلا بصناعة الفراعين الكبار والصغار ، حتى تحول الزوج إلى فرعون فى بيته ، والعمدة إلى فرعون فى قريته ، والضابط إلى فرعون فى كل مكان ، والوزير إلى فرعون فى وزارته ، والمدرس إلى فرعون فى فصله ، وأستاذ الجامعة إلى فرعون فى محاضرته ، وكل مسؤول إلى فرعون فى مصلحته أو مؤسسته .. مجتمع من الفراعين على جميع المستويات ، يدفعون قومهم إلى الفقر والبؤس والمعاناة ، ويقودون غالبية الناس إلى حتفهم ، وهم يهتفون لهم بالدم وبالروح وبطول الحياة .. تماما كما فعلوا مع أول الفراعين أمنمحتب الرابع : فرعون .. لك الحياة والنجاح والصحة .. أما هم فلا شئ لهم إلا العذاب والمعانة !! .

سابعا : ما هو الحل ؟

1- تغيير الثقافة الفرعونية : تسيطر المنظومة الفرعونية على المجتمعات بخطوات عبَّر عنها القرآن الكريم بدقة متناهية ( وفرعون ذى الأوتاد * الذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ) الفجر : 14-10 .. منظومة يأتى على رأسها الفرعون ، الذى هو الرمز والضابط لحركتها والمُمْسك بمكوناتها ، تُحْكِم سيطرتها بأجهزتها التى تتجذر كالأوتاد الثابتة المتعمقة ( الشرطة والأمن والحرس والمخابرات بقسوتها وعنفوانها ، والجهاز التشريعى بزيفه وتزويره ، والجهاز الإعلامى بنفاقه وتضليله ، والحكومة بوزرائها الإمعات بعجزهم وتقاعسهم وانحصار دورهم فى تنفيذ تعليمات الرئيس ، وتوصيات الرئيس ، وتوجيهات الرئيس ) .. تطغى تلك الأجهزة وتتجبر وتتكبر ، فتعم الفوضى والعشوائية ، وتكثر المظالم ، ويغيب العدل والقانون ، ويشتد بالناس الفقر والحاجة ، فيزحف الفساد فى طول البلاد وعرضها ، حتى أن الناس أنفسهم ، وهم أصحاب المعاناة الحقيقية فى تلك المعمعة ، يصبحون جزءا أصيلا فى منظومة الفساد ، يحافظون على دوران عجلتها ، ويستفيدون منها ، ويعانون منها فى الوقت ذاته ، ولكنها أصبحت أمرا مألوفا فى حياتهم ( يستغل الناس بعضهم بعضا ، ويظلمون بعضهم بعضا ، ويعطلون مصالح بعضهم البعض ، ويتحايلون على بعضهم البعض ، ويتقاضون الرشاوى من بعضهم البعض ، وغيرها مما يوقعه غالبية الناس وعوامهم ببعضهم البعض ) .. إنه سوط العذاب الإلهى للساكتين علي الطغاة .. هؤلاء الطغاة سيصيبهم العذاب أيضا عندما لا يصبح هناك محيص من انفجار أوضاع المجتمع ، ولا ينتهى الأمر عند ذلك ، بل يحذر الله تعالى الطغاة وكل الفاسدين والظالمين ، والمشاركين لهم ، والساكتين عليهم ، بترصدهم وعقابهم ( إن ربك لبالمرصاد ) الفجر : 14 .. أليس هذا وصفا دقيقا للحالة المصرية خلال العقود الماضية ؟! .

