الواقع الثقافي في القشر الغلافي (2)
...............................................................
بقلم حسين راشد
.....................
الفنون التشكيلية
ككل الشباب في بدايات المراهقة يبحث كل منا عن إثبات وجوده وأن يتميز في شيء .. وخاصة في جيلي الذي ولد من رحم ثورة ونكسة وعاش العبور صغيراً ثم صدمته المعاهدة والأحداث الجمة التي حدثت في الوطن العربي عامة خلال نصف قرن من الزمان .. هي متغيرات أثرت كثيراً في المجتمع العربي عامة و المصري خاصة .. فسنجد أجيالاً مختلفة يحمل كل منهم ثقافة حقبة تختلف عن ثقافة الجيل الذي تلاه والذي تلاه وهكذا .. فبتنا بين أجيال لا يعرف أي منهم لغة الآخر" لغة الحوار " .. ولا يستحسن أحدهم ثقافة الآخر "أخلاقه ومبادئه" والتي تغيرت في إطار زمني ضيق كان من الصعب أن تندمج .. فما أسرع ما يتحول المرء فيها من حال إلى حال دون أجادة المرحلة الأولى .. ثم تجده ينتقل لما تليها دون أن يدري كيف تسير الأمور.. وهكذا.
قد تكون بداية طويلة ولكنها حقيقة أراها أنها من المؤثرات الحقيقية التي أثرت في تجربتي شخصياً وهي معممة على كثير من هذا الجيل الذي ظلمه التطور الهمجي.
حينما استضافتني إذاعة الشباب والرياضة في حلقة خاصة عن أعمالي الشعرية مع الموسيقار الكبير محمد قابيل والأستاذة فتحية خليل في برنامج المواهب الشابة في بداية الألفية العجيبة.. سألني الفنان محمد قابيل عن بداية وعيي أكان شعرياً أم كان فنياً .. كان السؤال بالفعل جديداً علي.. لأنني منذ شببت لم أكن أعلم أني موهوباً بل كنت أمارس هذا وذاك دونما انتظاراً أن يكون أيهما سيبقى .. كنت في المرحلة الابتدائية خاصة أجيد مواضيع التعبير ولا أجيد الحفظ .. وفي الرسم كنت متفوقاً ولم أكن أحسب أنها ميزة في ذات الوقت بل كانت بالنسبة لي مادة يجب أن أكون مجيداً بها .. وبدأ الشعر ربما في هذه الأثناء لعدم مقدرتي على حفظ النصوص .. وكان في امتحانات اللغة العربية دائماً ما يكتبون " هات بيتاً من الشعر يقول عن كذا" ولأني لا أحفظ الشعر كنت أقوم بتأليف بيتاً شعرياً يتناسب مع ما جاء بالامتحان.
حقيقة حينما سألني الموسيقار محمد قابيل عن أيهم بدء معي أو بدأته .. لم تكن هناك إجابة محددة.. ولكني قلت ما راودني به قلبي.. " أنني لا أعرف بالضبط أيهم بدأ معي .. ولكنني أعرف أنني حينما يأتيني هاجس الفن.. أراه يحدد لي الإطار الذي يخرج في ثوبه عملاً فنياً سواء كان هذا شعراً أم فناً تشكيلياً .
وندخل في معاناة الثقافة .. بعد عودتي من رحلات شتى في أنحاء الأرض بين بلاد عربية و أجنبية وجدت نفسي محتاجاً للعودة للفن التشكيلي لأنني لم ابتعد عنه في مجالي الذي أعمل به منذ صباي " الإعلان" رساماً و خطاطاً " فصممت أن أعد معرضاً خاصاً بي .. توجهت لقصر الثقافة مرة أخرى كي أمارس هوايتي التي لا تحتاج لكائن فضائي أو شيوخ اللغة و النحو و الصرف و السم .. و قمت بعمل معرض بالأبيض و الأسود " فحم و رصاص" ثم بعدها وجدت السيدة المسئولة عن الفنون التشكيلية تطلب مني الحضور لقصر الثقافة لأن هناك مسابقة في الفن التشكيلي و رشحتني أن أكون ممثلاً لقصر الثقافة .. و معي بالطبع زملاء آخرين .. في هذه المسابقة وجدت شيوخاً في الفن قد تقدموا .. و في لحظة دخولي بلوحاتي لساحة القصر .. كانت اللجنة المحكمة التي أتت من الإقليم جالسة في بهو حديقة القصر .. حينما رأوني طلبوا من الميكانست أن يتحدثوا معي .. وقالوا له هذا فناناً تشكيلياً .. سألوني عن لوحاتي .. فقلت لهم عليكم أن تحكموا أولاً ثم أقول لكم أيهم بالضبط حتى لا يكون لانطباعكم أثراً سيئاً أو حميماً فيؤثر على الحكم .. و لكن لأنهم محترفون دخلوا المعرض وأخرجوا لوحاتي من وسط اللوحات المعروضة وأعطوها الدرجة النهائية .. ثم بعدها قالوا لي هذه و تلك لوحاتك أليس كذلك .. كنت سعيداً بهذا جداً لأنهم قالوا أن بصمتي في اللوحات تدل على شخصيتي . و أنهم رأوني بها .. لم يمر الكثير من الوقت حتى كان شهر رمضان قد أتى وابتدت الاحتفالات والابتهالات التي أقاموا لها حفلة بالقصر و لوحاتي معلقة في المعرض .. ولأنها ورقية فقد استخدموها للفرش لتناول المأكولات التي كانت أشبه بوليمة فقهاء زمان .. حينما دخلت المعرض ووجدت لوحاتي قد حدث بها هذا ثرت ثورة ما بعدها ثورة .. وعنفت الجميع ولكن لم يتخذ أيهم أية إجراء حيال هذا الموقف الغبي الذي ساعد عليه هذا الميكانيست الذي أصبح فيما بعد هو فنان القصر الأول بعد أن قام بمحاربة كل فنان جيد وأصبح هذا الميكانيست فناناً .
