الواقع الثقافي في القشر الغلافي (3)
...............................................................
- الجزء الثالث – مرحلة المزج و المعاناة
بقلم : حسين راشد
......................
بعدما اتسع الأفق .. و بات المخزون الثقافي و المعرفي يتسع في ذاكرتي .. حينها بدأ العقل يشير إلى هذه الحكمة التليدة التي تقول – كلما عرفت من العلوم كلما اكتشفت جهلك بالمعلوم , فكان ولا بد أن تبدأ مرحلة البناء الفكري على أسلوب يعتمد على الامتصاص أكثر ما يعتمد على العصر .. بمعنى أنه حينما تريد أن تتعلم فيجب عليك أن تكون كقطعة الإسفنج حين تضعها في مياه تمتص هي المياه فتكون بذلك قد أخذت و لكن حينما يتم عصرها ستعود بها هشة فارغة .. لذا كان عليَّ حينما قررت العودة للمجتمع الثقافي أن أعود ممتصاً لا عاصراً .. لتجربتي الثقافية السياسية التي مررت بها في أثناء التوقف عن النشاط الأدبي – الحكومي- بين قصور الثقافة و مومياءات المثقفين التي لا زالت بين جدران قصور ثقافتها .. فالمرحلة الحزبية الطويلة التي عشتها كانت كفيلة بأن أعود للمجتمع الثقافي ليس لأني طالب ثقافة بقدر ما علمت أن الثقافة تحتاج بالفعل لثقافة .. و أن المجتمع أصبح مجتمعاً إزاحياً لا ثقافياً .. حينما جاءني زميل لي في مرسمي الخاص.. و سمع مني أشعاري و قصصي و قال لي لماذا لا تأتي لقصر الثقافة نظرت له قائلاً وماذا هناك؟ و كأنه لم يعلم بأني قد دخلته مرات في طفولتي بنادي العلوم و المكتبة و مرات في صباي حيث تجربة النهر الأدبي و لعنت يوم دخولي, بدا لي أن الوضع قد تغير حينها .. و بدا و كأن الأوضاع قد تغيرت.. حدثت ذاتي لعل و عسى أن يكون الوضع قد يكون تغير بالفعل .. و حينما عدت وجدت أن الوضع قد تغير بالفعل و لكنه ازداد سوءً , لا أنكر وجود شخصيات مثقفة بالفعل و لكنها شخصيات داجنة .. لا فائدة منها ولا ضرر .. ترى و تسمع ولا تتكلم .. و يكتفي كل منهم بإلقاء ما لديه من أعمال .. يشحذون بها إعجاب من حولهم والذين هم أقل منهم مستوى فكري و ثقافي .. وهم على خارطة الأدب لا يمثلون قشة غارقة في محيط الثقافة الفعلية. منهم من يتعامل مع القديم بقدسية ومنهم من يتعامل معه بندية و منهم من يجعله تخلف ووثنية. و يبقى الصراع على اللا موجود و على ما اصطلح صديقي الشاعر مختار عيسى " كوبونات الثقافة" و هي عبارة عن مكافأة رمزية يقولون عنها أنها مكافأة إنتاج و هي عشرة جنيهات .. و إن كبرت و عظمت أصبحت ما بين ستون جنيهاً و مائة من الجنيهات. و هذه بالطبع لا تكون إلا في برنامج ولا يحصل عليها كل فرد بل المتميز منهم و الذي بتميزه تصبح له ندوة خاصة و يكون محاضراً إما محلياً أو مركزياً .. و كوبون الثقافة هذا يعطى في غالبية الظروف لطائفة خاصة و مجموعة معينة تداولها فيما بينهم لتكون مافيا الثقافة الداخلية بين جدران القصور . هذا بالعلاوة على المسابقات التي تعد تحت اسم النشر الإقليمي و التي تتحكم فيها مافيا أخرى لترويج السلعة البائرة بمواصفات تحكيمية مريضة و رديئة المستوى .. و لا يمكن تعريفها بأنها زكية .. كما لا يمكن الطعن في ذمتها لأنها لجان من خارج الثقافة " والحدق يفهم".
يكتفي كل من السادة مدعو الثقافة إن جاء لهم أحد ممن ذاع صيته ليحاضر عليهم او يناقش عمل لأحدهم أن يقولوا عنه أنه لا يفهم شيئاً .. و أنه كان كذا وكذا .. ولا يواجهون هذا الذي يتكلمون عنه .. بل حينما تتواجه الوجوه تلقاهم يكيلون له الحب و المودة .. و التقرب زلفى عله يأخذ منهم بعض الأعمال لينشرها في أي من المطبوعات التي تطبع له . و إن كان صحافياً فيا هناءهم .. يكادوا يقدسون اسمه حتى يرضى .. و من خلفه نفس المسألة ..
و الحال ليس ببعيد عن الساحة التشكيلية التي فرضت القبيح و أرغمت المحترم على عدم الاقتراب من سور القصر .. كي يحافظ على كرامته و فنه . فأصبحت ساحات القصر ملئا بالمدعين و الموظفين الذين تحول أغلبهم بقدرة الفساد إلى فنانين و مبدعين بالشفعة . ومن جاور السعيد يبعده عن داره و يسعد هو لوحده.
كنت قد اتجهت للعمل الصحفي منذ فترة طويلة .. و لأنني حزبي و قد ترأست لجنة إعلام فقد كنت أشرف على المطبوعات و في ذات الوقت أمتهن الصحافة كعمل ثقافي في الأساس و خبري في المقام الثاني .
تعرفت على الكثيرين في هذا المجال الذين وصفوني بالتقليدي و الحالم و ما شابه ذلك .. حينما كنت أتمسك بالمبادئ و القيم .. و كثيراً ما اتهمت بعدم فهمي للعمل السياسي و الصحافي , ولا عجب في ذلك فأغلبهم يمارسون هذا العمل على شكل مغاير , - اللي تغلب به ألعب به -
كان العجب أن من يحملون أقلاماً و يكتبون عن الثقافة و الأخلاق كثير منهم لا يحملون ثقافة ما يكتبون .. ولا علم بما يتحدثون عنه .. و باتت فكرة – أنه ليس الخبر أن يعضك كلباً .. ولكن الخبر أن تعض الكلب.. فباتوا يعضون من يقترب منهم .. و الآخرون يعضون فيهم .
الحالة الثقافية إذن في نظري باتت فاقدة لمقومات الثقافة .. حتى أنني عدت للمعجم لأبحث عن معنى الكلمة و أصولها لأعرف هل أنا على خطأ أم على صواب , وجدت أنني بالفعل تقليدياً فهي تعني إقامة المعوج من الشيء .. وفي الإنسان أدبه و هذَّبه, و لكن لا مجال لتفسير المعاجم في هذه الكيانات المريضة.
و للحديث بقية