فى مثل تلك الظروف لا يكون تغيير النظام الفرعونى وحده كافيا ، إذ لا بد من تغيير الثقافةالفرعونية الفاسدة السائدة فى المجتمع ، وهو الجانب الأشق والأصعب فى معادلة الإصلاح ، وهو الذى يتطلب الجهد والوقت ، ويحتاج تضافر كل أفراد المجتمع ومؤسساته لصناعة إنسان جديد ، يكره الظلم ، ويأنف من العبودية ، ويرفض الذل ، ويبغض النفاق والتملق ، ويمارس واجبه فى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، ويحترم القانون ، ويُعلى من قيمة العمل والتعلم والإجادة والإتقان ، ويعتز بفرديته ولكنه يمارس دوره فى العمل الجماعى بعيدا عن الأثرة والحسد ورغبة القيادة وغيرها من الآفات .. بهذا يتكامل الفرد مع نفسه ومع جماعته الصغيرة كأسرته وجيرانه وحيه وقريته ، وجماعته الكبيرة ممثلة فى مجتمعه وأمته ، وبهذا أيضا تنصلح أحوال الفرد والجماعة ، ويصبح كل واحد حارسا أمينا وناصحا مخلصا ومساهما متفانيا فى حركة المجتمع ونشاطه .

2- اتباع التوجيهات القرآنية فى قصة موسى عليه السلام مع فرعون : الفرعونية نظام شديد القسوة ، لا يرحم خصومه ، ولا يشفق على مناوئيه ، ويتَّبع لإسكات معارضيه وسائل وآليات تعرضت لها سابقا ، من إشاعة الخوف بين الناس ، وبث الرعب فى قلوبهم ، ومن السجن والتعذيب والقتل وانتهاك الأعراض وغيرها ، ولا يستطيع الصبر على ذلك إلا أصحاب النفوس العامرة بالإيمان بالله ، والتوكل عليه ، وتحمل الأذى فى سبيله ، والتيقن من نصره وتوفيقه ، ولذلك فإن أشرس الناس ، وأثبتهم على الحق ، وأكثرهم تحملا للبلاء ، فى مقاومة الفرعونيات العربية هم الإسلاميون ، كما أنهم أيضا أعلم من غيرهم بحقيقة السنن الإلهية ، التى تستوجب حدوث التغيير لا محالة ، وتستوجب زوال الطغاة والظالمين لا محالة ، وتستوجب توفر شروط التغيير لا محالة ، والأنظمة الفرعونية تعلم ذلك يقينا ، ولذلك تركز جهودها فى القمع والمطاردة دائما على الإسلاميين ، وتتغافل عن غيرهم من أصحاب الجعجعات الفارغة ، والذين هم فى حقيقتهم جزء من المنظومة الفرعونية ، لتجميل وجهها القبيح ، وتحسين صورتها الدميمة ، وقد اشتملت توصيات موسى عليه السلام لقومه فى مجابهة فرعون على تلك الأشياء :

- وصاهم بالإيمان بالله ، والتوكل عليه ، والاستعانة به ( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) يونس : 85-84 ، ( قال موسى لقومه استعينوا بالله ... ) الأعراف : 128

- ووصاهم بالصبرعلى الأذى ، وتحمل المكاره ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ... ) الأعراف : 128

- ووصاهم بالصلاة ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) يونس : 87

- ووصاهم بالدعاء ( ... ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ) يونس : 86-85 ، ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) يونس : 88 ، ( فدعا أن هؤلاء قوم مجرمون ) الدخان : 22

- ووصاهم بالتيقن من سنن الله ووعده بالنصر والتمكين ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) الأعراف : 128 ، ( ... قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعلمون ) الأعراف : 129
والمتأمل فى قصة موسى عليه السلام يجد تأثير الإيمان ، وكيف غيّر السحرة فى لمحة بصر ، وهم الذين جاءوا لتعضيد فرعون ، وإثبات كذب دعوة موسى عليه السلام ( قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى

 * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا يا موسى إما ان تلقى وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس فى نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ) طه : 69-57 ، وبمجرد أن تيقن السحرة من صدق موسى عليه السلام سجدوا لله مؤمنين به ، ولم ترهبهم تهديدات فرعون بصلبهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم ، وهكذا يُعطى الإيمان بالله تعالى ، والاطمئنان لوعده ، أصحابه قوة وجَلَداً وإصرارا ( فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال أامنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) طه : 76-70