ثم جاءت فاجعة أخرى حينما تم اكتشافي على يد مدير عام الثقافة بالغربية آنذاك الفنان أحمد الخطيب الذي صمم أن يرى هذا الشاب الذي لم يعرف باسمه من قبل و حاز على المركز الأول .. وبعد لقائي به في معرضي الذي جاء بعد المسابقة بشهرين أو ثلاثة في أول يناير 1997" وكان أن قال " يجب على هذا المعرض المميز أن ينقل بالساحة الأحمدية بمدينة طنطا في ليالي رمضان " .. وقد كان هذا الاختيار صدمة لفنان موظف آخر يعمل لوحات بالرسم على الزجاج يقوم بترويجها وتسويقها وبيعها عبر مثل تلك المعارض.
ذهب لمدير عام الثقافة يعنفه على اختياره لي ولمعرضي وقال له أنه هو الأفضل و يجب أن يكون معرضه هو وليس لذاك الفتى .. ولكن مدير عام الثقافة رفض وطلبني في مديرية الثقافة وقال لي انظر فنظرت ووجدت الشكاوى المقدمة من الأخ الفنان الذي يكبرني بعشرين عاماً على الأقل وكان المعرض الذي حضر افتتاحه الأديب جمال الغيطاني وعلى هامش الاحتفالية كان اللقاء بالفنان مكرم حنين رئيس القسم الفني بالأهرام الذي قال عني الكثير والكثير بحميمية ورهافة الفنان وكان معه في اللقاء فنان الكاريكاتير الكبير ناجي كامل والذي أثنى على أعمالي وكتب مكرم حنين عن هذه الاحتفالية ولم يذكر أي من الفنانين فيها سوى اسمي .. - من حسن الحظ طبعاً أن اسمي رسخ في عقله حتى كتب المقال - وبعد سنوات أخبروني أن هناك مسابقة هي ذات المسابقة ولكنها في مدينة أخرى هذه المرة .. كان معي زملاء أكفاء .. وكان هذا الميكانيست قريباً من الجميع لأن وظيفته التي يعمل بها في الثقافة هي أن يقوم بخدمة الفنانين المتواجدين و تعليق أعمالهم .. ولأنه كذلك فقد سمحت له الظروف أن يجعل البعض يرسمون له بعض المخطوطات ليدخل بها معارض للخط العربي وكانوا يقولون عنه انه خطاطاً تشكيلياً .. ولا مانع ففن الرسم هو فن الخط ... في هذه المسابقة أيضا وجدت ذات اللجنة التي أعطتني المركز الأول .. وظللت عالقا في رؤوسهم فعرفوني مباشرة .. ثم قاموا بنفس العمل الأول .. واختاروا لوحاتي للدرجات النهائية .. وبعد أن ظهرت النتائج بعد أيام ذهبت لأرى الجائزة فلم أجد لي أسماً في قائمة الفائزين .. ولا أعرف كيف و لكني وجدت الميكانيست قد حاز على جائزة ..وبسؤالي للموظف في إدارة الثقافة ماذا حدث .. قال لي لا أعلم و لكني متأكد أنك حاصل على المركز الأول لأنه كان مع اللجنة ووضع الدرجات بنفسه .. قال لي عليك أن تقدم شكوى .. فقلت له لمن .. وأنتم من فعلتم هذا ؟!! صممت حينها ألا أدخل مسابقات الثقافة مرة أخرى و قد كان.
لم يمر كثيراً من الوقت حتى وجدت الميكانيست فناناً تشكيلياً .. و يحمل كارنيه عضوية نقابة الفنانين التشكيليين وتقام له معارض في أماكن مختلفة .. فقلت لنفسي لا عجب في هذه الوزارة .. وهذه الهيئات التي لا تحمل هماً ثقافياً ولا فنياً بقدر ما تحمل سجل حضور وانصراف وبرامج على الورق لتسديد الخانات . فكفرت بالفن التشكيلي في ظل هذه المؤسسة الفاشلة.
ورحت أرسم في الشوارع حتى تقابلت ذات يوم بالفنان الكبير الأستاذ الدكتور محمد قطب و الذي هنأني على أعمالي التي رءآها وقال لي : أنت لك طلة فنية مميزة .. و تستخدم المدارس الفنية كلها لتخرج لنا بمدرسة جديدة في الفن.
بقدر ما فرحت بكلام الأستاذ الدكتور محمد قطب بقدر ما حزنت على وضع الفن في مصر المحروسة بسبب غياب الفن الحقيقي و إزاحة الفنانين و تقديم مشوهي الفكر و الثقافة في المقدمة .. فكل من لطخ لوحة بالألوان أصبح فناناً تشكيلياً ولا عجب في ذلك .
لندخل في مأساة جديدة.
و للحديث بقية..