الثقافة الرقمية و الانتماءات الالكترونية
| |
راشد | |
بقلم : حسين راشد
......................
حينما تشعر أنك منتمياً إلى فكرٍ معينٍ تدافع عنه وكأنك تدافع عن ذاتك .. و حينما تنتمي إلى دينٍ تراك متعصباً أمام أي من الذين يهاجمونه, و حينما تنتمي إلى أرضٍ تجد أنك تدافع عنها دونما تخطيط مسبق لهذا , كل هذا كان في زمن الحياة الطبيعية .. الحياة التي عاشها الإنسان على مدار آلاف السنين .. مذ بدء الخليقة إلى أن تحددت المفاهيم في أطرٍ قد لا يستسيغها العامة من الشعوب , و التي لا تبحث كثيراً عن المغزى من صك الاصطلاحات الجديدة أو تأطير القديمة في إطارٍ أخر لا يمت للأصل بشيء , و كذلك استحداث مرادفات جديدة تلغي القديمة أو يتم إغفالها عن عمدٍ حتى ثمر ثمرة أخرى على شجيرات الزيف و التضليل.
و لأن دور المثقف هو دورٌ تنويري في المقام الأول .. و الباحث مهمته أن يبحث و يدقق في أسباب الخلل الفكري الذي قد يحدث تغيراً منافياً لأصول الحياة و وضع يده على هذا الخلل و البحث عن كيفية العودة للجذور الأصيلة التي من خلالها تعود المواءمة و الحياة الطبيعية لأفراد مجتمعه الذي هو لا شك فرد من أفراده المتضررين بأي ضرر يحوق بهم.
كان علينا أن نعود إلى مفهوم الانتماء كي نحدد نقاط الخلل التي استحدثت و التي سيأتي ذكرها تباعاً في جلسة البحث هذه .
مفهوم الانتماء :
الانتماء Belongingness بمفهومه البسيط يعني الارتباط والانسجام والإيمان مع المنتمي إليه وبه، وعندما يفتقد الانتماء لذلك فهذا يعني أن به خللاً ومع هذا الخلل تسقط صفة الانتماء. الانتماء كمفهوم ينتمي إلى المفاهيم النفسية الاجتماعية ويعني الاقتراب والاستمتاع بالتعاون أو التبادل مع آخر وفي الحقيقة أن دافع الانتماء (الجوع الاجتماعي) إذا توافر لدي الفرد وتحفز يبلغ من القوة أنه يستطيع أن يعدل كثيراً من سلوك الفرد حتى يصبح سلوكه مطابقاً لما يرتضيه مجتمعه. فعندما ينضم الفرد إلى الجماعة يجد نفسه، في كثير من الأحيان، مضطراً إلى التضحية بكثير من مطالبه الخاصة ورغباته قي سبيل الحصول على القبول الاجتماعي من أفراد الجماعة وتجده يساير معايير الجماعة وقوانينها وتقاليدها فيتوحد الفرد مع الجماعة فيرى الجماعة وكأنها امتداد لنفسه يسعى من أجل مصلحتها ويبذل كل جهد من أجل إعلاء مكانتها ويشعر بالفوز إذا فازت أو بالأمن كلما أصبحت آمنة. والانتماء الوطني يعتبر من أوضح نماذج التوحد مع المجتمع حيث يلاحظ تأثير شخصية الأمة National Character على شخصية الفرد وتطابق شخصيته مع النمط الثقافي السائد. أما إذا لم يتوفر دافع الانتماء يصبح الفرد في حالة حياد عاطفي بالنسبة للآخرين أو المجتمع ومعنى ذلك إما أن ينحصر اهتمامه في ذاته أو يصبح في حالة ركود وعدم نشاط لعدم توفر الدافع على أداء فعل معين والشخص غير المنتمي قد انفصل عن ماضيه وحاضره ولم يعد يهتم بمستقبله.
ويعرف الانتماء بأنه "النزعة التي تدفع الفرد للدخول في إطار اجتماعي فكري معين بما يقتضيه هذا من التزام بمعايير وقواعد هذا الإطار وبنصرته والدفاع عنه في مقابل غيره من الأطر الاجتماعية والفكرية الأخرى"[1]. وورد في معجم العلوم الاجتماعية أن الانتماء هو ارتباط الفرد بجماعة؛ حيث يرغب الفرد في الانتماء إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها ويوحد نفسه بها مثل الأسرة أو النادي أو الشركة[2]. ولعل أنقى حالات الانتماء وأرقاها، الانتماء الفكري والذي يتجاوز بمضمونه كل الحالات الأخرى، والتواصل على هذا الأساس له جذوره وقوته أكثر بكثير من الحالات الأخرى. الانتماء هو شعور بالترابط وشعور بالتكامل مع المحيط، الانتماء أساس الاستقرار[3].