3- ضرورة العمل الجماعى : العمل الجماعى هو الطريقة الوحيدة لمقاومة الأنظمة القمعية ، حيث يصعب على تلك الأنظمة مجابهة حشود الناس المدافعين عن حقوقهم ، بينما يسهل عليها اصطياد الأفراد والجماعات الصغيرة ، والتنكيل بها ، ويرجع ذلك لأنه يُفسد آليتين من آليات الفرعون وهما :

- إشاعة الفرقة بين الناس ، وتفتيت المجتمع إلى فئات وطبقات ، وإضعاف عرى التواصل بينهم ( إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين ) القصص : 4

- إشاعة الخوف بين الناس ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ... ) يونس : 83 ، والخوف وإن كان طبيعة بشرية .. يخاف المرء على نفسه وأهله وماله ، إلا أن العمل الجماعى كفيل بإعطاء أصحابه إحساسا بالقوة والثقة والأمان ، ولذلك انهار نظام بن على فى تونس ، ونظام حسنى مبارك فى مصر ، رغم القبضة الأمنية الخانقة ، ورغم عقود من القمع والإرهاب ، نجح خلالها فى القضاء على كل أشكال المعارضة الفردية والجماعية الصغيرة ، ولكنه فشل أمام الحشود الجماهيرية العريضة .

4- ضرورة تقديم المساعدة المالية والمعنوية والخدمية والقانونية والإعلامية للمعارضين وأسرهم ، إذ لا يعقل أن يضحى هؤلاء بأنفسهم وأموالهم من أجل مجتمعاتهم ، ثم يتركهم الناس بلا سند أو معين ، ويتركوا أسرهم وزوجاتهم وأبناءهم يواجهون العزلة والفقر والحاجة ، ومن عجيب معظم ما يسمى بجمعيات حقوق الإنسان فى بلادنا أنها تملأ الدنيا صياحا وضجيجا عند مصادرة كتاب إباحى ، أو دفاعا عن المرتدين والشواذ والمنحرفين ، ولا تدافع عن خيرة أبناء المجتمع ، وصفوة أبنائه ، وهم بعشرات الألوف فى سجون الأنظمة العربية الفاسدة ، أو يعانون الغربة فى المنفى .. العمل الجماعى من خلال تلك الجمعيات الأهلية سيُعين هؤلاء وأسرهم على الصبر والتحمل ، وسيشكل ضغطا على الحكومات العربية وإحراجا لها ، وسيُعطى أيضا شجاعة وقوة لكل المجاهدين ضد الظلم والطغيان ، والمدافعين عن حقوق الناس ومستقبلهم ومستقبل مجتمعاتهم .

5- عدم الثقة بالأنظمة الفرعونية : الأنظمة الفرعونية لا يمكن الوثوق بها ، أو الاطمئنان لوعودها وتعهداتها ، فهى أنظمة كذب وتحايل وغدر ( فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من آية إلا هى أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ) الزخرف : 50-47 ، ( ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ) الأعراف 135-134 ، فهم ينكثون بكل عهد ، ويستخفون بكل وعد ، ولا نية لديهم مطلقا فى الإصلاح والتغيير ، والظن بغير ذلك سذاجة ووهم ، ولهذا وجب على كل الذين يعتقدون بإمكانية إصلاح النظام الملكى فى المغرب أو الأردن أو دول الخليج أو النظام فى الجزائر أو سوريا أو اليمن أن يراجعوا قناعاتهم ، كما أن الفراعين أيضا لا يمكن إصلاحهم .. فراعين الأمس وفراعين اليوم .. لم يرسل الله تعالى موسى عليه السلام لهداية فرعون الأمس ، فقد وصل إلى مرحلة اللاعودة ، وكانت كل دعوة موسى ( أن أرسل معنا بنى إسرائيل ) الشعراء :17 ، ( ... فأرسل معى بنى إسرائيل ) الأعراف :105 ، (... فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم ... ) طه : 47 ، ( ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين ) الدخان 18-17 ، كما أنه وهو يواجه الغرق محاولا اللحاق بموسى وبنى إسرائيل ، لم يستطع حتى الإعلان صراحة عن إيمانه بالله تعالى ، وإنما استعمل أسلوبا يدل على عناده وتكبره ( وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين ) يونس : 91-90 .. فراعين اليوم أيضا يصرون على العناد والتكبر حتى النهاية .. القذافى أصر على عناده حتى النهاية ، وبن على ومبارك ما تركا الحكم إلا بعد أن انصرف عنهما الجميع ، وسيمضى على الطريق على عبد الله صالح وبشار الأسد وكل متكبر جبار .