وللانتماء أشكال وألوان ومشارب متعددة وقد تأخذ صوراً مختلفة، في الدين يأخذ الانتماء إلى المذهب والطائفة الشكل الأبرز وهنا قد يكون الانتماء، ولاسيما في وقتنا الحاضر لقباً، صفة تطلق وهي ليست تعبيراً دقيقاً عن الموصوف وقد لا يعرف هذا الموصوف من نعته إلا الاسم وعندما يزداد التخلف تصبح هذه الصفة لازمة ومرافقة شاء صاحبها أم أبى. كذلك في المسارب الأخرى تتحدد الانتماءات وتصنف الاتجاهات وتأخذ شكلها الموضوعي. في الأدب هذا ينتمي إلى المذهب الفلاني وذاك إلى آخر وهذا الشاعر ينتمي إلى مدرسة الشعر التقليدي الكلاسيكي وذاك إلى الحديث وفي الحديث والقديم مدارس منها الاجتماعي والديني والقومي ..الخ. وفي السياسة يأخذ الانتماء إلى التنظيمات السياسية بتجلياتها (الأحزاب) الشكل الأوضح وفي حالة أرقى إلى القيادات الأوسع منها القومي ومنها الديني ومنها الرأسمالي والاشتراكي وتتعدد أيضاً المسميات والتقسيمات بتفرعاتها. في مجرى الحياة يعبّر عن الانتماءات الإنسانية بالسلوك وبالممارسة ، الحب انتماء، وممارسة السلوك والأخلاق العامة انتماء وخرق المألوف الاجتماعي انتماء ..الخ[4]. الانتماء هو شعور لدى كل فرد يشعر من خلاله أنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه ويفتخر بارتباطه بمجتمعه ، وحيث تربطه بأهله أواصر كثيرة.
و يأتي دوري هنا لأضيف قناعتي عن مفهم الانتماء لديّ, وهو من وجهة نظري أُخذ صك المصطلح من كلمة "نمى" أي أن له جذوراً في هذه البقعة من الأرض التي رويَّ منها حتى أثمرت داخله هذا الشعور .. فنمى الشخص من مكونات هذه البقعة من الأرض بخيرها و شرها اللذين شكلا نوعية انتماء الفرد, بما في ذلك الدين و الثقافة و الحياة الاجتماعية و البيئية و ما إلى ذلك من أشياءٍ روت نبتته فنمى و انتمى.
وبذلك نجد أن لكل قطر من الأقطار أن كل المواطنين في بلدٍ من البلاد لها سمات مشتركة و طباعٍ متوافقة لانتمائهم إلى مصادر نمو واحدة تجمعهم .
وحينما يأتي دور الثقافة الالكترونية و التي كسرت حاجز الخصوصية المجتمعية , بعدما كانت كل جماعة أو مجتمعٍ مغلقاً على ذاته- إلى حد ما – إلا من كانت له سفراتٍ و جولات في مناطق أخرى يستلهم منها و يتعلم الجديد, ولا شك أن الإنسان بطبيعته ميالٌ لمعرفة الجديد و باحثاً عن الأفضل – من وجهة نظره – و التي تختلف باختلاف معرفته ثقافته و رجاحة فكره و كياسته.
فبعد أن أصبح مفهوم المعلومة واقعاً لا نظرياً حينما دأبت الشعوب على ممارسة حياتهم الفكرية الاجتماعية عن طريق الشبكة البينية أصبح الانتماء الفكري وهو من وجهة نظري أخطر بكثير من الانتماء العرقي أو المذهبي أو أي انتماءات أخرى , لأنه يشكل طريقاً يختلف في غالب الأمر عن الطرق التي يسلكها مجتمعه و التي يمكننا أن نقول عنها أنها "طرق بدائية" و البداوة فيها ليست سباً و لكنها توصيفاً حيث منها بدأ الفكر و تنتهي بعدما يأتي أفراد المجتمع بما هو هادم لهذه البداوة القديمة " الثقافة القديمة" ولا داعي أن نذكر بمعنى الثقافة , في هذا العصر الذي لا يتفق المصطلح مع مفهومه, فبات المصطلح يفهم على أنه العادات و التقاليد المورثة إيجابية كانت أم سلبية, وهذا بعيدٌ كل البعد عن المفهوم الأساسي الذي يعني إقامة المعوج من الشيء و تأديب و تهذيب الفرد , الأمر الذي يبعد معنى " الثقافة" عن الموروثات بما لها وبما عليها.
لاحت في أفق الثقافة الرقمية انتماءات جديدة على المجتمع العربي خاصة و الذي كان يعد من أشرس المجتمعات حفاظاً على مورثه من القيم و الأخلاق , انتمى الجيل الجديد و بعض من الأجيال السابقة إلى أفكار مستخدمي الشبكة البينية , وهذه الخاصية التي كتبنا عنها كثيراً " الاتصال و التواصل عن طريق شبكة الانترنت" أحدثت هذه الخاصية سرعة انتشار الأفكار و توصيلها بين الشعوب في ذات اللحظة التي تكتب فيها , فبتنا نرى الثورات الشعوبية على الحكام تتناقل بين مصر و تونس و اليمن و ليبيا و البحرين و سوريا و من المنتظر أن تتسرب هذه الدعاوى إلى سائر الأقطار , وهذا دليلٌ على أن الانتماء الجديد ليس انتماءً لأرض أو دين أو قبلية كما كانت من قبل , بل أصبح الانتماء الفكري هو المسيطر على الموقف العربي الآن.
ولا شك أن كل هذا ما كان ليحدث لو أن على الأرض حرية فكر و تقبل للرأي الآخر و فسح المجال للمثقف الحقيقي بأن يقوم بدوره في المجتمعات , بل ازدادت الفجوات بينه و بين المتلقي الذي أصبح هو الآن المتحكم في مصير العالِم و الحاكم ,و أصبح الخاسر الوحيد في هذه المعضلات هو الوطن المنتمى إليه جينياً , لأن وطن الفكر و الأفكار لا يؤمن بالوطن الطيني بل يبحر في متاهة سيبرانية ليس لها نقطة ثبات لأنه متجدد متعدد الاتجاهات و الانتماءات و الثقافات فأصبح متعدداً في الانتماءات.