تحدثت فى الجزء الرابع من هذا المقال ، عن الأسباب النفسية والدينية التى تجعل إصلاح الأنظمة الفرعونية أمرا مستحيلا ، كما بينها القرآن الكريم ، غير أن النظر إلى الأمر من منطلق مادى دنيوى يقود إلى سبب آخره ، ذكره الكاتب البريطانى Robert Fisk فى مقال نشرته صحيفة The Independent بتاريخ 23 أبريل 2011 ، تحت عنوان Every concession makes the president more vulnerable ، ويعنى أن كل تنازل يقدمه الرئيس ( يقصد هنا الرئيس السورى بشار الأسد ) سيجعله أضعف وأكثر عرضة لمزيد من التنازلات Every dictator knows that , when he starts making concessions , he is at his most vulnerable . It is an exquisite torture for the regime in power . Each gesture . each freeing of political prisoners , each concession – and the crowds demand more ، وهو أمر يعرفه كل الطغاة ، ولذلك فإنهم أكثر الحكام عنادا وإصرارا على مواقفهم .

6- المقاومة بكل أنواعها هى الخيار الوحيد : ليس هناك فى الحقيقة أمام الشعوب التى تعانى من الأنظمة الفرعونية بدائل إلا مقاومة تلك الأنظمة والتخلص منها ، لأن السكوت عليها يعنى فساد المجتمعات وخرابها ( ... ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ) الأعراف : 137 ، وهذا الفساد والخراب نتيجة طبيعية لسياسات الأنظمة الفرعونية التى تقوم على الضلال ، وتفتقر إلى الهدى والرشاد ( وأضل فرعون قومه وما هدى ) طه : 79 ، ( ... وما أمر فرعون برشيد ) هود : 97 ، وكم بدد حكام العرب المعاصرون من أموال وثروات فى حروب خاسرة ، ومشاريع فاشلة ، ويعنى السكوت أيضا اليأس والفقر والبؤس والتعاسة لغالبية الناس ، فالإنسان له حقوق ومطالب مادية ومعنوية لابد من الوفاء بها ، فإذا حُرمها حُرم متعة الحياة وهناءها ، ويعنى السكوت كذلك أن يصبح غالبية الناس جزءا من منظومة الفساد ، فيحق عليهم ما يحق على الفرعون وملئه ونظامه من غضب الله تعالى وعذابه ( ... فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) الزخرف : 54 ، ( ... وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) غافر : 46-45 ، ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ) يونس 92-90 ، ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) هود : 99-96 ، أى أن الأمر هنا تعاسة دنوية وأخروية ، ولا عذر بالضعف أو الفقر أو قلة الحيلة أوغيرها من أعذار الشعوب التى تبرر بها السكوت على المظالم ، بل إنه لا عذر حتى لجنود فرعون وشرطته وحرسه وأمنه ، وهم أولى الناس بالعذر ، لأنهم مأمورون ويلزمهم التنفيذ .. هذا العذر لا قيمة له عند رب العالمين ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) القصص :8 ، ( واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) القصص : 39 ، ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) يونس :
92
7- فهم معنى القيادة والتدريب عليها : الطريقة العشوائية التى تُدار بها الأمور فى مجتمعاتنا لن تقود إلا لمزيد من الاستبداد والتخلف ، ويلزمنا أن نهتم بطرق الإدارة العلمية ، وأن نعىَّ مفاهيم ومعانى القيادة leadership ، والجهل بتلك الأشياء هو السبب فى فشل وإخفاق معظم قادتنا .. من رئيس الدولة إلى " ريس الأنفار " .. القيادة ليست فرعونية كما يظن أغلب المسؤولين فى بلادنا ، وليست تحكما ، وليست استبدادا ، وليست انفرادا بالرأى والقرار ، وليست تعاليا على النقد والمساءلة ، وليست عزوفا عن طلب المشورة من الخبراء والمتخصصين ، والقائد الجيد سواء كان رئيسا للدولة أو رئيسا لمحافظة أو مدينة أو عمدة لقرية ، أو رئيسا لمصلحة أو مؤسسة ، أو " ريسا " لعمال أو أنفار ، ليس بالضرورة من يعلم كل شئ ، ولكنه من يعلم كيف يتفاعل ويتشاور مع أتباعه من الناس ، ويستفيد من آرائهم وخبراتهم ، ويُنسق بين مطالبهم ورغباتهم ، ولا يجد فى نفسه حرجا إذا انتقدوه أو خالفوه الرأى ، ولا يجد فى نفسه حرجا إذا أخطأ أن يسارع بالاعتذار وتصحيح الخطأ ، ولا يجد فى نفسه حرجا إذا اكتشف عجزه وعدم مقدرته على أداء مهمته أن يستقيل ويقدم من هو أكثر كفاءة ، وأقدر على القيام بالعمل ، ورعاية مصالح الناس ، وقد عجبت عند إعداد هذا المقال عندما وجدت أن هناك دورية أكاديمية متخصصة فى دراسات القيادة " The Journal of Leadership Studies " ، وفى أحد أعدادها " November , 1993 , pp.91-110 "يتناول Joseph Rost الأستاذ بجامعة San Diego الأمريكية ، فى بحثه " تطور القيادة فى الألفية الجديدة " Leadership Development in the New Millennium معنى القيادة كفكرة مركبة تتجاوز القائد الفرد ، الذى يدور الجميع حوله ، ويركزون على مقدرته وسلوكه وأسلوبه وحماسه ، إلى فكرة التفاعل بين الناس المعنيين بالأمر ، أو بمعنى آخر الرئيس وشعبه ، أو القائد أو المسؤول أيا كانت درجته وأتباعه ، أى أن جوهر فكرة القيادة ليس فى القائد ، وإنما فى العلاقة بينه وبين من يقودهم the words lead and leader ... usually referred only to authority figures ... contemporary definitions most often reject the idea that leadership revolves around the leader’s ability , behaviors , styles or charisma . Today , scholars discuss the basic nature of leadership in terms of the interaction among people involved in the process : both leaders and followers . Thus , leadership is not the work of a single person , rather it can be explained and defined as a collaborative endeavor among group members . Therefore , the essence of leadership is not the leader , but the relationship
إن الواجب علينا جميعا أن نفهم وأن نتعلم معنى القيادة ، وكيفية ممارستها ، وأن يجد كل قائد لذة فى إسعاد رعيته .. من رئيس الدولة إلى رب الأسرة .. هناك أكثر من 300 جامعة أمريكية تقدم مقررات دراسية فى القيادة ، ولا أجد معنى لغياب تلك المقررات فى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ، ولا أجد معنى أيضا لغياب التدريب والإعداد لكل من يتولون الأعمال القيادية فى كل مؤسسات المجتمع وأجهزته .. إن الإسلام أوجب المسؤولية على كل راع تجاه رعيته ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع فى أهل بيته ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع فى مال سيده ومسؤول عن رعيته ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ) رواه البخارى ، أى أن الأمر مسؤولية واجبة الأداء ، وأوجب على كل مسؤول مشاورة رعيته ( ... وأمرهم شورى بينهم ... ) الشورى : 38 ، ( ... وشاورهم فى الأمر ... ) آل عمران : 159 ، وجعله أجيرا وليس طاغية أو فرعونا عند من يقوم على رعايتهم ، سواء كان خليفة المسلمين ، أو أصغر عامل من عماله ، أو أصغر موظف فى ديوان من دواوين الدولة .. أليست تلك المعانى هى عين ما يقول به الأستاذ الأمريكى فى تعريفه للقيادة بعد أربعة عشر قرنا ؟! .

8- وضع المعايير والضوابط الصارمة لاختيار المسؤولين فى جميع قطاعات المجتمع : يصف عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه القيم " طبائع الاستبداد " ، والذى كتبه فى بدايات القرن العشرين .. يصف بدقة متناهية تكوين الأنظمة المستبدة ، وكيفية اختيارها للمسؤولين فى جميع أجهزة المجتمع ، فيقول : " الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة فى كل فروعها ، من المستبد الأعظم إلى الشرطى ، إلى الفرّاش ، إلى كنّاس الشوارع ، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا ، لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس ، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته ، وأنصار لدولته ، وشرهون لأكل السقطات من ذبحات الأمة ، وبهذا يأمنهم ويأمنونه ، فيشاركهم ويشاركونه ، وهذه الفئة المستبدة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته ، فكلما كان المستبد حريصا على العسف ، احتاج إلى زيادة جيش من المُمَجِّدين العاملين له ، والمحافظين عليه ، واحتاج إلى الدقة فى اتخاذهم من أسفل السافلين ، لا أثر عندهم لدين أو وجدان ، واحتاج لحفظ النسبة بينهم فى المرتب بالطريقة المعكوسة ، وهى أن يكون أسفلهم طباعا ، أعلاهم وظيفة وقربا . " .. أليس هذا الكلام شديد الدقة فى وصف حالتنا المعاصرة ؟! .. أليس الاستبداد فعلا فى كل طبقات المجتمع وأجهزته ، من الرئيس إلى الموظف الصغير الذى يعطل مصالح الناس ؟! .. أليس أراذل المجتمع هم قادته وأعلامه وصفوته ونخبته ؟! .. ألم نكن نشتكى من رغبة الرئيس مبارك توريث الحكم لولده ، رغم أن كل قادر على توريث الوظيفة أو المنصب لأبنائه وأهله كان يمارس نفس الفعل الذى يتضجر منه ؟! .. ألم يوَّرث أساتذة الجامعات مناصب التدريس والبحث لأبنائهم وهم لا يستحقون ؟! .. ألم يفعل القضاة والأطباء والمشخصاتية وغيرهم حتى السعاة فى مصالح الحكومة ؟! .

وضع المعايير والضوابط الصارمة لاختيار المسؤولين أيا كانت درجاتهم أمر شديد الأهمية ، ولا صلاح لأى مجتمع من المجتمعات بدونه ، كما يجب على الناس أيضا أن تتخلى عن عواطفها ، وميولها الشخصية ، عند انتخاب الرئيس أو أعضاء مجلس الشعب أو ممثليهم فى النقابات والاتحادات وغيرها ، وأن تكون الكفاءة والأمانة وحُسن السيرة والخبرة والتواضع وغيرها من المؤهلات الضرورية هى المعايير الوحيدة للاختيار ، وقد حذرنا رسولنا الكريم (ص) من إغفال ذلك ، واعتبره خيانة لله ورسوله وللمسلمين ( من استعمل رجلا على عصابة من المسلمين ، وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين ) الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس (رض) ، وهو صحيح الإسناد ، وفى حديث آخر صحيح الإسناد ، رواه أيضا الحاكم فى المستدرك عن أبى بكر (رض) يقول (ص) : ( من ولى من أمر المسلمين شيئا ، فأمر عليهم أحدا محاباة ، فعليه لعنة الله ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، حتى يدخله النار ) .
ملحوظة : عصابة من المسلمين : جماعة من المسلمين ، والمعنى أية جماعة صغرت أو كبرت – أرضى لله منه : المعنى يشمل تقوى الله تعالى ، ويشمل الأمانة والخبرة والكفاءة وغيرها من كل ما يُرضى الله جل وعلا – صرفا ولا عدلا : فرضا ولا نافلة ، أى لا يقبل الله سبحانه منه أداءه للفروض والنوافل معا ، دلالة على قبح الفعل ، وعِظم الذنب .

9- فضح النخبة الفاسدة الضالة المُضَلِلة ، وكشف خيانتها وتدليسها وكذبها وتلاعبها : النخبة السياسية والإعلامية والصحافية والفنية والثقافية والأدبية ومشايخ السلاطين ، وكل القطيع فى زفة العوالم المُهللين والمُطبلين للرؤساء والمسؤولين هم أسوأ الخلق ، وأشد الناس إضرارا بالمجتمع ، وأكثرهم إلحاقا للأذى بأدمغة الناس وأفكارهم .. إن مشكلة مصر الكبرى لم تكن أبدا فى حكامها الفراعين ، رغم خيانتهم للأمانة ، وتخليهم عن واجباتهم الشرعية والقانونية والدستورية والأخلاقية ، فى خدمة الأمة ، والسهر على مصالحها ، ومجابهة أعدائها فى الداخل والخارج ، ولم تكن فى نظام الفرعون وأجهزته وأتباعه من الإمعات واللصوص والمشوهين عقليا ونفسيا ، ولم تكن فى الشعب رغم خنوعه واستكانته ، وقبوله طواعية أو اضطرارا للمذلة والمهانة ، وإنما كانت دائما فى تلك النخبة فهى التى :

1- صنعت الفراعين بالنفاق والتملق ، وخلعت عليهم من صفات الكمال والقدرة ، ما لا يخلعونه على رب العالمين ، رغم أنهم لا يستحقون إلا التحقير والإزدراء لجهلهم وحمقهم ، وافتقارهم للإرادة والحكمة والأمانة ، وإخفاقهم فى تحقيق أية إنجازات لشعوبهم غير الفشل والهزائم وتبديد الثروات البشرية والطبيعية .

2- وضللت الناس ، وتلاعبت بعقولهم وقلوبهم ، وبددت وقتهم وجهدهم فى تنظيرات عقيمة ، وسفسطات فارغة ، ومسخت هويتهم بمذاهب الشرق والغرب ، وتطاولت على دينهم ومعتقاداتهم وثقافتهم وتاريخهم ، وأوهمتهم بالضعف وعدم القدرة على التغيير ، وزينت لهم السكوت والسكون ، وبررت لهم كل الهزائم والإخفاقات والانتكاسات .

لو أردنا أن نتعافى مما نحن فيه من طغيان واستبداد وفساد ، علينا أن نطهر مجتمعنا من أصنام الفرعونية ، فنكسرها جميعها صنما صنما .. الفرعون الصنم ، والوزير الصنم ، والمسؤول الصنم ، والكاتب الصنم ، والصحافى الصنم ، والإعلامى الصنم ، والمشخصاتى الصنم ، والمغنواتى الصنم ، والرياضى الصنم ، والضابط الصنم ، وأستاذ الجامعة الصنم ، والموظف الصنم ، وحتى العمدة الصنم ، وأن نُنْزِلَهم جميعا منزلتهم الحقيقية .. منزلة البشر الأُجَراءِ عند الناس ، لخدمتهم ، والقيام على مصالحهم ، فإن أحسنوا فلأنفسهم ، وإن أساءوا حوسبوا وعوقبوا وعزلوا إذا لزم الأمر .

سعد رجب صادق
saad1953@msn.com
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية