| | | | مقالات فى الفكر الأنسنى ...............................................................
حازم خيري ..........
مقدمة
لطالما أُلقى فى روعنا ـ نحن أبناء الثقافة العربية الاسلامية ـ، أن "الآخر" هو، دوماً وأبداً، من لا ينتمي لثقافتنا! حتى أنى ظللت لسنوات عديدة، أشعر بسيل جارف من الخوف والرهبة، يجتاحني كلما حدثتني نفسي أن قسطاً وافراً من التخلف الذي ترفل فيه ربوعنا الطيبة، إنما يُعد نتاجاً مباشراً لممارسات لأنسانية، يقوم بها فريق من أبناء ثقافتي..!
وعندما نجحت نسبياً في قهر مخاوفي، وتحررت ًمما ألقاه غيري في روعي، بدا لي أن الأمر قد يقف عند حد وجود بعض الفاسدين وفقراء الضمير بين ظهرانينا، على نحو ما يقول أصحاب الرأي..
بيد أن دراساتي لم تلبث أن قادتني إلى رؤية متكاملة للفكر الأنسني، يُحدد فيها مفهوم "الآخر" طبقاً لمعيار علمي وأخلاقي مُتميز!
ورغبة مني في توضيح مفهوم "الآخر" في رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، قمت بكتابة مجموعة مقالات، نشرتها على شبكة الانترنت، في مواقع متفرقة، وعلى فترات متباعدة! غير أني، ورغبة مني في تمكين قارئي الكريم من الاطلاع على هذه المقالات المهمة مجتمعة، أقدمت على جمعها في هذا الكتاب! وكل ما أرجوه لهذه المقالات أن تكون خطوة، ولو بسيطة، على طريق نشر رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني!
وذلك مخالفة منا للرأي المأخوذ به حتى هذه اللحظة في الأدبيات المعنية بالفكر الأنسني ـ والقائل بأنه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية!.. المقالة الأولى الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة
"القوة المطلقة خطيئة" بروميثيوس
تحكي الأسطورة اليونانية أن الإله بروميثيوس أحب الإنسان كثيرا وأشفق عليه، لِما قُضي عليه من خوف وذل وأمل عقيم، فسرق النار الإلهية، نار المعرفة، ومنحها لبنى الإنسان، فكان عقابه الأبدي أن شده كبير الآلهة، بالأغلال الفولاذية التى لا يمكن تحطيمها، إلى صخرة مرتفعة، ذات نتوءات بارزة، تُطل على ماء المحيط، وأطلق عليه النسور تنهش جلده، وكلما طلع الصباح كساه جلدا جديدا لتطعم به النسور! عذاب أبدى، شاركت المارد المُعذب فيه كل عناصر الطبيعة! بيد أن كبير الآلهة لم يكفه من بروميثيوس كل هذا العذاب الجسدي، فأرسل إليه وفدا من ربات الانتقام يعذبنه! فبروميثيوس، ككل الأبطال، له روح قوية لا تكسرها الآلام الجسدية، ولكن يكسرها أن تُفجع فى الفكرة التى تمثلها!
تلك هى أسطورة بروميثيوس، أوردتها فى صدر المقال، لارتباطها المُلهم بموضوعه، وهو الحضارة الغربية. فالغرب يحلو له دوما أن يرى نفسه بروميثيا، نسبة إلى الإله اليوناني بروميثيوس الذى سرق نار المعرفة من الآلهة ليعطيها إلى البشر! والغرب يحلو له أيضا أن يرى الحضارات الأخرى غير بروميثية!
مهمة كاتب هذه السطور، شائكة بلا ريب، فهو عازم على استخدام بعض مقولات الفكر الأنسني، فى اختبار مدى صحة الزعم الغربي المُشار إليه توا! إذ وحده الفكر الأنسني ـ فى رأي الكاتب ـ، هو القادر على تجنيب صاحبه عبء الافتراضات المُسبقة والادعاءات المُبالغ فيها، عند التعاطي مع موضوع خطير وشائك كالحضارة الغربية! فالناقد الأنسني لا يستطيع أن يبنى للغربيين نصبا يعمد إلى رجمه باللعنات، اقتداء بالكثيرين داخل عالمنا العربي وخارجه، كما لا يستطيع أن يبني لغير الغربيين، هيكلا مقدسا، يلتمس فيه البركة والخلاص! فتلك طريقة فى النقد، فجة وساذجة، أثبتت التجربة الحياتية المُعاشة فشلها، وجاء الفكر الأنسني ليستبدل بها نقدا أنسنيا، يخلو من الافتراضات المُسبقة، ويعصم صاحبه من القول بالخير المطلق أو الشر المطلق، لأنه إن فعل كان كمن يراود المستحيل..!
"إنني أتعامل مع النقد بجدية شديدة، تصل إلى درجة الإيمان بأنه، حتى في خضم معركة يقف فيها الفرد..بجانب أحد أطرافها، يجب أن يكون هناك نقد ذاتي. فلابد من وجود وعي نقدي، كي تكون هناك قضايا ومشاكل وقيم وحتى حيوات نناضل من أجلها..فينبغي على النقد أن ينظر لنفسه بوصفه عنصرا يُثري الحياة، وفى حالة تضاد بناءة مع كل أشكال الطغيان والسيطرة والاستغلال؛ فأهداف النقد الاجتماعية هي المعرفة اللاقسرية وغرضها الحرية الإنسانية"! كلمات ذات دلالة، للمفكر الأنسني إدوارد سعيد، أوردتها لأُبرز لقارئي الكريم أهمية الفكر الأنسني، على أمل تزخيم محاجتى بضرورة استبدال النقد الأنسني الواعد بالنقد التقليدي.
فى السياق نفسه، وقبل المُضي قدما فى حديثي، أرانى مُطالبا بتحديد ما أعنيه بـ "الحضارة الغربية"، إذ لا يُعقل أن أتجاهل أمرا مهما كهذا، وأنا بصدد اختبار مدى صحة زعم الغرب ببروميثية حضارته، وعدم بروميثية جميع الحضارات الأخرى! الناقد ت. س. إليوت يُقدم لنا تعريفا أنثروبولوجيا للثقافة، أميل إلى الأخذ به، وأستأذن قارئي الكريم أن أبدأ بطرحه، لقناعتى بعدم اختلاف مفهوم الحضارة كثيرا عن نظيره الخاص بالثقافة. يُعرف إليوت الثقافة بأنها طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. وأنها تظهر في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. وأن اجتماع هذه الأمور لا يكون الثقافة، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن، كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة ـ بحسب تعريف إليوت المهم ـ أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا(1).
ذكرت توا أن مفهوم الحضارة لا يختلف عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، إلا أن أن الحضارة تظل هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر، تظل الحضارة هي أعلى تجمع ثقافي من البشر، وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يُميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تُعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها المرء هي أعرض مستوى، يُمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها "نحن" الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا!
قد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. فعلى مدى التاريخ وُجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لما أورده صمويل هنتنجتون فى مؤلفه الشهير "صدام الحضارات"، تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في: الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية(2). غير أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ، وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون حول العدد الإجمالي للحضارات التي وُجدت في التاريخ!
عادة ما يُؤرخ للحضارة الغربية بأنها ظهرت حوالي سنة 700 أو 800 ميلادية، والباحثون بصفة عامة يرون أنها تتكون من ثلاث مكونات رئيسية فى أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية. بيد أن الاختلاف التام للتطور السياسي والتقدم الاقتصادي فى أمريكا اللاتينية عن الأنماط السائدة فى دول شمال الأطلنطي، يدفعنا إلى القول بأن الغرب يضم على الأرجح أوروبا وأمريكا الشمالية بالاضافة إلى دول الاستيطان الأوروبي الأخرى مثل استراليا ونيوزيلندة.
ولقد تغيرت العلاقة بين المكونين الرئيسيين للغرب ـ أوروبا وأمريكا الشمالية ـ مع الزمن. فعلى امتداد معظم تاريخهم، كان الأمريكيون يعرفون مجتمعهم فى مقابل المجتمع الأوروبي. أمريكا كانت هى أرض الحرية والمساواة والفرصة والمستقبل، فى حين أن أوروبا كانت تمثل الظلم والصراع الطبقي والكهنوت والتخلف. فوق هذا، كانت هناك محاجة أن أمريكا تمثل حضارة مائزة.
هذا الافتراض بوجود تعارض بين أمريكا وأوروبا، كان بقدر كبير نتيجة لحقيقة مفادها أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن لأمريكا سوى علاقات محدودة بالحضارات غير الغربية. بيد أنه بمجرد خروج الولايات المتحدة إلى المشهد العالمي، ظهر الاحساس بالتطابق الأوسع مع أوروبا. فأمريكا القرن التاسع عشر التى كانت تعرف نفسها بأنها مختلفة عن أوروبا ومضادة لها، تختلف كثيرا عن أمريكا القرنين العشرين والواحد والعشرين التى تعرف نفسها كجزء، بل كقائد، لكيان أوسع، وهو الغرب الذى يضم أوروبا. بعبارة أخرى، تُعد الحضارة الغربية حضارة أوروبية، من الناحية التاريخية، أما فى العصر الحديث، فالحضارة الغربية تُعد بحق حضارة أوروبية أمريكية أو شمال أطلنطية...
والآن، أما وقد حددت ما أعنيه بـ"الحضارة الغربية"، فليسمح لى قارئي الكريم أن أُُورد الطرح المُعلن لـ"المركزية الأوروبية"، كخطوة على طريق اختبار البروميثية المزعومة لتلك الحضارة! ولمن يسأل، عن مصطلح "المركزية الأوروبية"، وعلاقته بحديثي، أقول إن له نفس معنى نظيره الخاص بـ"خراجية الحضارة الغربية". و"الخراجية" مصطلح لسمير أمين، معناه تقديم حضارة أو ثقافة بعينها مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته(3). غير أنى أميل، فى هذا المقال، إلى الأخذ بمصطلح "المركزية الأوروبية"، لقصره وشيوع استخدامه! الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية:
قد يُدهش القاريء، وهى دهشة تزول لاحقا، عندما أقول له إن الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية لا يخلو من بروميثية واضحة! فطبقا لهذا الطرح، ليس الغرب عالم الثروة والقوة فقط، بل هو أيضا عالم العلم والعقلانية والتسامح والاعتراف بالتعدد، فى الرأي واحترام حقوق الانسان والديمقراطية. الغرب كذلك هو عالم الاعتراف بمبدأ مساواة الفرص، والعدالة الاجتماعية! فهو أفضل العوالم الموجودة على الأرض، سواء أكان فى الماضي أو الحاضر، إذ أن بقية العوالم إلى الآن لم تتفوق عليه من أية وجهة نظر، سواء أكان من حيث الثروة والقوة أم من حيث انجاز الديمقراطية والعدالة الاجتماعية! وتلك العوالم لن تُنجز تقدما إلا بقدر ما سوف تقبل الاقتداء بالغرب وحضارته، لأن أوضاعها المتردية تعود إلى تحكم ثقافات رجعية (مثل الاثنية أو السلفية الدينية..)، يجدر بها التخلى عنها!
وبحسب الطرح المُعلن نفسه، يُعتبر فتح العالم، عسكريا أو اقتصاديا أو علميا، على أيدي الغربيين خطوة بروميثية، ترمى للتنوير ونشر المعرفة، ونقل الشعوب غير الغربية إلى مرحلة جديدة من التاريخ، لابد وأن تؤدي بتلك الشعوب المتخلفة إلى اللحاق بالمستوى الغربي الأعلى، فالفتح الغربي للعالم أمر ايجابي!
الغرب لا يحتاج إلى أن يتعلم شيئا من غيره، وبالتالي فإن التطورات الحاسمة التى تحكم على مصير الانسانية كلها هى تلك التطورات التى تحدث فى الغرب، سواء فى ميدان التقدم العلمي والتكنولوجى أم فى مجالات العلاقات الاجتماعية (على سبيل المثال يمكن هنا اعتبار التقدم الذى حدث فى ميدان المساواة بين الجنسين أو فى ميدان الوعي بدور البيئة وادراك حدودها أو...إلخ). أما الحوادث البارزة التى تهز المناطق الأخرى على الأرض، فلا تعدو كونها انعكاسات لصعوبة شق الطريق نحو التغريب الذى لا مفر منه! وبالرغم من أن الكثيرين من غير الغربيين ينظرون إلى هذه الحوادث على أنها تمثل خطوات جذرية تتجاوز حدود العالم المعاصر، إلا أن هذه الادعاءات غير صحيحة! فالواقع هو أن هذه الانجازات لم تتجاوز ولن تتجاوز حدود ما حققته الحضارة الغربية!
تلك صورة موجزة، وبديهية، على ما يظهر، للطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، أوردتها لاحتفاظها فى مجملها بالقاسم المشترك بين آراء عديدة، بعضها ترى نفسها متناقضة مع الآراء السائدة! ففي الغرب من يدعى أن رؤيته لمشاكل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية تختلف عن الرؤى السائدة، من حيث وسائل تطويرها، إن لم يكن دائما من حيث المبدأ! غير أن هذه الاختلافات، على أهميتها، لا تخرج عن اطار توافق جوهرى، يُعول عليه!
الآخر الغربي/العالمي وتوظيف المركزية الأوروبية:
وعدتك، أيها القاريء الكريم، أن تزول دهشتك لقولى بأن الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية لا يخلو من بروميثية واضحة، وسأفي بما وعدت! ولتكن البداية توضيح ما اعنيه بمصطلح "الآخر الغربي/العالمي". إذ أنى لا اعنى بـه جميع الغربيين، بوصفهم أصحاب حضارة مغايرة، على النحو الشائع والرائج فى ثقافتنا العربية الاسلامية، بل اعنى بـه أولئك الغربيين الذين يدركون "الأنسنية"، ويستأثرون بها لأنفسهم ولأبناء حضارتهم، ويعمدون لتعمية أبناء الحضارات الأخرى عنها، بمساعدة "الآخر المحلي" المحسوب ظلما على تلك الحضارات!
و"الأنسنية"، فى رأيي، هي تحقيق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين قول الأنسنية بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(4): [1] معيار التقويم هو الإنسان. [2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. [3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. [4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. [5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وعن معياري فى التمييز بين الذات والآخر، أقول إنه المعيار الأنسني، والذى طبقا له، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. ويُعد الإنسان ذاتا أنسنية طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع ـ في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!
وتطور التاريخ الانسانى، فى ضوء بحوثي، لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها! فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية!
لنعد إلى حديثنا عن الآخر الغربي/العالمي، ولنتفق أن تعاطيه مع أبناء حضارته ـ الذات الغربية إن وُجدت ـ ليس فى حاجة لأن يُختبر، للتحقق من عدم استئثاره بالأنسنية دونهم، وإلا كنا كمن يدفع بيديه أبوابا مفتوحة! وحده إذن سلوك الآخر الغربي/العالمي، تجاه غير الغربيين، هو الذى يستحق أن يُختبر، للتحقق من عدم استئثاره بالأنسنية لنفسه ولأبناء حضارته، وللتحقق كذلك من اقباله على تبصير أبناء الحضارات الأخرى بالأنسنية وأهمية الأخذ بها كنهج حياة! بعبارة أخرى، وحده سلوك الآخر الغربي/العالمي تجاه أبناء الحضارات الأخرى، هو الذى يستحق أن يُختبر، للتحقق من بروميثيته المزعومة! وفى رأيي أنه لا سبيل لبلوغ ذلك، إلا بأمرين: أولا، تتبع نشأة الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، السابق ايجازه، وتفسير بروميثيته الواضحة! ثانيا، مقارنة السلوك الغربي بالطرح نفسه، للتحقق من البروميثية المزعومة لهذا السلوك الغربي..!
وقد يكون ملائما، قبل الاقدام على تتبع نشأة الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية وتفسير بروميثيته الواضحة، التعريف فى عجالة بنشأة الـ "الخراجية" عموما! وأرانى أميل فى هذا الصدد إلى الأخذ برأى أورده سمير أمين فى كتابه المهم "نحو نظرية للثقافة"، أرجع فيه بدء التبلور التدريجي للـ "خراجية" عموما، إلى عصر الهيلينية، واعتبر توحيد ثقافات الشرق القديم (مصر وبلاد ما بين النهرين وفارس واليونان)، ودمج أهم عناصرها، مساهمات جوهرية فى تبلور الـ "خراجية". وهو ما مهد السبيل ـ برأيه ـ للنشر اللاحق للمسيحية ثم الاسلام فى المنطقة التى تشمل العالم العربي والاسلامي من جانب وأوروبا من الجانب الآخر، وذلك من خلال تهيئة جو مناسب للـ "خراجية"، أو بعبارة أخرى، من خلال تهيئة جو مناسب لـ "تقديم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تخاطب البشر بكليته"!
ذلك هو توقيت نشوء الـ "الخراجية" عموما، بحسب رأى سمير أمين، أما الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، فنشوءه يرجع ـ على الأرجح ـ إلى عصر النهضة، ففيه بدأ الأوروبيون يدركون مدى تفوقهم الحقيقي، وامتلاكهم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته! أقول إن العقل فى أوروبا الغربية راح، بدءا من القرن السادس عشر أو السابع عشر، ينطلق بقوة على أسس جديدة، غير تلك التى كان يعرفها سابقا. فقد حرر سبينوزا وديكارت العقل الفلسفى من هيمنة العقل اللاهوتى المسيحى، وأعطى الرجلان الاستقلالية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية، بعد ما انتزعاها من براثن العقل اللاهوتى القروسطى. بالطبع، ليس ديكارت واسبينوزا وحدهما من فعل ذلك، وإنما كل الجيل الذى تلاهما أيضا، أى جيل فولتير وديدرو وروسو والموسوعيين وكانط والإنجليز من قبل...
والمقصود بالاستقلالية الذاتية هنا أن الذات البشرية هى التى أصبحت تُبلور الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع على مسؤليتها الخاصة. أصبح التشريع وسن القوانين مسألة بشرية بحتة. وهذا شيء ما كان ليحدث فى العصور السابقة، ما كان الإنسان الأوروبي ليجرؤ أبدا على أن يصبح هو معياريته الخاصة ويستقل عن المعيارية الخارجية عليه والتى تحكمت به طيلة قرون وقرون. هكذ اختلفت مكانة العقل كليا عما كانت عليه فى العصور الوسطى، وانتقلت أوروبا الغربية من مرحلة العقل اللاهوتى القروسطى إلى مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي..
الآن، يمكن ارجاع عدم خلو الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية من بروميثية واضحة، إلى تواكب نشأته مع عصر النهضة، وهو العصر الذى أعادت الحركة الأنسنية في مطلعه، شأنها في ذلك شأن أي ثورة ثقافية أخرى، تقييم الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، وتحدت المعنى الذي خلعه على الوجود زعماء اللاهوت في ذلك العصر! كان طبيعيا فى أجواء كتلك أن يدرك الأوروبيون ـ كما أسلفنا ـ مدى تفوقهم الحقيقي، وامتلاكهم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته! وكان طبيعيا أيضا أن يتأثر الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية بالحركة الأنسنية، وأفكار روادها الذين أعلنوا تفسيرا للحياة يتفق مع المفاهيم الآدمية والإنسانية! ذلك الإعلان الذى جاء، بطبيعة الحال، على استحياء أول الأمر، غير أنه لم يلبث أن أضحى أكثر جرأة فيما بعد، إذ مضت تلك الجماعة الأنسنية قُدما في تحدي الازدراء الذي نظر به رجال الدين المسيحي في العصر الوسيط إلى عالمنا، وأكدت جزما أن الأرض مقام جميل طيب، وأن الوجود الإنساني هبة ثمينة للغاية، وأنه ليس أمرا عرضيا وبغيضا كما يُروج لذلك تجار الآلام. ويُعتبر أولئك الأنسنيين الثائرين، ابتداء من بتراركه، جماعة من المجددين، اتصفوا بالإدراك والتبصر، ونجحوا على تردد بعضهم في سحق قيود القرون الوسطى، صارخة عقولهم قبل ألسنتهم: "أيتها الحرية..إننا نعشقك"!
ذلك هو تفسيرى لعدم خلو الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، من بروميثية واضحة، ولكونه يشي ـ فى مجمله ـ بإيمان الغربيين بتفوقهم الحقيقي، وامتلاكهم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته! وكذا ايمانهم بأن فتح العالم، عسكريا أو اقتصاديا أو علميا، على أيديهم، يُعتبر خطوة بروميثية، ترمى للتنوير ونشر المعرفة، ونقل الشعوب غير الغربية إلى مرحلة جديدة من التاريخ، لابد أن تؤدي بتلك الشعوب المتخلفة إلى اللحاق بالمستوى الغربي الأعلى!
أظن أن دهشة قارئي الكريم لقولى بان الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية لا يخلو من بروميثية، قد زالت الآن، بعد أن تبين له أن عدم خلو الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية من بروميثية إنما يرجع إلى تواكب نشأته مع عصر النهضة، وهو العصر الذى أعادت الحركة الأنسنية في مطلعه، تقييم الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، ومن ثم كان طبيعيا أن يتأثر الطرح المُعلن بالحركة الأنسنية، وأفكار روادها الذين أعلنوا تفسيرا للحياة يتفق مع المفاهيم الآدمية والإنسانية!
مهمتي الآن هى مقارنة السلوك الغربي بالطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية للتحقق من مدى بروميثية هذا السلوك، بيد أني لن اتطرق إلى السجل التاريخي المُخزي للغرب فى التعاطي مع أبناء الحضارات غير الغربية، رغم اكتظاظه بالأمثلة، على نحو يُبكي ويُضحك فى الوقت نفسه، لاثبات تعارض السلوك الغربي الأناني مع الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية! لا..لن أذهب بعيدا، فشاشات التليفزيون، فى وطننا العربي الذبيح، تنقل أمامي الآن، وأنا جالس بشقتي بأحد أحياء القاهرة، صورا مُخزية لأشلاء وجثث، لأكثر من 300 إنسان فلسطينى، مزقتهم غارات جوية اسرائيلية متواصلة، لليوم الثانى على التوالي، على قطاع غزة المُحاصر، استُخدمت فيها طائرات عسكرية متطورة، زود الغرب إسرائيل بها، على النحو الذى يُزود به الآخر العربي، بالعصى الكهربائية وأحبال المشانق وأحدث تقنيات تعذيب واهدار آدمية الذات العربية!
المثال الثاني على تعارض السلوك الغربي مع الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، هو ما يفعله الأمريكيون فى العراق! لقد صدقنا فى البداية أن بروميثيتهم غلبتهم على أمرهم، فجاءوا لتحرير الذات العراقية المغتربة من براثن النخبة العراقية الحاكمة آنذاك (بوصفها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العراقي)، وتمكين تلك الذات المغلوبة على أمرها من قهر اغترابها الثقافي، عبر استعادتها لحقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة! لكننا لم نلبث أن صُدمنا، فقد بانت نية الأمريكيين، إذ تولوا ادارة سجن "أبو غريب" سيء السمعة بدلا من النخبة العراقية المُطاح بها، وتفننوا فى تعذيب واهدار آدمية نزلاءه! وفوق ذلك، نرى الأمريكيون يسعون بقوة ودأب إلى استبدال آخر عراقي مُروض بآخر عراقي غير مُروض!
من هنا يتضح أن الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية هو مجرد قناع بروميثي، يحلو للذات الغربية ـ إن وُجدت ـ أن ترى نفسها من خلاله، ويوظفه الآخر الغربي/العالمي فى استغلال الذات غير الغربية، وتعميتها عن الأنسنية! ويساهم فى تزخيم هذا الرأى، نزوع الآخر الغربي/العالمي دوما إلى أمور، تتعارض بفجاجة مع الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، ومن ذلك:
[1] تكريس فكرة "الأسلاف الإغريق" للغربيين: تقول فكرة "الأسلاف الإغريق"، التى لا ينفك الآخر الغربي/العالمي ينفخ فيها، إن الوراثة اليونانية مهدت السبيل إلى غلبة العقلانية! والفلسفة اليونانية هي المصدر الوحيد للعقلانية فى التاريخ الانساني، بينما لم تتجاوز الفلسفات الأخرى حدود الميتافيزيقا! والفكر الأوروبي هو الذى أنمى هذه الوراثة، بدءا بعصر النهضة، إلى أن ازدهرت روح العقلانية فى المراحل اللاحقة لتطور العلم المعاصر. أما القرون التى تفصل اليونان القديم عن النهضة الأوروبية فقد اعتُبرت مرحلة انتقالية طويلة محفوفة بضباب التعمية التى حالت دون تجاوز الفكر القديم!
تلك هى فكرة "الأسلاف الإغريق"، التى لا ينفك الآخر الغربي/العالمي، كما أسلفنا، ينفخ فيها ويؤججها، ويغازل بها عقل وقلب الذات الغربية، رغم تعارض الفكرة الواضح مع الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية! إذ كيف لطرح بروميثي كهذا أن يصدق، وأبناء الحضارة الغربية لديهم قناعة راسخة بأن أسلافهم الإغريق ـ إن سلمنا بصحة هذا الزعم ـ هم المصدر الوحيد للعقلانية فى التاريخ الانساني! وأن تميزهم الراهن إنما يستمد جذوره فقط من تميز أسلافهم الإغريق!
أين إذن الرسالة التنويرية للحضارة الغربية؟ وأين إيمان الغرب بالأخوة الانسانية؟ وأين ايمانه بالمساواة والعدالة بين بنى الإنسان؟ وأين الرفض الغربي للعنصرية، وفكرة "الأسلاف الإغريق" ـ حتى وإن صحت ـ، تُكرس اعتقاد أبناء الحضارة الغربية فى فوقيتهم، ودونية أبناء جميع الحضارات الأخرى؟!
لنقرأ قول جلبرت مري: "إنك لن تقع على شيء تحت الشمس، لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب"! وقول صول بلو في عبارته المرعبة في تعاليها: "جدوا لي قرينا لبروست بين قبائل الزولو"! ولنتأمل أيضا تهميش الفيلسوف الغربي برتراند رسل، للمدنيات السابقة، على نشأة المدنية اليونانية، مع اقرارنا بتواضعها النسبي، إذ يقول رسل فى صدر مؤلفه القيم "تاريخ الفلسفة الغربية" ما نصه(5):
"لن تجد فى التاريخ كله ما يثير الدهشة، أو ما يتعذر تعليله، أكثر ما يدهشك ويتعذر عليك تعليل الظهور المفاجيء للمدنية اليونانية؛ نعم إن عناصر كثيرة مما تتألف منه المدنية كانت موجودة قبل ذاك بآلاف السنين فى مصر وما بين النهرين، وانتشرت من هناك إلى الأقطار المجاورة؛ لكن بقيت تنقص الإنسان عناصر أخرى حتى جاءه بها اليونان؛ وليس منا من لايعلم ما أداه اليونان فى الفن والأدب؛ لكن ما أدوه فى النطاق العقلي الخالص أشد غرابة مما أدوه فى الفن والأدب على عظمته؛ فهم الذين اخترعوا الرياضة والعلم والفلسفة اختراعا؛ وهم أول من كتب التاريخ متميزا عن مجرد سرد الأخبار؛ وهم الذين أرسلوا الفكر حرا فى طبيعة العالم ونهاية الحياة، دون أن يُغلوا أنفسهم بقيود العقائد الموروثة؛ وكان ما صنعوه فى ذلك من الروعة بحيث ظل الناس حتى عصور حديثة جدا يكتفون إزاء العبقرية اليونانية بفتح أفواههم دهشة وبالحديث عن تلك العبقرية كما يتحدثون عن ألغاز السحر؛ ومع ذلك ففي مستطاعنا أن نفهم تطور هؤلاء اليونان فهما علميا، وجدير بنا ـ أظنه يعني أبناء الحضارة الغربية ـ أن نفعل ذلك"!
كل تلك الأقوال، وغيرها الكثير، يجد فيها الآخر الغربي/العالمي لبانته، إذ ينطلق منها ليبرر قمعه واستغلاله للذات غير الغربية، وذلك بمساعدة الآخر المحلى الذى يحكي التاريخ عنه أنه لا يتوانى عن تلبية أوامر الآخر الغربي/العالمي، لعلمه أن وجوده مرهون برضاء الآخر الغربي/العالمي عنه!
[2] تكبير دور المسيحية وإلحاقها تعسفيا بالغرب: لم يكتف الآخر الغربي/ العالمي بتكريس فكرة "الأسلاف الإغريق" للغربيين، فرأيناه يعمد جاهدا لنقل روح العنصرية إلى ميدان الدين، فاعتبر المسيحية دينا متفوقا بصفة مطلقة! بل وألحق المسيحية تعسفيا بالغرب..!
نسي الآخر الغربي/العالمي أن المسيحية ـ بصفتها دينا ـ إنما هى الأخرى "بحث عن المطلق"، شأنها فى ذلك شأن الأديان جميعا، إضافة إلى أن المسيحية لم تنشأ على شواطيء نهر الرين أو نهر اللوار، بل نشأت فى الشرق قبل أن تنتشر نحو الغرب، ومن ثم فلا مجال لالحاقها تعسفيا بالغرب، واعتباره وصيا عليها وناطقا باسمها! غير أن الذى حدث، هو أن العائلة المقدسة أُلبست ثوبا أوروبيا، كما أن آباء الكنيسة المصريين والسوريين ضُموا إلى الفكر الغربي!
إذن، فالمسيحية التى تُلحق تعسفيا بالغرب، هى فى حقيقة أمرها شرقية الأصل، شأنها فى ذلك شأن الهلينية والاسلام! إلا أن الغرب قد صادرها لدرجة أن العائلة المقدسة ـ كما ذكرنا توا ـ أصبحت فى التصوير الشعبي مكونة من أفراد ذوى شعر أشقر وعيون زرقاء! جيدا، لا مانع فى ذلك، فمبدأ امتلاك أفكار نشأت فى بيئة أخرى مقبول فى حد ذاته ويتسق مع البروميثية، خصوصا إذا صار هذا الامتلاك خصبا! المشكلة هى أن الآخر الغربي/العالمي إنما صادر المسيحية بقصد توظيفها فى تعميق الفجوة بين أبناء حضارته وبين أبناء الحضارات الأخرى، وهو أمر يفت فى عضد البروميثية المزعومة للطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، والقائل باخوة البشر وخصوصية العلاقة بين الإنسان وبين الله..
بيد أن اللافت فى الأمر أن الآخر الغربي/العالمي فى سعيه المحموم والدؤوب لتوظيف الدين المسيحي والافادة منه، لم يُبد اهتماما يُذكر، بمسألة خوض الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، لدى نشأته فى عصر النهضة، كمشروع عالمي تنويري التطلع، يود أن يخاطب البشر جميعا ـ معركة ضارية ضد تطلع عالمي آخر وسابق هو طموح الدين المسيحي إلى أن يكون عالمي المغزى. فالحركة الأنسنية فى صدر عصر النهضة، كما هو معروف وكما أسلفا، لم تشعر بالارتياح إزاء الفكر المسيحي للعصور الوسطي، بل أعلنت نفورها إزاء ما اعتبرته تكريسا للاغتراب الثقافي للذات الأوروبية! وكان ميلها إلى إحياء العصور القديمة اليونانية والرومانية جزءا من جهودها فى هذا الصدد..!
[3] اختراع "شرق" يتسم بسمات مضادة لسمات "الغرب": بالنظر إلى الافتراض الذى بدأ به إدوارد سعيد دراسته الرائدة "الاستشراق"، نجد أنه جاء مغايرا لما اصطُلح على البدء به فى الدراسات الغربية المماثلة، المعنية بالشرق، فقد بدأ ادوارد دراسته بالافتراض التالي(6): "إن الشرق ليس حقيقة خاملة من حقائق الطبيعة. فهو ليس مجرد وجود ثمة، بالضبط كما أن الغرب نفسه ليس مجرد وجود ثمة. وينبغى أن نأخذ بجدية ملاحظة فيكو العظيمة أن البشر يصنعون تاريخهم، وأن ما بمقدورهم أن يعرفوه هو ما صنعوه، وأن نسحب هذه الملاحظة لتنطبق على الجغرافية: ذلك أن مواضع وأقاليم وأقساما جغرافية كالشرق والغرب، من حيث هى كيانات جغرافية وثقافية ـ دون أن نقول شيئا عن كونها كيانات تاريخية ـ هى من صنع الانسان. ومن ثم، فان الشرق، بقدر الغرب نفسه تماما، هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر، والصور، والمفردات التى أسبغت عليه حقيقية وحضورا فى الغرب ومن أجل الغرب. وهكذا فإن كلا من هذين الكيانين الجغرافيين يدعم الآخر و، إلى حد ما، يعكسه"!
وفى تفسيره لتفرد دراسته، بافتراضات غير مألوفة فى الدوائر الغربية، قال إدوارد سعيد إنه مع اندلاع حرب أكتوبر 1973، رأى أن ما يجرى على الأرض فى الشرق الأوسط، علاوة على ما اكتسبه عبر تجربته الشخصية، لم يكن يتوافق أبدا مع ما يُكتب فى وسائل الاعلام الأمريكية على سبيل المثال. ومن ثم أخذ يتصور فكرته القائلة أن ما يراه المرء ويقرأه فى الغرب كان جزءا من نظام تمثيل لم تتم بعد دراسة تاريخه ونطاقه على نحو منهجى ومعمق! وكذا أخذ يتصور فكرته حول استبدال هذا النظام ـ نظام الهيمنة واساءة التمثيل الذى يحمل اسم الاستشراق ـ، بفضاء يسمح للشعوب أن تكتب تواريخها الخاصة بها!
وفى السياق نفسه، وضع إدوارد دراسة أخرى بعنوان "الثقافة والامبريالية"، بسط فيها جناحيه فوق عالم أعظم رحابة من العالم الذى غطاه مؤلفه "الاستشراق"، ليكشف عن دور الآخر الغربي/العالمي فى اختراع "شرق" يتسم بسمات مضادة لسمات "الغرب"، وتوظيف الآخر نفسه ذلك الاختراع فى تكريس استغلال غير الغربيين، وتعميتهم عن الأنسنية! وتجاوز إدوارد هذا ليكشف أبعادا مقموعة للثورة ضد سيطرة الآخر الغربي/العالمي فى جميع بقاع العالم غير الأوروبي! وبذلك يكون إدوارد قد عبر بدراستيه الرائدتين عما يختلج فى صدورنا معشر الأنسنيين، من رغبة دافقة فى تعرية تشويه الآخر الغربي/ العالمي للشرق، بهدف استعداء الذات الغربية عليه، وتبرير استغلاله له وتكريسه لعذابات وآلام أبناءه!
صفوة القول ان الآخر الغربي/العالمي أعاد انتاج المركزية الأوروبية، عبر تكريسه لأمور، تتعارض مع الطرح البروميثي السابق ايجازه، ذكرنا منها، تكريسه فكرة "الأسلاف الإغريق" للغربيين، وتكبيره دور المسيحية والحاقها تعسفيا بالغرب، واختراعه "شرق" يتسم بسمات مضادة لسمات "الغرب"! وأراني قانعا أنه بمثل تلك الأمور وغيرها نجح الآخر الغربي/العالمي، فى تشويه الطرح البروميثي المذكور، وافرغه من مضمونه، علاوة على نجاحه فى افقاد الطرح نفسه المصداقية فى عيون الكثيرين، فى شتى أنحاء العالم، على نحو ما نرى الآن!
تداعيات إعادة انتاج الآخر الغربي/العالمي للمركزية الأوروبية:
بالطبع، كان لاعادة انتاج الآخر الغربي/العالمي للمركزية الأوروبية تداعيات جمة، لا تُخطئها العين، نتطرق لتفصيل بعضها، على أمل ابراز خطورة تخفى الآخر الغربي/العالمي وراء الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية:
[1] استمراء الذات الغربية لدور الحسناء النائمة فى الغابة: عادة ما ينبهر غير الغربيين بالقدر الوافر من الاحترام الذى يحظى به الغربيون، داخل عالمهم، مقارنة ُبما هو حاصل فى العوالم الأخرى! وهو أمر مُلفت ومُستفز حقا، فوق أنه يرتبط بموضوعنا، فالواضح أن الغربيين ـ شئنا أم أبينا ـ فى غاية الحرص على التمكين للأنسنية فى عالمهم! والواضح أيضا أنهم فى غاية الحرص على تعمية أبناء الحضارات غير الغربية عن الأنسنية، وابقاءهم فى حالة اغتراب ثقافي وتخلف، تكريسا لاستدامة الفوقية الغربية! فهؤلاء الضحايا إما أنهم ينتمون لحضارات يراها الغرب معادية بحكم تكوينها لحضارته، أو أنهم ينتمون لحضارات، لا يراها الغرب معادية لحضارته، غير أن مصلحته، فى مرحلة تاريخية بعينها، تقتضي تعمية أبناء تلك الحضارات عن الأنسنية..!
ولعل تعريفنا للآخر الغربي/العالمي بأنه أولئك الغربيين الذين يدركون "الأنسنية"، ويستأثرون بها لأنفسهم ولأبناء حضارتهم، ويعمدون لتعمية أبناء الحضارات الأخرى عنها، بمساعدة الآخر المحلى المحسوب ظلما على تلك الحضارات ـ أقول لعل تعريفنا المذكور توا للآخر الغربي/العالمي، يشي بأننا كأنسنيين نُحسن الظن بالكثيرين من أبناء الحضارة الغربية، فنراهم ذاتا غربية تستمريء دور الحسناء النائمة فى الغابة، على حد تعبير فانون! ..نراهم ذاتا غربية يحلو لها أن ترى نفسها من خلال الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، فى وقت تصلى فيه الذات غير الغربية، نيران الآخر الغربي/العالمي!
ولمن يزعم سذاجة الذات الغربية ونقاء سريرتها، ويتعامى عن تورطها غير المباشر والمُخزي فى ادامة الانتهاك الصارخ للطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، أقول: أليست هذه الذات الغربية هى نفسها التى تخرج إلى الشارع ثائرة ناقمة حال المساس بها وبمصالحها؟! أليست هذه الذات هى نفسها التى تُفوض وتدعم الآخر الغربي/العالمي، عبر صناديق الاقتراع، ليمارس أعماله القذرة فى حق الكثيرين من أبناء الحضارات غير الغربية! أعلم أن الآخر المحلى متواطيء، للأسف الشديد، مع الآخر الغربي/ العالمي، وأعلم أن الاغتراب الثقافي للكثيرين من أبناء الحضارات غير الغربية يُحبب إليهم اغترابهم ويدفعهم إلى التعويل فى خلاصهم على اغترابهم الثقافي وعلى الآخر المحلي المحسوب ظلما عليهم! ـ أعلم كل هذا جيدا، ربما أكثر من غيري، ولكن هل يحق للذات الغربية التعلل بمثل هذه الأمور فى تبرير ادانتها الخجولة فى بعض الأحيان لممارسات الآخر الغربي/ العالمي؟! وكيف يستقيم منطق كهذا ـ إن قُبل ـ مع اصرار الذات الغربية على رؤية نفسها من خلال الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوربية!
[2] شيوع الأخذ بمبدأ الاستقلال السلبي بين غير الغربيين: إذا كان غير الغربيين ينبهرون ـ كما أسلفنا ـ بالقدر الوافر من الاحترام الذى يحظى به الغربيون، داخل عالمهم، مقارنة ُبما هو حاصل فى العوالم الأخرى! فهم أيضا ينبهرون بالاستقلال الحقيقي الذى تتمتع به دولهم، مقارنة بما هو حاصل فى غالبية الدول غير الغربية! فالحاصل هو شيوع أخذ الأخيرة بمبدأ الاستقلال السلبي، فور رحيل المستعمرين الأوروبيين عنها، إذ أن لحظة الاستقلال الحقيقي لم تدم طويلا فى تلك الدول، فسرعان ما حلت النخب المحلية محل المستعمر الأوروبي، وراحت تعمل جهد طاقتها على تكريس الأوضاع المتردية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ! وبذلك بدا واضحا دخول تلك الدول ما يمكن تسميته بحقبة الاستقلال السلبي، تلك الحقبة التي تتسم بخصائص عديدة، لعل أهمها مساندة الآخر الغربي/العالمي للنخب المحلية، باعتبار أخرويتها امتداد لأخرويته!
أنظر مثلا إلى العالم العربي، تراه تجسيدا صادقا لقولنا المذكور توا، فها هي دوله، بكل ثرواتها وامكانياتها، تئن تحت نير نخب حاكمة، تلقى بدورها دعما غير مبرر من الآخر الغربي/العالمي، يغريها بالمضي قدما فى ممارسات تُماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة، إن لم يكن دائما، إلى ما هو أسوأ(7)! إن الخروج المهين لعالمنا العربي من التاريخ يُعد بحق أحد تداعيات إعادة انتاج الآخر الغربي/العالمي للمركزية الأوروبية، فلولا الدعم الغربي، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية، لنخب عربية حاكمة، تُمعن فى عدم الاكتفاء باستغلال شعوبها وتعميتها عن الأنسنية، بل تتجاوز ذلك فى جرأة تُحسد عليها إلى تسهيل استغلال الآخر الغربي/العالمي لتلك الشعوب البائسة ـ أقول لولا مثل هذا الدعم ما كُتبت الحياه ولا كُتب البقاء للأخروية العربية!
[3] صعود طروحات لمركزيات تُحاكي الطرح المُدان للمركزية الغربية: لعل المثال الأكثر وضوحا فى هذا الصدد، هو صعود ورواج طروحات عديدة لـ "المركزية الاسلامية"، تُحاكي ـ وياللحسرة ـ الطرح المُدان لـ "المركزية الغربية"، فى شغفه واصراره المُخيف، على الانفراد بمقومات القوة دون غيره، على أمل ابطال المركزية الغربية واحتلال مكانها! والحق أن الاتيان بطروحات "المركزية الاسلامية" كمثال، أمر قد يُساء فهمه، فما أسهل أن يتهم تجار الآلام والمغتربون ثقافيا، وما أكثرهم فى عالمنا العربي والاسلامي، كاتب هذه السطور، بالاساءة للدين الاسلامي! رغم أنه لا يقصد بـطروحات "المركزية الاسلامية" الديانة الاسلامية، فهو قانع بأن الفرق بين طروحات "المركزية الاسلامية"، المُشار إليها توا، والديانة الاسلامية، كالفرق بين الثرى والثريا! طروحات "المركزية الاسلامية" التى أتحدث عنها، تُعد ـ بحق ـ استنساخا ساذجا ورديئا للـطرح المُدان لـ "المركزية الغربية"، بيد أن أنصارها والمروجين لها يعمدون إلى تغليفها برقائق دينية، فى محاولة لمغازلة مشاعر الذات فى العالم الاسلامي، مستغلين فى ذلك اغترابها الثقافي الذى ما فتىء الآخر، محليا كان أم غربيا/عالميا، يعمد إلى تكريسه بكافة السبل والوسائل! تلك هى طروحات الـ "المركزية الاسلامية" التى أعنيها بحديثي، وهى بمحاكاتها للطرح المُدان لـ "المركزية الغربية" بعيدة كل البعد عن البروميثية المنشودة، وإن زُعم غير ذلك! وما رداءة وسذاجة الطرح اللادني ـ نسبة إلى أسامة بن لادن ـ لـ"المركزية الاسلامية"، بوصفه أحد الطروحات ذائعة الصيت، سوى تزخيم لمحاجتنا...
ما العمــــــــل؟
السؤال الذى لابد وأنه جائل الآن بصدر قارئي الكريم، بعد فراغه من قراءة هذا المقال، هو "ما العمل؟"، ما العمل والطرح الغربي للمركزية الأوروبية، حتى وهو فى أرقى صوره، أى قبل أن يُعيد الآخر الغربي/العالمي انتاجه على نحو ما رأينا، يفصله عن البروميثية بون شاسع، وإن كنا وصفناه ـ للتسهيل ـ بالبروميثية، رغم مآخذنا العديدة عليه؟ إذ كيف لنا أن نقتنع ببروميثيته وهو يزعم أن الغرب لا يحتاج إلى أن يتعلم شيئا من غيره، وأن التطورات الحاسمة التى تحكم على مصير الانسانية كلها هى تلك التطورات التى تحدث فى الغرب، سواء فى ميدان التقدم العلمي والتكنولوجي أم فى مجالات العلوم الاجتماعية؟! أقول ذلك رغم اقرارى، ومعى الكثيرين، بفضل الابتكارات الغربية فى شتى مناحي الحياة، ودورها غير المنكور فى تطوير قدرات الانسان على كوكب الأرض وخارجه!
المأساة ـ فى رأيي ـ، والتى يُعد الطرح المُدان للمركزية الأوروبية تجسيدا لها، هى الرغبة المحمومة فى تكريس انفراد أبناء الحضارة الغربية بمقومات القوة دون غيرهم، بغية إدامة فوقيتهم ودونية أبناء الحضارات الأخرى. ولعل اقدام الآخر الغربي/العالمي على استبدال الطرح المُدان للمركزية الأوروبية بالطرح البروميثي (نسبيا) والذى ساهم فى صياغته رواد الحركة الأنسنية فى صدر عصر النهضة ـ أقول لعل هذا هو الذى ساعد، على النحو الحاصل حاليا والذى نتمنى له أن يستمر، على كشف الجرائم المستورة والمسكوت عنها فى مجتمعاتنا! فلولا بروز الطرح المُدان للمركزية الأوروبية، ما تنبهنا لوجود آخر محلى بين ظهرانينا، يحظى بدعم الآخر الغربي/العالمي ومساندته..آخر محلى تُشكل النخب الحاكمة فى المجتمعات غير الغربية حجر الزاوية فى هيكله!
أقول إن اكتشاف وجود "آخر محلى"، يحظى بدعم الآخر الغربي/العالمي ومساندته، أمر ليس بالهين، فكم خُدعنا وخُدع امثالنا عبر التاريخ الانساني! بيد أن المهم هو تثمين هذا الاكتشاف، عبر السعي لتأسيس تيار ثقافي أنسني، يُعري هذا الآخر المحلى المأجور، ويُبرز خيانته لأبناء حضارته وتواطؤه المُشين مع الآخر الغربي/العالمي، على نحو تشهد به الأحداث الراهنة! فلولا الآخر العربي، بنسخه المختلفة، سواء كانت فلسطينية (فتحاوية أو حمساوية) أو سعودية أو مغربية أو سودانية أو قطرية أو كويتية أو...إلخ، ما تمكن الآخر الاسرائيلي من سحق الذات الفلسطينية على هذا النحو المُخيف! ولولا الاغتراب الثقافي الذى لا ينفك الآخر العربي، ومن وراءه الآخر الغربي/العالمي، يعمل جاهدا على ابقاء الذات العربية تحت نيره ـ أقول لولا هذا الاغتراب الثقافي، ما رأينا الذات العربية، تظل تُعول فى خلاصها على الآخر العربي وتُطالب، فى براءة تُحسد عليها، بوحدة نسخه المختلفة، غير عابئة بالتداعيات السلبية لمثل هذه الوحدة ـ إن حدثت لا قدر الله ـ، ناسية أن فى التفرق النسبي لنسخ الآخر العربي رحمة لها، وأنها تخسر بوحدة نسخ الآخر العربي المختلفة كماً من المكاسب والمعلومات، يصعب عليها كذات عربية الفوز به، إلا حين تتنازع وتتلاسن نسخ الآخر العربي المختلفة...
صفوة القول أن البروميثية غائبة عن الحضارة الغربية، وستظل على ما يبدو غائبة لأجل غير مسمى، لذا..فليس أمامنا معشر غير الغربيين، سوى الانضواء تحت لواء تيار ثقافي أنسني، تُحشد من خلاله الطاقات والقدرات، على أمل تعرية الأخروية والاغتراب الثقافي، فى مجتمعاتنا، هذا إن أردنا الخلاص.. الهوامش: ـــــــــــ
(1) ت.س.إليوت، ترجمة شكري عياد، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003) ، ص ص 170 ـ 171. (2) صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998) ، ص ص 67 ـ 80. (3) لمعرفة المزيد عن مصطلح الـ "خراجية" للمفكر سمير أمين، راجع: سمير أمين، نحو نظرية للثقافة/نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، (بيروت: معهد الانماء العربي، 1989). (4) لمعرفة المزيد عن رؤيتنا للفكر الأنسني راجع مقالاتنا المنشورة على شبكة الانترنت، والتى ستصدر قريبا فى كتاب بعنوان "مقالات قى الفكر الأنسني"، وهى بترتيب كتابتها: بناء الذات الأنسنية، هدر العقل العربي، المرأة فى الفكر الأنسني، التثمين الأنسني لجوهر الأديان، إدوارد سعيد/أنسنية بلا ضفاف. (5) برتراند رسل، ترجمة زكي نجيب محمود، تاريخ الفلسفة الغربية، (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967)، الجزء الأول، ص 23. (6) إدوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الاستشراق، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2003)، ص 40. (7) للمزيد من المعلومات عن أوضاع العالم العربي فى ظل الاستقلال السلبي، مقارنة بأوضاعه فى ظل الاستعمار الأوروبي، راجع: حازم خيري، آلام العالم العربي، (القاهرة: نشر المؤلف، 2005).
المقالة الثانية تعرية الثائر الأنسني فرانز فانـون للآخرية
"أود أن أشدو بالحرية للدنيا" بوشكين
يُعد الكاتب والمناضل المارتينيكي فرانز فانون (1925ـ1961)، أحد أبرز من كتبوا عن مناهضة الآخرين، العالمي والمحلي، فى القرن العشرين. ألهمت كتاباته ومواقفه كثيراً من حركات التحرر فى أرجاء العالم لعقود عديدة. توفي فانون بمرض سرطان الدم في 6 ديسمبر 1961، عن ستة وثلاثين عاماً، ونُقل جثمانه من أحد مستشفيات واشنطن إلى قاعدة من قواعد الثوار الجزائريين في تونس. وعلى بُعد ستمائة متر داخل الأرض الجزائرية تمت مراسم الدفن والوداع، على نحو ما أوصى فانون! ففي الثانية والنصف من بعد ظهر يوم 12 ديسمبر، رفع خمسة عشر من الجنود جثمان فانون على نقالة مصنوعة من فروع الأشجار، ساروا بها في صمت مهيب عبر الأحراش قاصدين أرض الجزائر. عبروا الحدود التونسية تحرسهم من فوق التلال المشرفة قوات من ثوار جيش التحرير الوطني. ولم يكن ذلك العبور ممكنا دون اتصالات رسمية بجهات متعددة، منها الحكومة التونسية، واستحكامات عسكرية، والأهم، احتضان أهالي المنطقة للموكب في منطقتهم المشتعلة بحرب الثوار الجزائريين ضد الآخر الفرنسي(1).
وفي مقابر الشهداء، بدأت مراسم الوداع للثائر المارتينيكي. وكانت البداية كلمة مؤثرة، ألقاها باللغة العربية قائد جيش التحرير الوطني، امتدح فيها أنسنية فانون، وإيمانه الراسخ بإمكانية التغيير الثوري وقدرة المضطهدين على التحرر من مضطهديهم، وذلك بقوله(2): " لقد كان الأخ الراحل فانون مقاتلاً مخلصاً، تمرد ضد الاستعمار والعنصرية. فمنذ عام 1952، بدأ الانخراط النشط في صفوف حركات التحرير، بينما كان يتابع دراسته في فرنسا. ومع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الجزائرية، انضم فانون لصفوف جبهة التحرير الوطني، وكان بحق نموذجاً حيًا للانضباط واحترام المبادئ في كل الأوقات وكل المهام التي عهدت بها إليه الثورة الجزائرية. حتى أنه تعرض لحادث خطير كاد يودي بحياته، وذلك أثناء قيامه بإحدى تلك المهام في المغرب. ومع ذلك استمر الراحل في العمل بقوة، بل ضاعف جهوده، رغم المرض الذي ما لبث أن نال منه بقوة. وما إن بدا تدهور حالته الصحية واضحاً للعيان، حتى ألحت القيادة في مطالبتها إياه بالتوقف عن نشاطه والاهتمام بصحته. لكنه دأب على الإجابة بأنه لن يتوقف عن نشاطه طالما الجزائر لا تزال في كفاحها، وأنه سيظل يؤدي واجبه حتى توافيه المنية. وبالفعل أوفى الرجل بما وعد!".
ثم ألقى نائب رئيس الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر كلمة لم تقل عن سابقتها في الإشادة بأنسنية الثائر المارتينيكي، جاء فيها ما نصه(3): "باسم الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر، وباسم الشعب الجزائري، وباسم كل اخوتك في الكفاح، وبالأصالة عن نفسي، أودعك..وأقول إنه رغم رحيلك عنا، ستظل ذكراك حية وستظل ثورتنا تستحضرها على الدوام. وُلدت في عائلة كبيرة العدد، وعانيت في سن مبكرة الحرمان والذل الذي طالما سامه المستعمرون والعنصريون للشعوب المقهورة. وبرغم ذلك نجحت كطالب عبقري، وكذا كطبيب لا يقل عبقرية، خصوصا في مستشفى الأمراض العصبية في مدينة بليدا الجزائرية. وكما لم تحل دراستك الجامعية يوما بينك وبين الانخراط في مكافحة الاستعمار، كذلك لم تحل التزاماتك الوظيفية كطبيب حي الضمير دون انخراطك في الدفاع عن اخوتك المقهورين. فعلى العكس، مكنتك أنشطتك المهنية من التوصل لفهم أفضل لحقيقة القهر الاستعماري، فأصبحت أكثر دراية بقيمة الالتزام بالكفاح ضده. وحتى قبل تدشين ثورتنا، رأيناك وقد امتلكت اهتماماً مستداماً بمساعينا نحو الحرية. وبحلول الأول من نوفمبر 1954، انخرطت يافانون في العمل السري بحماسة مُلهمة، فلم تتردد يوما قط في تعريض نفسك للخطر. بل حرصت دوما على تأمين أبطالنا ومسئولينا، وهو ما ساعد بقوة في إنجاح اضطلاعهم بمهامهم..
واستجابة لداعي المسئولية، رأيناك تنضم للوفد الممثل لجبهة التحرير الوطني في الخارج. ليس ذلك فحسب، فقد استفادت إصداراتنا الثورية، كالمقاومة الجزائرية والمجاهد، من مساعداتك القيمة، وتحليلاتك العميقة والدقيقة. وكذلك رأيناك تشارك في مؤتمرات دولية عديدة، كتلك المنعقدة في أكرا ومنروفيا وتونس وكوناكري وأديس أبابا وليوبولدفيل، ساعيا لتعريف العالم بالوجه الحقيقي لثورتنا وشارحاً لحقائق كفاحنا. ولعل في رسائل التعاطف والمواساة العديدة التي تتلقاها الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر منذ رحيلك دليلاً دامغاً وشهادة حية على التأثير العميق الناتج عن عبقريتك في أداء المهام الموكلة إليك، تلك العبقرية التي دفعت الحكومة الجزائرية لتكليفك بتمثيلها في أكرا في فبراير عام 1960. فرانز فانون..لقد كرست حياتك للدفاع عن قضايا الحرية والشرف والعدالة والخير، ورحيلك يؤلمنا كثيراً. فباسم الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر أُقدم أصدق التعازي لأسرتك، كما أشكر ممثلي تلك الدول الصديقة التي بوقوفها إلى جانبنا، تخفف عنا مصاب فقدك. فرانز فانون..ستظل دائما حيا في قلوبنا، فاسترح في قبرك، وبلادنا لن تنساك"!
تلك كانت الكلمات المؤثرة التي أُلقيت أثناء مراسم توديع فانون، وأظنها كافية للتعريف بمكانة الرجل في قلوب المقهورين الذين لطالما دافع عنهم وقاتل في صفوفهم. وكذلك أظنها كافية للتعريف بفانون كأنسني آمن بقيمة الإنسان وسعى جاهداً لتثمينها عبر كفاح دائم ودؤوب ضد كل صور الطغيان والقهر. ولسوف يجد المراقب المنصف صعوبة جمة إن هو حاول إدراك المسافة بين القول والفعل لدي فانون، لأنها تكاد تضيق لدرجة يصعب معها إدراك وجودها أصلاً. ففانون مفكر أنسني آمن بالحياة وحق الجميع فيها، دون تمييز، وعادى أولئك الذين يتوهمون أن آلام المقهورين هي الوقود لسعادتهم، وكرس حياته لمناهضة أنانيتهم البغيضة. ولعل في قول الشاعر المارتينيكي الشهير إيمي سيزير "في موعد النصر متسع للجميع" تعبيراً صادقاً عما جال في صدر فانون تجاه أخيه الإنسان، فالبائن أن فانون، وقد اكتشف في فرنسا لون بشرته، والغربة الكامنة في هذا اللون، راح يتساءل لماذا على الإنسان أن يكون فوق أخيه الإنسان؟! لماذا على الإنسان أن يصل إلى موعد النصر أولاً ويدفع بعيدا اخوته في الإنسانية، رغم انطواء الانتصار الجماعي على تثمين لإنسانية الإنسان، وكذا انطوائه على إعلان واضح وصريح لحق البشر جميعاً في الحياة الكريمة، دون تفرقة بينهم أو تمييز..؟!
تصور فرانز فانون للأنسنية :
تتسم أفكار فرانز فانون ذات الطابع الأنسني بالخصوصية النسبية، وهو ما نجد له تفسيراً في سيرة حياة الثائر المارتينيكي. فقد عايش فانون عنف الاستعمار والجهود الرامية لمحوه معايشة مباشرة، وتشكلت عقيدته الفكرية في قلب تلك الأجواء الملتهبة، فنراه يُعرف محو الاستعمار بأنه دائماً حدث عنيف، لا يمكن أن يكون ثمرة عملية سحرية أو زلزال طبيعي أو تفاهم ودي، ولا يعدو كونه نزالاً بين قوتين متعارضتين أساساً، قوتين تستمد كل منهما صفتها الخاصة من ذلك التكوين الذي يفرزه العنف الاستعماري ويغذيه. فمحو الاستعمار يبث في الوجود ـ والكلام لفانون ـ إيقاعاً خاصاً يجيء به الرجال الجدد، ويحمل إلى الوجود لغة خاصة وإنسانية جديدة، كما أنه يحول متفرجين مسحوقين يعانون من فقدان الماهية إلى عناصر فعالة متميزة تدخل تيار التاريخ دخولاً رائعاً، يخلقهم رجالاً جدداً حقاً، وهو خلق لا يستمد مشروعيته من أية قوة فوق الطبيعة، فالمستعمر (بفتح الميم) يصبح إنساناً في خضم العملية التي يحرر بها نفسه، وذلك لتجريد المستعمر (بكسر الميم) إياه من إنسانيته، حتى انه ليعده حيواناً، يستخدم معه اللغة المستعملة في وصف الحيوانات..!
يقول فانون إنه باكتشاف الضحية أن حياتها وتنفسها وخفقات قلبها لا تختلف عن حياة جلادها وعن تنفسه وعن ضربات قلبه، وباكتشافها كذلك أن جلد الجلاد ليس خيراً من جلدها، تحدث هزة أساسية في العالم، وتدب في الضحية ثقة جديدة ثورية، تدفعها للقول بأنه إذا كانت لحياتها من القيمة مثل ما لحياة الجلاد، فلن تُخيفها نظرته، لن تُسمرها في مكانها، لن يُجمدها صوته. لن تضطرب أمامه، لن تعبأ به، لن يُربكها وجوده، بل أنها ستُعد له من الكمائن ما يجعله لا يجد لنفسه مخرجا غير التخلي عن لأنسنيته إزاءها. ولسوف يجد القارئ الكريم في كتاب فانون الأخير "معذبو الأرض"، الذي كتبه وهو يعلم أنه مصاب بداء قاتل لا شفاء منه، زخماً رائعاً من أفكار وآراء الثائر الأنسني فانون. وهو كتاب هجين ـ على حد تعبير إدوارد سعيد في "الثقافة والإمبريالية" ـ فهو جزئياً مقالة، وجزئياً قصة متخيلة، وجزئيا تحليل فلسفي، وجزئياً تاريخ حالات نفسي، وجزئياً حكاية ترميزية قومية، وجزئيا تسام رؤيوي للتاريخ. ونظرا لأهمية الكتاب المذكور، يستند إليه الكاتب في رصده لأهم وأبرز أفكار الثائر الأنسني فرانز فانون(4):
[1] إن شعوب العالم الثالث الذي تركته الدول الغربية وحكمت عليه بالتقهقر إلى الوراء، أو على الأقل بالجمود في مكانه، بسبب أنانيتها واستئثارها بالأنسنية، عليها أن تتطور على أساس الاكتفاء الذاتي الجماعي. وتُخطئ تلك الشعوب إن هي استنجدت بالبلاد الرأسمالية. إنها قوية بحقها وبعدالة مواقفها، وعليها أن تشرح للبلاد الرأسمالية وجوب الكف عن تصوير شعوب العالم الثالث في صورة موجة تهدد بابتلاع أوروبا كلها. إن العالم الثالث لا يريد أن ينظم حملة جوع واسعة على أوروبا، وكل ما يطلبه من هؤلاء الذين أبقوه عبداً ذليلاً خلال قرون عديدة، هو أن يساعدوه على رد الاعتبار للإنسان في كل مكان إلى الأبد. ولكن على دول العالم الثالث ألا تبلغ من السذاجة حد الاعتقاد بأن هذا الفعل الأنسني سيتحقق بمعاونة الحكومات الغربية وحسن نيتها. إن هذا العمل العظيم الذي يبتغي إعادة إدخال الإنسان إلى العالم، الإنسان كله، إنما يتم بمعونة الذات الغربية التي كثيراً ما تحالفت، للأسف الشديد، في مشكلات المستعمرات مع الآخر الغربي/العالمي. ومن أجل تحقيق ذلك لابد أن تقرر الذات الغربية أولا أن تستيقظ من سباتها، وأن تنفض أدمغتها، وأن تكف عن تمثيل ذلك الدور غير الأنسني الذي تستعذب تمثيله بغير شعور بالمسئولية، وهو دور الحسناء النائمة في الغابة!
[2] ينبغي أن لا تُضلل تنازلات الآخر الغربي/العالمي الذات المناضلة عن الحقيقة، وأن لا تعميها عنها، فهذه التنازلات ليست إلا تنازلات لا تمس جوهر الأمر، حتى ليمكن أن يُقال، أن تنازلاً لا يمس الجوهر ما لم يتناول الثقافة الاستعمارية في جوهرها. إن الأشكال الوحشية التي يجسدها وجود المحتل على الأرض قد تزول زوالاً تاما. والواقع أن زوالها هذا لا يعدو كونه تخفيضاً للنفقات التي ينفقها المحتل، ولا يعدو كونه إجراء إيجابياً من اجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهظاً، يدفع ثمنه مزيداً من تحكم الاستعمار وتلاعبه بمصيره. لذا يصير لزاما تذكير الشعب بأمثلة تاريخية تساعده على الاقتناع بان مهزلة التنازل هذه وبأن تطبيق مبدأ التنازل هذا، قد أديا إلى سيطرة الاستعمار سيطرة إن كانت أخفى فهي أكمل وأشمل. يجب أن يعرف الشعب وأن يعرف مجموع المناضلين في شتى بقاع الأرض ذلك القانون التاريخي، وهو أن هناك تنازلات ليست في حقيقتها إلا أغلالاً لأنسنية..!
[3] على الشعب أن يدرك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة هي في بعض الأحيان متباعدة بل ومتعارضة. فهناك أجزاء منه ـ الآخر المحلي ـ لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية. والشعب، وان تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار الأجنبي: البيض والسود، العربي والرومي، يبيت لزاماً عليه أن يدرك أنه يتفق لسود أن يكونوا أكثر بياضاً من البيض، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها. كما يبيت لزاماً على الشعب أيضاً أن يدرك أن هناك أناساً من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم. فهم يتاجرون ويحققون أرباحا طائلة، على حساب الشعب ـ الذات ـ الذي يضحي بنفسه دائما، ويروي بدمه تراب الوطن. إن المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة الاستعمار الجهنمية ـ آلة الآخر العالمي ـ يكتشف أنه بقضائه على الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطاً للغاية في البداية، كان هناك في نظره أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الخيالي اللاواقعي الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهراً أبيضاً أو عربياً. والخيانة هاهنا ليست وطنية فحسب بل ثقافية(5)، لذا على الشعب أن يتعلم كيف يُندد باللصوص. وعليه كذلك في مسيره الشاق إلى المعرفة العقلية، أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للمتسلط..!
أنسنية فانون في إطار الممارسة :
أراني لست في حاجة لتكرار ما ذكرته ـ فى كتاباتي السابقة ـ عما ينبغي أن يميز سلوك الأنسني الحق عن غيره، وأنه رب فعال وليس أقوال. ولن يجد القارئ الكريم في الرصد الماثل لأنسنية فانون في إطار الممارسة، ما يجعل الثائر المارتينيكي دون غيره من الرواد الأنسنيين، فمسافة البعد بين قول الرجل وفعله ضئيلة، تكاد لا تُرى! وكما أن كتاباته جعلته مُنظرا للثورة الأنسنية، كذلك كادت ممارسات فانون الأنسنية أن تجعله نبيا من أنبياء العالم الثالث، فلقد ظل وفيا لفكره الأنسني حتى وافته المنية، ولم يحل علمه بإصابته بداء قاتل لا شفاء منه دون وضعه لكتاب "معذبو الأرض". وهو الكتاب الأخير له، حجزت السلطات الفرنسية على نسخه في المطبعة ومنعت توزيعه! ولسوف يكتفي الكاتب في رصده للمواقف الأنسنية في حياة فانون، بالحديث عن أبرز تلك المواقف وأكثرها تجسيدا للجوانب الأنسنية في حياة صاحبها، فقد كانت حياة فانون ثرية على قصرها، فالعبرة مع أمثال فانون ليست بعدد السنين التي يقضونها معنا فوق ظهر الأرض، و إنما بما يقدمونه لاخوتهم في الإنسانية، من أقوال حكيمة وأفعال مخلصة.
لله درك يا فانون، تركت لنا ما تؤكد الأيام صدقه وأصالته، وحولت حياتك القصيرة لصرخة في وجه الضمير الإنساني، وما أراه استيقظ بعد..!
في عام 1953، انتقلت يا فانون للعمل كطبيب نفسي في مستشفي بليدا، المستشفى الأشهر آنذاك في الجزائر لعلاج الأمراض النفسية والعصبية، غير أنك لم تلبث أن تركت عملك فيها بخطاب الاستقالة الشهير عام 1956، فردت السلطات الفرنسية مباشرة بطردك من العمل في الحكومة الفرنسية، وأنذرتك بمغادرة الجزائر خلال 48 ساعة. لكنك يا فانون كنت قد انضممت قبل أكثر من عام من تقديم استقالتك إلى جبهة التحرير الوطني، ورحت تعمل مع الثوار في قواعدهم، ترأست تحرير الطبعة الفرنسية من جريدة المجاهد الناطقة باسم الثورة، مثلت الجبهة في أكثر من محفل دولي، شكلت حلقة اتصال بينها وبين قوى التحرير في غرب أفريقيا. وفي مقرك المؤقت في تونس أخذت تتنقل بجواز سفر تونسي باسم عمر إبراهيم فانون، صادر في تونس في 10 أغسطس 1958، وتنتهي صلاحيته في أغسطس 1963. وقبل عام ونصف من انتهاء صلاحية الجواز التونسي استقريت أيها الثائر الأنسني نهائيا، كما أوصيت، في قبر حميم في الجزائر. وللقاري الكريم نسوق نص خطاب استقالتك الشهير عام 1956، فهو يؤرخ للحدث الأبرز والأكثر تجسيدا للجوانب الأنسنية في حياتك أيها الثائر(6):
" سيدي الوزير، بناء لطلبي ، ووفقا لقرار رسمي بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 1953، أراد السيد وزير الصحة العامة والإسكان أن يضعني تحت تصرف السيد الحاكم العام في الجزائر لتعييني في مستشفى للأمراض النفسية في الجزائر. فتم تنصيبي في مستشفى بليدا ـ جوانفيل للأمراض النفسية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1953، فبدأت أمارس مهمة طبيب ـ رئيس قسم فيه منذ ذلك التاريخ. ورغم أن الظروف الموضوعية لممارسة طب الأمراض النفسية في الجزائر تشكل لوحدها تحديدا للعقل السليم، فقد تبين لي أنه لابد من بذل جهود للحد من فساد نظام تتعارض مبادئه العقائدية بشكل يومي مع الأبعاد الإنسانية الحقيقية. فكرست نفسي بشكل كامل لخدمة هذا البلد وسكانه لمدة ثلاث سنوات. ولم أوفر جهودي ولا حماستي. ولم يبق أي جزء من عملي إلا طالب ببزوغ عالم متين، وتلك غاية يتمنى الجميع تحقيقها. ولكن ما مصير حماسة المرء وقلقه إذا كان الواقع اليومي منسوجا بالأكاذيب والنذالة واحتقار الآخر. وما مصير النوايا إذا كان تجسيدها مستحيلا بفعل انعدام المشاعر وعجز الفكر وكره سكان هذا البلد الأصليين؟ الجنون هو أحد السبل المتاحة أمام المرء لفقدان حريته. ويمكنني القول إني من على هذا التقاطع شعرت بالرعب حين تبين لي مقدار الحرمان لدى سكان هذا البلد. وإذا كانت المعالجة النفسية تقنية طبية هدفها أن تسمح للإنسان بعدم البقاء غريبا عن محيطه، فعلى أن أؤكد أن العربي المحروم دوما في بلده يعيش في حالة ضياع مطلق لشخصيته. وما حالة الجزائر؟ يجري فيها انتزاع منظم للإنسانية. ولكننا كنا نريد برهاننا العبثي أن ننشئ بأي ثمن بعض القيم، فيما كان غياب القانون وعدم المساواة وقتل الناس الجماعي اليومي مشرعة كلها كمبادئ قانونية. كما تعارضت البنية الاجتماعية القائمة في الجزائر مع كل محاولة لإعادة الفرد إلى مكانه الصحيح. سيدي الوزير، نصل أحيانا إلى وقت يصبح فيه التشبث مثابرة مرضية. فلا نرى نافذة أمل مفتوحة على المستقبل، إنما حفاظا غير منطقي على موقف ذاتي منقطع بانتظام عن الواقع. سيدي الوزير، إن الأحداث الحالية الدامية في الجزائر لا تشكل فضيحة لمن يراقبها. فهي ليست ناجمة عن عارض طارئ أو عن عطل في النظام. إن الأحداث في الجزائر تشكل النتيجة المنطقية لمحاولة غسل دماغ جماعي باءت بالفشل. فليس من الضروري أن يكون المرء عالما نفسانيا ليتبين وراء طيبة الجزائري الواضحة وخلف تواضعه البسيط حاجته الأساسية إلى الشعور بالكرامة. ولا حاجة للاستغاثة بشكل من أشكال المواطنية عند بروز ظواهر لا يمكن احتواؤها. وتكمن وظيفة البنية الاجتماعية في إنشاء مؤسسات تقلق على مصير الإنسان. وحين يرغم مجتمع ما أعضاءه على اللجوء إلى حلول يائسة، يصبح مجتمعا غير قابل للاستمرار، مجتمعا لابد من استبداله. ومن واجب المواطن أن يقول ذلك صراحة. فلا يمكن في هذه الحالة أن تطغى أي أخلاق مهنية ولا أي تضامن طبقي ولا أي رغبة في حل المصاعب الداخلية بشكل سري. ولا يمكن التسامح في مسألة اللجوء إلى أي خداع وطني موهم عوض المطالبة بالفكر الحر. سيدي الوزير، إن قرار معاقبة المشاركين في إضراب 5 تموز/ يوليه 1956 يبدو لي إجراء مخالفا للمنطق بالكامل. وبما أن الإرهاب قد مورس على أشخاص المضربين وعائلاتهم، كان لابد من تقدير موقفهم وإيجاده طبيعيا نظرا للجو السائد. وبما أن امتناعهم عن العمل يترجم تيارا فكريا جامعا واقتناعا لا رجوع عنه، فكل موقف معاقبة تجاههم سيكون حتما موقفاً اعتباطياً لا تأثير له وغير ضروري. وعلى أن أقول إني لم أجد الخوف سمة غالبة عند المضربين. إنما الغالب بالأحرى كان القرار المحتم لأحياء عصر جديد من السلام والكرامة عبر التزام الهدوء والصمت. وعلى العامل في المدينة أن يشارك في التظاهرة الاجتماعية. إنما عليه أن يقتنع بجودة هذا المجتمع المعاش. ولكنه وصل إلى وقت أصبح فيه السكوت كذبا. كما أن النوايا الرئيسية بالعيش الفردي لا ترضى بالتعرض الدائم لأبسط القيم. وهكذا، فإن ضميري يشهد منذ شهور طويلة مشادات لا ترحم. وخلاصتها الرغبة في عدم اليأس من الإنسان أي من نفسي. وقررت ألا أتحمل مسؤولية بأي ثمن وبحجة خادعة مفادها أن هذا أفضل ما يمكنني إنجازه. فلهذه الأسباب كلها، لي الشرف سيدي الوزير أن أطلب منكم قبول استقالتي وإنهاء مهمتي في الجزائر. وتفضلوا بقبول فائق احترامي وتقديري".
رحم الله الثائر الأنسني فرانز فانون...
الهوامش: ـــــــــــ (1) رضوى عاشور، "الصوت: فرانز فانون، إقبال أحمد، إدوارد سعيد"، ألف مجلة البلاغة المقارنة، (القاهرة: قسم الأدب الإنجليزي والمقارن وقسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)، العدد الخامس والعشرون، 2005، ص 74. (2) راجع مقتطفات من كتاب "فرانز فانون: سيرة حياتهFrantz Fanon: A Biography"، لـ David Macey، أوردتها النيويورك تايمز The New York Times، في 2 سبتمبر 2001: www.nytimes.com (3) نفس المرجع. (4) راجع كتاب فانون الأخير: فرانز فانون، ترجمة الدكتور سامي الدروبي والدكتور جمال الأتاسي، معذبو الأرض، (بيروت؛ الجزائر: دار الفارابي ومنشورات آنيب ANEP، 2004 ). (5) المقصود بالثقافة هنا ما أورده ت.س.إليوت في مؤلفه المهم "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، فالثقافة عنده طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. وتظهر هذه الثقافة في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. و طبقا لإليوت لا يكون اجتماع هذه الأمور الثقافة ، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعاً. (6) فرانز فانون، ترجمة ماريا طوق وديالا طوق، لأجل الثورة الإفريقية، (بيروت؛ الجزائر: دار الفارابي و منشورات آنيب ANEP ، 2007)، ص ص 71ـ74. المقالة الثالثة آخر عربي مُفرط فى آخريته
"..ما أشد ما خُدعت، إذ أرى الآن السلم وهو يأتى بفساد لا يقل عن خراب الحرب!" جون ميلتون
رغم تمتعه بقدر يُعتد به من الوعي، واطلاعه على معظم كتاباتى السابقة، تعجب صديقي كثيراً، عندما أخبرته بنيتى أن أكتب مقالاً عن الآخر العربي، وراح يتساءل فى دهشة واستنكار: آخر عربي..هل هذا ممكن؟! أن يظلم العربي أو يستبد بسلطة، فهذا أمر شائع ومألوف، فى عالمنا العربي، أما أن يكون آخراً، فهذا ما لا أفهمه..ولا أقبله؟! الآخر كما تعلمنا منذ نعومة أظافرنا هو من لا ينتمى إلى ثقافتنا العربية الاسلامية..هذا هو الآخر!..وما ان هدأت حماسة صديقي وفرغ من حديثه، حتى راح يراقب، انطباعات وجهى، فلما رأى منى اصرارا على المضي قُدما، فيما كنت قد عقدت العزم عليه، قال: سأنتظر مقالك، ولو أنى واثق أنه لن يُقنعني، ففكرك الأنسني لا أظنه يُجدى فى الدفاع عن قضية خاسرة كهذه..!
لصديقي الكريم أن يعرف أنني أقدم إليه ـ فى هذا المقال ـ من الايحاءات أكثر مما أقدم من المعاني الثابتة، وأنني ادعوه، بل ارجوه، أن يجرب قدرته على تفسير كلماتى واتخاذ موقف منها، أكثر مما أدعوه إلى القبول بها والتسليم فى سلبية وخشوع! فالقراءة الخلاقة للنص أبعد ما تكون عن حالة التلقي السلبي أو الخضوع المُمتثل..إنها فريضة أنسنية أراني شديد الحرص على اداء قارئي لها!
للفيلسوف ليسنج، كلمات تقطر عذوبة وحكمة، أُوردها تزخيما لمحاجتى المُشار إليها تواً! يقول المُربي العظيم ليسنج: "ليست الحقيقة التى يملكها انسان أو يتصور أنه يملكها هى التى تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذى بذله فى التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذى ينمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذى يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا، ساكنا، مغرورا..ولو أن الله وضع الحقيقة كلها فى يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذى يحرك الإنسان إلى طلبها فى يسراه ـ ولو كان فى نيته أن يضلني ضلالا أبديا ـ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه فى خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!"..
قارئي الكريم، كلنا يرغب فى الاعتقاد بأننا نستطيع دائما البدء من نقطة جديدة كلياً، لكن الواقع المُعاش يؤكد ـ وياللحكمة ـ أن البدء من نقطة جديدة كليا إمتياز للإله وحده! فحياة الإنسان ـ على ما يبدو ـ أقصر من أن تكفي حتى لوضع الخطوات التمهيدية لعمل بعينه، وذلك بحسب تعبير إريش آورباخ! إذ أن العادات والولاءات والضغوط التى تمنع تبديل عملية قائمة بأخرى جديدة كثيرة جداً! أقول هذا لتعلم أيها القاريء أن النهج الأنسني المطروح، فى هذا المقال، وفي مقالاتى السابقة، ليس جديداً، وإن بدا غير ذلك، فما هو إلا خطوة على طريق، بناه وعبده غيرى، من أنصار الفكر الأنسني فى شتى أنحاء المعمورة!
ولمن يسأل عن هوية هؤلاء الرواد الأنسنيين الذين أستلهم كلماتهم وأفكارهم فى جهودى الرامية لتأسيس تيار ثقافي أنسني فى عالمنا العربي، أقول إن الفكر الأنسني يختلف، بل أراه يمتاز عن غيره، باعتقاد أنصاره الراسخ فى الأخوة الإنسانية، فأنا كأنسني لا أفرق بين إخوتى فى الانسانية، وكيف أفعل؟! وأنا وهم رفاق طريق واحد..هو طريق الحياة! إن اللحم الذى على عظامي ليس غير اللحم الذى على عظامهم..؟! فكيف لى أن أطعنهم من غير أن أُدمى نفسي..؟!
من هنا، تراني أيها القاريء الكريم أستلهم كلمات وأفكار، جال بعضها فى صدور غير صدورنا، معشر العرب، ونبت بعضها فى أرض غير أرضنا، وعذرى فى ذلك أنى أؤمن بالإنسان، وأرى فيه بنياناً للرب، ملعون من يمد إليه يده بالسوء! ولمن يعارض استلهام مثل تلك الكلمات والأفكار، بحجة أنها آتية من جهة أعداء ثقافتنا العربية الإسلامية، أقول: هذا الفكر الأنسني يشكل جزءاً لا يتجزأ من التراث الإنساني، ونحن ـ معشر العرب ـ بحاجة إليه، وسوف نأخذ به ونستفيد منه، أيا تكن الجهة التي جاء منها، فلسنا استثناء من القانون الإنسانى!
قارئي الكريم، ما الضير فى امتلاكنا أفكار نشأت فى بيئة أخرى، خصوصا إذا صار هذا الامتلاك خصباً، على نحو ما سنرى فى هذا المقال؟! ألسنا جميعا إخوة فى الإنسانية؟! ألسنا معشر العرب نستورد معظم احتياجاتنا المادية من أمم الأرض، نظراً لتخلفنا الشديد والمُخزي عن ركب التطور الإنسانى؟! ألسنا أحق بأعمارنا الضائعة، وثرواتنا المهدورة؟! لما لا نفكر، وحالنا بهذا التردى المُخيف، فى الافادة من التراث الإنسانى، خاصة فى جوانبه المضيئة، وهى عديدة، لنستعين به على تبديد ظلمات عقولنا وقلوبنا، ولنستعين به على امتلاك القدرة على النظر إلى شمس المستقبل، دون أن يخشى عليها غيرنا، أن يدنس تخلفنا طهارتها..؟!
الآخر العربي والصراع الثقافي:
ذكرت تواً أن الفكر الأنسني يختلف، بل يمتاز عن غيره، باعتقاد أنصاره الراسخ فى الأخوة الإنسانية، فما هى حكاية الآخر إذن؟! وكيف يستقيم قولنا بوجود آخر، مع حديثنا الدائم كأنسنيين عن الرفقة الإنسانية الصحيحة؟! الحق أنه ـ وكما سنرى فى هذا المقال ـ لا يوجد ثمة تعارض!..ولكن..لنبدأ أولا، أيها القاريء الكريم، بالحديث عن "الأنسنية"، وتوضيح ما أعنية بذلك المصطلح الواعد والمُهم، الذى أظن أن الأذن العربية لم تألفه بعد..! "الأنسنية"، هي تحقيق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(1):
[1] معيار التقويم هو الإنسان. [2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. [3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. [4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. [5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
الأنسني (الذات الأنسنية) إذن، هو من يدرك الأنسنية، بمعناها المُشار إليه تواً، ويسعى لتبصير الغير بها، ولا يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه! ولك أيها القاريء الكريم أن تعلم أنه لا يستقيم أن يكون البشر جميعا أنسنيين، فهذا ـ وإن جاز لنا كأنسنيين أن نطمح إليه ونعمل جاهدين من أجل تحقيقه ـ يظل حلماً بعيد المنال، قدر الإنسان ـ وياللحسرة ـ أن يسعى جاهدا لادراكه، لا أن يدركه!
نحن إذن فى حاجة لمعيار نميز به بين الأنسني والباقين، وهى مهمة شائكة، وإن بدت للوهلة الأولى غير ذلك، فالصيغة البشرية مبهمة ومعقدة، على نحو مُربك ومُخيف! على أية حال، أرانى أميل، فى هذا الصدد، إلى الأخذ بالمعيار الأنسني، فهو على ما يبدو الأكثر ملائمة وموضوعية، فى التمييز بين الذات الأنسنية والباقين، فطبقا له، يُعد الإنسان ذاتا أنسنية، طالما أدرك الأنسنية، وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه! ويُعد آخراً طالما أدرك الأنسنية واستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الباقين بها كنهج حياة، وتعميته لهم عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمانهم من جني ثمار الأخذ بها! وطبقا للمعيار نفسه، يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافيا! فالشائع ـ في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!
وأعنى بالثقافة هنا ما أورده الناقد ت. س. إليوت في مؤلفه ذائع الصيت والمهم "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، فالثقافة عند إليوت طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. وتظهر هذه الثقافة في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. و طبقا لإليوت الحائز على جائزة نوبل عام 1948، لا يكون اجتماع هذه الأمور الثقافة، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا.
والآن، أما وقد بينت لقارئي الكريم كيفية استخدام المعيار الأنسني فى التمييز بين الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر، يبيت ملائما الكشف عن قناعتي بأن تطور التاريخ الانسانى، لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت للثقافة المذكور تواً، وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها!
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر، محليا كان أم عالميا، المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن إغراء الذات المغتربة، باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة، لحسم الصراع لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر، كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية!
والآخر قد يكون محلياً وقد يكون عالمياً، وقد يكون الإثنين معاً، بمعنى أنه من الوارد، بل والمألوف، تاريخيا ألا يكتفي القائمون على حضارة(2) مهيمنة بعينها بتعمية أبناء الحضارات الأخرى عن الأنسنية وتكريس اغترابهم الثقافي، فنراهم يعمدون لفعل الشيء نفسه مع أبناء حضارتهم، رغبة من جانبهم في الاستئثار بثمار الأنسنية، وذلك لاعتقادهم بتعرض مصالحهم للخطر حال شيوع الأخذ بالنهج الأنسني! وحينئذ يجتمع الآخران المحلي والعالمي في آخر واحد، ويصبح الجلاد واحدا على الصعيدين المحلي والعالمي، وتتشابه إلى حد كبير سلوكياته تجاه أبناء حضارته، مع سلوكياته تجاه أبناء الحضارات الأخرى، وهو الأمر الذي يُنبئنا التاريخ بحدوثه في حقب زمنية بعينها. وقد يحدث أحيانا أخرى أن يكون الآخر العالمي أكثر شراسة في مواجهة أبناء حضارته عنه في مواجهة أبناء الحضارات الأخرى، وهو ما يعضد القول بقبح الآخرية(3) وشراستها!
ولأن المقال الماثل يركز على الآخرية العربية فى العصر الحديث، ولأن الآخرية العربية فى هذا العصر ليست هى الآخرية العالمية، عكس ما حدث فى عصور أخرى، حين كان الآخر العربى هو نفسه الآخر العالمي، أُميز فى مقالي هذا بين الآخر العربي (الآخر المحلي) و بين الآخر الغربي (الآخر العالمي)، والذى تناوله كاتب هذه السطور بالتحليل فى مقال سابق له بعنوان "الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة"(4)! ولمن يسأل عن الآخر العربي المعاصر، أقول إن النخب الحاكمة(5)، في عالمنا العربي، تُشكل حجر الزاوية في هيكله، وأقصد بالنخب الحاكمة تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوما بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك الأنسنية، فنراهم ينزعون في كل زمان ومكان للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على مصالح مواطنيهم (الذات المغتربة). وهو ما يُفضي بهم دوما إلى الانفصال الثقافي عن الذات، وان بدا الأمر للمغتربين ثقافيا خلاف ذلك. وأراني بحديثي هذا قد أعفيت تجار الآلام من عبء تذكيرهم المستمر والملح لمواطنيهم ولنا بقبح جلد الذات، فالثابت أن أولئك الذين تحملهم آخريتهم على تعمية مواطنيهم عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها، ليسوا ذاتا تُجلد، وإنما آخر تصطلى الذات بناره!..
الآخر العربي فى التاريخ:
بداية، واستناداً لما خلص إليه كاتب هذه السطور في كتابه "الاغتراب الثقافي للذات العربية"، فإنه يقرر بضمير مستريح أن الآخر العربي ما فتئ يباشر ـ منذ اللحظات الأولى لميلاده وحتى اليوم ـ مهمة تكريس الإغتراب الثقافي للذات العربية بصبر ودأب مُلفتين، أى تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، بهدف تعميتها عن إدراك الأنسنية! وهو ما يُصير التأريخ لاضطلاع الآخر بتلك المهمة المخزية وغير الإنسانية تأريخا للآخر نفسه، عربيا كان أم غير عربي. وكيف لا ؟! فلولا اضطلاع الآخر بتلك المهمة المُشينة لتعذر علينا ـ معشر الأنسنيين ـ رصد تاريخه في مواجهة الذات العربية! ولولا نجاحه في مهمته تلك ما احتجنا لتحبير كل تلك الأوراق لإقناع الذات العربية بوجوده!
لقد دأب تجار الآلام على اعتبار البحث في علاقة الآخر العربي بالاغتراب الثقافي للذات العربية سلوكا محرما ومكروها لديهم، لانطوائه بالضرورة على أمرين خطيرين: أولا، لفت الانتباه لوجود الآخر العربي وتعرية ضلوعه بشكل أو بآخر في تكريس مأساة اغتراب الذات العربية ثقافياً. ثانيا، حرمان الآخر العربي من حجة لطالما استخدمها لتجميل صورته، وهى تأكيده الدائم على محاكاته المشروعة لأجيال سابقة، ثبت تورط معظمها للأسف الشديد ـ وكما سنرى فى السطور التالية ـ في تهيئة الأجواء المواتية لتوظيف الاغتراب الثقافي وتكريسه!
من هنا تأتى أهمية أن يضع القاريء الكريم الإيضاح السابق نصب عينيه، ليجنب نفسه الوقوع في شرك طالما نصبه له تجار الآلام! وللقاريء أيضا أن يعي أن الكاتب لا يقصد بحديثه إعفاء الآخر غير العربي من مسئولية الضلوع بشكل أو بآخر في تهيئة الأجواء المواتية لتوظيف اغتراب الذات العربية ثقافياً وتكريسه، ودليل ذلك استحواذ تلك المسألة على حيز يُعتد به في بحوثه ودراساته المتعددة.
على أية حال، وقبل الولوج في الحديث عن تاريخ الآخر العربي، يسوق الكاتب لقارئه العزيز الأسانيد المعززة لقوله بتزامن الميلاد غير المتعمد للإغتراب الثقافي للذات العربية مع وفاة النبي. إذ أن التاريخ يشي بأن وفاته (ص) لم تلبث أن وضعت أصحاب الثقافة الإسلامية الوليدة، للمرة الأولى في مواجهة مباشرة مع مسألة النظام السياسي في دولتهم. ولما كان الإسلام قد ترك معالجة هذا الأمر المتغير بطبيعته للاجتهاد البشري، تثمينا للعقل البشري، أضحى منطقيا لجوء الإنسان العربي لثقافته السابقة يلتمس منها العون، بما لا يتعارض ـ من وجهة نظره ـ مع ثقافته الجديدة. ولعل في أحداث سقيفة بني ساعدة وما تلاها تعضيدا لتلك النظرية، فقد بحث العرب في ثقافتهم الجديدة عن مخرج سهل وواضح كالعادة! فلما لم يجدوا، لم يروا بدا من اللجوء لثقافتهم العربية، يلتمسون لديها الرأي والمشورة. وكان أن شهد عصر الصحابة الأجلاء أحداثا لم يتلاش أثرها قط، ولو أنه غطى عليها عدلهم، فضلا عن فيض محبة الناس للإسلام ولهم!
قال الصحابي الجليل أبو بكر للأنصار المجتمعين في سقيفة بني ساعدة: "..فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور". قالها وهو معجل يخاف على الدولة الوليدة أن تعصف بها الأنواء، فترامى إلى الأذهان أنه ما دام هناك مهاجرين أمراء ووزراء أنصار، فالأمراء سادة الوزراء(6). ولعل أمورا أخرى عضدت ذلك الإدراك، أبرزها ما أصاب سعد بن عبادة من المهانة في سقيفة قومه..!
كان سيد بني ساعدة مريضا، وحضر الاجتماع مزملا. فلما بويع أبو بكر خليفة(7) كاد الناس يطئونه في الزحام. فصاح نفر من أصحابه: اتقوا سعدا، لا تطئوه. فقال الصحابي الجليل عمر بن الخطاب بصوت يسمعه كل الناس وترويه المصادر كلها: اقتلوه! قتله الله! ولا يكتفي بذلك، بل يقول له: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضدك (أي حتى ينقطع ذراعك). ويغضب لذلك قيس بن سعد بن عبادة، فيأخذ بلحية عمر ويقول: والله لو قصصت منه شعرة ما رجعت وفى فيك واضحة (أي وفى فمك سن). فقال أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ(8).
وإذا كانت وفاة النبي قد أثارت أمورا بين المهاجرين والأنصار، فإن مقتل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب على يد عبد فارسي، واشتراطه وهو على فراش الموت أن يختار أفراد مجموعة بعينها من بينهم أصلحهم للخلافة، أثار أموراً مماثلة بين المكيين الحريصين على منافع الإسلام والمهاجرين المسيطرين على المدينة. فعلى الرغم من جهود أبي بكر وعمر في استمالة أولئك المكيين، وذلك بتعيينهم في الوظائف العليا، كاختيار عمر لمعاوية واليا على سوريا، فإن المكيين ظلوا على سعيهم الحثيث إلى استعادة ما كانوا يعتبرونه حقا من حقوقهم. وكان عثمان مثل معاوية من أفراد أسرة أمية، الأسرة المكية صاحبة الزعامة قبل الإسلام، لذا اعتبرت أسرته اختياره للخلافة نصرا وفرصة مواتية لها لاستعادة ما اعتبرته سيادة مفقودة! وبالفعل، لم تلبث أسرة أمية أن نالت لبانتها، فأعطيت الوظائف العليا في الدولة واحدة بعد الأخرى لأفرادها. وهو ما ساهم، مع عوامل أخرى، في وضع نهاية مأساوية لحياة ذلك الصحابي الجليل، على يد جماعة مسلحة من عرب مصر الثائرين، كانوا قد جاءوا إلى المدينة لتقديم شكاواهم(9).
وقد يعن للبعض محاجة ما أشرنا إليه تواً بقولهم إن النبي استند في إتمام تبليغ رسالته الإلهية إلى قومه العرب، ومن ثم فلا غبار على صحابته الأجلاء من بعده إن شاب تعاطيهم مع مسألة النظام السياسي للدولة الوليدة قبساً من العصبية على النحو المذكور سلفاً. ولهؤلاء نسوق قول عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته بأن تبليغ الرسالة الإلهية لا يتم من غير عصبية، وأن الله ما بعث نبيا إلا في منعة من قومه(10). غير أن النبي وان كان قد استند في إتمام تبليغ رسالته الإلهية إلى قومه العرب، فلا يحق لمسلم بعد اكتمال تبليغه لرسالته القول بعصبية، فالرسالة الإسلامية الخاتمة جاءت لتذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية..
وهكذا، وبدون الدخول في مزيد من الأحداث والتفاصيل المؤلمة، التي تعج بها كتب التاريخ على اختلاف مشارب أصحابها، يبدو منطقيا القول بوجود ارتباط ما بين التعاطي العربي مع وفاة النبي ابتداء وصحابته الأجلاء من بعده وبين ميلاد الاغتراب الثقافي للذات العربية، أو بتعبير أدق وجود ارتباط وثيق بين التعاطي العربي مع مسألة النظام السياسي في الدولة الوليدة فور وفاة النبي وبين ميلاد الاغتراب الثقافي للذات العربية. فقد أبرزت الأحداث المجسدة للتعاطي العربي مع مثل تلك المواقف الحرجة، و التي اكتفينا بذكر نماذج منها، على سبيل المثال لا الحصر، لجوءا واضحا من جانب المسلمين الأوائل لخبرتهم السياسية السابقة على الإسلام، وهي متواضعة بطبيعة الحال، التماسا للرأي، في مسألة متغيرة بطبيعتها، تركها الإسلام للاجتهاد البشرى. وهو ما أثر بقوة فيما أصطلح على تسميته فيما بعد بالثقافة العربية الإسلامية، لأن المسلمين الأوائل بلجوئهم الواضح للثقافة العربية السابقة على الإسلام، والتي يُفترض أن تكون الثقافة الإسلامية قد نسختها أو على الأقل طورتها، تنازلوا عن حقهم الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، مهدرين بذلك فرصة الاستفادة من التثمين الإلهى للعقل الإنساني..
غير أنه، وعلى الرغم من أن عدل الصحابة الأجلاء وفيض محبة الناس للإسلام غطى على هذا الميلاد غير المتعمد للاغتراب الثقافي، لم تلبث التداعيات أن طفت للسطح مع بداية حكم الأمويين، حيث شهد عصرهم والعصور التالية له أجواء مواتية للتكريس المتعمد لذلك الاغتراب. وأغلب الظن أن الأمويين بتوفيرهم مثل تلك الأجواء، أعلنوا ميلاد ما يمكن تسميته بالآخر العربي، فقد انفصلوا عن أبناء أمتهم ومارسوا في حقهم للأسف ما حاكاه الآخر غير العربي فيما بعد..
باستثناء الأموي عمر بن عبد العزيز، يعج تاريخ الأمويين بالأجواء المواتية لتوظيف الاغتراب الثقافي وتكريسه. ومما يؤسف له أن ما شهده عصر الصحابة الأجلاء ألقى بظلاله على الممارسات الأموية، فلو أن تعاطى المسلمين الأوائل مع مسألة النظام السياسي للدولة الوليدة تم طبقا لما اقتضته الحكمة الإلهية، أي عبر تثمين العقل الإنساني والاستفادة من الزخم الأيديولوجي للإسلام، ما جرؤ معاوية وأنصاره على توظيف الاغتراب الثقافي لصالحهم، حين أقدموا على حيلة رفع المصاحف على أسنة الرماح والمناداة بأن "الحكم لله"، وهى مقولة حق أريد بها باطل(11). فليس متصورا عدم إدراك معاوية بذكائه ودهائه الشهيرين للغموض النسبي للتعاطي الإسلامي مع مسألة النظام السياسي للدولة، غير أنه آثر النجاة من هزيمة محققة على يد الصحابي الجليل على بن أبي طالب وأنصاره في معركة صفين، فلجأ لتوظيف الاغتراب الثقافي، الذي أفرزه تعاطى المسلمين الأوائل مع مسألة النظام السياسي للدولة، لصالحه وصالح أنصاره.
وبالفعل، نجحت الحيلة رغم إدراك علي لها، فقد أجبره فريق من أنصاره على قبول الهدنة. واتفق على أن يختار كل فريق حكما، كما اشترط على الطرفين المتنازعين، أن يقبلا نتيجة التحكيم. وعين معاوية عمرو بن العاص ممثلا له، وبهذه الحيلة كسب معاوية نصرا معنويا، إذ أنزل الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، في الواقع، من مركز حاكم المسلمين (الخليفة) إلى مُطالب بالحكم. ليس ذلك فحسب، فقد ثار على علي جماعة من أنصاره، ممن لم يرضوا عن قبوله بالتحكيم. واقتضى إخضاعهم نشوب معارك دموية بينه وبينهم. وعرف هؤلاء في التاريخ الإسلامي المتعارف عليه بالخوارج، أي الذين خرجوا على الجماعة!
ألم أقل إن الأمويين وظفوا الاغتراب الثقافي لصالحهم، دون مبالاة بآلام المغتربين وأوجاعهم. غير أن المؤسف أنهم تجاوزوا توظيف الاغتراب إلى تهيئة الأجواء المواتية لتكريسه، مستفيدين في ذلك من مقتل الصحابي الجليل على بن أبي طالب على يد خارجي يدعى بن ملجم، ومبايعة ابنه الحسن معاوية حاكما للمسلمين. إذ أن معاوية لم يلبث بعد توطيد نفوذه كحاكم قوى أن لجأ لإخماد المعارضة لتعيين ابنه يزيد خليفة له بشتى السبل. ولندع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون يحدثنا في مقدمته عن ابتغاء معاوية مرضاة آله بجعله الملك فيهم(12):
"..اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه، فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته بنو أمية. ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه، ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة".
وهكذا، تعضد كلمات بن خلدون ما ذهب إليه كاتب هذه السطور، رغم تأكيدها الضمني على أمر آخر يخالفه الكاتب، وهو استساغة فعل معاوية، بزعم جمع الكلمة ورأب الصدع! فأي خير يُرجى من جمع كلمة اغترب أصحابها، وأي خير يُرجى من رأب صدع التآخي، وصدع الاغتراب ما فتئ حائلا بين الذات العربية وحقها في امتلاك ثقافة حرة و متطورة..!!
على أية حال، عمد معاوية، كما أسلفنا، لإخماد المعارضة لتعيين ابنه يزيد خليفة له بشتى السبل، وكان من بين أولئك الذين أُكرهوا على السكوت عن ذلك التوريث، الحسين بن على، إذ لم يستطع معاوية أن يحمله على المبايعة، فأقام بمكة رافضا بيعة يزيد. وجعلت الرسل تتصل بينه وبين شيعة أهل البيت في الكوفة، وهم أكثر أهلها. وقد استجابت هذه الشيعة للحسين. ويقول المؤرخون أنها هي التي بدأت فدعته إلى أن يأتي الكوفة ليكون إمامهم فيما أزمعوا من خلع يزيد بن معاوية وإخراج عامله النعمان بن بشير. وبالفعل، جعل الحسين يتأهب للمسير إلى الكوفة، وحمل معه أهل بيته، وفيهم النساء والصبيان. ولما رأت الأعراب قدومه إلى العراق منابذا ليزيد طمعوا في صحبته، وانتظروا منها الخلاص من القهر الأموي، فتبعه منهم خلق كثير. ودنا الحسين من العراق وقد أرصد عبيد الله بن زياد له الأرصاد، بعد أن ولاه يزيد الكوفة، وأمر رجلا يُقال له الحر بن يزيد، على ألف من الجند، وأمرهم أن يلقوا الحسين فيأخذوا عليه طريقه ويحولوا بينه وبين الذهاب في أي وجه من وجوه الأرض، ولا يفارقوه حتى يأتيهم أمره. ولما عرف الأعراب أنها الحرب تفرقوا عنه، فلم يبق معه منهم أحد. وبذلك واجه الحسين وآله مصيرا مأساويا على يد الأمويين وعاملهم عبيد الله بن زياد، الذي آل على نفسه قتل الحسين وآله في مذبحة لا يزال التاريخ يتحدث بأخبارها (13).
فقد أصر عبيد الله على إذلال حفيد النبي وإجباره على النزول على حكمه، ولما رفض الحسين قائلا "أما هذه فمن دونها الموت"، زحف الجيش الأموي عليه وعلى أنصاره، وكانوا اثنين وسبعين رجلا، فقاتلوهم أكثر من نصف النهار. وأبلى الحسين وإخوته وأبناء عمومته ومن كان معه من أنصاره القليلين أعظم البلاء وأقساه، فلم يقتلوا حتى قتلوا أكثر منهم. ورأى الحسين المحنة كأشنع ما تكون المحن، فقد كان آخر من قتل. ومن ثم شهد في يوم واحد مقتل الكثير من أحبائه، فقد قتل ستة من أبناء الصحابي الجليل على بن أبي طالب، وكذلك قتل اثنان من أبناء الحسين نفسه، وقتل أيضا عبد الله بن الحسن وأخواه أبو بكر والقاسم، وهؤلاء الخمسة من أحفاد فاطمة ابنة النبي. وقتل من بني عبد الله بن جعفر الطيار محمد وعون، وقتل كذلك نفر من بني عقيل بن أبي طالب!!
وقُتل غير هؤلاء سائر من كان مع الحسين! فكانت محنة للطالبيين عامة، وأبناء فاطمة خاصة. ثم كانت محنة للثقافة العربية الإسلامية، عصف فيها بما هو معروف من الأمر الإلهي بالرفق والنصح وحقن الدماء إلا بحقها، وانتهك أحق الحرمات بالرعاية، وهي حرمة النبي التي كانت تفرض على الأمويين أن يتحرجوا أشد التحرج، ويتأثموا أعظم التأثم، قبل أن يمسوا أحدا من أهل بيته. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الناس تحدثوا فأكثروا الحديث، والحوا فيه بأن الحسن أخو الحسين قد مات مسموما لتخلص الطريق ليزيد بن معاوية إلى ولاية العهد، عرفنا أن المناخ السائد آنذاك، ولم يمض على وفاة النبي إلا خمسون عاما، كان نموذجيا لتكريس الاغتراب الثقافي للذات العربية تكريسا متعمدا، على أيدي الأمويين وعمالهم، من أمثال عبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف الثقفي ومن على شاكلتهم(14)، لأنه إذا كان تعاملهم مع آل البيت تم بتلك الوحشية غير المبررة، فلنا أن نتصور سلوكهم في مواجهة سائر رعاياهم، خاصة البسطاء منهم..!
لم يشأ العباسيون أن يكون نصيبهم أقل من أسلافهم الأمويين في تهيئة الأجواء المواتية لتوظيف الاغتراب الثقافي وتكريسه، إدراكا منهم لكون إدامة الاغتراب أمرا حتميا، إذا أريد لسلطانهم أن يوجد وأن يستمر. وبدا ذلك واضحا منذ اللحظات الأولى لميلاد دولتهم وتبوء أبو العباس السفاح سدة الحكم فيها، فلم يعد الحاكم العباسي خليفة للنبي، بل أصبح خليفة الله، وادعى انه يستمد سلطانه منه مباشرة! وتظهر هذه الفكرة في اللقب المهيب الذي اتخذه الخليفة العباسي وهو "ظل الله على الأرض"، كما تظهر أيضا في الأبهة والمراسم التي أحاط بها الخليفة نفسه وعدم سماحه باتصال الآخرين به إلا عن طريق عدد من الحجاب. وبرغم خضوعه من الناحية النظرية لما اصطلح على تسميته أحكاما إسلامية، إلا أن هذا الحد من سلطان الخليفة العباسي لم يكن ذا اثر من الناحية العملية..!!
أو بتعبير أدق، أصبحت الخلافة العباسية حكما مطلقا يستند إلى القوة العسكرية ويدعي لنفسه حقا إلهيا مقدسا، حتى في مواجهة الذات العربية، من حيث أن العباسيين لم يعتمدوا عليها في إقامة سلطانهم وتوطيده، الأمر الذي جعلهم يفرضون حكمهم عليها دون اللجوء في الغالب إلى الحجة والإقناع(15).
في دولة قائمة على هذا النحو، بات منطقيا أن يُعمل الاغتراب الثقافي أنيابه في أدمغة مواطنيها ـ أقصد عقل الذات المغتربة ـ، فلا يتركها إلا ركاما وحطاما، لا حراك فيها ولا رجاء منها! فهيهات أن يشهد مناخ كهذا نقد ثقافة أو تطوير فكر، حتى وان ادعى سدنة الإغتراب وتجار الآلام خلاف ذلك..
وقد تكون ثورة العبيد من الزنوج (255 ـ 270 هـ) برهانا وافيا في هذا الصدد، فقد حمل أصحابها ـ شأنهم في ذلك شأن العباسيين ـ ميراثا مرا، حال بينهم وبين التعاطي السليم مع مسألتي النظام السياسي للدولة واسترقاق الإنسان لأخيه الإنسان، بما يحقق التثمين المنشود لذلك القبس الإلهي الذي يسكن أجسادهم. فحاكى موقفهم من المسألة الأولى موقف العباسيين، فكما اتشح العباسيون بعباءة الخلافة، استنادا إلى تنازل أبو هاشم بن محمد بن الحنفية ـ نسبة إلى أمه وهى غير السيدة فاطمة بنت النبي ـ عن مطالبه في الخلافة لمحمد بن على بن العباس من ذرية عم الرسول وإقرار شيعة العراق الحق نفسه لابنه إبراهيم من بعده، ادعى قائد الزنج على بن احمد انه من نسل الصحابي الجليل على بن أبي طالب ، بغية إضفاء الشرعية على ثورته في عيون معاصريه، غير أنه لم ينضم للشيعة واتخذ جانب الخوارج القائلين بأن أفضل الرجال هو الأجدر بالخلافة حتى ولو كان عبدا حبشيا. أما موقف الثائرين الزنج من مسألة استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان، فقد بدا تأثير الأجواء السائدة عليه أشد وضوحا، إذ لم يكن لهم برنامجا حقيقيا لإلغاء الرق بوجه عام، بل كانوا يرمون لتحسين أوضاع قسم بعينه من العبيد. وحقق قائدهم وعده بذلك عندما مكنته الانتصارات التي أحرزها من توزيع من أسرهم عبيدا بين أتباعه(16)!
وقد يعن للكثيرين أن يتساءلوا، فور قراءة ما أورته توا، عن مدى مشروعية القول بضلوع الأمويين ومن جاءوا بعدهم في توظيف الاغتراب الثقافي للذات العربية وتهيئة الأجواء المواتية لتكريسه، في ظل ما أجراه الله على أيدي بعضهم من فتوحات لبقاع شاسعة أو انتصارات بعينها. وجوابنا أنه لا تعارض البتة، فقد تكفل الاغتراب الثقافي بخلط الأوراق على النحو المتوقع والمنشود من قبل سدنته، فأوهم المغتربين أن الفتوحات دليل قوة وإيمان صانعيها، فاستعذب المغتربون آلامهم واعتبروها قدرا محتوما وضريبة يؤدونها ـ عن طيب خاطر ـ لله و لسادتهم الفاتحين والمنتصرين! وفاتهم أن الله ليس ديكتاتورا، وأن قوة دولتهم لا تغنى ولا تسمن من جوع، طالما ظلوا على ضعفهم وهوانهم، فما جدوى تسيد الدولة حين يصبح مواطنوها عبيدا، لا حول لهم ولا قوة. ألا خاب من أوهمونا أن آلامنا قدرا محتوما، فما هي إلا صناعة أيديهم وأيدينا. فعندما تصبح الدولة في ذروة قوتها، يظل عاراً على مواطنيها أن يرفلوا في غلائل ضعفهم!
النخب الحاكمة حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي:
قارئي الكريم، انطلاقا من قناعتي بأن الآخر بناية شاغرة يسكنها من يأتي فعال الآخر، حتى ولو توافرت له المظاهر العربية، قمنا فى الجزئية السابقة، برصد بعض أبرز من شغلوا بناية الآخر العربي، عبر التاريخ، وقلنا إنه على الرغم من أن عدل الصحابة الأجلاء وفيض محبة الناس للإسلام ولهم غطى على الميلاد غير المتعمد للاغتراب الثقافي، فإن تداعيات الاغتراب لم تلبث أن طفت للسطح مع بداية حكم الأمويين، إذ شهد عصرهم والعصور التالية له أجواء مواتية للتكريس المتعمد للاغتراب الثقافي للذات العربية. ولعمري إن القول بغير ذلك ينطوي بالضرورة على امتهان صارخ لذلك القبس الإلهي الذي أودعه الرحمن أجسادنا، معشر العرب. فتاريخنا العربي، صنعه بشر، والبشر خطاءون مهما تسامت أقدارهم. وللذات العربية اعتذارنا إن آلمها نبش الجذور، فمأساة اغترابها الثقافي، ورغبتنا كأنسنيين فى تعرية الإغتراب الثقافي والآخرية العربية حرمتنا ترف التعامي، عن تاريخ، آن لنا أن نُعيد قراءته، ومن الكي تُشفى الجراح..!
كنت قد أجبت من يسأل عن الآخر العربي المعاصر، بقولى أن النخب الحاكمة، تُشكل حجر الزاوية في هيكله، وأن تحديد أولئك الذين تنطبق عليهم أوصاف الآخر العربي، من خارج تلك النخب الحاكمة، متروك بداهة للقارئ! بيد أنه ولأغراض بحثية، يقتصر اهتمام الكاتب فى هذا المقال على النخب الحاكمة، ويعتبرها مرادفا للآخر العربي، بوصفها حجر الزاوية في هيكله، إذ أن جل أعضائها يدركون الأنسنية، ويحرصون في الوقت نفسه على تعمية الذات العربية عن إدراكها، إيثارا للحصاد المنفرد لثمارها وتكريسا لاغتراب الذات البائسة!
وكنت أيضا قد عرفت النخب الحاكمة بأنها تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوما بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك الأنسنية، إذ نرى النخب الحاكمة تنزع في كل زمان ومكان للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على المصلحة الوطنية لمواطنيهم (الذات العربية) ولدولهم. وهو ما أفضى بهم إلى الانفصال الثقافي عن مواطنيهم!
وقصة ذلك أن عالمنا العربي لم يلبث أن تنفس الصعداء فور رحيل الآخرين العثماني والأوروبي عنه، فقامت في ربوعه المختلفة دول عديدة مستقلة، غير أن لحظة الاستقلال الحقيقي تلك لم تدم طويلا، فسرعان ما حلت النخب العربية الحاكمة محل الأوروبيين، وراحت تعمل جهد طاقتها لإدامة الأوضاع العربية المتردية، والمواتية لتعمية الذات العربية عن إدراك الأنسنية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها ممارسات الأمويين والعباسيين والآخر غير العربي، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ. وكان ذلك إيذانا بدخول عالمنا العربي حقبة لا تزال غيومها تظله، وهى حقبة الاستقلال السلبي(17)!
وللقارئ العزيز أن يتوقع من الكاتب أن يعضد ما أورده تواً. وهذا بالطبع عين ما ينوي الكاتب فعله، غير أن منطقه قد يصدم الكثيرين، ممن يحلو لهم تمجيد رموز نخبوية بعينها، بزعم الكاريزمية والتفرد بالأدوار الريادية. ولهؤلاء أسوق مقولة ماركس: "لا تصدق كلامي..صدق كلام أحفادي"، فقد قصد الرجل بمقولته تلك أن التاريخ كفيل بكشف كل زيف وبطلان، فالقراءة المتأنية للأحداث بعد خبو ثورة الحماس والانفعال، تهدينا دوما لأمور يتعذر علينا إدراكها في حينه، خاصة في عالمنا العربي، حيث تغيب الشفافية ويغسل التلقين الإعلامي الشرس أدمغة المواطنين. لذا فنحن الأحفاد أدرى بفعال آبائنا وجدودنا، فلنكشفها بجرأة ونعالجها بحكمة، بغية تحطيم القيود التي لا تنفك تُدمى معصم الذات العربية!
ولتكن البداية مع أحد أبرز رموز النخب العربية الحاكمة في القرن المنصرم وهو الرئيس المصري عبد الناصر، فخطب الرجل وتصريحاته ذائعة الصيت تؤكد بما لا يدع مجالا للشك إدراكه للأنسنية، فها هو يخاطب المصريين في 9 يناير 1963 بقوله(18): "هذا الشعب ـ يقصد الشعب المصري ـ صانع الحضارة..صانع التاريخ..هذا الشعب الذي استطاع على مرور السنين بعد 7000 سنة ـ أن يبني نفسه ويحافظ على كيانه وأن يحافظ على طبيعته ولا يمكن بأي حال من الأحوال لأي مستعمر من أن يقضي على روحه الطيبة أو يقضي على آماله أو يقضي على الطيبة والعزم والتصميم اللي موجود في نفسه على مر السنين. 7000 سنة تعرضنا للغزو وتعرضنا لحملات وإحنا في هذا الموقع اللي بيعتبر ملتقى الطرق في العالم ولكن هل استطاعت أي غزوة أو هل استطاعت الحملات أو هل استطاعت الجيوش الغازية..أو هل استطاع الاستعمار أن يغير من طبيعة هذا الشعب؟ أبدا..الأتراك قعدوا هنا 500 سنة هل غيروا الشعب؟".
يا الله، هل بعد هذا الإدراك العميق للإنسان كأعلى قيمة في الوجود إدراك؟! اللهم لا، فكلمات الرجل تشي بحق الذات المصرية العظيمة في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي! وكيف لا؟! ألم يصفها عبد الناصر بأنها صانعة الحضارة وقاهرة الغزاة؟! والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل آثر عبد الناصر نفسه ونخبته الحاكمة بهذا الإدراك للأنسنية وعمد لتعمية الذات العربية عن فعل الشيء نفسه؟! الحق أن الرجل أبى إلا أن يكفينا مشقة البحث عن إجابة لهذا السؤال الشائك، فهو بإطلاقه يد أعضاء نخبته ـ أقصد أعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي ـ في صناع الحضارة وقاهري الغزاة، يفعلون بهم ما يحلو لهم، وذلك حين خاطبهم في 4 يوليو 1962 بقوله(19): "..من المحتم على عضو الاتحاد الاشتراكي أن يعمل بكل قواه على أن يقف لأعداء الاشتراكية والثورة، والحرية، ويعتبر نفسه صاحب هذه الثورة وصاحب الاتحاد الاشتراكي العربي.."! أقول إنه بإقدامه على فعل ذلك إنما رمى لردع صناع الحضارة وقاهري الغزاة عن إدراك الأنسنية، إيثارا للحصاد المنفرد لثمار ذلك الإدراك!
وبالتحول لرمز نخبوي آخر، نجد أن الأمر لا يختلف كثيرا، على خلاف ما تعتقده الذات العربية المغتربة. فالرئيس السوري حافظ الأسد دأب هو الآخر على تمجيد الإنسان السوري والتغني بمعين فضائله الذي لا ينضب، وهو ما يعني إدراكه العميق للأنسنية! ففي كتيب صغير بعنوان "كذلك قال الأسد"، أفاض العماد مصطفى طلاس في سرد العديد من شمائل هذا الإدراك، حتى أنه أفرد فصلا كاملا لسرد أقوال الأسد المأثورة في هذا الصدد، وفي مقدمتها قوله(20): "إن السكان هم الثروة الكبرى لأية أمة، وإن الإنسان هو العامل الحاسم في أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي. ونحن ـ يقصد النخبة السورية الحاكمة آنذاك ـ إيمانا منا بأن الإنسان هو العامل الحاسم في كل مجال بما في ذلك الدفاع عن الوطن، قد جعلنا من مواطننا محور كل خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وغاية كل إنجاز نحققه في هذا المضمار"! وكذلك قوله(21): "الإنسان بما يملك من إرادة وتصميم، فالحياة ثورة دائمة والإنسان هو أداة الثورة كما هو منطلقها وغايتها"!
ولا يلبث السؤال المعتاد أن يطرح نفسه بقوة: هل آثر الأسد نفسه ونخبته بهذا الإدراك للأنسنية وعمد لتعمية الذات السورية عن فعل الشيء نفسه؟! لندع الرجل يجيب بنفسه على ذلك السؤال الحائر، فها هو يجحد حق الشباب السوري في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، ويعتبر التزامهم بمبادئ حزب البعث الحاكم واجبا وطنيا وقوميا، وذلك بقوله(22): "لقد نشأ شباب الجمهورية العربية السورية وتربوا على مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي التي تؤكد على واجباتهم الوطنية والقومية، كما تؤكد على تضامن شباب العالم وتضافر جهودهم في سبيل مقاومة الظلم والاستغلال والعدوان". فضلا عن اعتباره شهداء سوريا بعثيين بالضرورة، وذلك بقوله(23): "شهداؤنا ـ يقصد شهداء سوريا ـ بعثيون لأن جيشنا هو جيش البعث، لأن جماهيرنا هي جماهير البعث". ألم أقل أن الرجل أقدر من غيره على الإجابة؟!
وقد يكون الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين الرمز النخبوي الأكثر صراحة في التعبير عن وجوب تعمية الذات العربية عن إدراك الأنسنية، رغم إدراكه ونخبته الحاكمة لها. غير أن الرجل قد يعدم اليوم من يدافع عنه، على خلاف الحال مع الرمزين النخبويين السابقين، نظرا لدواع عديدة يخرج حصرها عن نطاق اهتمام هذا المقال. على أية حال، ها هو صدام حسين يؤكد إدراكه لآدمية الإنسان العراقي، وذلك بقوله(24): "إن النهضة لا تحققها أية مجموعة مهما كانت كبيرة في عددها أو مهمة في نوعيتها إذا ما انعزلت عن تأثير المجتمع ايجابيا عليها، وإذا ما انعزلت عن من هم دونها، لذلك نرى لا كمجلس لقيادة الثورة، وإنما كعراقيين، بأننا لم نحقق حتى الآن النهضة التي نريدها كما ينبغي، ولهذا مطلوب منا جميعا أن نحقق هذه النهضة بكل مقاييسها ومستلزماتها الخلقية والمعنوية والمادية، وان نجعل كل خلية في المجتمع وفي الدولة متجانسة في روحية العمل ومتناسقة في عملها إلى أمام، وان تنعدم الفروقات النوعية والكبيرة بين حلقة وأخرى سواء في الدقة أو في الإخلاص أو في المثابرة أو في المساءلة".
ولا يلبث صدام أن يُورد أقوالا مغايرة تشي باقتناعه و نخبته الحاكمة ـ حينئذ ـ بوجوب حرمان ذلك الإنسان العراقي من إدراك الأنسنية، أو بعبارة أخرى وجوب تجريده من حق التمحيص النقدي للأشياء. أقول أن صدام عبر عن ذلك في صراحة يُحسد عليها وتُحسب له، وذلك في حديث له في مدرسة الإعداد الحزبي، جاء فيه ما نصه(25): "..أنا هنا، وفي أي مكان آخر، بعثي، والمطلوب هو الكلام الصريح وليس التبرير. ربما تلوي الكلمات أحيانا أمام بعض الأوساط، وأمام الأعداء..ربما نخفي بعض الأمور، لكننا أمام الرفاق، وفي مستوى مثل هذا الاجتماع، يجب أن نقول الأشياء الضرورية، وبقناعة الإنسان البعثي..".
وختاما، وقبل التحول للحديث عن دعم الآخر العالمي للآخر العربي، يبيت لزاما التأكيد على أمرين: أولا، تعمد الكاتب، في سعيه لإثبات آخرية النخب العربية الحاكمة، الاحتكام إلى آراء وأقوال رموز نخبوية بعينها، لقناعته بكون النخب العربية الحاكمة ـ كما أسلفنا ـ حجر الزاوية في هيكل الآخر العربي. وذلك بدلا من الاحتكام إلى أقوال تجار الآلام، الذين يقتاتون ـ بحق ـ على موائد الآخر العربي، ويتخذون من الترويج لآخريته، وإقناع الذات العربية المغتربة بها، مصدرا للدخل ووسيلة للتربح!! فهم ـ على سطوتهم ـ مطية للآخر العربي، يوجههم كيفما تسنى له، حتى إذا قضى منهم لبانته، ألقى بهم في عرض الطريق، نهبا لطلاب التشفي والثـأر!! فما أمر حصاد تجار الآلام!!
ثانيا، تعمد الكاتب أيضا، في سعيه لإثبات آخرية النخب العربية الحاكمة، الاحتكام إلى الأحاديث المُعلنة للرموز النخبوية، رغم تأكده بأن مضمونها ـ على لأنسنيته ـ لا يُقارن بطبيعة الحال بما يُقال عادة فى الغرف المغلقة، بعيداُ عن الأعين، بين أبناء النخبة الحاكمة! فالرموز النخبوية على قدر من الزكاء يجنبها الافضاء العلنى باعتقادها الراسخ فى حتمية تكريس تنازل الذات العربية عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة متطورة! مثلها فى ذلك مثل شركة الكهرباء فى مدينة شُيدت تحت سطح الأرض، لا تصلها أشعة الشمس، بل تستضيء بنور الكهرباء. الشركة تستغل أبناء المدينة، زاعمة لهم، فى سبيل استمرار استغلالها، واحتكارها، أن الكهرباء هى المصدر الوحيد للانارة، وأن الشمس أسطورة من نسج الخيال، ومن صنع أوهام أناس سيئي النية، والقصد..! غير أن نفراً قليلا من الناس المتميزين بالجرأة، والمبادرة كانوا واثقين من وجود الشمس، ومن وجوب إخراج المدينة وأهلها من الظلمة إلى النور، وفكهم من أسر المستغلين، والمحتكرين..
دعم الآخر الغربي (العالمي) للآخر العربي (المحلي):
والآن، أما وقد أوضحت ما أقصده بالنخب العربية الحاكمة، بوصفها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي المعاصر، أرانى مُطالبا بتعرية دعم الآخر الغربي (الآخر العالمي) للآخر العربي (الآخر المحلي)، على أمل تزخيم محاجتى المذكورة سلفاً والقائلة بأن الآخرية المحلية ليست إلا امتداداً للآخرية العالمية!
اضطلعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الأخير، بالقيادة العالمية، من خلال كتلتيهما الغربية والشرقية. وساند القطبان الأعظم وكتلتاهما استقلال الدول العربية استقلالاً سلبياً، يسمح بإهدار الآخر العربي لآدمية الذات العربية، عبر تكريس أوضاعها المتردية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ! ولم تقدح معاداة أي من القوتين العظميين لنخبة عربية حاكمة بعينها في مساندة تلك القوة لمبدأ الاستقلال السلبي، فغالباً ما كان مصدر العداء عدم احترام تلك النخبة لواحدة أو أكثر من مصالح القوة العظمى في المنطقة. وبانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك كتلته الشرقية، لم تتخل الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين عن مساندة مبدأ الاستقلال السلبي للدول العربية، لعدم انتفاء دوافع تلك المساندة، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي في العالم العربي، في إطار ما أصطلح على تسميته بالحرب الباردة.
والحق أنه ثمة دوافع عديدة لانخراط الآخر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية في مساندة إهدار الآخر العربي لآدمية الذات العربية، عبر قبوله بمبدأ الاستقلال السلبي للدول العربية، ذلك المبدأ الذي لطالما خدم مصلحته أو على الأقل لم يتعارض مع تلك المصلحة. وأُورد فيما يلي عرضا موجزا لأهم دوافع مساندة الزعامة الغربية ـ ممثلة في الولايات المتحدة ـ لإهدار الآخر العربي لآدمية الذات العربية، عبر تكريسه لاغترابها الثقافي واستقلالها السلبي، نظراً لتنوع تلك الدوافع، وثرائها، وانطوائها على قدر وافر من التداخل(26):
[1] في إطار الحرب الباردة بين القطبين الأعظم، سعت الولايات المتحدة الأمريكية للوقوف في وجه المد الشيوعي في العالم العربي، من خلال سعيها لاستقطاب النخب العربية. ليس ذلك فحسب، فقد دعمت الولايات المتحدة النخب الموالية لها، واقترن حرصها على حماية مصالحها في العالم العربي، بعملها على تجنب اندلاع أية مواجهات مع الاتحاد السوفيتي. فعلى خلاف الوضع في أوروبا، حيث وجدت خطوط فاصلة بين مناطق نفوذ القطبين الأعظم، افتقدت منطقة الشرق الأوسط مثل هذه الخطوط الفاصلة، مما عظم إمكانية اندلاع مواجهة عالمية بين القطبين الأعظم في أحيان عديدة. و في إطار سعيها المحموم لاستقطاب النخب العربية الحاكمة وضمها لمعسكرها، ساندت الولايات المتحدة مبدأ الاستقلال السلبي للدول العربية، في محاولة من جانبها لاسترضاء وإغراء تلك النخب، على غرار نهجها مع النخب الحاكمة في دول أفريقيا جنوب الصحراء، قبل انتهاء الحرب الباردة و اختفاء الخطر الشيوعي من القارة الأفريقية.
[2] أضافت الثورة الاقتصادية، التي أثارها اكتشاف النفط في العالم العربي، دافعاً آخرا للولايات المتحدة لمساندة مبدأ الاستقلال السلبي في العالم العربي، لاعتقادها بارتباطه بحماية مصالحها الاقتصادية، الماثلة في ضمان حصولها على النفط اللازم لها ولحلفائها، بأسعار مواتية. واعتقادها كذلك بارتباط الاستقلال السلبي بتكريس أنماط استهلاكية، تسمح بتحويل العالم العربي إلى سوق رائجة للمنتجات الأمريكية، خاصة دوله المنتجة للنفط، فالسوق العربية واحدة من الأسواق الأسرع نمواً على مستوى العالم. بالإضافة إلى اعتقادها بارتباط الاستقلال السلبي بديمومة الحاجة العربية للخبرات البشرية الأمريكية، وتدفق الاستثمارات العربية في أراضيها، على نحو يسمح باستغلال الأموال المدفوعة ثمناً للنفط العربي.
[3] دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1948، على تأكيد التزامها الكامل بضمان أمن ورفاهية دولة إسرائيل، باعتبارها ركيزة للإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة. وبالفعل، لم تأل الولايات المتحدة جهداً للوفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل، وهو ما بدا واضحاً في أمور عديدة، منها تزويدها باحتياجاتها التنموية والدفاعية. وتأتي المساندة الأمريكية للاستقلال السلبي للدول العربية في الإطار نفسه، لاعتقاد أمريكي مفاده أن الاستقلال السلبي من شأنه تكريس تخلف وضعف العالم العربي، بصورة تضمن إجهاض مساعيه، لاستعادة الحق العربي المغتصب. وقد أثبت التاريخ صدق الحدس الأمريكي، فقد باءت المحاولات العربية الرامية لاستعادة الحق العربي بالفشل. إلى جانب نجاح الولايات المتحدة في استمالة بعض النخب العربية الحاكمة لممالأة إسرائيل، وإن أعلنت خلاف ذلك.
[4] يشكل تهميش المجتمعات العربية الإسلامية أحد أهم دوافع مساندة الولايات المتحدة لمبدأ الاستقلال العربي السلبي، باعتباره السبيل الأنسب، لتكريس الأوضاع المتردية في العالم العربي الذي يشكل ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ خطراً داهماً على الغرب، لاعتناق أغلبية أبنائه للإسلام. وهو ما عبر عنه صموئيل هنتنجتون صراحة في كتابه صدام الحضارات بقوله: " يقول بعض الغربيين بما فيهم الرئيس كلينتون إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، و إنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنا من التاريخ تقول عكس ذلك. العلاقات بين الإسلام والمسيحية سواء الأرثوذوكسية أو الغربية كانت عاصفة غالبا. كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر. صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة ، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الإسلام والمسيحية. أحيانا، كان التعايش السلمي يسود، غالبا كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة..عبر القرون كانت خطوط العقيدتين تصعد وتهبط في تتابع من نوبات انبعاث مهمة، فوقفات، وانتكاسات. الاكتساح العربي الإسلامي في اتجاه الخارج من بداية القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن أقام حكما إسلاميا في شمال أفريقيا وأيبيريا والشرق الوسط وفارس وشمال الهند، ولمدة قرنين تقريبا كانت خطوط التقسيم بين الإسلام والمسيحية مستقرة. بعد ذلك، في أواخر القرن الحادي عشر، أكد المسيحيون سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط الغربي، غزوا صقلية، واستولوا على طليطلة، وفى 1095 بدأت المسيحية الحملات الصليبية، ولمدة قرن ونصف القرن حاول الحكام المسيحيون ـ مع نجاح متناقص ـ أن يقيموا حكما مسيحيا في الأرض المقدسة والمناطق المجاورة في الشرق الأدنى، وخسروا آخر موضع لقدم هناك في عام 1291، في نفس الوقت كان الأتراك العثمانيون قد ظهروا على المسرح. أضعفوا بيزنطة في البداية، ثم غزوا معظم البلقان بالإضافة إلى شمال أفريقيا، واستولوا على القسطنطينية في 1453 وحاصروا فيينا في 1529..الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتين على الأقل"!!
تلك هي دوافع الآخر الغربي (العالمي) لمساندة الآخر العربي، أما فيما يتعلق بمظاهر تلك المساندة، قد تكون الفترة من عام 1955 إلى عام 1967 أحد أكثر الفترات تعبيراً عن مساندة الآخر الغربي بزعامة الولايات المتحدة لمبدأ الاستقلال السلبي للعالم العربي، فخلالها أرسيت دعائم تلك المساندة، وإليها ترجع أهم الأحداث السياسية التي ظلت آثارها تتفاعل على الساحة العربية لزمن طويل. وأُورد فيما يلي عرضا موجزا لأهم مظاهر مساندة الزعامة الغربية ـ ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ للآخر العربي في تكريسه للاغتراب الثقافي للذات العربية وفي تكريسه لاستقلالها السلبي خلال تلك الفترة المذكورة(27):
[1] الحرص على انخراط النخب العربية في أحلاف عسكرية موالية للغرب. ففي خمسينيات القرن المنصرم، اضطلعت الولايات المتحدة بدور نشط، في محاولتها تعزيز الأمن الغربي في المنطقة، عن طريق مواثيق عسكرية. وأرسلت حكومتها تعليماتها إلى سفرائها في العالم العربي لإخبار المسئولين فيه أنها تؤيد الحلف الذي عقدته النخبة العراقية الحاكمة مع تركيا وباكستان والمعروف بحلف بغداد، وأنها تعارض تشكيل أي ائتلاف من الدول العربية لمناهضته، كما أبدت ترحيبها بانضمام دول عربية أخرى إلى الحلف في المستقبل. يضاف إلى هذا أن السفير الأمريكي في بغداد ذكر أن مسئولي حكومته وجهوا ضغطاً غير مباشر للتأثير على النخب العربية الحاكمة للانضمام إلى الحلف، وذلك بربط قدرتها على الحصول على مساعدات خارجية أمريكية بمخططات الدفاع الإقليمي. وحين أشار نوري السعيد، بفعل الضغط العربي، إلى أنه قد يمتنع عن الانضمام للحلف المقترح، هدد وزير الخارجية الأمريكي دالاس بإيقاف إرسال المعونات إليه. وقيل للسعيد بصراحة تامة أن يبتعد عن أي حلف يضم النخبة المصرية الحاكمة أو الجامعة العربية وأن يركز اهتمامه على الحلف التركي – الباكستاني، الذي يمثل الأساس الوحيد لتخطيط دفاعي واقعي وفعال في الشرق الأوسط. بل إن دالاس أيد علناً الحلف المقترح ووصفه بأنه تطور بناء جدا. وبحلول عام 1955، أخذت إدارة أيزنهاور تنظر في محاولة إجراء مصالحة مع الرمز النخبوي جمال عبد الناصر. لذا، فإن أحد الأسباب الرئيسية وراء تردد الولايات المتحدة في الانضمام إلى الحلف أو ترددها في تشجيع الأردن ولبنان على ذلك هو الخوف من استعداء عبد الناصر. كذلك كانت الإدارة الأمريكية مترددة في الانضمام إلى الحلف لأنها كانت عندئذ ستتعرض لضغط شديد لتقديم ضمانة أمنية إلى إسرائيل. ولم يكن دالاس ميالاً إلى إعطاء إسرائيل أي التزام أمني إلى أن يخف التوتر القائم بينها وبين بعض النخب العربية الحاكمة.
[2] رفض التدخل العسكري الأوروبي للإطاحة بأي من النخب العربية، باعتباره سيقوض شرعية النخب العربية الموالية للغرب. فقد عارضت إدارة أيزنهاور تدخل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عسكرياً في مصر، ومارست عليهم ضغوطاً شديدة لإيقاف القتال والانسحاب. ففي 31 أكتوبر 1956، فرضت الولايات المتحدة شيئاً من العقوبات الاقتصادية والعسكرية ضد إسرائيل. ولإقناع بن جوريون أن الولايات المتحدة جادة في العمل الذي تقوم به، أصدر أيزنهاور أوامر محددة إلى وزارة خارجيته لتقوم بإخبار إسرائيل بأن إدارته للأزمة لن تتأثر بالسياسات الداخلية فى الولايات المتحدة. كذلك قامت الحكومة الأمريكية بتفعيل ترسانتها الاقتصادية ضد شركائها في حلف الناتو. كان أيزنهاور ودالاس على علم بالحالة القلقة التي تسود المخزون النفطي واحتياطي العملة في بريطانيا، لكنهما رفضا تزويدها بالنفط. قال أيزنهاور إن على بريطانيا وفرنسا أن تتدبرا مشاكل الطاقة فيهما من دون تدخل من الغير. وكان دالاس يعتقد أن أوروبا تعتمد كل الاعتماد على الولايات المتحدة من أجل الإسناد الاقتصادي والعسكري والسياسي في أرجاء العالم، وكان واثقاً أن إيدن وموليه سرعان ما سيرضخان لرغباتها. وواصلت إدارة أيزنهاور توجيه ضغطها بلا هوادة ضد الحلفاء المتعنتين. فبعد دحر القرار الأمريكي في مجلس الأمن دعت الولايات المتحدة إلى عقد اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار المعروف باسم الاتحاد من أجل السلام. وفى الأول من نوفمبر أقرت الجمعية العامة قراراً أمريكياً يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وإلى انسحاب القوات من مصر. وشددت الولايات المتحدة ضغطها الاقتصادي على حلفائها الأوروبيين وذلك بأن سمحت بمضايقة الجنيه الإسترليني من جهة، وبرفضها التدخل للتخفيف من شح الوقود، من جهة أخرى. وفى السادس من الشهر المذكور استسلم إيدن وموليه، فقد كانا محاصرين داخل بلديهما ويخضعان للضغط خارجهما، للضغوط الاقتصادية الأمريكية فوافقا على وقف فوري لإطلاق النار وعلى الانسحاب. وفى الثامن من الشهر نفسه وافقت إسرائيل على الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلتها وليس كلها.
[3] الاستعداد لاستخدام القوة لحماية النخب العربية الموالية للغرب. فبعد استنتاجها أن إطاحة الانقلاب العسكري بالنخبة العراقية الموالية للغرب في يوليو 1958 هو أمر واقع، وأن التدخل في لبنان المتوتر ضروري، أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على إرسال مشاة البحرية إليه، في حين أرسلت بريطانيا قواتها إلى الأردن. فقد استخدم أيزنهاور و دالاس أمر لبنان لإظهار الإرادة السياسية و القدرة العسكرية على حماية مصالح الولايات المتحدة الحيوية ومصالح حلفائها. كانا يريدان إرسال إشارة إلى الخصوم باستعدادهما لاستخدام القوة إذا اقتضت الضرورة لحماية النخب العربية الحاكمة الموالية للغرب. ففي اجتماع موسع حضره وزيرا الخارجية والدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية جرى تلخيص النتائج التي ستسفر عن عدم التدخل في لبنان كما يلي: أولاً، أن عبد الناصر سيهيمن على الساحة العربية كلها. ثانياً، أن الولايات المتحدة ستخسر نفوذها في أرجاء المنطقة، وستكون قواعدها العسكرية هناك معرضة للأخطار. ثالثاً، أن الاعتماد على تعهدات الولايات المتحدة سيكون موضع الشك في العالم بأسره.
[4] السعي لتجنيب النخب العربية وإسرائيل الصدام العسكري، لانطواء سلامتهما على تكريس للأجواء المواتية للمصالح الأمريكية في المنطقة. فقد كتب جونسون، قبل غلق المضائق في مايو 1967، إلى كل من عبد الناصر و إشكول يحثهما على ضبط النفس والاعتدال. وقال لإشكول بصراحة تامة إن على إسرائيل ألا تتوقع تأييداً تاماً من الحكومة الأمريكية لقراراتها، إلا إذا جرت المشاورة معها قبل اتخاذها. أما بعد فرض الحصار المصري على خليج العقبة، فقد نشطت الدبلوماسية الأمريكية كل النشاط، وأصدر جونسون بياناً شدد فيه على أن الخليج ممر مائي دولي، وقال كذلك إن قرار مصر ينتهك تعهداً قدمته الولايات المتحدة إلى إسرائيل يضمن لها حرية المرور في الخليج ، واعتبر الحصار غير شرعي، وقد يؤدي ـ على حد تعبيره ـ إلى كارثة تصيب قضية السلام. وثمة ثلاثة أغراض أملت على الولايات المتحدة استراتيجيتها: أولاً، محاولة كبح جماح إسرائيل وتأخير ضربتها الاستباقية وتحذير القيادتين المصرية والسوفيتية من أي تصعيد آخر. ثانياً، إيجاد دعم في أوساط الرأي العام والكونجرس لفكرة القيام بمسعى متعدد الجنسيات لفك الحصار المفروض على المضائق. ثالثاً، القيام بجهد في مجلس الأمن الدولي لفتح المضائق.
والآن، أما وقد انتهينا من الحديث عن دوافع ومظاهر مساندة الآخر الغربي (ممثلا في الولايات المتحدة) للآخر العربي (ممثلا في النخب العربية الحاكمة) في إهدار الأخير لآدمية الذات العربية، عبر تكريسه لاغترابها الثقافي واستقلالها السلبي، يصير ملائما الرد على بعض التساؤلات التي ربما تثور في ذهن القارئ الكريم. أولا، قد يقول قائل إن الكاتب باكتفائه بتحليل سلوكيات الآخر الغربي تجاه الذات العربية، إبان الحرب الباردة، يكون قد أغفل تحليل سلوكيات الآخر الشرقي (ممثلا في الاتحاد السوفيتي) تجاه الذات العربية خلال الفترة نفسها. وهو قول لا غبار عليه، لولا أن الكاتب آثر الاكتفاء برصد وتحليل دعم الآخر الغربي (العالمي) للآخر العربي (المحلي) باعتباره الأكثر تأثيراً.
ثانيا، قد يثور التساؤل حول مدى منطقية اختزال الكاتب للآخر الغربي في الولايات المتحدة الأمريكية. والجواب على أهميته بسيط، فكما يعلم القاصي والداني أن الولايات المتحدة الأمريكية تضطلع بالزعامة الغربية، وأن دورها يكاد يطغى ـ بل هو يطغى بالفعل ـ على دور بقية الغربيين الذين يعمدون ـ وان أبدوا خلاف ذلك ـ لمحاكاتها، باعتبارها قاطرة الحضارة الغربية إلى السيادة على كافة الأصعدة وفي كافة المجالات.
ثالثاً وأخيرا، ربما لا يتفق البعض مع الكاتب في قوله بأن الفترة من عام 1955 إلى عام 1967 تعد أحد أكثر الفترات تعبيراً عن مساندة الآخر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية للنخب العربية الحاكمة في تكريسها للاغتراب الثقافي لمواطنيها و تعزيزها لاستقلالهم السلبي. ولهؤلاء يؤكد الكاتب وهو مطمئن الضمير أن تلك الفترة شهدت ـ بحق ـ إرساء دعائم المساندة الغربية السخية للآخر العربي في تكريسه للاغتراب الثقافي للذات العربية وتعزيزه لاستقلالها السلبي كما أوضحنا سلفا، وأنه إليها أيضا ـ أي إلى تلك الفترة المذكورة ـ ترجع أهم الأحداث السياسية التي ظلت آثارها تتفاعل على الساحة العربية لزمن طويل، ولا تزال تداعياتها السلبية تظلنا حتى اليوم.
نحو عالم عربي بلا آخر محلي (آخر عربي):
قارئي الكريم، أظنك تلمس بنفسك ما آلت إليه أوضاع عالمنا العربي فى ظل النخب العربية الحاكمة، وأرانى إن أنا أقدمت على تذكيرك بما يجلبه الآخر العربي واستقلالنا السلبي من فساد، لا يقل عن خراب الحرب، أكون كمن يدفع بيديه باباً مفتوحا! لذا أستأذنك أيها القاريء الكريم بأن أتجاوز مسألة رصد ما يجلبه الآخر العربي لعالمنا من فساد، إلى مسألة أخرى وهى رؤيتي لمستقبل هذا الآخر المحلى البغيض، فى ظل ما أحدثته هجمات سبتمبر من تداعيات مزلزلة! الحق أن النخب العربية الحاكمة لم تنج من ثورة الغضب الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فالنهج الأمريكي تجاه النخب العربية قد شهد تحولات راديكالية، على الأقل نظريا! فلأول مرة تُثمن الولايات المتحدة الأنسنية في خطابها الموجه للعالم العربي، على خلاف تثمينها السابق للنخب العربية الحاكمة، ومساندتها لها في تكريسها لمبدأ الاستقلال السلبي وإهدارها لآدمية الذات العربية! ولعل نظام الراحل صدام حسين هو أبرز ضحايا الغضبة الأمريكية..
إذ أنه طبقاً لتقرير اللجنة الوطنية الأمريكية الخاص بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، استند تنظيم القاعدة بصورة ملموسة إلى الأتباع من مختلف الدول العربية، وهو ما بدا واضحاً في تشكيل المجموعات التي اضطلعت بتخطيط وتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد أهداف أمريكية، حيث حمل أعضاء تلك المجموعات جنسيات عربية مختلفة، فضلاً عن اضطلاع خالد شيخ محمد بالتخطيط لتلك الهجمات، فبرغم انتمائه لأصول عرقية غير عربية، إلا أنه نشأ وتربى في الكويت، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين في السادسة عشر من عمره. وفى الولايات المتحدة، حصل على مؤهله الجامعي في الهندسة الميكانيكية في 1986. ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلته التي قادته إلى التخطيط لهجمات سبتمبر 2001. وهى الهجمات التى أسفرت عن إزهاق آلاف الأرواح في دقائق معدودة، وتدمير برجين تدميراً كاملاً، فضلا عن تدمير جزء من مبنى البنتاجون(28).
وكما هو معروف، لم تلبث الولايات المتحدة أن أعلنت أن الهجمات إعلان صريح للحرب عليها! وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ الاستراتيجية الأمريكية، خاصة في شقها المعني بالعالم العربي، فقد اعتبرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين، النخب العربية الحاكمة التي طالما نعمت بالمساندة الغربية لها، مسئولة عن تكريس الأجواء القمعية المؤهلة لإفراز أمثال مخططي و منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يشكل ـ من وجهة نظرها ـ تهديداً صريحاً للأمن الغربي بصفة عامة، والأمن القومي الأمريكي بصفة خاصة..
وقبل أن أُوجز رؤيتي لمستقبل الآخر العربي، أطرح سؤالاً لم ينفك يؤرقنى، وأظنه يؤرق الكثيرين فى عالمنا العربي المُبتلى: هل كانت الولايات المتحدة، بوصفها زعيمة العالم الغربي، جادة حين أعلنت على لسان رئيسها السابق جورج بوش(29)، فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أن اطاحتها بالنخبة الصدامية، إنما ترمى لمساعدة دول العالم العربي على التخلص من نسخ الآخر العربي، وكذا مساعدة الدول العربية على استبدال استقلالها الحقيقي باستقلالها السلبي، عبر جعل العراق نموذجاُ لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العربية فى المستقبل؟! أم أن الاطاحة بالنخبة الصدامية جاءت لاستعادة الهيبة فحسب!..
ليت الغرب كان جاداً فى تحرير الذات العربية من نير الآخر العربي، فهو سوطه الذى لطالما ألهب ـ ولايزال يُلهب ـ ظهرها به!! أغلب الظن أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، غير جادين، والأدلة على ذلك كثيرة! خذ مثلا التعذيب فى سجن أبو غريب للمعتقلين العراقيين..هل يتسق مع بناء ذات عراقية أنسنية؟! وخذ كذلك التحالف الغربي مع بعض الشخصيات العراقية الملوثة، وكذا الدعم الغربي المُستفز لنسخ الآخر العربي فى كافة الأقطار العربية، والذى يتواصل على الرغم من التصريحات التى تخرج بين الحين والآخر، من العواصم الغربية المختلفة، والتى يُبشر أصحابها باستقلال حقيقي لعالمنا العربي فى المستقبل..
ليت الغرب أيضاً يعلم أنه إن أقدم بجرأة وحسم على مساعدة الذات العربية المغتربة على قهر اغترابها الثقافي، وكذا مساعدتها على تعرية نسخ الآخر العربي، التى لا تتورع عن توظيف اغتراب الذات وتكريسه، عبر آليات متنوعة، منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، والديني! أقول ليت الغرب يعلم أنه إن أقدم على تلك الخطوة الجبارة، سيضمن أمنه، ويجتث العداء من نفوسنا تجاهه، إذ كيف لنا معشر العرب أن نتعايش مع الآخر الغربي، وسوطه ـ أقصد الآخر العربي ـ يُلهب ظهورنا، فى كل وقت وحين! أحمق هو الغرب، إن إعتقد أن القوة الغاشمة تسحق الارهاب، وتُزيل العداء من نفوس العرب، أنسنة العالم العربي فقط هى التى تقضى على الارهاب المزعوم، وتجعل من الأرض مُقاما طيبا للجميع..
الهوامش: ــــــــــــ
(1) راجع: دراسة للكاتب بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، منشورة على شبكة الانترنت. وأيضا راجع للكاتب: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007). (2) لا يختلف مفهوم الحضارة عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، غير أن الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من التعريف يمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها "نحن" الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل "هم" عند الآخرين خارجنا. وقد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لصمويل هنتنجتون تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية. إلا أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون على العدد الإجمالي للحضارات التي وجدت في التاريخ. لمزيد من المعلومات راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص ص 67 ـ 80. (3) اعتاد الكاتب فى كتاباته السابقة استخدام مصطلح "الأخروية"، إلى أن أخبره الأستاذ الفاضل/ محمود عبد الرازق جمعة، المصحح اللغوي والمشرف الفني بالمجلس الأعلى للثقافة، أن مصطلح "الآخرية"، هو الأكثر ملائمة لغوياً.. (4) "الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة"، مقال منشور على شبكة الانترنت. (5) برغم أن تعبير النخبة في اللغة العربية، وهو ترجمة لمصطلح elite، يحمل معاني الامتياز والتفضيل والحسن، إلا أن الكاتب لا يعني ذلك بالطبع. فتلك فضائل قد لا تنطبق بالضرورة على النخب العربية الحاكمة على اختلاف مشاربها. راجع: إيليا حريق، "السراتية والتحول السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الحديث"، المستقبل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، أكتوبر 1985، العدد 80، ص 4. (6) لمزيد من المعلومات عن أحداث سقيفة بني ساعدة وتداعياتها راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 224 ـ 310 هجرية، تاريخ الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987)، المجلد الثاني، ص ص 234 ـ 246. حسين مؤنس، ظلمات بعضها فوق بعض، (القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1986)، ص ص 21 ـ 35. (7) ليس معروفا على وجه الدقة من الذي اخترع للصحابي الجليل أبي بكر ـ ومن بعده الصحابة الأجلاء عمر وعثمان وعلى ـ لقب خليفة رسول الله، ولكن المحقق أن الصديق أجازه وارتضاه. فقد استهل به كتبه إلى قبائل العرب، إبان ما عرف بحروب الردة، وعهده إلى أمراء الجنود. ولعلهما أول ما كتب أبو بكر، فضلا عن كونهما على الأرجح أول ما وصل إلينا محتويا على ذلك اللقب. ولهذا اللقب روعة، وفيه قوة، وعليه جاذبية، فلا غرو أن يختاره أبا بكر، وهو الناهض بدولة وليدة، يريد أن يضم أطرافها بين زوابع من الأهواء العاصفة المتناقضة، وبين قوم حديثي العهد بجاهلية، وفيهم كثير من شدة البداوة، وصعوبة المراس. فهذا اللقب جدير بأن يكبح من جماحهم، ويلين بعض ما استعصى من قيادهم. لمزيد من المعلومات راجع: الشيخ على عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، (القاهرة: دار الهلال، العدد 596، 2000). (8) الطبري، م.س.ذ، ص ص 21 ـ 35. (9) برنارد لويس، تعريب نبيه أمين فارس ومحمود يوسف زايد، العرب في التاريخ، (بيروت: دار العلم للملايين، 1954)، ص ص 80 ـ 83. (10) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، (بدون بلد نشر: دار الأمين للنشر والتوزيع، بدون تاريخ )، ص ص 111 ـ 113. (11) برنارد لويس، م. س.ذ، ص ص 83 ـ 87 . (12) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، م.س.ذ، ص ص 142 ـ 146. (13) طه حسين، الفتنة الكبرى ـ على وبنوه، (القاهرة: دار المعارف، 2003)، ص ص 236 ـ 245. (14) نفس المرجع، نفس الصفحات. وللتعرف على مزيد من الشواهد التي تؤكد ضلوع الأمويين في تهيئة المناخ المواتي لتكريس متعمد للاغتراب الثقافي للإنسان العربي راجع خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي في أهل العراق، بعد أن ولاه عليها الأموي عبد الملك بن مروان: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 224 ـ 310 هجرية، تاريخ الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987 )، المجلد الثالث، ص ص 547 ـ 554. (15) برنارد لويس، م . س . ذ، ص ص 113 ـ 137. (16) للتعرف على السرد التفصيلي لأهم أحداث ثورة العبيد المعروفة بثورة الزنج راجع : سمير سرحان و محمد عناني ، المختار من تاريخ الطبري، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، ص ص 13 ـ 153. سلامة موسى، كتاب الثورات، (القاهرة: سلامة موسى للنشر والتوزيع، 1954)، ص ص 36 ـ 39. (17) للمزيد من المعلومات عن أوضاع العالم العربي فى ظل الاستقلال السلبي، مقارنة بأوضاعه فى ظل الاستعمار الأوروبي، راجع: حازم خيري، آلام العالم العربي، (القاهرة: نشر المؤلف، 2005). (18) جمال عبد الناصر، عبد الناصر والثورة ـ من أقوال الزعيم الخالد يوليو 1952 ـ سبتمبر 1970، (القاهرة: لجنة منظمة الشباب الاشتراكي بمحافظة القاهرة ، 1970)، ص 50. (19) تشكل الاتحاد القومي في ربيع 1957، وحل محل هيئة التحرير، كوسيلة لدعم الحكام الجدد وحشد التأييد اللازم لهم. وكان المطلوب توسيع نطاق عضويته إلى أقصى حد ممكن، لأنه ـ كما قال جمال عبد الناصر ـ هو الأمة بأسرها. وبالفعل ضم هذا الاتحاد خلال فترة قصيرة بضعة ملايين من الأعضاء، وأصبح على درجة كبيرة من التضخم والفوضى، مما حال دون اضطلاعه بالدور المنوط به. وفى عام 1962، وبعد انهيار الوحدة مع سوريا، جرى إنشاء الاتحاد الاشتراكي العربي، لتحقيق نفس الهدف، وهو دعم الحكام أنفسهم وحشد التأييد نفسه. راجع : صموئيل هانتنتون، ترجمة سمية فلو عبود، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، (بيروت: دار الساقي، 1993)، ص 266. جمال عبد الناصر، إقامة الحياة الديمقراطية السليمة ـ من أقوال الرئيس جمال عبد الناصر، (القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، كتب قومية، العدد 274، بدون تاريخ)، ص 98. (20) حافظ الأسد، كذلك قال الأسد، (دمشق: طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1984)، ص 311. (21) المرجع نفسه، ص 313. (22) المرجع نفسه، ص 45. (23) المرجع نفسه، ص 39. (24) صدام حسين، المختارات ـ موضوعات عن الحزب والدولة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988)، ص ص 56 ـ 57. (25) المرجع نفسه، ص 11. (26) راجع:Michael Sterner, "The Middle East and the Superpowers: The View from Washington", Paper presented to The Middle East and the Superpowers: 25 th Near East Conference, Princeton university, Held on October 25 – 26, 1979 , PP.12- 30 . صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات - إعادة صنع النظام العالمي، م.س.ذ، ص ص 338 – 339. (27) لمزيد من المعلومات عن تلك الفترة أنظر: الدكتور فواز جرجس، النظام الإقليمي العربي والقوى الكبرى، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997)، ص ص 39 ـ 323. (28) اعتمد الكاتب في رصده لأحداث 11 سبتمبر على الرواية الأمريكية، ليس لكونها الأكثر مصداقية ، ولكن لكونها الأكثر تأثيرا في مجريات الأحداث راجع: National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004). (29) United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002 .
المقالة الرابعة خيانة المفكرين وتعميق التخلف العربي
"شعارات فى مجال الفكر وخرابات فى أرض الواقع!" أحمد عبد الله رزة
فى مؤلفه القيم "قضية الأجيال"، يقول زعيم الحركة الطلابية المصرية الدكتور أحمد عبد الله رزة، المفكر المصري الذى قضى جزءاً وافراً من حياته الحافلة بالنضال "خالى شغل!"، رغم نيله درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج العريقة فى المملكة المتحدة(1): "الحرية كالإيمان، هى ما وقر فى القلب وصدقه العمل"! مقولة رائعة جسد بها الراحل النبيل مأساة الفكر فى عالمنا العربي..
فها هي شخصية عربية، أشهر من نار على علم كما يقولون، يُقال اليوم أن كتاباتها وأحاديثها التليفزيونية تُباع بالكلمة، دلالة على أهمية ما يكتبه ويقوله صاحب هذه الشخصية! صحيح أنه احتل فى خمسينيات وستينيات وربما سبعينيات القرن الماضى موقعاً لصيقاً برمز نخبوي عربي بارز، فى دولة عربية بارزة. وهو ما قد يقدم لنا تبريراً لما يتمتع به الرجل اليوم من شهرة واسعة. لكن المدهش والمثير للاستغراب هو أن كتابات الرجل وأحاديثه، التى تلقى كل هذا الرواج الذى أشرت إليه توا، تأتى فى معظمها انتقاداً لأوضاع راهنة، يدافع الرجل نفسه ـ وربما فى نفس الكتابات والأحاديث ـ باستماته عن أوضاع مماثلة، ربما كانت أبشع، ارتُكبت فى الماضي، تحت سمعه وبصره، دون أن يهتز لها ضميره..!
وها هو ممثل مخضرم، يتزعم عرش الكوميديا فى بلاده، وتجرى "افيهاته" الشهيرة والساخرة مجرى الأمثال على ألسنة مواطنيه ـ ها هو يُباهي دوماً بريادته وجرأته على مناهضة الفساد والفاسدين فى بلاده، فى نفس الوقت الذى يحرص ـ وياللجرأة ـ على التواصل مع الفاسدين، ويُباهي بدعوتهم لحضور مناسباته العائلية والعروض الافتتاحية لأفلامه ومسرحياته التى يهاجمهم فيها..!!
حقاً لقد اختلطت الأوراق على نحو مُربك ومخيف، وأراني أحاول جاهداً فى هذا المقال الخروج من هذا التيه الفكرى الذى قُضي به علينا! ولتكن البداية محاولة إيجاد إجابة شافية على سؤال مهم ومثير للجدل: من هو المفكر الحقيقي؟
من هو المفكر الحقيقي؟
الكلمة التى تعادل ما نعبر عنه بمصطلح الـ"مفكر" فى لغتنا العربية، هي فى اللغة الأوروبية Intelligentsia، وهى إسم مصدر، والصفة منها هي: Intellectuel. وأصل الكلمتين معاً هو: Intellect أو Intelligence. وكلمة Intellect تعني الفطنة أو الذكاء أو العقل أو قدرة الادراك والفهم والاستنتاج، ومن ثم تعني الصفة منها: العاقل المتفهم، وتُطلق على الإنسان الذى يُحسن التفكير، ومن ثم تُطلق على أهل الفكر ((Intelligentsia أو على شريحة من المجتمع تكون من صفاتها المتميزة البارزة هى استعدادها الفكري والعقلي وذكاؤها! هذا هو معنى مصطلح الـ"مفكر" لغوياً، وعليه فكل إنسان ذكي يبرز ذكاؤه وفكره وفهمه عن سائر مواهبه الأخرى فى حياته ومجتمعه فهو مفكر(2)!
وبعيداً عن المعنى اللغوي، تختلف التعريفات الأكثر أهمية لمصطلح الـ"مفكر"، فى القرن الماضي، على نحو مُلهم! يقول المُنظر الماركسي أنطونيو جرامشي، الذى سجنه موسوليني بين 1926 و 1937، فى مؤلفه القيم والشهير "كراسات السجن"(3): "كل الناس مفكرون، وبناء عليه يمكن للمرء أن يقول: لكن لا يمارس كل الناس مهنة الفكر فى المجتمع"! ويعطي عمل جرامشي نفسه مثلاً عن الدور الذى يعزوه للمفكر، فهو عالم اللغة الضليع ومنظم حركة الطبقة العاملة الايطالية، وفى كتابته الصحفية أحد أهم المحللين الاجتماعيين، كان همه أن يبني، ليس حركة اجتماعية وحسب، بل تشكيلة ثقافية كاملة مرتبطة بهذه الحركة.. يحاول جرامشي أن يبين أن هؤلاء الذين يمارسون مهنة الفكر، يمكن تقسيمهم إلى نموذجين: الأول، مفكرون تقليديون مثل المعلمين ورجال الدين والاداريين الذين يواصلون فعل الأشياء نفسها من جيل إلى جيل. والثاني، مفكرون عضويون، رآهم جرامشي مرتبطين بشكل مباشر بالطبقات أو المؤسسات التجارية التى تستخدمهم لتنظيم المصالح واحراز سلطة أكبر والحصول على رقابة أوسع!
يقول جرامشي عن المفكر العضوي: "المقاول الرأسمالي يخلق إلى جانبه التقني الصناعي والمتخصص فى الاقتصاد السياسي ومنظمي ثقافة جديدة لنظام قانوني جديد وغيرهم". فخبير الاعلان أو العلاقات العامة، الذى يبتكر تقنيات لاكساب شركة منظفات أو شركة طيران حصة أكبر من السوق، يعتبر مفكراً عضوياً وفقاً لجرامشي، هو امرؤ ما فى مجتمع ديمقراطي يحاول كسب موافقة الزبائن المحتملين واحراز الاستحسان، وتوجيه رأى المستهلك أو الناخب. اعتقد جرامشي أن المفكرين العضويين مرتبطين بالمجتمع على نحو فعال، أى أنهم يناضلون باستمرار لتغيير العقول وتوسيع الأسواق، بخلاف المعلمين ورجال الدين، الذين يبدو أنهم مضطرون إلى هذا الحد أو ذاك للبقاء فى المكان، يمارسون العمل نفسه سنة بعد أخرى، أما المفكرون العضويون فهم دائماً فى حركة وتجدد.
فى الجهة القصوى الأخرى، ثمة تعريف جوليان بيندا للمفكرين انهم جماعة صغيرة من ملوك حكماء، يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي، وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الانسانية! ويظل كتاب بيندا الشهير "خيانة المفكرين" حياً عبر الأجيال كهجوم لاذع على المفكرين الذين تخلوا عن سلطتهم الأخلاقية لصالح ما يدعوه، فى عبارة تنبؤية "تنظيم العواطف الجمعية"، مثل الطائفية، وأفكار الجمهور العاطفية، والسلوك العدواني القومي، والمصالح الطبقية(4)!
كان بيندا يكتب عام 1927، أى قبل عصر وسائل الاعلام العامة، لكنه تحسس ـ وياللدهشة ـ كم كان مهماً للحكومات أن تستخدم هؤلاء المفكرين الذين يمكن أن يُستدعوا، لا ليقودوا، بل ليعززوا سياسة الحكومة، ويطلقوا الدعاية ضد الأعداء الرسميين، وعلى نطاق أوسع، منظومات كاملة من لغة أورويلية غامضة، يمكنها حجب حقيقة ما يحدث باسم "النفعية المؤسساتية" أو "الشرف الوطني"!
طبقاً لبيندا، يشكل المفكرون الحقيقيون نخبة، كائنات نادرة جداً فى الحقيقة، مادام ما يرفعونه هو القيم الخالدة للحقيقة والعدالة التى هي بدقة ليست من هذا العالم! من هنا وصفه لهم بأنهم أصحاب دين العدالة والحقيقة، تمييزا لهم عن سواد الناس، هؤلاء الناس العاديين الذين يهتمون بالمنفعة المادية والتقدم الشخصي! بعبارة أخرى، المفكرون الحقيقيون، برأي بيندا، هم هؤلاء الذين نشاطهم بالدرجة الأولى ليس ملاحقة الأهداف العملية، والذين يسعون إلى مسرتهم فى ممارسة فن ما أو علم ما أو تأمل ميتافيزيقي، باختصار فى امتلاك مزايا غير مادية، ولهذا يقولون بطريقة محددة: (مملكتى ليست من هذا العالم!)..
أمثلة بيندا التى يُورها فى كتابه ـ كسقراط والمسيح وسبينوزا وفولتير ورينان ـ توضح أنه لا يُقر مفهوم مفكري البرج العاجي والمنفصلين عن العالم الواقعي، وغير الملتزمين بالكامل، المنعزلين بشدة، والذين وقفوا أنفسهم للمواضيع المبهمة وربما السحرية! فالمفكرون الحقيقيون، برأيه، لا يكونون أبداً فى أفضل حالاتهم إلا عندما تحركهم عاطفة ميتافيزيقية ومباديء نزيهة للعدالة والحقيقة ويشجبون الفساد ويدافعون عن الضعفاء ويتحدون السلطة غير الشرعية أو الجائرة! المفكرون الحقيقيون يُفترض بهم أن يجازفوا بخطر الحرق أو النبذ أو الصلب. إنهم شخصيات بارزة رمزية موسومة بنأيها الثابت عن الاهتمامات العملية. ولذلك لا يمكن أن يكونوا كثيري العدد، ولا أن يُطوروا بشكل روتيني. يجب أن يكونوا أفراداً مدققين وذوى شخصيات قوية، وفوق كل شيء، يجب أن يكونوا فى حالة تضاد مع الوضع القائم على نحو شبه دائم!
بيد أن مفكرى بيندا، وإن كانوا بشكل محتوم مجموعة من الرجال، صغيرة وبالغة الوضوح، يطلقون أصواتهم الجهيرة ولعناتهم الفظة على البشر من علياء سماءهم، إلا أن بيندا لا ينوه أبداً إلى كيفية حصول هؤلاء الرجال على الحقيقة، أو ما إذا كانت بصيرتهم الباهرة النافذة إلى المباديء الخالدة مجرد أوهام شخصية كالتى عند دون كيخوته! صفوة القول، إنه فى عمق البلاغة المولعة بالقتال لعمل جوليان بيندا المحافظ للغاية، توجد هذه الصورة الجذابة للمفكر ككائن منبوذ، قادر على قول الحقيقة للسلطة، فظ، بليغ، شجاع على نحو خيالي، غاضب، لا توجد فى رأيه سلطة دنيوية كبيرة ومهيبة جداً لا يمكن أن تُنتقد وأن تُوبخ بحدة..!
فى محاضرات ريث التى قدمها عام 1993 بالولايات المتحدة، ذكر المفكر اللامع إدوارد سعيد ان تحليل جرامشي الاجتماعي للمفكر كشخص ينجز مجموعة وظائف محددة فى المجتمع أقرب كثيراً إلى الواقع من أى شيء يقدمه بيندا لنا، لاسيما فى أواخر القرن العشرين عندما أثبتت مهن كثيرة ـ مذيعون، أكاديميون محترفون، محللو كمبيوتر، محامو وسائل الاعلام، مستشارون إداريون، خبراء فى السياسة، مستشارون للحكومة، مؤلفو تقارير السوق المتخصصة، وفى الحقيقة حقل الصحافة الشعبية الحديثة بالكامل ـ صحة رؤية جرامشي! غير أنه أصر فى المحاضرات نفسها على أن المفكر فرد ذو دور اجتماعي محدد، لا يمكن اختزاله ببساطة لأن يكون حرفياً بلا ملامح، عضواً كفؤاً من طبقة يقوم بعمله وحسب!
الحقيقة المركزية بالنسبة لادوارد سعيد هى أن المفكر الحقيقي فرد وُهب قدرة لتقديم، وتجسيد، وتبيين رسالة، أو رؤية، أو موقف، أو فلسفة، أو رأى إلى جمهور ولأجله أيضاً. وهذا الدور له مخاطره أيضاً، ولا يمكن للمرء أن يلعبه دون الشعور بأن مهمته هى طرح الأسئلة المربكة علناً، ومواجهة التزمت والجمود (لا توليدهما)، وأن يكون امرءاً لا تستطيع الحكومات أو الشركات الكبرى احتواءه بسهولة، والذى مبرر وجوده هو أن يمثل هؤلاء الناس والقضايا التى نُسيت بشكل روتيني أو كُنست تحت البساط. إن المفكر، بحسب إدوارد، يفعل ذلك على قاعدة المباديء العامة: ان الناس جميعاً مؤهلون لتوقع معايير سلوك لائقة فيما يخص الحياة والعدالة من القوى الدنيوية أو الأمم، وأن انتهاك هذه المعايير عمداً أو دون عمد يتطلب أن يشهد المفكر ضدها وأن يقاتل بشجاعة.
والمفكر كشخص تمثيلي، فى رأى إدوارد، هو ما يُهم، إنه شخص ما يمثل على نحو جلي وجهة نظر من نوع ما! شخص ما يقدم بينات واضحة لجمهوره رغم كل ضروب العوائق! ودليل إدوارد أن المفكرين أفراد لديهم استعداد فطرى لفن التمثيل، أكان ذلك حديثاً أو كتابة أو تدريساً أو ظهوراً على شاشة التليفزيون. وذلك الاستعداد هو المهم إلى المدى الذى يكون فيه مميزاً اجتماعياً ويتضمن كلاً من الالتزام والمجازفة، الجرأة وقابلية السقوط معاً؛ فما يخلق انطباعاً لدى المرء عندما يقرأ سارتر أو راسل، بالاضافة إلى حججهما، هو صوتهما المحدد، الفردي، وحضورهما لأنهما يعبران عن معتقداتهما دون تردد أو خوف. لا يمكن أن يُساء فهمهما كأن تظن أياُ منهما موظفاً مجهولاً أو بيروقراطياً حذراً..
ينتهى إدوارد فى تعريفه للمفكر الحقيقي إلى القول بأنه شخص، لا هو مهدىْ ولا هو باني إجماع، بل يراهن بكل وجوده على حس نقدي، حس عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون، وما يفعلونه. ليس فقط على نحو معارض سلبياً، بل أن يكون مستعداً لقول ذلك علانية وعلى نحو نشط. بيد أن هذا لا يعنى دوماً ـ فى رأى إدوارد ـ أن ينتقد المفكر سياسة الحكومة، بل الأصح التفكير بأن مهنة الفكر حافظة لحالة اليقظة الدائمة، والرغبة المستمرة فى عدم السماح لأنصاف الحقائق أو الأفكار الموروثة بتسيير المرء معها. وذلك يتضمن نزعة واقعية راسخة، غالباً طاقة عقلية شبيهة بالطاقة الجسدية للرياضيين، وصراعاً معقداً لموازنة مشكلات المرء الذاتية ضد مطالب النشر والتعبير دون خوف فى الأجواء العامة هو ما يجعل ذلك مسعى خالداً، لا ينتهي تكوينه أبداً!
بيد أن إدوارد لم يكتف بعرض رؤيته للمفكر الحقيقي، فراح يطبقها بجرأة على نفسه! يقول إدوارد(5): "..كمفكر أعرض اهتماماتى أمام جمهور أو مجموعة من الأنصار، لكن هذا ليس مجرد مسألة كيف أوضح اهتماماتي، بل هى ما أمثل أنا نفسي، كإنسان يحاول أن يسرع قضية الحرية والعدالة. أقول وأكتب هذه الأشياء لأنها بعد طول إمعان هى ما أؤمن به؛ وأريد أن أقنع الآخرين بهذه الرؤية أيضاً. لذلك يوجد هذا المزج المعقد تماماً بين العالمين العام والخاص، سيرتي الشخصية وقيمي وكتاباتي ومواقفي كما تستنبط من تجاربي، من جهة، ومن جهة أخرى، كيف تدخل هذه الخصوصيات إلى العالم الاجتماعي حيث يتنازع الناس ويصنعون القرارات حول الحرب والحرية والعدالة. لا يوجد شيء كمفكر خاص، نظراً لأن لحظة تدوينك للكلمات ثم نشرها تدخل العالم العام. ولا يوجد مجرد مفكر عام، شخص يوجد فقط كرئيس صورى أو ناطق رسمي بلسان جماعة أو رمز لقضية، أو حركة، أو موقف. ثمة دائماً أثر شخصي وحساسية خاصة، وذلك ما يعطي معنى لما يُقال أو يُكتب. أقل ما على المفكر عمله هو أن يكون همه إرضاء جمهوره، فالأمر الأساسي هو أن تكون مربكاً ومضاداً وحتى منفراً."!
قارئي الكريم، أما وقد فرغت من عرض التعريفات الثلاثة الأكثر أهمية ـ فى رأيي ـ لمصطلح الـ"مفكر"، فى القرن الماضي، وهى على التوالي لجرامشي وبيندا وإدوارد سعيد، أرانى مُطالباً الآن بعرض رؤيتى الخاصة فى هذا الصدد! والحق أن رؤيتى للمفكر الحقيقي تكاد تتطابق مع رؤية إدوارد سعيد المُشار إليها تواً، لذا أنصرف بجهدي لاحقاً إلى ايضاح ما أقصده بـ "خيانة المفكرين"..!
خيانة المفكرين فى الفكر الأنسني:
فى دراسة سابقة لى بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، أودعتها أسس رؤيتي للفكر الأنسني، وقمت بنشرها مؤخراً على شبكة الانترنت، ذكرت أن بناء الذات الأنسنية لا يعني ـ فى رأيي ـ سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسباً لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(6):
[1] معيار التقويم هو الإنسان. [2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. [3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. [4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. [5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وفى الدراسة نفسها، ذكرت أنه طبقا للمعيار الأنسني، يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافياً. فالشائع ـ خاصة في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخراً كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهداً في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافياً بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية.
وانتهيت فى دراستى إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو ـ على الأرجح ـ كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعاً ثقافياً، استناداً لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعاً معقداً، لتعدد جبهاته وتداخلها..
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
تلك هى أسس رؤيتي للفكر الأنسني، أوردتها لأُذكر قارئي الكريم بها، إن كان قد سبق له الاطلاع عليها، ولأُعلمه بها إن لم يكن قد اطلع عليها قبل الآن!
على أية حال، كنت قد انتهيت فى الجزئية السابقة إلى القول بأنه نظراً لتطابق رؤيتى للمفكر الحقيقي مع رؤية إدوارد سعيد، فليس أمامي إلا أن أنصرف بجهدي إلى ايضاح ما أقصده بـ "خيانة المفكرين"..! وأرانى عازماً على الوفاء بما وعدت، تحسباً لأن يُروج تجار الآلام عني أنى ناقل لآراء غيري فحسب!
ولسوف أبدأ حديثي بحكاية طريفة عن الشاعر اليوناني ايزوب! كان ايزوب عبداً، قبل أن يسترد حريته، وذات يوم أمره سيده زانتوس أن يبتاع له من السوق خير ما فى هذا السوق من أشياء، فلم يبتاع ايزوب سوى "ألسنة"، وكانت حجته فى ذلك أن اللسان هو خير الأشياء وأفضلها، لأنه صلة الحياة المدنية، ومفتاح العلوم، وأداة الحقيقة والفكر، والصلاة..إلخ! ثم أراد سيده أن يحرجه، فأمره فى اليوم الثاني أن يبتاع له من السوق أسوأ ما فيه، وإذا بايزوب يُقدم لسيده مائدة عليها "ألسنة" قائلاً إن اللسان هو أسوأ وأقبح ما في الدنيا، فهو أم الجدل والخصام، وينبوع الخلاف والحروب، وأداة الخطأ والرزيلة، والكفر والفحشاء!
المفكر عموماً هو كلسان ايزوب، يمكن أن يكون مصدراً للخير أو الشر!
قارئي الكريم، لعل قناعتى المذكورة سلفاً بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر، تشي بقناعات أخرى، أبرزها: كون الاغتراب الثقافي (وأعنى به تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه) والآخرية (وأعنى بها إدراك الإنسان للأنسنية واستئثاره بها لنفسه أو لفريق بعينه، وعمله جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بها)، عقبتين كئودتين فى طريق الخلاص! وكون المفكر، فى كل زمان ومكان، مُطالباً بمناهضتهما، وإلا أصبح موصوماً بعار خيانة ما أتصوره واجباً مُقدساً، تفرضه مهنة الفكر على صاحبها، وتقتضيه القيم الإنسانية النبيلة!
الحاصل هو أن العديد من مفكري المجتمعات المتخلفة لا يرون تضاد مصالح الآخر المحلي والذات، نظراً لانسياقهم فى غمرة النضال فى سبيل الحرية، وضد استبداد الحكام ومؤسسات العنف ومحترفي التبرير الديني! إنهم لا يُقرون بفكرة أن الذات المغتربة فى حاجة لمن يحدوها نحو خلاصها، ويساعدها على قهر اغترابها الثقافي واستعادة حقها المشروع فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة..فى حاجة لمن يُعري أمامها الآخر المحلي ويُبرز تواطؤه المُخزي مع الآخر العالمي!
من جهة أخرى، يعتقد عدد كبير من الحالمين، ومن ذوي العبقرية أحياناً، بأنه يكفي إقناع الحكام بجور النظام القائم، من أجل توفير الحياة الكريمة والآمنة لمواطنيهم! بيد أن المحاولات الطيبة التي يقوم بها هؤلاء أو أولئك الأشخاص الكرماء ليست هي التي ستحرر المغتربين من اغترابهم أو هي التي ستُثني الآخر عن آخريته، بل النضال الثقافي الذي يؤججه المفكرون هو الذي سيفعل ذلك!
والأمر يختلف بطبيعة الحال، فى المجتمعات المتقدمة، إذ يرفل العديد من مفكريها، وهم كُثرُ فى غلائل الخيانة، بمهادنتهم، أو على الأقل تعاميهم، عن مؤازرة الآخر العالمي للآخرية (المحلية) فى المجتمعات المتخلفة، بزعم انتماء أبناء تلك المجتمعات لحضارة معادية، بحكم تكوينها، للحضارة التي تنتمي إليها المجتمعات المتقدمة! يحدث ذلك رغم تفاني هؤلاء المفكرين فى الذود عن حق أبناء حضارتهم فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، فضلاً عن تفانيهم فى مناهضة الآخرية العالمية إن هي نالت من مواطنيهم، وهو ما يصعب، بل يندر، حدوثه!
ليت مفكري المجتمعات المتقدمة يدركون أن بلادهم إن هي آزرت الذات المغتربة فى المجتمعات المتخلفة وساعدتها على التحرر من نير الاغتراب الثقافي وكذا على التحرر من إرهاب ورذالة الآخر المحلي، ستجتث بذور العداء المزعوم من تلك النفوس المعذبة، وستُمكن للسلام والرفاه الشاملين على الأرض!..ليتهم ينهضون لإغاثة رفاقهم فى رحلة الحياة!..ليتهم يتخلون عن اعتبارهم وحوشاً ضارية ومخلوقات دونية!..ليتهم يؤمنون أن في موعد النصر متسع للجميع!..
خيانة المفكرين وتعميق التخلف العربي:
لخيانة المفكرين تداعيات سلبية ووخيمة، على مجتمعاتنا العربية، بعضها مباشر والبعض الآخر غير مباشر، ولسوف أبدأ بالأخيرة! فالواضح أن المفكرين الغربيين ـ شئنا أم أبينا ـ فى غاية الحرص على التمكين للأنسنية فى مجتمعاتهم! والواضح أيضاً أنهم يهادنون، أو على الأقل يتعامون، عن مؤازرة الآخر الغربي/العالمي للآخرية العربية/المحلية، بزعم انتماء أبناء المجتمعات العربية لحضارة إسلامية معادية، بحكم بنيتها، للحضارة الغربية التي ينتمون إليها!
أقول إن لهذا الموقف اللأنسني، من جانب المفكرين الغربيين، تداعياته السلبية على مجتمعاتنا العربية، إذ أن الذات الغربية تتأثر كثيراً بهؤلاء المفكرين، فنراها تُصر ـ كما هو حاصل اليوم ـ على أن ترى نفسها من خلال الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، فى وقت تصلى فيه الذات العربية، نيران الآخر الغربي/العالمي(7)! ولهؤلاء الذين يقولون بسذاجة الذات الغربية ونقاء سريرتها، ويُبدون تفهماً لتأثرها غير المبرر بخيانة المفكرين الغربيين، وتورطها المُخزي فى إدامة الانتهاك الصارخ للطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، أقول: أليست هذه الذات الغربية هي نفسها التي تخرج إلى الشارع ثائرة ناقمة حال المساس بها وبمصالحها؟! أليست هي نفسها التي تدعم الآخر الغربي/العالمي، وتُفوضه عبر صناديق الاقتراع، ليمارس أعماله القذرة فى حق مجتمعاتنا؟!..
أعلم أن الآخر العربي/المحلي متواطيء، للأسف الشديد، مع الآخر الغربي/ العالمي، وأعلم كذلك أن الاغتراب الثقافي للكثيرين من أبناء عالمنا العربي يُحبب إليهم اغترابهم ويدفعهم إلى التعويل فى خلاصهم على اغترابهم الثقافي وعلى الآخر العربي المحسوب ظلماً عليهم! ـ أعلم كل هذا جيداً، ربما أكثر من غيري، ولكن هل يحق للذات الغربية أن تتأثر، بل وتُحاكي أيضاً، المفكرين الغربيين، فى تبرير الإدانة الخجولة فى بعض الأحيان لممارسات الآخر الغربي/ العالمي؟! وكيف يستقيم منطق كهذا ـ إن قُبل ـ مع إصرار الذات الغربية على رؤية نفسها من خلال الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوربية!
قارئي الكريم، أختم مقالي بتحليل بعض أهم التداعيات المباشرة لخيانة المفكرين على مجتمعاتنا العربية، ولسوف أركز على أمرين بعينهما، هما شيوع النقد الذاتي الزائف، وتضاؤل حظوظ الفكر الأنسني فى ربوعنا، باعتبارهما الأكثر أهمية فى هذا الصدد! إنهما يُسهمان بقوة ـ كما سنرى ـ فى تعميق التخلف العربي، إضافة إلى دورهما فى اعاقة الجهود الرامية لمناهضة هذا التخلف:
[1] شيوع النقد الذاتي الزائف: يقول جرامشي: "الواقع أن النقد الذاتي قد أثبت فى النهاية، أنه يتسع للخطب الرنانة والبيانات الفارغة"! ويقول أيضاً: "ينبغي أن يُطبق ـ يقصد النقد الذاتي ـ بجدية، أي ينبغي أن يكون فعالاً، لا يرحم، وتكمن فعاليته بالتحديد فى أنه لا يرحم"! يالها من كلمات مُعبرة، تشي بإيمان عميق بخطورة النقد الذاتي!
الحق أن خيانة المفكرين فى مجتمعاتنا العربية ألحقت بالنقد الذاتي ضرراً جسيماً، إذ لنا أن نتصور مصير النقد الذاتي فى مجتمع لا يُقر مفكروه بفكرة اغتراب الذات ثقافياً واحتياجها لمن يحدوها نحو خلاصها، ويساعدها على قهر اغترابها واستعادة حقها المشروع فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة! ولنا أن نتصور كذلك مصير النقد الذاتي فى مجتمع لا يُقر مفكروه بحاجة الذات المغتربة لمن يُعري أمامها الآخر المحلي، ويُبرز تواطؤه اللاأخلاقي مع الآخر العالمي!
فى مثل هذا المجتمع، تختلط الأوراق على نحو مُخيف ومُربك، ويتسع النقد الذاتي ـ بحسب جرامشي ـ للخطب الرنانة والبيانات الفارغة! وللقاريء الكريم أن يختبر مدى صدق محاجتي بسهولة، له مثلاً أن يشاهد التليفزيون فى أي قطر عربي، سيجد بلا شك تنويهاً ببرنامج يقدمه أحد أجرأ وأشهر المحاورين أو مقدمي البرامج! وثقتي كبيرة أن مشاهدة قارئي لقسط، ولو يسير، من هذا البرنامج، سيثبت له ـ هذا إن أخذ التفسير الأنسني لخيانة المفكرين فى الاعتبار ـ أن شهرة هؤلاء النقاد زائفة، وأن ما يقدمونه نقد زائف، لا يُسمن ولا يُغني من جوع..
خطورة مثل هذا النقد الزائف، انه كالأفيون، يُلقى بمن يتعاطاه فى آتون الوهم! فهو يُوهم الذات المغتربة أنها وجدت أخيراً من ينطق باسمها ويدافع عنها، وفي الوقت نفسه يمنح الآخر المحلي الفرصة لإبداء حرجه وتسامحه إزاء هذا النقد الزائف! يالله، ألم يجد هؤلاء سوى آلام وعذابات المغتربين، ليتاجروا بها؟!..
[2] تواضع حظوظ الفكر الأنسني: "انكفاء الإنسان على الماضي بوابة لهزائم شتى، فجمال صور الماضي الصامتة غير المتحركة يماثل روعة الخريف، عندما تظل الأوراق تلمع تحت السماء بفتنة ذهبية، رغم أن هبة من النسيم قد تُسقطها"! تلك كانت عبارة أوردتها فى صدر كتابي "مقالات فى الفكر الأنسني"، قصدت بها التعبير عن جاذبية فكرة الهروب إلى الماضي، وولع الكثير من المغتربين بها، رغم خطورتها وتعارضها مع ديمومة التطور والتغير، تلك السنة الكونية التى لا سبيل لانكارها أو تجاهلها!
فى مثل مجتمعاتنا المغتربة تروج فكرة الهروب إلى الماضي، ولا ينافسها فى شعبيتها بين المغتربين، سوى فكرة أخرى لا تقل عنها جاذبية وهى فكرة التقليد الأعمى للمجتمعات المتقدمة! ورواج الفكرتين على نحو ما نرى اليوم يعنى بالضرورة تواضع حظوظ الفكر الأنسني فى ربوعنا! والسؤال: من المسئول؟!
أقصد، من المسئول عن إيقاع الذات المغتربة بين خيارين أحلاهما مر: إما إنكفاء على الماضي، أو تقليد أعمى للمجتمعات المتقدمة؟! وقبل أن أجيب على هذا السؤال الشائك، ليسمح لى قارئي الكريم أن أكرر فقرة أوردتها فى سطور سابقة:
"الحاصل هو أن العديد من مفكري المجتمعات المتخلفة لا يرون تضاد مصالح الآخر المحلي والذات، نظراً لانسياقهم فى غمرة النضال فى سبيل الحرية، وضد استبداد الحكام ومؤسسات العنف ومحترفي التبرير الديني! إنهم لا يُقرون بفكرة أن الذات المغتربة فى حاجة لمن يحدوها نحو خلاصها، ويساعدها على قهر اغترابها الثقافي واستعادة حقها المشروع فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة..فى حاجة لمن يُعري أمامها الآخر المحلي ويُبرز تواطؤه المُخزي مع الآخر العالمي!"
خيانة المفكرين فى مجتمعاتنا العربية مسئولة إذن، إلى حد كبير، عن الزج بالذات فى هذا النفق المظلم، فلو أنهم أخذوا على عاتقهم مناهضة الاغتراب الثقافي والآخرية، خصوصاً المحلية، لكان الوضع أفضل مما هو عليه! ففى ظل الاغتراب اللعين لا تملك الذات المغتربة خياراً ثالثاُ، فالاغتراب الثقافي ظلام دامس، فى ظله يستطيع المغترب بالكاد أن يرى قدميه! والآخرية، خاصة المحلية، قيد ضيق، يستحيل على من يحيا فى هذا القيد أن يُحدث تطوراً أو تقدماً، إنه بالكاد يحيا! أغلب الظن، قارئي الكريم، أن الذات العربية بحاجة لمفكرين حقيقيين، يُعرون الآخر المحلى أمامها، ويحدونها نحو قهر إغترابها الثقافي صارخين فيها:
يا سجين الخوف لن نخسر إلا قيدنا!
الهوامش: ــــــــــ (1) راجع: روجر أوين، ترجمة حازم خيري، فى ذكرى رحيل زعيم الحركة الطلابية المصرية، مقال منشور على شبكة الانترنت. (2) على شريعتي، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، مسؤولية المثقف، (بيروت: دار الأمير، 2007)، ص 49. (3) للمزيد عن رؤية جرامشي للمفكر، راجع: أنطونيو جرامشي، ترجمة عادل غنيم، كراسات السجن، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994). (4) لم يطلع الكاتب حتى الآن على كتاب جوليان بيندا، خيانة المفكرين، واعتمد فى معلوماته عنه على المرجع التالي: إدوارد سعيد، ترجمة حسام الدين خضور، الآلهة التى تفشل دائماً، (بيروت: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2003). (5) راجع نص محاضرات ريث التى ألقاها إدوارد سعيد: المرجع نفسه. (6) راجع للكاتب: بناء الذات الأنسنية، مقال منشور على شبكة الانترنت. (7) راجع للكاتب: الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة، مقال منشور على شبكة الانتvرنت
المقالة الخامسة شهادة المُبدع الراحل نجيب سرور فى حق الآخر المصري(*)
"أغنيـاتي يا حزينة.. يا عصارات السنين، ستظلين سجينــة، طالما شعبي سجين!" نجيب سرور
قلنا ان أحداث هذه القصة تبدأ فى منتصف القرن العشرين..والحقيقة أنها تبدأ قبل ذلك بزمن طويل، بقرون تمتد فى الماضي السحيق إلى فجر التاريخ. ذلك لأنها قصة شعب قبل أن تكون قصة هؤلاء الثمانية الذين سنتحدث عنهم (1). إن كلا منهم يحمل في قلبه الكبير خلاصة هذا التاريخ الطويل المجيد المرير..الحافل بالهزائم والانتصارات..بالخيانات والبطولات..بالدموع والبسمات..فليس فى تاريخ الإنسانية جمعاء شعب امتحن بالطغيان ونكب بالسفاحين كما امتحن ونكب شعبنا المصري..والذى يلقي نظرة ـ ولو سريعة ـ على تاريخنا منذ بناء "الهرم الأكبر" حتى بناء "المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني" لا يملك إلا أن يتساءل فى دهشة: كيف تأتى لهذا الشعب أن يعيش إلى الآن بالرغم من أن عشرات القرون قد تحالفت على افنائه..على هدم كيانه..على اعدام كل مقومات الحياة فيه؟!.. إن هذا اللغز الذي يحير الجميع لا يشكل بالنسبة إلينا ـ نحن المصريين ـ لغزا..إن مفتاحه دفين فى صدورنا نحن..لا فى صدر أبي الهول..حيث اعتاد أن يبحث عنه المؤرخون والسائحون!..إننا نعرف مدى حب شعبنا للحياة..مدى شوقه إلى الحرية..مدى إصراره على البقاء..ومدى طموحه إلى المستقبل..!! يقولون إنه شعب صبور..أجل نعرف ذلك..ولكنه صبر التربص لا صبر الاستسلام..إن البركان يلوح للنظرة السطحية هادئا بينما يغلي فى داخله التنور متأهبا فى أية لحظة للانفجار..ليكشف عن جوهره النارى الملتهب!! لا..لم يركع شعبي أبدا.. لم يستسلم.. أبدا..أبدا..لم يستسلم.. فلكم حمل النير..تألم.. كان كتوما..كالبركان.. يطوى فى الصدر التنور.. ثم يثور... ذلك لغز شعبنا..اللغز الذى لم يستطع أعداء شعبنا أن يحلوا رموزه. ومن هنا يفاجأون دائما بما فى جوف البركان الهاديء..من حمم..ويذهبون بحيرتهم..وبخيبتهم ويبقى شعبنا شامخا فى كبرياء! إن سر انتصار هذا الشعب ـ يقصد الشعب المصري ـ على أعدائه..هو أنه استطاع دائما أن يخفي عنهم سره..أن يخدعهم..أن يرخي لهم الحبل حتى يشنقوا أنفسهم..أما الفترات التى يسمونها فترات الهزيمة..فلم تكن فى الواقع إلا فترات التربص والاستعداد والتأهب للانتصار القادم..!! والغريب أن الأعداء اللاحقين كانوا دائما يرفضون أن يتعلموا من تجربة الأعداء السابقين..لأن الطغاة لا يحاولون فقط أن ينسوا التاريخ..بل ويصرون على طمسه..لأن التاريخ يحدثهم عن معدن الشعب الذى يريدون قهره..وعن المصير الذى ينتظر من يريد قهره! إنهم يريدون أن يعتقدوا بأنهم ـ لا الشعب ـ صانعو التاريخ..صانعوا المعجزات..! ذلك ـ مثلا ـ ما يعتقده جمال عبد الناصر..حين يقول فى كتابه فلسفة الثورة (2): "وان ظروف التاريخ أيضا مليئة بأدوار البطولة المجيدة التى لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل إلى دائما أن فى هذه المنطقة التى نعيش فيها دورا هائما على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يخيل الي أن هذا الدور الذي أرهقه التجوال فى المنطقه الواسعة الممتدة فى كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعبا منهوك القوى على حدود بلادنا يشير الينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدى ملابسه فان أحدا غيرنا لا يستطيع القيام به"... ذلك نموذج للفهم الزائف للبطولة..نموذج للفردية..للميول الفاشية..لاحتقار الشعب..فليس خافيا أن عبد الناصر لا يقصد الشعب المصري حين يقول "ان أحدا غيرنا لا يستطيع القيام به"..وما كان يستطيع ـ حتى لو أراد ـ أن يقصد ذلك..فليست للشعب المصري مطامع توسعية فى المنطقة..التى يحددها عبد الناصر بالدائرتين العربية والأفريقية..إنما يعود الضمير هنا على عبد الناصر نفسه..وعصابته..ومن ورائهم البورجوازية المصرية الكبيرة!..وما سقنا هذه الفقرة إلا لأنها تشكل حجر الأساس فى البناء الاشتراكي الديمقراطي التعاوني.. وحين تكون تلك الميول الفاشية نقطة الانطلاق إلى هذا البناء..يكون من الطبيعي والمنطقي للغاية أن سجون الواحات والمحاريق والفيوم والقناطر وغيرها أعمدة هذا البناء!!..وحين تكون النظرة الفردية للتاريخ هي نقطة الانطلاق إلى العمل..تصبح الميول التوسعية أمرا منطقيا كذلك..ويحدث التطابق بين "الدور" الذي يتحدث عنه عبد الناصر و"الدور" الذي يتحدث عنه هتلر فى كتابه كفاحي(3): "على الشعب الألماني فى تطلعه إلى المستقبل أن يعتبر بلاده دولة عظمى مدعوة إلى تمثيل دورها على المسرح العالمي"!..ويصبح قمع الشعب وقهره وارهابه وخنقه قاعدة القواعد التى تُسير جهاز الدولة "العظمى". وقبل أن نعرض نماذج للبطولة الشعبية الحقيقية فى مقابل تلك البطولة الفردية الزائفة..دعونا نر صورة الشعب المصري من خلال منظار عبد الناصر لنضع فى مقابلها أيضا..الصورة الحقيقية. انه يتهم شعبنا بالسلبية واللامبالاة فى كتابه المذكور (4): "لقد كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة، وأنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور، فتندفع الأمة وراءها صفوفا متراصة منتظمة تزحف زحفا مقدسا إلى الهدف الكبير...ثم فاجأني الواقع بعد 23 يوليو...ولقد قلت وسأظل أقول ان تلك كانت أقسى مفاجأة فى حياتي".. فبدلا من أن يعترف هتلر الثاني بأنه لم يكن على اتصال بالجماهير..وبالطابع الفردي الانعزالي غير الشعبي لحركته..نراه يتهم شعبنا بالسلبية واللامبالاة!..إن التفاف الجماهير حول حركة ما "يستلزم ـ كما يقول لينين ـ قيام هذه الجماهير نفسها بتجربتها السياسية..ذلك هو القانون الأساسي لجميع الثورات الكبيرة"..ويقول لينين أيضا "من الواجب دائما أخذ حالة الجماهير النفسية بعين الاعتبار مهما كانت هذه الحالة متخلفة وعدم النقمة على الجماهير بتاتا"..إن الذى لا يتصل بالجماهير ولا يشرح لها حركته يحكم "على نفسه بالعزلة والجمود"..ولكن ما يسميه عبد الناصر سلبية ولامبالاة هو فى الواقع حذر أملاه ذكاء هذا الشعب وخبرته الطويلة الغنية..وتجاربه المريره..حذر مما تميزت به خطوات القائمين بالانقلاب من تردد ومساومة للأحزاب الرجعية ثم ملابسات اشتراط أمريكا سلامة حياة فاروق، ووجود السفير الأمريكي أثناء رحيل الملك السابق، ثم دور على ماهر الصنيعة الأمريكية الذى طبلت له صحف أمريكا يومها..مما أثار الشبهات حول طبيعة الانقلاب..! ولما فشل عبد الناصر فى الاتفاق مع الأحزاب الرجعية اضطر الى الاتجاه إلى الشعب ـ ولكن فى حذر وخوف من الشعب وعدم ايمان به ـ محاولا أن يخلق لنفسه بطريقة صناعية قاعدة شعبية يستند اليها لاحساسه بأنه لايستطيع أن يقف وحده..فكان مشروع "هيئة التحرير" ومشروع "منظمات الشباب" (5).. ولكن الشعب ـ الحذر ـ رفض هذين المشروعين فتحولا إلى أضحوكة وأنتهيا إلى الخيبة والفشل رغم كل المحاولات المستميتة لجذب الجماهير إليهما، بل والضغط عليها بكل الوسائل. ذلك أن الشكوك كانت ما تزال تحيط بالقائمين بالانقلاب، وظلت هذه الشكوك طوال ما قبل صفقة الأسلحة التشيكية، ثم بدأ عبد الناصر يلتزم سياسة استقلالية واضحة ولذلك بدأ الشعب يلتف حوله..وتم الالتفاف بتأميم قناة السويس..فى تلك اللحظة تشكلت وراء عبد الناصر قاعدة شعبية..جبهة وطنية رائعة تدعم هذه السياسة وتحمي هذا الاتجاه وتطالب بمزيد من الجرأة والحزم..كان اتحادا قوميا فعليا ـ لا مزيفا ـ ضد الاستعمار والرجعية..اتحاد جماهير الشعب العريضة: العمال والفلاحين والمثقفين. ولكن عبد الناصر عاد فتنكر للسياسة الاستقلالية التحررية..وأعلن أن المعركة مع الاستعمار قد انتهت وأن المعركة مع الشيوعية قد بدأت..ومضى يخرب الجبهة الوطنية فانفضت الجماهير عنه..ومرة ثانية بقي عبد الناصر بلا قاعدة شعبية..بقي وحده..إلا من المباحث (6)!! تلك هي الخطوط العريضة لقصة عبد الناصر مع الشعب..وقصة الشعب مع عبد الناصر..تبرهن بما لايدع مجالا للشك على أن شعبنا يقظ..حذر..لماح..يُقدم حين يجب الاقدام ويُحجم حين يجب الاحجام..انه لا يخيب آمال المؤمنين به..وتلك الخصائص الايجابية المبهجة يسميها عبد الناصر سلبية ولامبالاة. بقيت بعض الملامح لصورة الشعب المصري كما يتخيلها عبد الناصر بعد قيامه بالانقلاب (7): "ولو أن أحدا سألني فى تلك الأيام، ما أعز أمانيك؟ لقلت له على الفور: ـ أن أسمع مصريا يقول كلمة انصاف فى حق مصري آخر. وأن أحس أن مصريا قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لاخوانه المصريين. وأن أرى مصريا لايكرس وقته لتسفيه آراء مصري آخر..وكانت هناك بعد ذلك كله أنانية فردية مستحكمة..كانت كلمة (أنا) على كل لسان...". نسي عبد الناصر تاريخ مصر.. لن نقول منذ غزو الهكسوس أو الفرس أو الرومان أو الأتراك أو الفرنسيين..فقط سنقول منذ عام 1882..نسي ثورة عرابي..وثورة 1919 ..والانتفاضات التى لم تتوقف منذ ثورة 1919 حتى أواخر النصف الثاني من القرن العشرين..ثم معركة القنال..ثم معركة بورسعيد..انتفاضات العمال والطلبة والفلاحين الذين نعرف نظرة عبد الناصر إليهم ـ كما تقول مجلة الثقافة الوطنية فى عدد تموز/ آب 1959ـ: "من مذبحة كفر الدوار (8)، ومن قانون كمال الدين حسين، وزير المعارف، الذي حدد عدد الطلاب فى الجامعات، فرفضه مجلس الأمة لما أثاره من استنكار شعبي، فأعاده عبد الناصر مرة ثانية للمجلس الذى اُخطر للموافقة عليه تحت الضغط الشديد!..نعرف هذه النظرة من ملء مكاتب النقابات العمالية بالجواسيس ورجال المباحث، والغاء حق الاضراب للعمال..بل اننا نعرف ذلك من مراسل الأسوشيتدبرس (ولتون وين) الصديق الصدوق لعبد الناصر، الذى يذكر كيف عالج عبد الناصر مظاهرات الطلاب والعمال بطريقة فذة فريدة تقضي بسجن المتظاهرين وقمع أعمال الشغب بالحديد والنار ويسمي هذه الطريقة بـ(طريقة عبد الناصر)"... ولكن لا..لسنا فى حاجة إلى العودة إلى التاريخ المصري القديم أو تاريخ القرن التاسع عشر..أو النصف الأول من القرن العشرين لنعطى الصورة الحقيقية لشعبنا البطل..يكفى أن نعرض نماذج ثمانية لبطولة شعبنا فى ظل حكم عبد الناصر الارهابي الرجعي..فى خمسينيات النصف الثاني من القرن العشرين.. إن أولئك الذين سقطوا فى النضال الشريف العادل لدحض الاكذوبة الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، انما يضربون أروع مثل فى التضحية..والفداء..فلندعهم يدحضون ما يتهم به عبد الناصر شعبنا من فردية وأنانية وحب ذات..إنا لنسمع أبطالنا يصدحون فى قبورهم بأغنية الايثار وانكار الذات (**): إذا لم أحترق أنا.. وإذا لم تحترق أنت.. وإذا لم نحترق نحن.. فمن إذن.. يجلو الظلمات!!
ـ1ـ محمد عثمان
في أواخر مارس 1959..ربما في نفس اللحظة التى كان فيها صوت عبد الناصر ينطلق من المذياع مؤكدا أنه يبني..مجتمعا متحررا من الخوف..وربما فى نفس اللحظة التى بدأت فيها أبواق عبد الناصر تبشر بالمجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني..مجتمع الرفاهية والعدل والرخاء..مجتمع يضمن للانسان الأمن والطمأنينة..طمأنينة على نفسه..وعلى روحه..وعلى فكره..وعلى حريته..إلخ.. وربما فى نفس اللحظة التى وصلت فيها بعثة من واشنطن أو بون..وبدأت محاولات الغزل مع حسين أو سعود..ويوجين بلاك.. انطلقت من مكتب المباحث العامة بطنطا عربة مقفلة..ووقفت أمام أحد المنازل المتواضعة..ونزل منها زبانية عبد الناصر..لم يرهم أحد..لأنهم اعتادوا أن ينطلقوا بعد الغروب..وراء ظهر الملايين. لم يكن القاطن فى ذلك البيت الصغير المتواضع النائم في ظلامين..ظلام الليل وظلام العهد!..مجرما يسفك الدماء..ولم يكن جاسوسا عميلا لدولة أجنبية..وانما كان موظفا بسيطا..عضوا فى الحزب الشيوعي المصري ومناضلا من أجل تحرر الطبقة العاملة المصرية. وفي اللقاء بين الزبانية وبين محمد عثمان..إلتقت فى الواقع: طبقتان.. أنظر إليهما.. نحن.. وهم.. نحن عزل.. وهم مدججون بالخناجر.. لدينا الأظافر فقط.. النضال..النضال.. النضال حتى النفس الأخير.. سنمزق أيديهم.. بأسنانا.. والخنجر الحاد.. مغروس في ضلوعنا! وانتزعته العربة المقفلة من والديه الكهلين وأخيه الصغير..وانطلقت العربه المقفلة على محمد عثمان عائدة إلى مكتب المباحث العامة..ومرة أخرى لم يرهم أحد..ولم يشعر أحد بالتنور الذي يغلي فى جوف البركان..بالصراع العنيد الذي يدور..بعيدا عن الأنظار.. وهناك فى القبو المظلم..أشرف الصاغ أنور منصور مفتش المباحث العامة فى طنطا..على عملية تعذيب محمد عثمان..أجل طبقتان..وجها لوجه..فى يد احداهما كل وسائل القمع والتنكيل وفي يد الأخرى كل الثقة وكل الايمان بعدالة قضيتها وشرف نضالها وحتمية النصر!!.. ماذا في وسع الجستابو لشيوعي.. فوق التعذيب الوحشي.. فوق الكي.. أو صب الماء المغلي.. بعد البارد والبارد بعد المغلي.. ماذا فى وسع الجستابو لشيوعي.. غير الموت!.. لم تكن تلك أول مرة يعتقل فيها محمد عثمان ـ فلقد اعتقل وسجن وعذب فى عهد الملك السابق فاروق ـ ولكنها كانت آخر مرة..فقد مات محمد عثمان فى الثاني من أبريل 1959 عن اثنين وثلاثين عاما: لا داعي للدموع ولا للأكاليل.. ولا لغيرها.. يا أصدقاء.. لا داعي..ولا لكلمة.. حتى لا توقظوا البطل!!.. بقيت مسألة..ربما تضيف شيئا..انها لا تضيف شيئا..فقد اشترك الصاغ أنور منصور فى الكثير من عمليات التعذيب الوحشي التى تتنكر لكل الاعتبارات الانسانية..فهو نفسه الذي قص شعر المعتقلة إيفون حبش..وتجاوز ذلك إلى التنكيل بأهالي المعتقلين..دون أن يردعه أي عرف أخلاقي..ودون أن يحترم حتى شيخوخة نصيف ناشد الذي يحمل على كتفيه خمسا وستين عاما..وهو والد المعتقل الشيوعي عريان نصيف ناشد.. ولم تقف وحشية المباحث الناصرية عند حد قتل الشهيد محمد عثمان..بل اعتقلت شقيقه حسن عثمان..ومارست معه شعائر التعذيب المميت فى ليمان أبي زعبل..حتى أشرف على الموت..فنقل إلى مستشفى المنيل الجامعي..ثم استمر اعتقاله!! وبقي من عائلة عثمان..والدان كهلان..وأخ صغير!.. ويلهم..ذوي الأيدي الملطخة بالدم.. أيها الأصدقاء.. إذا ما لامستموهم صدفة.. ـ2ـ مصطفى شوقي
بدأت الحادثة فى طنطا أيضا..قلب الدلتا.. والضحية هذه المرة مصطفى شوقي..طالب بمعهد السكرتارية..كان مجندا فى القوات المسلحة وعضوا فى الحزب الشيوعي المصري.. كان قد وهب نفسه للطبقة العاملة..ولذلك انقضت على منزله..ربما نفس العربة.. ولابد أن سنواته الاثنين والعشرين تمثلت أمامه فى عتمة الصندوق المغلق وهم ينقلونه إلى السجن الحربي فى الاسكندرية..ثم إلى المخابرات العسكرية..إلى قبو التعذيب.. "أربعة وعشرون ساعة فى اليوم ـ لينين.. أربعة وعشرون ساعة ـ ماركس.. أربعة وعشرون ساعة ـ انجلز.. مائة جرام من الخبز الأسود..فى اليوم وعشرون طنا من الكتب.. وعشرون دقيقة للراحة.. يالها من أيام..أوه.. ..لم يكن أجمل منها يا رفيقي" ومرة ثانية التقت طبقتان..وجها لوجه.. وتفتقت قريحة المباحث عن وسائل للتعذيب تتضاءل أمامها وحشية الرومان مع المسيحيين الأول..ويتواضع أمام بشاعتها رجال الجستابو الهتلري.. فقد ربطوه بمؤخرة سيارة جيب قامت بسحله على الأرض.. بكل قواك تنفس ولتعش الثورة.. فى رأسك.. في قلبك.. فى عضلاتك.. في عظامك.. الثورة.. ليلا.. ونهارا.. وفي أوائل يونيو 1959..ربما فى نفس اللحظة التى يولد فيها طفل، وتتفتح فيها زهرة، وتخرج فراشة لتستحم فى الشمس..فارق مصطفى شوقي الحياة.. وبينما كان يطبل المذياع، وتهلل الصحف، وتذمر الأبواق للبطل الزائف..كان البطل الحقيقي يسقط على أرض المعركة في صمت! وإذا كان ثمة رعد.. فى الأرض أو السموات.. أكثر دويا من هذا الصمت.. فليرعد!
ـ3ـ فريد حداد
بدأ العمل.. وأنهاه.. وحين بدأ..لم ينفخ النفير.. وحين أنهاه..لم يصرخ: لم يقل: "انظروا جميعا..ما فعلت.." إنه على الأرض..واحد من ملايين..!! فى الواقع كان يوما حافلا بالعمل..قضاه الطبيب فريد حداد بين عيادته فى مصر الجديدة وعيادته فى شبرا.. لم تكن مهنة الطب بالنسبة إليه تجارة..ولا جزارة..كما هي بالنسبة لكثيرين..فاليوم فقط كشف على كثير من العمال..والفقراء..واللاجئين الفلسطينيين..مجانا..وصرف لبعضهم من جيبه ـ كالعادة ـ ثمن الدواء!! كان يؤمن في أعماقه بأن العلاج حق للجميع يجب أن تكفله الدولة..كان يعرف أن فى العالم دولا تكفل لمواطنيها العلاج المجاني..وكان يناضل ـ فى صمت ـ من أجل أن تكون فى مصر تلك الدولة..دولة العمال والفلاحين..أجل كان عضوا فى الحزب الشيوعي المصري!... وخرج ذلك المساء من عيادته..مجهدا..ولكنه كان راضيا..رضى الانسان حين يشعر أنه يفعل فى يومه شيئا..وأنه غدا سيفعل شيئا أكثر..وبعد غد..! وفي الطريق كان يفكر فى زوجته إيدا..وفى أكباده الثلاثة.. ولابد أنه تبسم لنادرة من نوادر وديع..ابنه الأكبر..الذى لم يتجاوز العاشرة..أو سامي الذى لم يتجاوز السابعة..أو منى الصغيرة..الزهرة التى تتفتح على السنة الخامسة من عمرها!! ما أجمل أن يعود الانسان إلى أسرته..وعرق العمل لم يجف على جبهته..إن بسمة الأطفال تمسح قطرات العرق..وتُذهب التعب..وتُجدد فى النفس القدرة على العمل..!! فى تلك الليلة الباردة من ليالي نوفمبر، دخل فريد حداد منزله..وانفتحت العربة المقفلة المتربصة على الناصية..وانقض الزبانية عليه ونقلوه إلى معتقل القلعة..!! وهناك بدأت الشعائر الاستجواب والتعذيب..ثم نُقل إلى أوردي ليمان أبي زعبل... ومنذ أول يناير 1959، كان نزلاء الليمان من القتلة والمجرمين وقطاع الطرق قد رُحلوا إلى سجون أخرى..ولم يكن ذلك لأن قنبلة قد أُلقيت على الليمان كما حدث ـ مثلا ـ أثناء العدوان الثلاثي، ولكن لأن موجة الاعتقالات الواسعة التى بدأت حينذاك اقتضت اخلاء عنابر الليمان من نزلائه القدامى لتستقبل أمواج المعتقلين..وكان المعتقلون يمثلون جميع فئات الشعب المصري..كان فيهم الكتاب والصحفيون والناشرون والمحامون والمدرسون والنقابيون والعمال والطلبة والفلاحون..نفس الفئات التى وقفت فى عام 1956 جبهة وطنية رائعة فى وجه العدوان الثلاثي!!.. ووصلت دفعة فريد حداد إلى الليمان يوم 28 نوفمبر وكانت تتكون منه، ومن عبد الله الزغبي وأحمد عبد العال المحاميان، وسعد الطويل المهندس، وأحمد الجبالي العامل النقابي، ونسيم يوسف الموظف باحدى الشركات، وأنور نعمان طالب الطب.. وكان الاستقبال "حارا"..ولكن على طريقة الجستابو.. جُرد الجميع من ملابسهم تماما..وانهال الضرب بالهراوات..على كل مكان فى أجسامهم..على الرؤوس..والرقاب والصدور..أما المشرفون على هذه "العملية الجراحية"، فهم الضباط حسن منير ويونس مرعي و ... اسحق والصول أحمد مطاوع.. وطُلب من فريد أن يهتف بسقوط الشيوعية ورفض.. وراح يونس مرعي يوليه عناية خاصة..ويركز ضرباته على الرأس..وفقد فريد حداد وعيه كما فقده آخرون، ولكن مواصلة الضرب هي المنبه الوحيد لدى الجستابو..لمن يفقد الوعي!! ونُقل الجميع نصف موتى إلى الليمان..وهناك أُعيدت الشعائر!!..مرة ثالثة..ثم كُدسوا فى زنزانات 2.5×2 متر.. وفي الزنزانة فارق فريد حداد الحياة.. وقال طبيب السجن.. وهو يغطي وجه الراقد.. برداء المساجين.. "انتهى" فألقوا بالجثة العارية في فناء الأوردي ساعات طويلة..ثم حرر الطبيب الأوردي "الدكتور أحمد كمال" شهادة طبية مزيفة، قرر فيها أن فريد حداد مات بالسكتة القلبية..ووُضعت الجثة المشوهة من جراء التعذيب فى نعش..وخُتم عليها بالشمع الأحمر..وسُلمت إلى زوجته فى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل مع أمر بدفن الجثة على الفور.. وطلب أهل الشهيد اجراء عملية تشريح للجثة..ولكن المباحث العامة رفضت إجراء العملية لأن طبيب السجن قال إنه مات بالسكتة القلبية..!! كانت رأسه رائعة وقلبه أصيلا.. وعيناه نقيتين كعيني طفل.. وعقله عميقا.. ونظرته..مرحة..فى طفولة.. أما قبضته..فبدا أنها تنضم على عاصفة.. وخرجت جريدة الأهرام صباح 30/11/1959 وعلى صفحة الوفيات النعي التالي: "إيدا وأولادها وعائلات حداد وكاري وحنا بمصر والأردن ولبنان ينعون بمزيد الحزن والأسى المأسوف على شبابه الدكتور فريد وديع حداد زوجها ووالدهم وشقيقهم وقريب ونسيب الباقين المنتقل إلى الأمجاد السماوية صباح الأحد 29 نوفمبر 1959"... فى موت فريد تتمثل الوحدة الحقيقية لا المزيفة..وحدة النضال ضد الاستعمار والرجعية.. كان مناضلا.. وصديق القلب.. فليبتهج الأعداء.. أما الأصدقاء فليظلوا فى الصف.. إيه يا رفيقي.. سنبكي معا مرة ثانية.. على برقية..جاءت ليلا!!..
ـ4ـ سعد التركي
كان مثلي..كان مثلك.. مثل كل الناس من لحم ودم.. مثلما نبسم للطفل حنانا.. كان يبسم.. مثلما نألم للوخزة..للخدشة.. يألم.. مثلما نهوى الحياة.. كان يهواها.. كان يهواها سعد التركي ـ الموظف البسيط بمجلس مديرية بني سويف وعضو الحزب الشيوعي المصري.. كان يهواها..لا لأنه يكره الموت..وانما لأنه لا يؤمن به.. الحياة أرجح فى الميزان العالم واسع.. انه رائع.. وهائل.. وشطآن البحار.. لانهائية.. لدرجة أنه فى امكاننا جميعا.. كل مساء.. أن نستلقي جنبا إلى جنب.. على الرمال الدافئة.. ونصيخ إلى هدير المياه تحت الأرض.. وننصت إلى أغنيات الأمواج.. المرصعة بالنجوم.. يالها من شيء رائع.. أن نعيش.. فرادى.. ومعا.. نعيش كنسيج غلالة حريرية.. وكما فى قصيدة بهيجة.. نقرأها كورسا.. .......... الحياة..كم هي في الواقع رائعة.. ولكن من الغريب.. انها ذلك الشيء الجميل.. لدرجة لا تُصدق.. اليوم.. متعبة إلى هذا الحد.. وضيقة إلى هذا الحد.. وشاقة إلى هذا الحد.. ودامية إلى هذا الحد.. ففي أول يناير 1959 انقض عليه زبانية عبد الناصر..أعداء الحياة.. أعداؤك.. وأعدائي.. أعداء كل انسان يفكر، أعداء الوطن الذي يعيشون فيه.. أعداؤه يا حبيبتي.. انهم أعداء آمالنا..ياحبيبتي.. أعداء الماء المتدفق.. أعداء الخمائل المزهرة.. والحياة النامية.. إنهم أعداء.. لأن الموت طبع خاتمه على جباههم.. لقد حملوه إلى المعتقل..وبدأت مراسيم الضرب والكي والنفخ وخلع الأظافر.. هناك فى الطرقه.. إنسان على نقاله.. وظل القضبان، على وجهه الكابي.. إنه يموت هناك.. مفتوح الفم.. فأفرجوا عنه..وخرج من المعتقل محمولا..ليموت بعدها بقليل فى 31 ديسمبر 1959 عن ثلاثة وثلاثين عاما: انتهى..لا آمال منذ الآن.. ولا حزن، ولا ماء، ولا خبز.. ولا حرية، ولا أسر.. ولا شوق إلى النساء.. ولا سجان، ولا بق، ولا قطط تقبع قبالته.. بالساعات.. محدقة فى عينيه.. كل ذلك انتهى.. أما بالنسبة إلينا فهو مستمر.. العقل يواصل.. التفكير.. والحب.. والفهم.. ويستمر السخط.. لأنه أبدي.. ينهش الكبد.. كل صباح! ولكن السفاحين لم يكتفوا بذلك..فقد اعتقلوا شقيقه الوحيد صلاح التركي المدرس بالمدرسة الثانوية ببني سويف..ومازال معتقلا حتى الآن فى أوردي ليمان أبي زعبل..يتلقى المراسيم اليومية على أيدي المباحث النجسة: أيها الأصدقاء.. إذا ما لامستموا أجسامهم صدفة.. أسرعوا بغسل أيديكم.. فى سبع "طشوت" من الماء.. ولا تشفقوا على ثياب العيد الجميلة.. مزقوها إربا.. واجعلوا منها "منشفة"!
ـ5ـ علي متولي الديب إن ملولي الحي.. هؤلاء المسمرين فى سررهم.. ينظرون إلى ماوراء النوافذ فتح عينيه ـ منذ الصغر ـ فرأى كيف يبيع العمال قوة عملهم فى سوق الرقيق بسعر التراب..ورأى الجوع..والعري..والهزال..والمرض..على الوجوه القمحية الكابية..ورأى العروق النافرة فى الأذرع الجافة الخشنة..ورأى البسمات ماتت في الأعين الساخطة منذ زمن طويل..ورأى الأقبية المظلمة والكهوف الرطبة الغائرة والسراديب اللزجة التى التى يعيش فيها العمال..ورأى الطفولة تُساق إلى أشق الأعمال فى سن التاسعة..ورأى البطالة، ذلك الغول الذى يزحف إلى كل أسرة ليخطف من فم الأطفال حتى اللقمة الجافة، ويتركها فريسة للجوع والعجز دون أى ضمانات..ورأى يوم العمل الذي يمتد من 12 إلى 16 ساعة بأجور زهيدة، بل واسمية..ورأى الأطفال والنساء يتقاضون نصف الأجور على نفس العمل الذي يقوم به الرجال.. رأى كل ذلك لأنه ابن الطبقة العاملة المصرية..ومن قلب شبرا الخيمة..حى العمال بالقاهرة..ولذلك أدرك: انهم يريدون أن نبيع لهم بلا ثمن.. إلى أن يبرد جوف الأرض.. نور أفكارنا.. وقوتنا العضلية لكي ترقص زوجاتنا أمام أعينهم! إنهم يريدون.. أن نقضي نحن الليالي.. تحت جسور الأنهار عندما يلف الضباب عيوننا.. وتبطء حركة الدم فى عروقنا.. ونبدأ فى التنفس.. كالأسماك على الرمل! ومن ثم اختار عامل النسيج على متولي الديب طريق النضال من أجل الطبقة العاملة ضد أولئك الذين يمتصون دماءها قطرة قطرة، بل جالونا جالونا..النضال من أجل تحررها..من أجل خلاصها..من أجل القضاء على نظام الطبقات، حيث يستغل الانسان عمل أخيه الانسان، وحيث تكدح الأغلبية الساحقة لتضمن الرفاهية للأقلية الهزيلة.. مجتمع..بلا جوع..بلا عرى..بلا مرض..بلا بطالة..مجتمع يأكل فيه من يعمل..ولا يأكل من لا يعمل..مجتمع يضمن للأطفال أن يعيشوا طفولتهم..يلعبون ويمرحون..وينعمون باللعب..والشيكولاته..ولا يُكدسون في العربات كقطيع من الحملان..ليمتص طفولتهم دخان المصانع.. وعرف أن الحزب هو الدليل إلى المستقبل..هو الحادي لخطى الملايين المتطلعة إلى الخلاص..هو الطليعة التى تقود الزحف..فأصبح عضوا فى الحزب الشيوعي المصري، كما أصبح عضوا لمجلس إدارة نقابة عمال النسيج الميكانيكي بشبرا الخيمة..ومن أبرز الشخصيات النقابية في الحي.. وراح متولي الديب يخطو بثبات..بعناد..باصرار..على الطريق إلى المستقبل المنشود.. يسير.. بجبهة مرفوعة إلى السماء.. وتلفيعة حمراء ترفرف فى الهواء كما علم.. يسير خطوة بعد خطوة.. يتقدم بقوة ورسوخ.. يسير.. والريح يهدر كالبحر.. والبحر يهدر كالريح.. الهواء محمل بالعاصفة.. وتسيل من الجانبين خيوط الضوء.. كما لو كانت النجوم تتهاوى.. وتدوي أصوات من الأعماق.. من زوايا القلب البعيدة: ـ إلى أين تذهب ياطفلي؟ ـ عد يابني.. ـ عد ياحبيبي.. ـ عد ياأخي.. ـ عد ياعائل الأسرة ـ إرجع إلينا! أجل..لم يثن على الديب عن النضال كونه العائل الوحيد لأسرته..لأمه العجوز..وزوجه..وأبنائه الأربعة..كان يعلم حين انطلق فى طريقه الأخطار التى تنتظره..كان يدرك جيدا أن قطاع الطرق ـ المباحث ـ يقبعون هناك فى المنعطفات..ولكنه مضى..وكان يشعر كلما حث المسير بأنه يقترب أكثر ـ ولا يبتعد ـ من أسرته..لأنه يقترب من خلاص الطبقة العاملة..من الفجر الجديد..لذلك..كان يسير: يسير أبدا.. شجاعا، وحانقا.. يسير مترنما بلحن الموت.. يسير متهاديا..كسفينة.. وانقض القراصنة من كل جانب..فى مارس 1959..وقطعوا عليه الطريق..وحملوه إلى معتقل الفيوم ثم إلى أوردي ليمان أبي زعبل..وتحت وطأة التعذيب..مرض على الديب..فتُرك حتى فقد القدرة على النطق..ثم نُقل إلى المستشفى..بقايا انسان..ليموت فى 3 يناير 1960 فى الثانية والثلاثين من عمره.. لا..لم يمت على الديب.. فهو فى صدري وصدرك.. هو فى قلبي وقلبك..
ـ6ـ شهدي عطية
"..لنا منهج واضح فى هذه الدراسة، منهج علمي قوامه أن تاريخ التطور الاجتماعي، هو، أولا وقبل كل شيء، تاريخ الشعوب. وأن التاريخ لا يمكن أن يكون علما حقا، إذا قصر نفسه على دراسة أعمال الملوك وقواد الجيوش، وأخبار الغزاة، وتفاصيل المفاوضات والمعاهدات". انطلقت هذه الكلمات (9)، وأجراس النصر ماتزال أصداؤها تدوي فى سماء مصر، بعد اندحار الثالوث الوحشي ـ إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ـ فى معركة بورسعيد الخالدة. انطلقت ودماء الشهداء ما تزال لزجة دافئة على أرض المعركة..لم تبرد..ولم تجف. انطلقت وغبار المعركة مازال يلف جبهة العمال والفلاحين والمثقفين.. الكتاب هو "تطور الحركة الوطنية المصرية 1882ـ1956"... والمؤلف هو "شهدي عطية الشافعي"... وقبل ذلك بسنوات..كان قد صدر كتاب آخر، جاء فيه(10): "..ان ظروف التاريخ أيضا مليئة بأدوار البطولة المجيدة التى لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل إلى دائما أن فى هذه المنطقة التى نعيش فيها دورا هائما على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يُخيل الي أن هذا الدور الذي أرهقه التجوال فى المنطقه الواسعة الممتدة فى كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعبا منهوك القوى على حدود بلادنا يشير الينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدى ملابسه فان أحدا غيرنا لا يستطيع القيام به"..!! والكتاب هو "فلسفة الثورة"... والمؤلف هو "عبد الناصر"... لدى شهدى إيمان بالشعب..إيمان بأن الجماهير هي التى تصنع التاريخ، ولدى عبد الناصر إيمان بالفرد..إيمان بأن الأبطال هم الذين يصنعون التاريخ!!.. لدى شهدي مفهوم علمي ناضج للتاريخ.. ولدى عبد الناصر مفهوم فردي..فاشي..مريض.. لدى شهدي المفهوم الذي يصنع أبطالا من طراز تيلمان وفوتشيك وفهد وفرج الله الحلو وديمتروف..يفتدون شعوبهم بالدم..! ولدى عبد الناصر مفهوم يفرخ السفاحين من أمثال هتلر وموسوليني وفرانكو..إلخ..يُغرقون شعوبهم فى بحار من الدم..!!! يقول عبد الناصر(11): "إن كل فرد منا يستطيع فى مكانه أن يصنع معجزة..إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوار بطولة مجيدة قاموا بها فى ظروف حاسمة على مسرحه". ويقول هتلر فى كتابه كفاحي: "إن الأمم لا تنجب رجل دولة إلا فى الأيام المباركة، وما أقلها..ولا ننسى كذلك أن كل ما حققته عبقرية الإنسانية منذ أن كان عالمنا هذا عالما، كان من صنع الأفراد". ويقول شهدى عطية (12): "نعم، إن للزعماء والقادة دورهم فى التاريخ، ولكنهم لا يستطيعون أن يلعبوا هذا الدور إلا بمقدار ما يمثلون مصالح شعوبهم، إلا بمقدار إدراكهم لقوانين التطور للمجتمع، إلا بمقدار ما يمثلون قوة متقدمة قد تهيأ لها ظروف النضج، بحيث تستطيع فعلا أن تسير بالمجتمع خطوة إلى الأمام. ومع هذا يستمر المحرك الحقيقي للتاريخ هو الشعوب، وتحركاتها، وثوراتها، وتنظيمها.."! من هنا كان الاغتيال إحدى الوسائل التى لجأ إليها عبد الناصر للتحويل (التغيير) الإجتماعي..ثم كان المنطق الإنقلابي..منطق العصابات..هو الوسيلة الثانية للتحويل الاجتماعي لدى عبد الناصر..دون اتصال بالشعب..دون الاعتماد على جذور شعبية..دون الاستناد إلى قاعدة من الملايين.. أما لدى شهدي عطية..فالوسيلة الوحيدة هى "التحركات العميقة المنتظمة التى تعبر عن أن نظاما اقتصاديا وسياسيا معينا أصبح لا يصلح للبقاء، أصبح معرقلا لتقدم القوى الانتاجية، أصبح محطما لمستوى المعيشة للشعب وثقافته. ومن ثم يتعين وجود نظام آخر سياسي، ونظام آخر اقتصادي، تهب الملايين بقيادة زعمائهم من أجل تحقيقه". هناك انقضاض مفاجيء من أعلى..ومن خلف ظهر الجماهير..وفي معزل عنها.. وهنا انطلاق من الجذور..من قلب الجماهير.. هناك تغيير فى الواجهة..فى اللافتة..فى القمة فحسب.. وهنا تغيير فى الأساس..فى الجوهر..فى البناء كله..من القاعدة إلى القمة..!! هناك طبقة جديدة تحل محل أخرى..ليظل النظام طبقيا..تستبد فيه الأقلية بالأغلبية.. وهنا قضاء على الطبقات، وتحرير للأغلبية من استبداد الأقلية..!! ومن هنا أيضا..اتجه عبد الناصر إلى الشعب اتجاها مصلحيا..يوم كان مصيره على خيط رفيع..ثم أدار ظهره للشعب بعد أن تم الانتصار على العدوان الثلاثي.. أما شهدي..فيواصل مع الجماهير الشعبية رحلتها الشاقة إلى المستقبل ويربط مصيره بمصير شعبه.. ويضرب عبد الناصر الجبهة الوطنية ويُعمل فيها التخريب.. أما شهدي..فيُصر على التمسك بالجبهة الوطنية (13): "..جبهة تضم الطبقات والعناصر المعادية للاستعمار والصهيونية فى الخارج، والمعادية للاقطاع والاحتكار فى الداخل، جبهة تضم الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والطلبة وصغار أصحاب المتاجر والمصانع الصغيرة والرأسماليين الوطنيين بكافة أقسامهم، سواء كانوا أصحاب مصانع متوسطة أو كبيرة، وأثرياء الريف الذين يشرفون على إدارة أملاكهم ويستخدمون العمل المأجور...ثم أي عناصر أخرى وطنية، طالما هي مستعدة للكفاح ضد الاستعمار والصهيونية، وطالما هي معادية للاقطاع والاحتكار... هذه الجبهة يجب أن تضم كافة المنظمات الجماهيرية القائمة من نقابات عمالية واتحاد عام لها، ومن نقابات مهنية ونقابات عمال زراعيين واتحادات فلاحين، كما يجب أن تعمل الجبهة على تدعيم هذه المنظمات، باجتذاب عدد أكبر من الجماهير إليها، وبأن تكون قيادة هذه المنظمات منتخبة انتخابا حرا ـ ومنبعثة من الجماهير، ومكونة من العناصر التى يثق بها الشعب، والتى تحرص على خدمته... ..إن قيام جبهة كهذه وتمثيلها فى الحكم، يستطيع أن يحقق للبلاد مزيدا من الديمقراطية ومزيدا من الحريات..كما يستطيع أن يقطع دابر أية مؤامرات استعمارية، وأن يكشف ألاعيب أى عناصر معادية أو متخلفة... هذه الجبهة فى ظل ديمقراطية سليمة! تستطيع فعلا أن تدعم استقلالنا السياسي والاقتصادي، بل تستطيع أكثر من هذا أن تمهد الطريق نحو تطور غير رأسمالي لاقتصادنا...". ويعمل عبد الناصر لتطوير الرأسمالية المصرية... وينشد شهدى بناء المجتمع المصري الاشتراكي... ويكتب شهدي عطية عن الجنود المجهولين الذين سقطوا فى ثورة 1919 (14): "الجند المجهولون..الشهداء من أبناء الشعب! من أبناء بولاق وباب الشعرية والخليفة والخرنفش وكرموز والعطارين وبركة السبع وكفر الشيخ وميت القرشي..وديروط ودير مواس..المجهولون أمثال الكردي، وأبو سريع درويش، فرحات، غريب، السجيني، من سكان بولاق من عمال العنابر. محمد جاد، هلالي جنيدي، حسان مشرقي..........على أكتاف هؤلاء الملايين، قامت الثورة، ومن هؤلاء، سقط ثلاثة آلاف شهيد. ومن هؤلاء حُكم بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن على آلاف أخرى". ويكتب شهدي عن دور الطبقة العاملة المصرية فى ثورة 1919 (15): "اشتركت الطبقة العاملة بكل قوتها في ثورة 1919، ولكن كان مستحيلا ألا يكون لها حركتها الخاصة بها، فكما اشتعلت الحركة الوطنية، اتسعت الحركة النقابية عمقا وعرضا.........". ثم يعرض التحركات الشعبية التى لم تتوقف بين 1924ـ1945، والشهداء من العمال والطلبة والفلاحين..حتى يصل إلى قوله (16): "وبدأ التفكير العلمي للتاريخ وللحركة الوطنية يسود بعض الأجزاء المتقدمة من الطلبة والعمال، وأخذوا يعبرون عن أفكارهم هذه فى نواد ومجلات مختلفة، وتمخضت هذه الأفكار عن تحديد دقيق للأماني القومية". وذلك في أواخر 1945..ثم تكون اللجنة الوطنية للعمال والطلبة الذى فتح "مرحلة جديدة فى المعركة الوطنية"..ثم معركة القنال وشهدائها الذين قدرهم البعض بستمائة..ثم معركة السويس..ثم كفاح الطبقة العاملة...
ـ7ـ رشدى خليل
البورجوازية تتحدانا.. ونحن قبلنا التحدي! إننا لانعرف الضحك المشترك فحسب.. بل والنداء العام إلى النضال: فى الموت وفي الحياه الفرد من أجل الجميع والجميع من أجل الفرد..
كان كل شيء يدفعه إلى اعتناق هذا المبدأ..فلقد عاصر أحداث الحرب العالمية الثانية، واستشهد أخوه الطيار فى النضال الخالد..نضال الانسانية التقدمية ضد الفاشية الرجعية الدموية.. ومن يومها، كره محمد رشدي خليل الحرب..كما كره الفاشية..وألقى بنفسه فى آتون النضال الشعبي ضد الاحتلال البريطاني..وعرفه طلاب حي شبرا بالقاهرة قائدا ومنظما للحركة الطلابية الوطنية..وكانت المدارس والجامعات يومها بوتقة ينصهر فيها أبطال المستقبل.. كان ذلك فى أواخر 1945..عندما.. "..بدأ التفكير العلمي للتاريخ وللحركة الوطنية يسود الأجزاء المتقدمة من الطلبة والعمال، وأخذوا يعبرون عن أفكارهم هذه فى نواد ومجلات مختلفة، وتمخضت هذه الأفكار عن تحديد دقيق للأماني القومية".. وتقدمت الحكومة النقراشية من خلف ظهر الشعب بمذكرة إلى الحكومة البريطانية تضع مبدأ التحالف مع بريطانيا أساسا محددا للعلاقات المصرية البريطانية.. واشتد سخط الشعب..وبدأت الاضرابات الطلابية..وخرجت المظاهرات..وكانت مذبحة كوبري عباس الشهيرة..فانفجر البركان الشعبي..واستقالت الوزارة..ليجيء إلى مقعد الرئاسة السفاح إسماعيل صدقي.. وتطلع الطلبة ـ كما يقول شهدي عطية ـ حولهم، ماذا عساهم صانعين. وبدأت الاتصالات بين الطلبة والعمال..وكان أن تكونت فى مدرج كلية الطب بالقاهرة "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة"، التى تسجل مرحلة جديدة فى المعركة الوطنية، منذ 1946. وبظهور هذه اللجنة تبلور وعي رشدي خليل السياسي..فأصبح جنديا في صفوف قوى التحرر والديمقراطية والسلام..فلقد رأى رشدي مظاهرة 21 فبراير 1946، التى ضمت مايزيد عن الأربعين ألفا..وقيل مائة ألف.. ثم تصدت لها السيارات البريطانية، وانطلق الرصاص من كل جانب، وسقط من الشهداء ثلاثة وعشرين قتيلا، و121 جريحا.. وركزت حكومة صدقي اضطهادها على تلك القيادة الجديدة التى ظهرت على مسرح النضال الشعبي ضد الاستعمار والاقطاع والاحتكار.. التحق رشدي بكلية الهندسة جامعة عين شمس..وعرفه الطلاب قائدا وطنيا مخلصا ومناضلا صلبا..يحمل شعارات إسقاط الملكية..ويقود المظاهرات الطلابية ضد فاروق والانجليز.. وطاردته المباحث العامة الخاضعة للسراي والانجليز..ولكن زملاءه من الطلاب وأهالي حي شبرا ساعدوه على الاختفاء عن أعين البوليس السياسي.. وفى عام 1953 شارك فى تأسيس "اللجنة التحضيرية لاتحاد الطلاب المصريين العام"، وشارك فى اصدار صحيفتها "وحدة الطلبة" التى أعلنت برنامج الاتحاد الذي طالب بحق الطلاب فى المجانية الكاملة للتعليم وباطلاق الحرية للطلاب فى تنظيم أنفسهم والتعبير عن آرائهم.. واعتُقل رشدي خليل عام 1954 لمطالبته بالدستور والحريات الديمقراطية، ولاحتجاجه على اعدام القائدين العماليين خميس والبقرى في مذبحة كفر الدوار الشهيرة!!..كما كان اعتقاله خوفا من نجاحه فى انتخابات الاتحاد بجامعة عين شمس، نظرا للتأييد الطلابي الواسع الذي ناله.. وكان رشدي قد أصبح مهندسا وعضوا فى لجنة منطقة شبرا بالحزب الشيوعي المصري.. وبدأ العدوان الثلاثي على مصر 1956 فلعب دورا بطوليا فى حركة المقاومة الشعبية فى القاهرة..وفى حي شبرا على التخصيص..حيث كون فرقا من العمال والطلاب اشتركت فى صد العدوان، كما نظم استقبال المهاجرين من بورسعيد وساعدهم فى الحصول على المسكن والملبس والمأكل.. وفى نفس الوقت، شارك فى تنظيم سفر المناضلين الوطنيين إلى الجبهة..وكان لأحاديثه مع الوطنيين أثر كبير فى تعميق وعيهم بخطر المؤامرة الاستعمارية وضرورة تماسك ورص الصفوف لحماية الاستقلال الوطني..مهما كانت الاتجاهات السياسية..واشترك فى كتائب الجامعة التى سافرت إلى الشرقية فى 1956.. وواصل كفاحه من أجل توحيد الصفوف الوطنية، وبناء الجبهة الوطنية الديمقراطية المعادية للاستعمار.. ثم..ثم بدأت الحملة الفاشية المعادية للديمقراطية والهادفة إلى المساومة مع الاستعمار والرجعية.. بكل قواك تنفس ولتعش الثورة.. فى رأسك.. في قلبك.. فى عضلاتك.. في عظامك.. الثورة.. ليلا.. ونهارا.. ............. وانقضوا ليلا.. ذلك أن العادة قد جرت.. بألا يقوم البوليس بالهجوم والتحري.. فى ضوء النهار!!.. ولم يكتفوا بخطفه..بل أخذوا معه أخاه الدكتور فتحي خليل..وفي أقبية المباحث بالقاهرة..تولى الجستابو مكافأته بسائر وسائل التعذيب، مع نضاله السنوات طوال من أجل حياة أفضل لشعبنا..لجماهير العمال والفلاحين..للأطفال..للأجيال القادمة.. ولم تفلح كل وسائل الجستابو الوحشية إلا فى أن تزيد من تمسكه بعقيدته..!! ومن كراهيته للفاشية..!! ومن ثم نُقل مع أحد الأفواج إلى ليمان أبي زعبل.. وواصل الجستابو المراسيم..حتى التسخير فى قطع الأحجار.. وواصل رشدي خليل الصمود..والاصرار على الصمود.. وأمر الضابط حسن منير بتذنيب عشرين من المعتقلين، فوُضعوا فى زنزانة 2.5×2مترا، بدون غطاء ولا فراش، فتعذر عليهم الجلوس..واستمر تذنيبهم أربعة أيام، وكان رشدي خليل من بينهم: الزنزانة صامتة.. كثور جريح.. ينزف الدم من قلبه.. الدخان يتصاعد فى السماء.. والظلال تزحف على الأرض.. ونحن خلف القضبان.. صامتون.. صامتون.. كالرصاص فى الماسور.. وهناك فى الخارج..يتربص الشعب..كالبركان..كالبحر.. أتسمع.. هناك فى مكان ما.. يهدر البحر.. يهدر.. كما لو كانوا.. يقطعون غابة! وخرج رشدي من الزنزانة مصابا بالحمى..لا ليقدموا له العلاج..بل ليتلقاه الزبانية بالضرب..حتى يُصاب بكسر فى قاع الجمجمة..فيُنقل إلى سجن القاهرة..فى 23 يونيو 1959 أو1960.. وفى نفس اليوم..يموت..عن تسع وعشرين عاما......
ـ8ـ سيد أمين
ابن العمال شيوعي.. كان لابد لسيد أمين أن يعتنق هذا المبدأ..فهو ابن آخر من أبناء الطبقة العاملة..وُلد فى أحضانها..وفتح عينه على قضاياها..ورضع منها روحها النضالي..وثوريتها..وطموحها إلى الخلاص..التحرر..!! إنه عامل نسيج وعضو مجلس إدارة النقابة العامة لعمال النسيج الميكانيكي بالقاهرة وعضو الحزب الشيوعي المصري.. عرف أن الاشتراكية تعني: أن الأيدي إذا اتحدت.. تستطيع أن تزلزل الجبال.. دون أن تفقد شكلها أوحرارتها.. الفردية فى الوقت نفسه.. أن الاشتركية.. هي عندما لا تنتظر محبوبتنا شيئا منا.. لا دراهم، ولامجدا.. عدا الأمانة والاخلاص.. الاشتراكية هي عندما تعرف القوانين السعادة.. كما لو كانت من واجبات الناس.. أو مثلا.. ........... عندما يدلف الناس إلى الشيخوخة.. هادئين مطمئنين دون خوف أو وجل.. كما يدخلون جنة وارفة الظلال.. عندما..وهذا جوهر الموضوع.. (تسمع) فى كل مكان ضحكات الأطفال وخدودهم حمراء حمرة خدود التفاح.. ولكن ضحكات الأطفال كافة لا بعضهم..!!
ولذلك وهب نفسه للنضال من أجل الاشتراكية!! لكن ذلك لم يرق لمباحث "الاشتراكية الزائفة"، التى تقوم على حماية الملكية الخاصة لوسائل الانتاج والتى تحمي الرأسماليين من العمال على حد تعبير عبد الناصر نفسه.. لم يرق لها أن يفهم سيد أمين الاشتراكية الحقيقية، التى تقضي على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وتقضي على طبقة الرأسماليين، وتحرر العمال من العبودية إلى الأبد!!.. من ثم..انقض الجستابو ليلا..وحملوه إلى معتقل الفيوم.. وحاولوا أن يجبروه على الايمان باشتراكيتهم المزيفة..هو الذي يرى بشاعتها..فى المصنع..والنقابة..كل يوم..كل لحظة.. يرى الاستغلال يمتص دم اخوانه العمال قطرة قطرة..يرى القمع والارهاب..يرى الجواسيس المنبثين فى كل زوايا المصنع..والحى..والمدينة.. يرى المخالب القذرة المندسة فى حنايا النقابة..يرى القوانين التى يُحسب فيها حساب لكل شيء..إلا لمصلحة العمال.. يرى حقوق الطبقة العاملة مهدرة..ومصادرة.. يرى مستوى المعيشة المستمر فى الانخفاض..ومستوى الأجور..وعدد ساعات العمل..ويرى فى نفس الوقت مظاهرات التدجيل بالاشتراكية.. وباشر الجستابو معه كل وسائل الاقناع.. وسقط سيد أمين فريسة للمرض..دون أن يقتنع..ثم نُقل إلى مستشفى المنيل الجامعي..ليموت فى اكتوبر 1960.. أيها العمال فى كل مكان.. دقت الساعة كونوا يقظين..
الهوامش: ــــــــــ
(*) كتب الشاعر والمخرج الراحل نجيب سرور هذا النص النادر وغير المنشور، فى منتصف القرن الماضي، تحت عنوان "مقدمة لابد منها"! ولقد حصلت علي هذه الوثيقة القيمة من أرملة نجيب الروسية السيدة/ ساشا كورساكوفا، وذلك أثناء كتابتى لـ "دون كيخوته المصرى"، والكتاب دراسة علمية وثائقية، تحت الطبع، تناولت فيه بالتحليل حياة وفكر نجيب سرور! والثابت أن المبدع الراحل نجيب سرور أراد لهذ النص القيم أن يكون مُقدمة لديوانه غير المنشور "إنه الإنسان"، والذى كتبه أثناء دراسته للاخراج فى موسكو! والنص يشي فى مجمله باعتناق صاحبه للشيوعية، وإن كان نجيب قد تحول عنها لاحقاً إلى الفكر الأنسني.(ح.خ) (1) الثمانية هم شهدى عطية الشافعي، فريد حداد، محمد عثمان، رشدى خليل، سيد أمين، مصطفى شوقي، سعد التركي، على متولى الديب. (ح.خ) (2) جمال عبد الناصر، فلسفة الثورة، (القاهرة: وزارة الارشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات، بدون تاريخ)، ص 53. (ح.خ) (3) كتاب "كفاحى"، كتبه الألمانى الشهير أدولف هتلر فى أعقاب حل حزب العمال الألمان الوطنى الاشتراكى عام 1923 وخضوعه للاعتقال عام 1924، وفيه تحدث هتلر عن أهداف حركته وتطورها، فضلا عن حديثه عن نفسه، راجع: أدولف هتلر، ترجمة لويس الحاج، كفاحي، (بيروت: دار صادر للطباعة والنشر& دار بيروت للطباعة والنشر، 1963). (ح.خ) (4) جمال عبد الناصر، م.س.ذ، ص19 ، 36. (ح.خ) (5) ثم أيد مشروع الاتحاد القومي. (ن.س) (6) من بيان للديمقراطيين المصريين بالاتحاد السوفيتى. (ن.س) (7) جمال عبد الناصر، م.س.ذ، ص21. (ح.خ) (8) التى أُعدم فيها العاملان المناضلان خميس والبقري. (ن.س) (**) الأشعار الواردة فى هذا النص فى معظمها ترجمة سرورية لأشعار الشاعر التركى العظيم ناظم حكمت. (ح.خ) (9) شهدى عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية المصرية 1882ـ1956، (القاهرة: دار شهدى للطبع والنشر والتوزيع، 1983)، ص3. (ح.خ) (10) جمال عبد الناصر، م.س.ذ، ص 53. (ح.خ) (11) جمال عبد الناصر، م.س.ذ، ص 53 ، 22. (ح.خ) (12) شهدى عطية الشافعي، م.س.ذ، ص 3. (ح.خ) (13) شهدى عطية الشافعي، م.س.ذ،ص 239 ـ 241. (ح.خ) (14) شهدى عطية الشافعي، م.س.ذ، ص 41ـ 42. (ح.خ) (15) شهدى عطية الشافعي، م.س.ذ، ص 42 ـ 45. (ح.خ) (16) شهدى عطية الشافعي، م.س.ذ، ص 95. (ح.خ)
المقالة السادسة محنة شعوبنا إدراكها الساذج للآخر
"كبدى خذوه.. يا ناهشي الأكباد هاكم فانهشوه!" نجيب سرور
تقول الأسطورة: إن القندس قطع خصيته ليُنقذ حياته من صائديه الذين يطاردونه، لأنهم يريدون خصيته التى تُستخلص منها العقاقير! وبدوري أتساءل: ألمثل هذا التصرف اليائس يُدفع عالمنا العربي؟! خاصة، وأن الآخر الغربي ونظيره العربي، لا يتورعان عن الترويج لكل ما يعضد مخاوفي ومخاوف غيري!
فها هى نسخ الآخر العربي تُروج لكون الحضور الغربي، لا غناء عنه، وأنه إنما يُسمح به لاغاثة الذات العربية، وانتشالها من تخلفها! حتى أننا كـ"ذات" ألفنا مباهاة الآخر العربي بنجاحه فى جلب العون الغربي، وكذا ألفنا اعتباره ذلك انجازاً! المدهش هو حدوث المباهاة، رغم أن ثمة أمارات تؤكد ما يجلبه الحضور الغربي من فساد وخراب! من هنا يعمد هذا المقال لابراز هذا التواطؤ المُخزي..
من هو "الآخر" فى الفكر الأنسني؟
ما المعاني المختلفة والعديدة التي ارتبطت بـالفكر الأنسني إلا انعكاسات لتفكير حقب مختلفة من تاريخ الإنسانية ولمضامين شخصية واجتماعية متنوعة!
البعض، ولست منهم، يرى أنه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية! فإنها لخاصية عميقة فى الإنسان، انه كلا الأمرين معاً، فهو ابن الطبيعة المادية ووارث لطاقات تحرره من قيود منشأه الأصلي!..
بيد أن أهم حقيقة جوهرية واضحة ومألوفة عن الإنسان هي انه يحمل الثمار والأزهار التى تبدو وكأنها تنتمي إلى مرتبة أرقى من أصولها! أقول هذا ليعلم قارئي الكريم، أنى ما أقدمت على صياغة رؤيتى للفكر الأنسني، إلا لايمانى العميق بأنه يحدث أن يتجاوز رأي بعينه فى خطورته مرتبة صاحبه بكثير..
يرى الكثيرون فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة أن "الآخر" هو دوماً وحتماً من لا ينتمي إلى ثقافتنا العربية الإسلامية، وأعنى بالثقافة هنا تعريف إليوت الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة! والحق أن رؤيتي لـ"الفكر الأنسني"، وعلى نحو ما سنرى، تخالف الرؤية المُشار إليها تواً، جملة وتفصيلاً، إذ تقول بامكانية انتماء الآخر والذات لثقافة بعينها، وكذا تقول بعدم تعارض ذلك مع امكانية تأجج الصراع بين الطرفين! وهو صراع مؤلم ومعقد، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام، أو إغراء الذات المغتربة باستخدام، كافة الوسائل لحسمه لصالحه..
فى دراسة سابقة لى بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، أودعتها أسس رؤيتي للفكر الأنسني، وقمت بنشرها مؤخراً على شبكة الانترنت، ذكرت أن بناء الذات الأنسنية لا يعني ـ فى رأيي ـ سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسباً لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية:
[1] معيار التقويم هو الإنسان. [2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. [3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. [4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. [5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية. فى تمييزها بين الذات والآخر، تحتكم رؤيتي إلى المعيار الأنسني، والذى طبقاً له يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه. وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!
أما الآخر، وطبقاً للمعيار نفسه، فهو كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني لا يعدو ـ فى رأيي ـ كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! ويتفق أن يكون الآخر محلياً أو إقليمياً أو عالمياً، ويحدث أحياناً أن يمتلك آخراً بعينه الصفات الثلاثة، هذا ما يحدثنا به التاريخ، ويؤكده الواقع المُعاش..
أقول صراعاً ثقافياً، استناداً لتعريف ت. س. إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطورتها وأهميتها. وأقول صراعاً معقداً، لتعدد جبهاته وتداخلها..
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام، أو إغراء الذات المغتربة باستخدام، كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها..!!
قارئي الكريم، بتطبيق المعيار الأنسني، المُشار إليه تواً، على واقعنا العربي المُعاش، نجد أن النخب العربية الحاكمة في مجتمعاتنا العربية المتخلفة، تُشكل، حجر الزاوية في هيكل الآخر المحلي/العربي! وأقصد بالنخب العربية الحاكمة تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوماً بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك الأنسنية وجني ثمار الأخذ بها، فنراهم ينزعون للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على النفعية المؤسساتية والشرف الوطني! وهو ما يُفضي بهم دوماً إلى الانفصال الثقافي عن الذات، وان بدا الأمر للمغتربين ثقافياً خلاف ذلك! واراني بحديثي هذا قد أعفيت تجار الآلام من عبء تذكيرهم المستمر والملح لنا بقبح جلد الذات، فالثابت أن أولئك الذين تحملهم أنانيتهم الثقافية على تعمية مواطنيهم عن إدراك الأنسنية وجنى ثمارها، ليسوا ذاتا تُجلد ولكنهم آخر تصطلي الذات بناره!..
أما الآخر العالمي/الغربي، فأعنى به أبناء الحضارة الغربية المهيمنة الذين يعمدون لتعمية الذات العربية عن الأنسنية، وذلك بمساندة الآخر المحلي/العربي بطبيعة الحال! وأراني قانعاً بالرأي القائل بانطواء تعميم القول السالف على جميع أبناء الحضارة الغربية على قدر من الإجحاف والظلم، استنادا لما يلمسه الكثيرون منا، عبر تعاطيهم المباشر مع بعض المنتمين للحضارة الغربية، من رفض بين لتلك الآخرية العالمية/الغربية، وإيمان عميق بقبح إهدار آدمية الذات العربية! ولأصحاب الرأي المذكور أؤكد أنني أتعاطى في المقال الماثل مع الاتجاه العام المسيطر والمؤثر في الحضارة الغربية المهيمنة عالميا، والذي غالبا ما يُسهم أولئك الأبرياء في صياغته، بشكل أو بآخر، وان توهموا أو سعوا لإيهامنا بخلاف ذلك! والأولى بهؤلاء الأبرياء، حال جديتهم، ردع الآخر العالمي/الغربي، الذي ينتمون إليه، عن إهدار آدمية أبناء الحضارات الأخرى، بدلا من التباكي عليهم! تواطؤ مُخز ظاهرهُ الرحمة وباطنهُ العذاب:
لم يلبث عالمنا العربي أن تنفس الصعداء فور رحيل الآخرين العثماني والأوروبي عنه، فقامت في ربوعه المختلفة كيانات عديدة مستقلة، أدعوها دولاً ـ وذلك للتسهيل ـ، غير أن لحظة الاستقلال الحقيقي تلك لم تدم طويلاً، فسرعان ما حلت النخب العربية الحاكمة محل الأوروبيين، وراحت تعمل جهد طاقتها لإدامة الأوضاع العربية المتردية، والمواتية لتعمية الذات العربية عن إدراك الأنسنية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها ممارسات الأمويين والعباسيين والآخر غير العربي من بعدهم، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ. وكان ذلك إيذانا بدخول عالمنا العربي حقبة لا تزال غيومها تظله، وهى حقبة الاستقلال السلبي!
أعلم أن منطقي هذا لابد وأن يصدم الكثيرين، ممن يحلو لهم تمجيد رموز نخبوية بعينها، بزعم الكاريزمية والتفرد بالأدوار الريادية والنهضوية إلخ! ولهؤلاء أسوق مقولة ماركس: "لا تصدق كلامي..صدق كلام أحفادي"، فقد قصد الرجل بمقولته تلك أن التاريخ كفيل بكشف كل زيف وبطلان، فالقراءة المتأنية للأحداث بعد خبو ثورة الحماس والانفعال، تهدينا دوما لأمور يتعذر علينا إدراكها في حينه، خاصة في عالمنا العربي، حيث تغيب الشفافية ويغسل التلقين الإعلامي الشرس أدمغة المواطنين. لذا فنحن الأحفاد أدرى بفعال آبائنا وجدودنا، فلنكشفها بجرأة ونعالجها بحكمة، بغية تحطيم القيود التي لا تنفك تُدمى معصم الذات العربية!
وكأني بالثائر الأنسني فرانز فانون فى قبره ينبه شعوبنا إلى ضرورة إدراك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة هي في بعض الأحيان متباعدة، بل ومتعارضة! فهناك دوماً أجزاء من الشعب ـ الآخر المحلي ـ لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية. والشعب، وان تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار الغربي: العربي والغربي، يبيت لزاماً عليه أن يدرك أنه يتفق لعرب أن يكونوا أكثر آخرية من الآخر الغربي، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها. كما يبيت لزاماً على الشعب أيضاً أن يدرك أن هناك أناساً من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم! فهم يتاجرون ويحققون أرباحاً طائلة، على حساب الشعب ـ الذات ـ الذي يضحي بنفسه دائماً، ويروي بدمه تراب الوطن. إن المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة الاستعمار الجهنمية ـ آلة الآخر العالمي/الغربي ـ يكتشف أنه بقضائه على الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطاً للغاية في البداية، كان هناك في نظره أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الخيالي اللاواقعي الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهراً غربياً أو عربياً. لذا، على الشعب أن يتعلم كيف يُندد بالآخرية المحلية. وكذا عليه في مسيره الشاق إلى المعرفة العقلية، أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للآخر(1)!
وعن التواطؤ الحاصل بين الآخرين العربي والغربي، يقول نادر الفرجاني إنه بعد حصول الدول العربية على استقلالها من ألوان التبعية المباشرة للدول الغربية، سعى الآخر الغربي لتطوير أشكال جديدة من التبعية تُفرغ الاستقلال العربي من مضمونه، وتحوله إلى استقلال سلبي ـ والتعبير لكاتب هذه السطور ـ، وتقوم أساساً على آليات للتبعية الاقتصادية! وطبقاً للفرجانى أصبح مدى التبعية الحقيقي كجسم جبل الجليد الطافي، لا يظهر منه فى الأفعال الإرادية الظاهرة فى الحلبة الدولية إلا النذر اليسير(2)! وفات الفرجانى، كعادة غيره من المفكرين العرب، أن يحدثنا عن دور الآخر العربي فى التمكين لهذه التبعية..
على أية حال، قد يكون ملائماً قبل أن ندلف إلى تعرية أبرز أوجه التواطؤ الحاصل بين الآخرين الغربي والعربي، التأكيد على أن الأخير لم يكن ليجرؤ على الانخراط فى مثل هذا الفعل المُخزي، لولا نجاحه المذهل فى تكريس اغتراب الذات ثقافياً، أى نجاحه فى تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، وذلك عبر آليات عديدة منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني، نسبة إلى الدين والدين منه براء! ولك، أيها القارئ الكريم، أن تتصور كيف تغدو تبعية بلادنا للدول الغربية ـ وما يصاحبها من هدر للامكانيات والكرامة ـ جحيماً لا يُطاق، حين تعوزها جهود الآخر العربي التي تُمكن لها بالقوة أحيانا، وتحببها أحيانا أخرى إلى الذات البائسة(3)!
[1] تواطؤ الآخرين العربي والغربي ونهب الثروة النفطية: ترتب على استغلال الثروة النفطية على نطاق واسع فى دول العالم العربي، التى حبتها الطبيعة باحتياطيات نفطية ضخمة، أن تدفقت عائدات مالية كبيرة إلى خزائن الدول العربية الأعضاء فى منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، والتى تُعد مجرد جهاز لإدارة أسعار النفط، لا كمياتها، فى إطار النظام الاقتصادي العالمي وفى حدود موازين القوى الاقتصادية والعسكرية القائمة!..
بيد أن الذى حصل هو أن العائدات النفطية قد استحدثت صنفاً جديداً من الدول العربية..استحدثت، وياللغرابة، دولاً عربية غنية ومتخلفة! فهل ثمة نهب للثروة النفطية؟!..وهل ثمة علاقة لهذا النهب بتواطؤ الآخرين العربي والغربي؟!
الإجابة: نعم..ثمة نهب منهجى ومنظم للثروة النفطية! نعم..ثمة علاقة وثيقة لهذا النهب بتواطؤ الآخرين العربي والغربي!
وكيف لا، وزيادة العوائد المالية التى غالباً ما تنجم عن ارتفاع أسعار النفط تؤدى إلى زيادة تخلف الدول النفطية وتبعيتها للدول الغربية؟!..كيف لا، والعوائد المالية المرتفعة تؤدى لشيوع الكسل والتكالب المُستفز على الاستهلاك ـ على نحو ما يظهر فى سلوك مواطنينا العائدين من هناك ـ، ومن ثم زيادة استيراد الدول النفطية للسلع الاستهلاكية من الدول الغربية؟!..كيف لا، والجزء الأكبر من الفوائض النفطية يتم توظيفه فى الدول الغربية عن طريق إعادة تدويرها فى اقتصاديات تلك الدول، وأحياناً فى صورة استثمارات قليلة الجدوى؟!..كيف لا، وتبعية الدول النفطية للدول الغربية تمتد فى مجالاتها الأخطر إلى التقنية؟!.. التبعية التقنية تتجسد فى اعتماد الدول النفطية على استيراد السلع الاستهلاكية وأدوات ومستلزمات الانتاج السلعي والخدمي من الدول الغربية المصنعة، وتتعدى ذلك إلى التقنية الناعمة، مثل الخدمات الاستشارية والتنظيمية والتسويقية. أما التبعية الحضارية، فتبدو أشد ما تبدو، فى النمط الاستهلاكي الغربي، الذى يجتاح الدول العربية على تباين خصوصياتها. والشواهد أن تبعية الدول العربية تتأكد فى هذين المجالين، ربما أكثر من التبعية الاقتصادية البحتة.
صفوة القول، إن تخلف عالمنا العربي فى مجمله، على الرغم مما أصاب بعض دوله من غنى ناجم عن استنضاب رأسمالها النفطي، يُعد تزخيماً لمحاجتى بتواطؤ الآخرين العربي والغربي على نهب ثرواتنا النفطية! ولا أعنى بالتخلف هنا أن الدول العربية فقط تالية للدول الغربية فى تتابع زمنى على مضمار التقدم، وإنما أعني فى المقام الأول أن البُنى الاجتماعية ـ الاقتصادية والسياسية بها ضعيفة ومشوهة ومتدنية الكفاءة، مما يترتب عليه كون الحاجات الأساسية، مادية وغيرها، لغالبية السكان فى الدول العربية غير مشبعة بعد، وأن هذه الدول تعتمد اعتماداً حرجاً على الاقتصاديات والحضارات الغربية، مما يورثها مركزاً ضعيفاً فى الحلبة الدولية، ويدمغ مقدرات الذات العربية بدوام حالة التخلف هذه..
[2] تواطؤ الآخر (بمستوياته المختلفة) وهدر الدم الفلسطيني: بفضل إضعافها للذات العربية عبر تكريس اغترابها الثقافي، نجحت النخب العربية الحاكمة ـ بوصفها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي ـ في ترسيخ الاستقلال السلبي للدول العربية، الأمر الذي أثر بقوة على التوجهات الإقليمية لتلك الدول، فجاءت في معظمها غير مواتية لمصالح الذات العربية، على نحو يلفت النظر ويسترعى الانتباه، رغم تأكيد خطاب الآخر العربي على حتمية انتهاج سياسات إقليمية مواءمة لتلك المصالح. وبرغم انطواء تلك السياسات على بعض الجوانب الإيجابية المحدودة، والتى ربما جاءت ذراً للرماد فى العيون، يظل التساؤل قائماً حول تداعياتها السلبية على الذات العربية، خاصة في شقها المعنى بالتعاطي مع الآخر الإقليمي/الإسرائيلي.. أقول إنه منذ ميلاد دولة إسرائيل، أصبح التعامل معها محكاً مهماً لاختبار رغبة وقدرة الآخر العربي على التعاطي الإيجابي مع القضايا الإقليمية، بما يعود بالنفع على الذات العربية ويحفظ عليها حقوقها. ومن ثم، اتسم سلوك النخب العربية تجاهها ـ أقصد تجاه إسرائيل ـ بالثراء والتعقيد، باعتباره الأكثر حساسية على الصعيد الإقليمي! تراوح نهج الآخر العربي تجاه إسرائيل بين الرغبة المحمومة في التعاطي المنفرد معها من وراء ظهر الذات العربية، بغية الحصاد المنفرد للثمار، خاصة رضاء الآخر الغربي، وبين الإضعاف المتعمد للذات العربية، باعتباره الضمانة الوحيدة لديمومة الاستقلال السلبي ورسوخه، وكلا الأمرين يصب في مصلحة الآخر الإسرائيلي! على أية حال، يظل رصد الملامح الرئيسية لنهج الآخر العربي تجاه إسرائيل من الأهمية بمكان، لكونه تجسيداً لتواطؤ الآخر العربي مع نظيريه الاسرائيلي والغربي:
ـ اضعاف نسخ الآخر العربي للذات الفلسطينية(4): انتهجت نسخ الآخر العربي ممارسات مؤلمة تجاه الفلسطينيين، وتراوحت تلك الممارسات بين الإيذاء الصريح والإيذاء المستتر، مما أسهم في إضعافهم في مواجهة دولة إسرائيل. ولقد دأب ياسر عرفات ـ رغم كونه أحد رموز الآخر العربي ـ على إثارة تلك القضية المهمة في أحايين كثيرة، ففي حديث له مع صحيفة الرأي العام الكويتية، إبان زيارته للكويت خلال الفترة من 23 ـ 25 / 4 / 1985، أنحى عرفات باللائمة على ممارسات النخب العربية تجاه الفلسطينيين بقوله: "..بعد نكسة حزيران مباشرة، أصبح الفدائي الفلسطيني، هو الأمل الوحيد لهذه الأمة، وأصبح الشعلة التي تضيء النفق المظلم، كان بمثابة هالة وأسطورة..خصوصا بعد معركة الكرامة، حين رأى الوطن العربي لأول مرة جثة لجندي إسرائيلي ودبابة إسرائيلية محطمة..كنا نقاتل من جميع الجبهات، إرادة القتال والنضال، أصبحت متوفرة لدى الجميع حينذاك، ولا ننسى أن العدو أطلق على غزة إسم غزة ـ كونج لأن رجالنا كانوا يسيطرون على المنطقة بالليل وبشكل كامل، لتعود السيطرة إليهم في النهار. يومها قالوا أن عرفات سيقود هذه الأمة إلى النصر..وكانت بعض الأنظمة تختبىء خلف المقاومة الفلسطينية حتى تلتقط أنفاسها..لأن النظام أهم من الأرض..ولأن الحكم أهم من الحق الذي سُلب. وبدأت المؤامرة..لأن الأنظمة العربية لا يمكن أن تتوافق والثورة..صحيح أخطأت الثورة في بعض حساباتها ودفعت ثمناً غالياً لهذه الأخطاء، لكن العملاق ظل واقفاً وإن أصيب في مرات عديدة بحالة انعدام الوزن. لماذا يريدون الآن تحميل عرفات كل مساوىء الأمة العربية..كل أخطائها..كل تناقضاتها..فلو كنت فعلا أستطيع اتخاذ القرار العربي، أو التأثير فيه بالشكل المطلوب لكان العلم الفلسطيني يخفق حالياً فوق القدس الآن..".
ولم يقف عرفات عند ذلك الحد، فقد استطرد قائلاً: "..لن أعود إلى الماضي البعيد..وليس إلى حرب رمضان حيث كانت طريق القدس مفتوحة.. ولا للأيام الأولى منها، حين أوشكت إسرائيل على إخلاء الجولان..وسيناء مفتوحة أمام مدرعات الجيش المصري..فقط سأعود إلى أيام الحصار في بيروت..تلك الفرصة التاريخية التي ضاعت على العرب..وتركونا وحدنا، لقد تبعثر الجيش الإسرائيلي في وديان وسهول وجبال نعرفها جيدا..لقد جاء العدو إلينا ولم نذهب نحن إليه..وأنهم حتى الآن ما زالوا يحصون عدد قتلاهم وجرحاهم، في أطول حرب عرفتها إسرائيل منذ نشأتها، مخيم عين الحلوة لم يسقط إلا في اليوم العشرين، وظلت بيروت صامدة، تتحدى بيغن وشارون و ايتان..البعض وقف يتفرج علينا شامتاً، وآخر يقول أنها ليست حربه، وفريق للتاريخ يريد أن يدعمنا لكنه لا يستطيع بعدما أغلقوا كل الطرق أمامنا، حتى أن أحد هؤلاء البعض صادر الأسلحة التي بعثها الاتحاد السوفياتى لنا، بواسطة إخواننا في الجزائر..".
واختتم عرفات حديثه عن ممارسات نسخ الآخر العربي تجاه الفلسطينيين بقوله: "..بصراحة مشكلتنا مع بعض العرب ـ يقصد النخب العربية الحاكمة ـ أسوأ مما هي مع إسرائيل..ولقد خسرنا من خلال ضربات الأشقاء أضعاف مما خسرناه في مواجهتنا مع العدو الصهيوني..كم أتمنى أن يكون شعار تحرير فلسطين حقيقيا وليس سلعة للمناورة والتجارة. ألا يكفى أنهم يمنعوننا من الموت فوق أرضنا..وصرنا نعانى أسوأ مشكلة عرفها البشر في تاريخهم..الفلسطيني صار يفتش حتى عن قبر ليدفن فيه، وكم من جثمان ينتقل من بلد إلى آخر!!.. نعيش بلا أرض..وبلا قبر..أليست هي المأساة!!..أليست هي الكارثة، أن بعض الجنود العرب يحمى حدود العدو ويستميت بالدفاع عنها، أكثر من الجندي الإسرائيلي نفسه؟؟..حين تصبح الكرامة أهم من النظام، حين يصبح الحق المسلوب أهم من الكرسي، نكون قد بدأنا فعلاً في مسيرة تحرير فلسطين".
ـ تلاسن نسخ الآخر العربي حول ممالأتها إسرائيل: في ظل تهافتها على التعاطي المنفرد مع إسرائيل من وراء ظهر الذات العربية، دأبت نسخ الآخر العربي على تبادل الاتهامات بممالأة إسرائيل، وبدا ذلك جليا في مواضع كثيرة، أشهرها اتهام صدام حسين الصريح للنخبة المصرية الحاكمة بالخيانة، إثر توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد مع الإسرائيليين، على خلفية حرب التحريك في أكتوبر 1973(5). فقد أورد في خطابه الافتتاحي أمام مؤتمر القمة العربي العاشر بتونس ما نصه(6): "..لقد أثبتت تجربة السنة الماضية نجاح الخط السياسي الذي حددته قمة بغداد ( يقصد مؤتمر القمة العربي التاسع بالعاصمة العراقية عام 1978). كما أثبتت بطلان وتهافت الخط الاستسلامي الذي انتهجه النظام المصري ـ يقصد النخبة المصرية الحاكمة آنذاك ـ وفق اتفاقيات معسكر داود. فالرأي العام العالمي قد احترم مقررات قمة بغداد وتعامل معها بكل جدية، وأيدتها أوساط دولية مهمة، كما جرى في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في فاس، وفى مؤتمر القمة الأفريقي في منروفيا، وفى مؤتمر قمة عدم الانحياز في هافانا، وفى مختلف الأوساط العالمية. وتطورت مواقف كثير من الدول الأوروبية التي كانت مترددة في اتخاذ موقف، في حين انكشفت تماماً، ولكل ذي بصيرة مواقف الاستسلام والتنازلات المهينة التي قدمها النظام المصري لصالح العدو الصهيوني، ومأزق السياسة الخيانية التي اتبعها هذا النظام، فازدادت عزلته على كل الأصعدة العربية والإسلامية والإفريقية، وفى العالم كله وحتى شركاؤه في اتفاقيات الصلح الخيانية باتوا يشككون في إمكانية استمرار الخط الذي انتهجه".
ـ اضعاف الآخر الفلسطيني للذات الفلسطينية(7): ساهمت النخبة الفلسطينية الحاكمة بنصيب وافر في إضعاف مواطنيها في مواجهة دولة إسرائيل، وجاء ذلك في إطار جهود الآخر العربي لإضعاف الذات العربية المغتربة. فقد أسفرت السياسات التي اتبعتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إبان غزو العراق للكويت، والإدارة غير الرشيدة للأموال وللأصول الفلسطينية، عن إقدام ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على قبول أي شيء تلقي به الولايات المتحدة وإسرائيل في طريقهم، حتى لا يفوتهم ركب عملية السلام، مفرطين بذلك في كافة الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني.
وما إن دخل ياسر عرفات إلى غزة، حتى جاءت التقارير تؤكد أن خمسة أو ستة ـ إن لم يكن سبعة ـ أجهزة مخابراتية، لابد وأن بعضها على صلة بجهازي الشين بيت والموساد الإسرائيليين، يقدمون تقاريرهم إليه، وأن بعض المواطنين الفلسطينيين قد لقوا حتفهم أثناء التعذيب، وأنه تم إغلاق بعض الصحف، وأن معارضي عرفات يتعرضون لملاحقات أجهزة الأمن.
وأضاف اختيار عرفات للرجال الذين تم تعيينهم في مواقع السلطة الوطنية آنذاك، مزيداً من الملح إلى الجرح الفلسطيني. فالمسئول الأول عن الأمن والمخابرات، هو نفسه سفير المنظمة في تونس، والذي أصبح معلوما لاحقاً أن مكاتبه ومقاراته هناك كانت مخترقة بواسطة جهاز المخابرات الإسرائيلية. والقائد العسكري لأريحا هو نفسه ذلك الرجل الذي قضت المحكمة العسكرية بإدانته بتهم الهروب من الميدان والجبن، وذلك عندما فر من جنوب لبنان إبان الغزو الإسرائيلي عام 1982. هذا في الوقت الذي توالت فيه الأنباء عن الفساد، وتكاثر النصابون القادمون من أنحاء العالم للاستفادة من هذا الأمر! صفوة القول إن سعي الآخر الفلسطيني لتعظيم مكاسبه الخاصة إقتداء بنسخ الآخر العربي الأخرى، دون إدراكه لخصوصية موقف بلاده، ساهم بقوة في إضعاف الفلسطينيين في مواجهة دولة إسرائيل وفى مواجهة أنفسهم، فضلا عن مساهمته في تشويه كفاحهم ونضالهم في عيون العالم.
ماذا يعني أن نكون أحراراً؟
لم يكن الآخر العربي ليجرؤ على ارتكاب خطيئة التواطؤ مع الآخر الغربي، لولا نجاحه ـ أقصد الآخر العربي ـ المذهل فى تكريس اغتراب الذات ثقافياً، أى نجاحه فى تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، ومن ثم تعميته لها عن ادراك وجوده، وايهامه إياها أن مناهضتها له جلداً للذات!
أقول هذا لاقتناعي بأن الحرية الفكرية والتعبيرية تستمد المساندة لنفسها من غريزة الانسان البدائية. فحتى الوليد يثور على القيد ويميل لعدم الطاعة! وما من أحد يجب أن يدفعه غيره إلى هنا أو هناك، وأن يقول له ما يجب أن يعمله. ويُناط باللسان أن ينبري للزود عن صاحبه دون أن يحتاج إلى من يُلقنه. فهذا هو المنبع الفطري الذى لا يفنى لحب الحرية والزاد الذى تزودنا به الطبيعة ضد الآخرية وتجارة الآلام والتواؤم الخنوع. ثم إن هناك ميلاً انسانياً طبيعياً لأن يدلى المرء برأيه، فالبشر ليسوا مجهزين بأعضاء للكلام فقط ولكنهم يمتلكون الدافع لاستعمالها، ولا يحتاجون إلى أن يُحثوا على الكلام، ولا أن يُلقنوا ما يقولون..
طريق الحرية هو الطريق الشاق! لذا، فانه من المغري دائماً لنسخ الآخر العربي أن تُدمر من يعمد لمناهضة آخريتها أو مناهضة اغتراب الذات ثقافياً! ذلك أن تواطؤ الآخر العربي مع نظيريه الإقليمي/الإسرائيلي والعالمي/الغربي يتمترس فيما يبدو خلف هاتين العقبتين ـ أقصد الآخرية والإغتراب الثقافي للذات ًـ.
وعليه، فإنه لأمر منطقي انه إذا كانت الذات العربية ستتحرر من الآخرية والإغتراب فإن عقلها يجب أن يتحرر! يجب أن لا يكون عقلاً مُختزناً بالمعرفة ومتفتحاً للاتصال بالخارج فحسب، ولكنه يجب أن يكون مستقلاً فى ذاته أيضا! إذ أن عقل الانسان هو الطاقة الأساسية التى يمكن بواسطتها تحقيق امكانات الحياة..
الهوامش: ـــــــــــ (1) راجع: حازم خيري، تعرية الثائر الأنسني فرانز فانون للآخرية، مقال منشور على شبكة الانترنت. (2) للمزيد راجع: نادر الفرجانى، هدر الامكانية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985). (3) للتعرف على ظاهرة الاغتراب الثقافي للذات العربية راجع: حازم خيري، الإغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2006). (4) ياسر عرفات، أوراق سياسية ـ لقاءات ومقابلات صحفية مع الأخ أبو عمار، (الكويت: منظمة التحرير الفلسطينية، مكتب الكويت، 1985)، ص ص 30 ـ 33. ولتأكيد ما ورد في حديث عرفات عن إضعاف نسخ الآخر العربي للفلسطينيين راجع: Black September , (Beirut: Palestine Liberation Organization , Research Center , 1971) . (5) عندما سُئل الرئيس الراحل أنور السادات أثناء اجتماعه مع قادة الجيش المصري يوم 24 أكتوبر 1972 عما إذا كان هدفه من الحرب تحرير الأرض أم تنشيط العمليات لإعطاء الفرصة للحل السياسي، أجاب بقوله: "لقد سبق أن قلت ذلك للفريق صادق ـ وزير الحربية آنذاك ـ منذ أغسطس وهو كسر وقف إطلاق النار". للتعرف على تفاصيل ما دار بالاجتماع المذكور راجع: سعد الدين الشاذلي، مذكرات الشاذلي ـ حرب أكتوبر، (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب 1987)، ص ص 179 ـ 186. (6) أنظر: خطاب الرئيس العراقي صدام حسين في افتتاح مؤتمر القمة العربي العاشر بتونس20 ـ 22 /11/1979. www.Arableagueonline.org
(7) لمزيد من المعلومات عن دور الآخر الفلسطيني في إضعاف الذات الفلسطينية في مواجهة دولة إسرائيل راجع: إدوارد سعيد، "غزة ـ أريحا" سلام أمريكي، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994).
المقالة السابعة الله والحـرية
"لم أستطع إنهاء حرب الفانديه La Vendeeـ منطقة ريفية ومتعصبة للكاثوليكية، جنوب غرب فرنسا، كانت مؤيدة للملكية ومعادية للثورة الفرنسية ـ إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي. ولم أستطع الاستقرار فى مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي. وعندما تظاهرت بأني بابوي مُتطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة فى إيطاليا. ولو أنه أُتيح لي أن أحكم شعباً من اليهود لأعدت من جديد هيكل سليمان..!" نابليون
يُقيم السرد الديني (التوراتي/الإنجيلي/القرآني)، ومن قبله السرد الأسطوري البدائي(1)، لحادثة طرد الإنسان من الفردوس، توحيداً بين بداية التاريخ الإنساني وفعل الاختيار، أما القراءة البشرية لهذا السرد، خاصة السرد الديني، فتضع كل التأكيد على خطيئة فعل الاختيار، الفعل الأول للحرية، والمعاناة المترتبة عليه!
عاش آدم وحواء فى جنة عدن فى تناغم تام مع بعضهما ومع الطبيعة..كان هناك سلام، ولم تكن هناك ضرورة للعمل، لم يكن هناك اختيار، لم تكن هناك حرية، لم يكن هناك تفكير بالتالي! حُرم على الإنسان أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، إلا أنه تصرف ضد أمر الرب، فحطم حالة التناغم مع الطبيعة..
وبحسب القراءة البشرية للسرد الديني لحادثة السقوط، لم تلبث المعاناة الناجمة عن الفعل الأول للحرية أن جاءت! وجد الإنسان نفسه عارياً خجلاناً..انه وحيد وحر، ومع هذا عاجز وخائف! حريته المكتسبة الجديدة تبدو كلعنة، انه حر من القيد الحلو للفردوس، لكنه ليس حراً لكي يتحكم فى نفسه ويحقق فرديته..
على هذا النحو، تكتفى القراءة البشرية الرائجة بالتأكيد على خطيئة إرتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار والمعاناة المترتبة عليه، وتتجاهل مسألة أخرى، أراها من الأهمية بمكان، وهى أن إرتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار، إنما يُؤرخ للحظة فاصلة فى الوجود الإنسانى، وهى لحظة استخدام الانسان العقل لأول مرة!..
ولمن يتساءل: كيف يستقيم الحديث عن المعاناة التى لم يلبث أن جلبها ارتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار، الفعل الأول للحرية، مع الحديث عن تأريخ الفعل نفسه، للحظة فاصلة فى الوجود الإنسانى، وهى لحظة استخدام الإنسان لعقله لأول مرة؟! أجيب ببساطة: إن عملية نمو الحرية الإنسانية لها طابع جدلي(2)!
فمن جهة، إنها عملية نمو القوة والتكامل، السيادة على الطبيعة، نمو قوة العقل الإنساني وتطوير قدراته النقدية، نمو التضامن مع البشر الآخرين. ولكن من جهة أخرى نجد أن هذا الوعي المتنامي بالنفس كذاتية منفصلة، يعنى تهديد الإنسان بأشكال جديدة من القلق، يعني تنمية العزلة ومن ثم نمو الشك فيما يتعلق بدور الإنسان فى الكون ومعنى حياته والشعور النامي بعجزه ولا معناه كفرد!
قارئي الكريم، لسوف أحاول، فى السطور التالية، أن أفسر دواعي تجاهل القراءة البشرية الرائجة بيننا لحقيقة أن إرتكاب فعل الاختيار، الفعل الاول للحرية، ليس مرتبطاً فقط بجلب المعاناة، وإنما أيضاً يُؤرخ لاستخدام العقل لأول مرة!
الحاصل هو أن تُجار الآلام، فى كل زمان ومكان، يسيئون استغلال الطابع الجدلى لعملية نمو الحرية الانسانية، فنراهم يؤكدون دائماً على المعاناة التى جلبها ارتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار، ويتجاهلون تأريخ الفعل نفسه لبداية استخدام الانسان للعقل! يفعلون ذلك لصرف الجماهير عن الانتصار لحرية الفكر، لتظل خاضعة للوصاية الفكرية المُهينة، على نحو ما يحدث فى مجتمعاتنا المتخلفة!
فأشد ما يخشاه تجار الآلام، فى كل زمان ومكان، هو أن تتحرر الجماهير المُغتربة ثقافياً من نير الأوهام والأكاذيب والخرافات، التى يعمل هؤلاء التجار فى صبر ودأب مُدهشين على إلقاءها فى روع الجماهير، لعلمهم أن فى قهر الجماهير لاغترابها الثقافي، وانتصارها لحرية الفكر الانساني، هلاك لتجارتهم القذرة!..
ولتعضيد محاجتى المذكورة تواً، أسوق لقارئي الكريم ما أراه تأكيداً لجبن تجارة الآلام وأصحابها، الذين يُروجون، بدم بارد، لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، والذين يُحلون "الآخر" ـ وأقصد به فى هذا المقال كل من يحرص على إبقاء الجماهير مغتربة ثقافياً، أى يحرص على إبقاء "الذات" مُستهلكة لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا تملك الحق فى نقدها أو تطويرها(3) ـ محل الله:
أولاً: هناك، عند الحيوان، سلسلة لا تنقطع من ردود الأفعال، تبدأ بباعث قبل الجوع، وتنتهي بسير للفعل مُحدد بصرامة بشكل أو بآخر، وهو فعل يُطيح بالتوتر الذى يخلقه الباعث! أما عند الانسان فان تلك السلسلة تنقطع، إن الباعث موجود هناك، ولكن نوع الاشباع "مفتوح"، أى أنه على الانسان أن يختار بين سيرورات مختلفة للفعل. فبدلاً من فعل غريزي محدد من قبل، كما عند الحيوان، على الانسان أن يزن السيرورات الممكنة للفعل فى عقله، انه يبدأ فى التفكير، انه ينتج، يخترع الأدوات! ولكون الانسان، وعلى خلاف الحيوان، يُولد بدون تجهيز للفعل الملائم، فإنه يظل معتمداً على والديه فترة أطول، وتأتى ردود أفعاله على محيطه أقل سرعة وأقل تأثيراً عن الأفعال الغريزية المنتظمة على نحو آلي!
ثانياً: الحياة على الأرض تختلف عن الحياة فى الفردوس، فحين عاش آدم وحواء فى جنة عدن، كانا فى تناغم تام مع بعضهما ومع الطبيعة..كان هناك سلام، ولم تكن هناك ضرورة للعمل، لم يكن هناك اختيار، لم تكن هناك حرية، لم يكن هناك تفكير بالتالي! أما الحياة على الأرض، فتفرض على الانسان ممارسة حرية الفكر، على خلاف ما يُروج له تجار الآلام، فهم يُوهمون ضحاياهم أن حرية الفكر خطيئة، ويعضدون زعمهم الزائف بالمعاناة التى جلبها ارتكاب آدم وحواء لفعل الاختيار! فات تجار الآلام أن النهر للمنبع لا يعود، فاتهم كذلك أنه إذا فُقد الفردوس مرة فإن الانسان لا يستطيع أن يسترده! وأنه ليس له إلا أن يقبل بقانون الحياة، الذى يجعل من حرية الفكر الانسانى فريضة، يُعاقب بالتخلف من يُحجم عن آداءها، لأنه لا يُعقل أن يتعاطى الانسان مع الأرض ببراءة الفردوس! ولا يُعقل أيضاً أن يتخلى العقل الانسانى عن مكاسبه، فالنهر لا يعود لمنبعه..
قارئي الكريم، أما وقد دحضت لك الزعم الزائف بالتأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، أرانى راغباً فى تبرئة ساحة الجماهير، التى دوماً ما تُتهم من قبل تجار الالآم بعدم الرشادة وعدم الأحقية فى ممارسة حرية الفكر! ولكن، لتسمح لى قارئي الكريم أن أبدأ بدراسة رائدة لجوستاف لوبون عن سيكولوجية الجماهير، أُمهد بعرضها الطريق، قبل أن أدلف لمُحاجتى بأحقية الجماهير فى حرية الفكر!
تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير:
بعد أن درس وحلل استعدادات الفرد وميوله وغرائزه ودوافعه ومقاصده، حتى فى أعماله وعلاقاته مع أقرانه ونظرائه، وجد علم النفس نفسه أمام مهمة ثقيلة ومُلحة! وجد نفسه مدعواً إلى أن يُقدم تفسيراً للواقعة المُدهشة المتمثلة فى أن الفرد، الذى كان خُيل إلى علم النفس أنه جعله مفهوماً، يطفق فى بعض الشروط بالاحساس والتفكير والعمل على نحو مغاير تماماً لذاك الذى كان يمكن توقعه، وأن هذه الشروط تنشأ عن اندماجه بجمع بشرى اكتسب صفة "جمهور نفسي"!
وزاد من إلحاح الحاجة لإيجاد تفسير علمي، يُعتد به، لظاهرة الجماهير، ظهور الجماهير على سطح المسرح الأوروبي كحقيقة واقعة وضخمة، وتهديدها النظام الاجتماعي فى فترة بعينها! الباحثون والمفكرون، قبل جوستاف لوبون، حاولوا دراسة ظاهرة الجماهير، وتمخضت جهودهم عن ثلاثة أجوبة أساسية:
أولا: الجماهير هى عبارة عن تراكم من الأفراد المتجمعين بشكل مؤقت على هامش المؤسسات وضد المؤسسات القائمة. بمعنى آخر فإن الجماهير مؤلفة من اشخاص هامشيين وشاذين عن المجتمع. وهكذا نجد أن الجمهور يتطابق، بحسب هذه النظرة، مع "الرعاع" و"السوقة" و"الأوباش". إنهم رجال ونساء بدون عمل محدد ومُستبعدون من ساحة المجتمع الفعلية..
ثانياً: الجماهير مجنونة بطبيعتها! فالجماهير التى تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل أو لفريق كرة القدم الذى تؤيده تعيش لحظة هلوسة وجنون. والجماهير التى تصطف على جانبي الطريق ساعات وساعات لكي تشهد من بعيد مرور شخصية مشهورة أو زعيم كبير للحظات خاطفة هى مجنونة. والجماهير المهتاجة التى تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه هو المذنب هى مجنونة أيضاً، فإذا ما أحبت الجماهير ديناً ما أو رجلاً ما تبعته حتى الموت! وهذه الأعمال المتطرفة التى تقوم بها الجماهير ما هى إلا ضرب من أعمال الجنون التى تغذي المشاعر الغامضة وتكشف عن الجانب المظلم من الطبيعة البشرية..
ثالثاً: يزايد الجواب الثالث على الجوابين السابقين ويمشي خطوة أخرى فى اتجاه التهجم على الجماهير ويقول بأنها مجرمة. فهي بما أنها مؤلفة من "الرعاع والأوغاد"، أى من الرجال الغاضبين والحاقدين فإنها تهجم وتقتل وتسلب كل شيء. إنها تجسد العنف الهائج دون أى سبب أو مبرر واضح. وهى تعصي السلطات القائمة وتخرج على القانون. وفي نهاية القرن التاسع عشر تزايد عدد الجماهير فى أوروبا وراحت أعمالها المباغتة تخيف السلطات. وعندئذ راح المفكرون الفرنسيون والايطاليون يتحدثون عن ظاهرة "الجماهير المجرمة"، أى أولئك المجرمين الجماعيين الذين يهددون أمن الدولة وطمأنينة المواطنين وسلامتهم. وهكذا أصبحت الدراسة العلمية للجماهير تمر من خلال "علم القانون الجرائمي". وكان الايطالي سيجهيل أول من بلور هذه النظرية، وأول من خلع معنى اصطلاحياً على مفهوم "الجماهير المجرمة". فهى تضم بحسب رأيه كل الحركات الاجتماعية والمجموعات السياسية من الفوضويين إلى الاشتراكيين. كما تضم العمال وهم فى حالة الاضراب عن العمل، أو التجمعات فى الشوارع..
وبمجيء جوستاف لوبون (1841ـ1931)، رُفضت هذه الأجوبة كلها، واقتُرح خطاً جديداً لتفسير ظاهرة الجماهير، وللرد على سؤال: ما هو الجمهور؟
الميزة الأساسية للجمهور، بحسب لوبون، هى انصهار أفراده فى روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية. ولوبون يشبه ذلك بالمُركب الكيماوى الناتج عن صهر عدة عناصر مختلفة. فهى تذوب وتفقد خصائصها الأولى نتيجة التفاعل ومن أجل تركيب المُركب الجديد! وهذا التشبيه دليل على مدى علمية لوبون، فقد كان غاطساً فى مناخ القرن التاسع عشر. وهذا القرن الوضعي المؤمن إيماناً مطلقاً بالعلم كان يُخضع العلوم الانسانية للعلوم الدقيقة. ففي الجمهور يتبع كل شخص شبيهه المجاور له. والحشد الكبير يجرف الفرد معه مثلما يجرف السيل الحجارة المفردة التى تعترض طريقه. وذلك أياً تكن الطبقة الاجتماعية التى ينتمي إليها، عالية أم منخفضة، وأياً تكن ثقافته! فهذا لا يغير فى حقيقة الأمر شيئاً..
نهض لوبون بشدة ضد آراء الباحثين القائلين بأن الجماهير مجرمة بطبيعتها. وقال بأنها ليست مجرمة وليست فاضلة سلفاً. وإنما هى قد تكون مجرمة ومدمرة أحياناً، وقد تكون أحياناً اخرى كريمة وبطلة تضحى بدون مصلحة. وأحياناً تكون هذا وذاك فى نفس الوقت. وبالتالي فالفكرة الشائعة عن الجماهير بأنها فقط مدمرة وتحب السلب والشغب من أجل الشغب هى فكرة خاطئة..
اعتبر لوبون أن المتغيرات التى تطرأ على الفرد المنخرط فى الجمهور مشابهة تماماً لتلك التى يتعرض لها الانسان أثناء التنويم المغناطيسي. وقد استعار لوبون هذا التشبيه من علم الطب، والطب النفسي على وجه الخصوص. وكان التنويم المغناطيسي قد دخل ساحة العلاج بكل قوة على يد الطبيب شاركو وآخرين. ومارس التنويم المغناطيسي آنذاك سحراً كبيراً على النفوس، ولم نعد نستطيع، نحن المعاصرين، فهم مثل هذا التأثير الكبير بعد أن دالت دولته..!
نظرية لوبون حول نفسية الجماهير، وكما نرى، تحاول أن تنقل إلى علم نفس الجماهير وسائل العلوم التجريبية الدقيقة وأدواتها. وهذا الافتتان بالعلوم الدقيقة كان الصفة المشتركة للمرحلة الوضعية بأسرها كما أسلفنا. ويمكن أن نلاحظ ذلك على مدار كتاب لوبون "سيكولوجية الجماهير"، ومن خلال الأمثلة التى يضربها. فهو يرى أنه كلما اجتمع عدد متفاوت الكبر من الكائنات الحية، سواء أكانوا قطيعاً من الحيوان أم جمعاً بشرياً، بادروا من فورهم وبصورة غريزية إلى وضع أنفسهم تحت سلطة قائد! فالجمهور قطيع طيع، لايستطيع حياة بلا سيد! وظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخصع غريزياً لمن ينصب نفسه زعيماً عليه!
وبحسب الأستاذ هاشم صالح، مُترجم كتاب "سيكولوجية الجماهير"، يترتب على اكتشافات نظرية لوبون الرائدة حول نفسية الجماهير، المباديء التالية(4): 1ـ إن "الجمهور النفسي" يختلف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر فى ساحة عامة مثلاً، أو على موقف باص. فالجمهور النفسي يمتلك وحدة ذهنية على عكس هذه التجمعات غير المقصودة. 2ـ الفرد يتحرك بشكل واع ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لاواع. ذلك أن الوعي فردي تحديداً، أما اللاوعي فهو جماعي. 3ـ الجماهير محافظة بطبيعتها على الرغم من تظاهراتها الثورية. فهى تُعيد فى نهاية المطاف ما كانت قد قلبته أو دمرته. ذلك أن الماضي أقوى لديها من الحاضر بكثير، تماماً كأي شخص مُنوم مغناطيسياً. 4ـ إن الجماهير، أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الإجتماعية، بحاجة لأن تخضع لقيادة مُحرك. وهو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية والمنطقية، وإنما يفرض نفسه عليها بواسطة القوة. كما أنه يجذبها ويسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماماً كما يفعل الطبيب الذى يُنوم المريض مغناطيسياً. 5ـ إن الدعاية ذات أساس لاعقلاني يتمثل بالعقائد الايمانية الجماعية. ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد (أى بالعدوى). ومعظم أعمالنا ناتجة عن العقائد الإيمانية. أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة فيشكلان عقبتين فى وجه الإنخراط والممارسة. ويمكن تجاوزهما عن طريق التحريض والدعاية. ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الموحية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التى تفرض نفسها فرضاً دون مناقشة.
مباديء علم نفس الجماهير هذه هى لجوستاف لوبون بنفس حتمية قوانين علم الاقتصاد أو الفيزياء! يعرف من يستوعبها كيف يحكم الجماهير ويقود مخيلتها! فعلى هذه المخيلة، بحسب لوبون، تم تأثير رجالات التاريخ الكبار، وعن طريق هذا التأثير أنجزت الأديان الكبرى والأعمال التاريخية العظيمة كالبوذية والمسيحية والاسلام وحركة لوثر للاصلاح الدينى ثم الثورة الفرنسية لاحقاً! ولم يستطع أحد فى العالم ولا فى التاريخ أن يحكم ضد مخيلة الجماهير هذه، بمن فيهم الطغاة الأكثر استبداداً! فحتى هؤلاء كانوا حريصين على إثارة مخيلة الجماهير وإلهاب حماسها عن طريق خطبهم القوية وأسطورتهم الذاتية ومعاركهم الحامية!
أحقية الجماهير فى حرية الفكر:
ما أشد ما أحُس بالعار، وأنا أجد نفسي مُضطراً للتبشير بحرية الفكر فى مطلع الألفية الثالثة! فجماهير أمتى ـ وياللحسرة ـ تهرب من الحرية، كأنها خطيئة أو جائحة! ظاهرة فى التاريخ الانساني، فريدة وشاذة، شاء تجار الآلام أن تنمو وتزدهر بين ظهرانينا! عقاب بشع، شاءت عبقرية آثمة أن تُوقعه بنا..
قارئي الكريم، حدثتك فى صدر المقال الماثل عن جبن تجارة الآلام وأصحابها، الذين يُروجون، بدم بارد، لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، والذين يُحلون "الآخر" محل الله! وفى تعريفي لـ "الآخر"، أوضحت أنى أقصد به كل من يحرص على إبقاء الجماهير مغتربة ثقافياً، أى يحرص على إبقاء "الذات" مُستهلكة لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا تملك الحق فى نقدها أو تطويرها..
خدعة ساذجة، ولكنها خطيرة ومدمرة! إقناع الجماهير بخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، وإقناعها فى الوقت نفسه بوجوب إحلال "الآخر" محل الله! النتيجة المؤلمة هى إرهاب الجماهير بإستخدام خرافة التأثيم الالهى لحرية الفكر! أكاد أسمع ضحكات قاريء، وتعجبه من حديثي! إنه يتعجب من تعريفي لـ "الآخر"، ويسخر من حديثي عن ترويج تجار الآلام لخرافة التأثيم الإلهى لحرية الفكر الانساني، ويسخر كذلك من حديثي عن سعي تجار الآلام لاحلال "الآخر" محل الله! ويتخذ من سخريته دليلاً على يقظة وعيه وصعوبة أن يكون ضحية ساذجة على نحو ما ذكرت! ولسوف لا أُبادل قارئي الفطن سخرية بسخرية..!
قلت سلفاً إن عبقرية آثمة شاءت أن تُوقع بنا هذا العقاب البشع! وأرانى قانعاُ أن الآخر العالمي هو من أعد الشرك، وتولى الآخر المحلى دفعنا نحوه!..
بخروج الآخر الغربي/العالمي من عالمنا العربي، بعد استعمار دام لعقود طويلة، بدا منطقياً أن تأخذ ربوعنا الطيبة طريقها الطبيعى نحو التطور! لكن، يبدو أن ثأراً قديماً ظلت نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/العالمي، ويبدو كذلك أن مخاوفاً قديمة ظلت تؤرق الآخر نفسه! أما الثأر فدافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! فى حين أنه لم يكن سوى توسع مألوف من دولة فتية ناهضة! خطيئة الآخر العربي أن غلفه برقائق دينية!
أما المخاوف المستعرة فى صدر الآخر الغربي/العالمي فمصدرها الخشية من نهوض دولة فتية فى ربوعنا العربية، تُعيد إخراج بلاده من التاريخ..
مزاعم غربية لا تخلو من وجاهة! يجيد الآخر الغربي/العالمي توظيفها لتبرير سياسته اللأنسانية تجاه عالمنا العربي، ويحظى بفضلها بدعم واضح من الذات الغربية، رغم صيحات الادانة التى تُطلقها تلك الذات بين الحين والآخر على استحياء، احتجاجاً على نهج الآخر الغربي/العالمى تجاه ربوعنا الطيبة..
الآخر الغربي/العالمي أعد الشرك، وهو إبقاء الجماهير العربية فى إغتراب ثقافي، تُحرم بموجبه من الحق فى نقد ثقافتها وتطويرها! الآخر الغربي/العالمي إذن فى مأزق، لأن إضطلاعه المباشر بدفع الذات العربية نحو الشرك، غير مأمون العواقب، فالذات العربية، على سذاجتها، لابد وأن تتنبه إلى ما يُراد بها! لم تلبث العبقرية الغربية الآثمة أن وجدت الحل السحري(5)! آخر عربي/محلى، ينتمى لنفس ثقافة الذات العربية، يتولى مهمة دفعها نحو الشرك، دون أن تتنبه له الذات، وكيف تفعل؟! وهو يشاركها الملامح الجسدية، ويشاركها عاداتها وتقاليدها، وأفراحها وأتراحها، والأهم من ذلك يشاركها عقيدتها الدينية!
بالفعل نجحت الخدعة، على سذاجتها، وساعد على نجاحها أمور عديدة، منها أن الآخر العربي كان موجوداً إبان قوة الدولة العربية، إذ كانت الدولة قوية بينما كان الانسان العربي مغترباً، وهو ما ساعد بالتأكيد على التعجيل بإنهيارها!
المهم، لم تجد الذات العربية غضاضة فى احتكار الآخر العربي/المحلى لحق نقد الثقافة العربية الإسلامية وتطويرها! وفى رأيي المتواضع أنه كان للخدعة أن تنكشف لو أن الآخر العربي/المحلى مارس نقداً أنسنياً للثقافة العربية الإسلامية! لكن الذى حصل، ولا يزال يحصل، هو أن هذا الآخر وظف إمكانياته الفكرية، وبعضها عبقري، فى تكريس تواطؤه المشين مع الآخر الغربي/العالمي!
ولمن يسأل: كيف لخدعة كهذه أن تنطلى بهذه السهولة على الجماهير العربية؟! أقول إننى ما أوردت تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير، فى الجزئية السابقة، رغم عدم إتفاقى مع بعض ما ورد به، إلا تحسباً لسؤال كهذا!
إن ثقة الجماهير العربية فى الآخر العربي/المحلى، وقبولها باحتكاره لحق نقد الثقافة العربية الإسلامية وتطويرها، إنما تجد فى تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير تفسيراً لها! فنسخ الآخر العربي/المحلى لم يكن لها أن تستمر فى احتكارها لحق نقد الثقافة العربية الاسلامية وتطويرها، لولا أنها تُحسن توظيف مقولات لوبون! الآخر العربي/المحلى يعي جيداً قول لوبون إن الجمهور قطيع طيع، لايستطيع حياة بلا سيد! وظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخصع غريزياً لمن يُنصب نفسه زعيماً عليه! ويعي أيضاً قول لوبون إن الجمهور ليس مجرماً وليس فاضلاً سلفاً، وإن انصهار أفراده فى روح واحدة وعاطفة مشتركة، إنما يقضي على التمايزات الشخصية ويخفض من مستوى الملكات العقلية.. يعي الآخر العربي/المحلى المقولات اللوبونية جيداً، ويسعى جاهداً للإفادة منها، على نحو بشع وغير إنسانى! الزعامات المحلية (سياسية كانت أم دينية أم فنية أم كروية أم إعلامية..إلخ) والتى يسميها لوبون محركى الجماهير، تلعب دوراُ بارزاً، فى إحكام السيطرة على الجماهير العربية ودفعها فى سلاسة وهدوء نحو الشرك الذى أعده لها الآخر الغربي/العالمي! فلا يكاد يخلو قطر عربي من زعامة محلية أو أكثر، تُحاط بسياج مخيف من الهيبة والجلال، وتتمترس خلفها كل قوى القهر والرجعية! ولهذه الزعامات أن تناوش الآخرين الغربي والإقليمي بين الحين والآخر، سعياً منها لتكريس هيبتها الوطنية، وإيهام الجماهير بعدم تواطؤها معهما!
فى الإطار نفسه، عمد الآخر العربي/المحلى لبناء آليات شرسة تفرض الاغتراب الثقافي أحيانا على الجماهير وتحببه أحيانا أخرى لهم، فتصوره على أنه إكليل غار فوق رؤوسهم! حتى أنه أصبح مألوفاً فى بلادنا أن يُباهى المغترب باغترابه الثقافي، ويرى فى زواله زوالاً لهويته الثقافية! أذكر من هذه الآليات(6): [1] مؤسسات العنف. [2] مؤسسات التلقين الإعلامي. [3] المؤسسات التعليمية. [4] محترفو التبرير الديني.
قارئي الكريم، أرجو ألا تفهم من حديثي أني أدين تصور جوستاف لوبون لسيكولوجية الجماهير، لكونه يقترح علينا ما نستطيع به أن نحكم الجماهير وأن نقود مخيلتها! فحسب دراسة لوبون الرائدة والمهمة أن نبهتنا لأمور عديدة، ترتبط بظاهرة الجماهير، وتدُلنا إن أحسنا فهمها على موطن الداء فى مجتمعاتنا!..
خُذ مثلاً حديثه عن مرونة الجمهور، خاصة خضوعه وانقياده للزعماء أو محركى الجماهير كما يسميهم، تجد أن لوبون يُعرى لنا الآخر المحلى ويبين لنا أن الجمهور (الذات) ليس مجرماً وليس فاضلاً سلفاً، وأنه إذا قُهرت آليات تكريس إغترابه الثقافي، وإذا خُلع نير الآخرية عن عنقه، وإذا توافرت له زعامات أنسنية، لتعاطى بكفاءة مع معطيات العصر، ولآمن بالله وبحرية الفكر لكل البشر..
إن تغريب الجماهير ثقافياً ليس قدراً محتوماً، وإنما هو حرفة مُحرمة يُجيدها "الآخر"، فى كل زمان ومكان! تساعده فى ذلك، خصائص الجماهير، التى نجح لوبون فى تصوير بعضها بدقة بالغة! لذا، فليس أمامنا، معشر العرب، إلا أن نفعل كما تفعل الأمم المتحضرة، والتى دفعها فهمها العميق لطبيعة ظاهرة الجماهير، إلى إبقاء الاتهام بـ"الآخرية" سيفاً مُسلطاً على رقبة كل من يضطلع بمسئولية تمس الجماهير، لا كما نفعل نحن فى مجتمعاتنا المتخلفة، حين نُسلم مصيرنا لآخر محلى لا يتورع عن التواطؤ مع الآخر العالمي، قابلين بترويج تجار الآلام لمسألتى التأثيم الإلهى لحرية الفكر، وإحلال "الآخر المحلى" محل الله!..
من هنا، لك قارئي الكريم أن تجد تفسيراً لحفاوة الآخر العربي/المحلى بنهج الرئيس الأمريكي الجديد أوباما! فقد جاء الرجل، وهو أحد أهم رموز الآخر الغربي/العالمي ليُطمئن الآخر العربي/المحلى على مستقبله، الذى كاد سلفه بوش أن يعصف به فى غمرة غضبه لأحداث 11 سبتمبر! جاء أوباما ليُطمئن النخب العربية الحاكمة، باعتبارها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي/المحلى! جاء ليُجدد الثقة فيها، وليُطلق يدها فى الذات العربية، دون أن تخشى لومة لائم..!
جاء أوباما ليعتذر عن وعد سلفه بوش لشعوبنا بتخليصها من زوار الفجر، وإعادتها إلى التاريخ بعد خروجها منه! جاء أوباما ليُسعد الآخر العربي ويُشقينا!
الهوامش: ـــــــــــ (1) جيمس فريزر، ترجمة نبيلة إبراهيم، الفولكلور فى العهد القديم، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972)، الجزء الأول، ص 47-72. (2) للمزيد راجع: إريك فروم، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، الخوف من الحرية، (القاهرة: مكتبة دار الكلمة، 2003). (3) راجع: حازم خيري، محنة شعوبنا إدراكها الساذج للآخر، مقال منشور على شبكة الانترنت. (4) للمزيد راجع: غوستاف لوبون، ترجمة هاشم صالح، سيكولوجية الجماهير، (بيروت: دار الساقي، 1997). (5) للتعرف على مدى بروميثية الحضارة الغربية راجع: حازم خيري، الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة، مقال منشور على شبكة الانترنت. (6) للمزيد راجع: حازم خيري، الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2006).
المقالة الثامنة حتى آمالنا لم تسلم من أذى الآخر!
"إن الأمل هو مقوٍ نفسي للحياة والتطور" إريك فروم
فى مجتمعاتنا العربية، فقدت الايديولوجيات والمفاهيم كثيراً من جاذبيتها! والكليشيهات التقليدية كالـ"يسار" والـ"يمين"، أو الـ"شيوعية" و الـ"رأسمالية" والـ"أصولية" لم يبق لها معنى! أولئك الذين يصبون بشوق إلى أن يعيشوا وإلى أن يكون لهم مواقف جديدة يُؤثرونها على المخططات الموضوعة فى قوالب جاهزة، يبحثون عن اتجاه جديد، عن فلسفة ينصرف مضمونها نحو أولوية الإنسان لا أولوية الايديولوجيات والمفاهيم! هؤلاء الثوار بوسعهم تشكيل حركة تطمح فى آن واحد إلى تغييرات عميقة فى ممارستنا وفى تمهيدنا الفكري للحياة!
بيد أنه لابد من توضيح نقطة لها أهميتها، وذلك أنه يوجد اليوم يأس واسع الانتشار جداً بين النابهين وذوي الرأى فيما يتعلق بإمكانيات تغيير مجرى الأمور. هذا اليأس هو، فى جزئه الكبير، راجع لما يعترى فهم ظاهرة الأمل من إساءة!
البداية المنطقية، إذن، لهذا المقال هى دراسة ظاهرة الأمل والتعرف على ماهيته(1)! فهل الأمل، على نحو ما يرى كثيرون، هو ما لدى المرء من رغبات وأمنيات؟..فى هذه الحالة يمكن أن يكون أولئك الذين يرغبون فى اقتناء السيارات والبيوت والكماليات بأعداد كبيرة وأفضل نوع، من ذوي الأمل..لكنهم ليسوا كذلك، إنهم أناس نهمون، على ما يبدو، بمزيد من الاستهلاك لا من ذوي الأمل..
وإذا لم يكن موضوع الأمل شيئاً وإنما امتلاء، حالة من اليقظة أكبر، تحرر من السأم أو بعبارة أخرى، إذا كان موضوع الأمل هو الخلاص أو الثورة، فهل يكون ذلك هو الأمل؟ هذا النوع من الانتظار يكون من اللاأمل إذا لم يعكس سوى سلبية وتوقع، إذ أن الأمل يخفي، هكذا، الاستسلام والايديولوجية المحضة.. لقد وصف كافكا هذا النوع من الأمل السلبي والمُنقاد، وصفاً رائعاً فى مقطع من كتابه "القضية". حيث يصل رجل إلى الباب الذى يؤدي إلى السماء (الشريعة) ويتوسل إلى الحارس لكي يدعه يدخل. فيجيبه بأنه لا يستطيع الآن السماح له بذلك. وعلى الرغم من أن الباب الذى يقود إلى الشريعة يظل مفتوحا،ً فإن الرجل يقرر أنه يُحسن صنعاً لو انتظر حتى يحصل على الإذن بالدخول!
يظل الرجل يطلب بانتظام الإذن بالدخول، ولكنه يتلقى دائماً نفس الجواب أنه مازال لا يستطيع بعد الحصول على الاذن بالدخول. الرجل لسنوات طويلة يلاحظ الحارس باستمرار تقريباً، ويتعلم أن يتحقق حتى من براغيث ياقته الفرو. فى النهاية يصبح الرجل طاعناً فى السن، وإذ يحس أنه على شفا الموت، يسأل لأول مرة: "كيف جرى أنه لم يسع أى شخص غيري، طيلة هذه السنوات كلها، إلى الدخول؟" فيجيب الحارس : "لم يكن فى وسع أحد غيرك أن يحصل على الوصول إلى هذا الباب، بما أن هذا الباب كان مخصصاً لك. والآن فإنني أغلقه"!
كان الرجل الشيخ طاعناً فى السن أكثر مما يجب لكي يفهم، ولكنه لم يكن فى وسعه أن يفهم أكثر لو أنه كان أصغر سناً. فهو، كمعظم أبناء مجتمعاتنا، يرى أن الآخر ـ وأقصد به هنا كل من يحرص على إبقاء الإنسان مغترباً ثقافياً، أى يحرص على إبقاءه مُستهلكاً لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا يملك الحق فى نقدها أو تطويرها(2) ـ يملك الكلمة الأخيرة: إن قال لا فإنه لا يستطيع الدخول! ولو كان للرجل أكثر من هذا الأمل السلبي لأمكنه الدخول، ولأمكن لشجاعته فى مخالفة إرادة الآخر أن تكون الفعل المحرر الذى يمكنه أن يقوده إلى غايته..
هذا النوع من الأمل السلبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشكل مطلق من الأمل يمكن أن يوصف كأنه رجاء فى الزمن. الزمن والمستقبل يصبحان المقولة الرئيسية لهذا النوع من الأمل. فما من شيء يُفترض حدوثه فى الآن وإنما بعد ذلك فحسب، فى اليوم التالي أو فى العام القادم، وفى العالم الآخر، إذا كان من المحال الاعتقاد بأن الأمل يمكن أن يتحقق فى هذا العالم. فوراء هذا الاعتقاد تجد نفسها وثنية المستقبل والتاريخ والأجيال القادمة، تلك التى تُعبد كأنها آلهة!
المرء لا يفعل شيئاً، إنه يبقى سلبياً لأنه ليس شيئاً ولأنه عاجز، ولكن المستقبل سوف يكمل ما لم يستطع تحقيقه. هذه العبادة للمستقبل، هى استلاب الأمل! فبدلاً من أن أكون أنا من يعمل أو يصبح شيئاً ما فإن الأوثان، المستقبل والأجيال القادمة، ستحقق لى مشاريعي دون أن يكون على ما أفعله..
إذا كان الانتظار السلبي هو شكل مموه لليأس والعجز، فثمة شكل آخر من القنوط، يتخذ تماماً القناع المقابل، قناع المغامرية، قناع اللامبالاة تجاه الواقع! ذلك هو موقف أولئك الذين يزدرون من لا يفضلون الموت على استدامة النضال! هذا الستار الراديكالي المُستعار من اليأس والعدمية هو متواتر لدى بعض العناصر الأكثر التزاماً فى مجتمعاتنا. فهم بليغو الأثر بجسارتهم وحزمهم، لكنهم يفقدون كل مواجهة بانعدام الواقعية والحس الاستراتيجي وأحياناً بانعدام حب الحياة..!
نمر جاثم هو الأمل الحقيقي، لا ينقض إلا عندما تجيء اللحظة!..
فأن يؤمل المرء يعني أن يكون مستعداً فى كل لحظة لاستقبال ما لم يكن قد نشأ بعد، دون أن ييأس! إن ضعاف الأمل، فى كل زمان ومكان، يستقرون فى الراحة أو فى العنف. والذين يكون أملهم حقيقياً يميزون كل إشارة حياة جديدة، ويتشبثون بها، فهم فى كل لحظة مستعدون للمشاركة فى انبثاق ما يجب أن يُولد!
إغترابنا الثقافي وسلبية آمالنا:
ثمة علاقة وطيدة بين امتلاك الانسان، فى مجتمعاتنا المتخلفة، لأمل سلبي وبين إغترابه ثقافياً، لأنه إذا كان الاغتراب الثقافي، كما عرفته سلفاً، يعني بقاء الانسان مستهلكاً لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا يملك الحق فى نقدها أو تطويرها، فإن الأمل السلبي، وهو رجاء فى الزمن واكتفاء بالسلبية والتوقع، يُعد ـ بحق ـ نتيجة وسبباً لادامة الاغتراب اللعين، إذ يكرسه ويحول دون قهره! أبناء مجتمعاتنا العربية، أعنى معظمهم، يشبهون رجل كافكا العجوز! يأملون، لكنهم لم يُمنحوا ما يدفعهم للتصرف وفقاً لحركة عقولهم وقلوبهم، وما لم يُعط الآخر الآثم الضوء الأخضر فإنهم لا يكفون عن الانتظار..انتظار جودو(3)..
قارئي الكريم، أظنك الآن تُطالبنى بمزيد من الايضاح، وإليك ما تطلب!..
قلت فى مقال سابق لى بعنوان "الله والحرية"، منشور على شبكة الانترنت، إن الآخر العربي/ المحلى (ومن ورائه الآخر الغربي/العالمي والآخر الاسرائيلي/الاقليمي) نجح فى الترويج، بدم بارد، لمسألتى التأثيم الالهى لحرية الفكر وإحلال نفسه محل الله، فما يفعله هو إرادة الله تجرى على يديه الملوثتين!
أجل، نجح الآخر العربي/المحلى، بنسخه المتعددة والمتشابهة، فى تغريب شعوبنا ثقافياً، وتحويلها لمجرد مستهلك لثقافة، لايملك الحق فى نقدها أو تطويرها! اغتصب الآخر العربي امتياز نقد الثقافة العربية الاسلامية وتطويرها، وبات مُهدداً فى دمه وعرضه وماله من يجرؤ على سلب الآخر هذا الامتياز غير الانساني..
النخب الحاكمة، تقف بالطبع فى طليعة قوى الظلام، وذلك باعتبارها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي! إنها لا تكف عن إيهامنا بأننا شعوب مستقلة، والحق أن دولنا لا تملك من الاستقلال الحقيقي سوى إسمه! فأى إستقلال هذا، وتواطؤ الآخر المحلى مع الآخرين العالمي والاقليمي لا تُخطئه إلا أعين الجبناء!
تجار الآلام يرتعون فى ربوعنا الطيبة كالأفاعى السامة، يطالبون شعوبنا، فى جرأة مخيفة، بتجنب جائحة الحرية، ويحذرونها من مجرد التفكير فى استعادة حقها المشروع فى نقد وتطوير ثقافتها العربية الاسلامية! يوهمونها أن فى انفراد الآخر العربي/المحلى بفعل التفكير والنقد ارضاء لله وتجنب لسخطه وغضبه!..
أوهموا البسطاء أن الله لا يثق إلا فى عقل الآخر العربي، أما عقولهم ـ وياللغرابة ـ فما خُلقت لتُستخدم، وإنما لتستوعب ما تجود به قريحة الآخر! يالها من جريمة مُخزية، أورثتنا الذل والمهانة، على كافة الأصعدة وفى كافة الميادين.. فى ظل أجواء ظلامية كهذه، يعجز فيها المغترب عن ممارسة أبجديات التفكير، نرى المغتربون فى كافة المحافل، يطلبون الفتوى، حتى فى أتفه الأمور!
أقول إنه فى ظل أجواء كهذه، يصبح منطقياً شيوع الأمل السلبي بين المغتربين، فاحتلال عقولهم يسلبهم إرادة الفعل، فنرى آمالهم مجرد رجاء فى الزمن واكتفاء بالسلبية والتوقع! ألم أقل إنهم يشبهون رجل كافكا العجوز! يُهدرون أعمارهم الغالية، والتى يستحيل تعويضها، فى انتظار أن يمن عليهم الآخر المحلى بتحقيق ولو بعض آمالهم، على تواضعها! إنهم فى انتظارهم خائفون، لا يجرؤون على مبادرة الفعل، فتحذيرات تجار الآلام لهم وتخويفهم إياهم بغضب الله، تزيد من سلبية آمالهم، فنراهم تجسيداً مريراً للانتظار..انتظار اللاشيء! المؤلم هو أن الآخر العربي (ومن ورائه الآخر الغربي/العالمي والآخر الاسرائيلي/الاقليمي) يجد فى انتظار المغتربين لبانته، فيعمد لتثمينه، ويحوله لوثن يطالبهم بتقديسه..!
من هنا، قارئي الكريم، نجد تفسيراً لشيوع تمجيد الانتظار والصبر فى ثقافتنا العربية الاسلامية، فالواضح أن الآخر العربي/المحلى نجح على ما يبدو فى تحقير الحاضر فى عيون المغتربين! ودليل ذلك ما نراه بيننا من تقديس للماضي وسعي لاستعادته فى المستقبل، وكذا ما نراه من تقديس للمستقبل وهروب للأمام!
هكذا ينفرد الآخر العربي بالحاضر، وإذا سُئل: لما لا تتعاطى الانتظار، وأنت تحرص على الترويج له! ساعتها يضحك الآخر العربي قائلاً: "الآخر العربي يأكل..والذات العربية تشبع!". الحق، قارئي الكريم، أن مأساة أمتنا موغلة فى التعقيد والقدم، فما يحدث هو أن ثأراً قديماً لم تزل نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/العالمي، دافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! خطيئة الآخر العربي وقتها أن غلفه برقائق دينية!..
ياله من ثأر مروع! أن يتولى آخر عربي/محلى (ومن ورائه الآخر الغربي/العالمي والآخر الاسرائيلي/الاقليمي) مهمة تأبيد تخلف الذات العربية، عبر تغريبها ثقافياً وإدامة انتظارها إلى ما لانهاية! ولقارئي الكريم أن يُقارن بين خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما (وهو أحد أبرز رموز الآخر الغربي/العالمي) فى القاهرة وخطابه فى أكرا ـ غانا التى زارها مؤخراً، ستجده فى غانا السوداء يشدو بالحرية لإفريقيا السوداء، أما فى القاهرة العربية فيحرص أوباما على تجاهل قضية الحرية، ويستبدل بها حديثاً انتهازياً عن الاقتصاد والتجارة والبيئة!..تُرى ما الفرق؟!
الفرق يعرفه المتخصصون، وأنا منهم، فالغرب فى تعاطيه مع إفريقيا يميز بين إفريقيا السوداء (إفريقيا جنوب الصحراء) وإفريقيا العربية (الشمال الإفريقي)! صحيح أن الغرب حرص على خلق ودعم آخرية محلية فى إفريقيا السوداء، إبان الحرب الباردة، لكن هدفه كان مواجهة المد الشيوعي فيها، وليس إدامة تخلفها..
والدليل أنه بمجرد إنهيار الكتلة الشرقية واختفاء الخطر الشيوعي، توجه الآخر الغربي/العالمي بزعامة الآخر الأمريكي نحو تخليص إفريقيا السوداء من وباء الآخرية المحلية، وعمل ولا يزال على تحقيق الاستقلال الحقيقي لدولها، الأمر الذى دفع البعض لاطلاق مسمى "الاستقلال الثاني" على هذه المرحلة، اقتفاء بمرحلة خروج الأوروبيين من إفريقيا السوداء فى بداية ستينيات القرن الماضي!
وقتها تساءلنا: وماذا عنا معشر العرب؟ ألم يأن لربوعنا الطيبة أن تتخلص من الآخرية العربية/المحلية أسوة بإفريقيا السوداء؟! ولم يلبث الرد المؤلم أن جاء: وماذا عن الثأر القديم، أخرجتمونا من التاريخ مرتين، ولن نسمح بتكرار ذلك(4)!
بيد أنه بوقوع أحداث الحادى عشر من سبتمبر، لم تنج النخب العربية الحاكمة، باعتبارها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي، من ثورة الغضب الأمريكي، وشهد النهج الأمريكي تجاه النخب العربية الحاكمة تحولات راديكالية، على الأقل نظريا! فلأول مرة تُثمن الولايات المتحدة المقولات الأنسنية في خطابها الموجه للعالم العربي، على خلاف تثمينها السابق للنخب العربية الحاكمة، ومساندتها لها في تكريسها لمبدأ الاستقلال السلبي وإدامتها لتخلف الذات العربية!
ولعل نظام الراحل صدام حسين كان بحق أبرز ضحايا الغضبة الأمريكية..
إذ أنه طبقاً لتقرير اللجنة الوطنية الأمريكية الخاص بهجمات الحادي عشر من سبتمبر(5)، استند تنظيم القاعدة بصورة ملموسة إلى الأتباع من مختلف الدول العربية، وهو ما بدا واضحاً في تشكيل المجموعات التي اضطلعت بتخطيط وتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد أهداف أمريكية، حيث حمل أعضاء تلك المجموعات جنسيات عربية مختلفة، فضلاً عن اضطلاع خالد شيخ محمد بالتخطيط لتلك الهجمات، فبرغم انتمائه لأصول عرقية غير عربية، إلا أنه نشأ وتربى في الكويت، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين في السادسة عشر من عمره. وفى الولايات المتحدة، حصل على مؤهله الجامعي في الهندسة الميكانيكية في 1986. ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلته التي قادته إلى التخطيط لهجمات سبتمبر 2001. وهى الهجمات التى أسفرت عن إزهاق آلاف الأرواح في دقائق معدودة، وتدمير برجين تدميراً كاملاً، فضلا عن تدمير جزء من مبنى البنتاجون..
وكما هو معروف، لم تلبث الولايات المتحدة أن أعلنت أن الهجمات إعلان صريح للحرب عليها! وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ الاستراتيجية الأمريكية، خاصة في شقها المعني بالعالم العربي، فقد اعتبرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين، النخب العربية الحاكمة التي طالما نعمت بالمساندة الغربية لها، مسئولة عن تكريس الأجواء القمعية المؤهلة لإفراز أمثال مخططي و منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر! وهو ما شكل ـ من وجهة نظرها آنذاك ـ تهديداً صريحاً للأمن الغربي بصفة عامة، والأمن القومي الأمريكي بصفة خاصة..
ولسوف أختم هذه الجزئية بسؤال أجابت عنه ممارسات الادارة الأمريكية الجديدة، وخطاب أوباما فى القاهرة: هل كانت الولايات المتحدة، بوصفها زعيمة العالم الغربي، جادة حين أعلنت على لسان رئيسها السابق جورج بوش(6)، فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أن اطاحتها بالنخبة الصدامية، إنما ترمى لمساعدة دول العالم العربي على التخلص من نسخ الآخر العربي، وكذا مساعدة الدول العربية على استبدال استقلالها الحقيقي باستقلالها السلبي، عبر جعل العراق نموذجاُ لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العربية فى المستقبل؟! أم أن الاطاحة بالنخبة الصدامية جاءت لاستعادة الهيبة فحسب، والبحث عن بديل مُروض؟!..
نحو تثوير الأمل فى مجتمعاتنا:
قارئي الكريم، لم يبق لى الآن، بعد أن تطرق حديثى، الذى أظنه قد طال بعض الشيء، إلى تحليل ظاهرة الأمل، وتوضيح جناية الآخر على الأمل فى مجتمعاتنا ـ أقول لم يبق لى سوى الدعوة لأنسنة الأمل فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة، بمعنى أن نُفقد آمالنا سلبيتها ونجعلها آمالاً حقيقية، لا انتظاراً أبدياً..
أعلم أن الاغتراب الثقافي لشعوبنا والآخرية البغيضة، خاصة الآخرية العربية/المحلية، يقفان حجر عثرة فى طريق التثوير المنشود! وأعلم كذلك، ربما أكثر من غيري، صعوبة، إن لم أقل استحالة، تخليص أمالنا من تشوه لحق بها!
غير أن هذا لا يبرر، ولا ينبغي له أن يبرر، فقدان الأمل، لأنه عندما يختفى الأمل، لا يبقى للحياة من معنى! ففعل أمل هو حالة من الوجود، إنه حيوية داخلية، حيوية شديدة، تدفع صاحب الأمل للتغيير والتطوير، لا لهدر الحياة..
الأمل هو عنصر باطني فى الحياة وفى ديناميكية الفكر! فلنطمح إلى إحداث تغييرات عميقة فى ممارستنا وفى تمهيدنا الفكري للحياة! ولنميز كل إشارة حياة جديدة، ونتشبث بها! لنكن فى كل لحظة مستعدون للمشاركة فى انبثاق ما يجب أن يُولد! لنصرخ فى وجه الآخر: خلقنا الله أحراراً، فليعش عقلك ولتعش عقولنا!
الهوامش: ـــــــــ (1) لمزيد من التحليل لظاهرة الأمل راجع: اريك فروم، ترجمة ذوقان قرقوط، ثورة الأمل، (بيروت: منشورات دار الآداب، 1973). (2) راجع: حازم خيري، محنة شعوبنا إدراكها الساذج للآخر، مقال منشور على شبكة الانترنت. (3) "فى انتظار جودو"، مسرحية شهيرة للكاتب المسرحي صمويل بيكيت، ترتبط فكرتها بفكرة الأمل السلبي أو وثنية الانتظار، وذلك حين نُنفق أعمارنا، على أهميتها وندرتها، فى انتظار ما لا يأتى، نُنفقها فى انتظار اللاشيء.. (4) راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص 338 – 339. (5) اعتمد الكاتب في رصده لأحداث 11 سبتمبر على الرواية الأمريكية، ليس لكونها الأكثر مصداقية ، ولكن لكونها الأكثر تأثيرا في مجريات الأحداث راجع: National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004). (6) United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002 .
المقالة التاسعة تُجار الآلام والمُزايدة على خصوصيتنا الثقافية
"قرأت خطاب السيد الرئيس الأمريكى باراك أوباما ـ الذى ألقاه بجامعة القاهرة ظهر الخميس 4/6/2009 ـ بشغف وعناية وتركيز أكثر من مرة، فأُعجبت به، وارتاحت نفسي إلى ما اشتمل عليه من أفكار قويمة، ومن معلومات جيدة، ومن كلمات سديدة.." شيخ الأزهر
فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة ـ حيث لا تفهم القلة الأنانية التى تسيطر على مقدرات شعوبنا الحرية إلا بأنها حرية احتفاظها بقوتها وثرائها، ولا تهتم أدنى اهتمام بنشر فوائد الحرية على الجمهرة العظمى من مواطنيها ـ لا شك أنه من المقبول أن نقول إنه فى جميع هذه المجتمعات، باستثناء دائرة ضيقة من الناس المحظوظين، لا يستطيع الرجال والنساء العاديين أن يفكروا فى الحرية بأكثر مما كان يفكر فيها العبد فى الدولة الإغريقية أو الرومانية القديمة! إذ أن الشيء الوحيد الذى يضطر هؤلاء للتفكير فيه هو كيف يستطيعون إشباع حاجاتهم البدائية!
أقول هذا لألجم طموح نفسي التى يؤلمها كثيراً أن تستشعر يوماً بعد يوم ضآلة حظوط الفكر الأنسني فى ربوعنا الطيبة! فكل دراسة للفكر الأنسني هى دعوة للتسامح، وكل دعوة للتسامح هى تأكيد لحقوق العقل! والخطر الأكبر الذى يواجه أى مجتمع متخلف دائماً هو رغبة أولئك الذين يسيطرون على مقدراته فى منع النظريات والسلوك الذى قد يُهددهم فيما يملكون! فهم نادراً ما يهتمون بالفضائل الممكن كسبها من اطلاق سراح عقول مواطنيهم، ولكنهم يهتمون فقط بتأبيد تخلفهم، لأن رغباتهم لا يُحتمل أن تتحقق إلا فى مثل هذه الأجواء الراكدة! ولهذا فإن نظرياتهم عن التجديد والتطوير تتركز دائماً فى خدمة تلك الرغبات. من هنا نتبين امكانية اندلاع الصراع الثقافي بين أبناء الثقافة أو الحضارة الواحدة، على خلاف الحديث الكلاسيكي عن أن الصراع الثقافي لا يكون إلا بين أبناء الثقافات أو الحضارات المختلفة! ولسوف أضرب مثلاً على ذلك بمجتمعاتنا العربية، فالمسيطرون على مقدراتها ـ أقصد الآخر العربي/المحلي ـ يسعون لتأبيد تخلف أبنائها ـ أقصد الذات العربية ـ ، عبر تكريس اغترابهم ثقافياً، أى حرمانهم من حقهم المشروع فى تعهد ثقافتهم، أو طريقة حياتهم الشاملة، بالنقد والتطوير، واحتكار هذا الحق لأنفسهم! علاوة على سعيهم للحيلولة دون تعرية آخريتهم المحلية المستترة، والتى لا تراها عيون الذات العربية المغتربة!
أقول إنه على خلاف فترات تاريخية بعينها كان الآخر العربي/المحلى فيها هو نفسه الآخر العربي/العالمي، نرى الآن الآخر العربي ـ ومن ورائه الآخر الغربي ـ يضطلع بمهمة تغريب شعوبنا العربية ثقافياً، ويسعي لتأبيد تخلفها!
ولمن يسأل عن دوافع الآخر الغربي/العالمي لدعم الآخرية العربية/المحلية، أقول إن دوافع هذه الجريمة الآثمة ليست حديثة العهد، وإنما تضرب بجذورها فى التاريخ، فما يحدث هو أن ثأراً قديماً لم تزل نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/العالمي، دافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! خطيئة الآخر العربي وقتها أن غلفه برقائق دينية!
الجريمة الآثمة إذن هى دعم الآخرية العالمية والآخرية الاقليمية للآخرية المحلية فى اضطلاعها بمهمة تأبيد تخلف مجتمعاتنا، عبر تغريبها ثقافياً وإدامة انتظارها إلى ما لانهاية! ولقارئي الكريم أن يُقارن بين خطاب الرئيس الأمريكي أوباما (وهو أحد أبرز رموز الآخر الغربي/العالمي) فى القاهرة وخطابه فى أكرا ـ غانا التى زارها مؤخراً، سيجده فى غانا السوداء يشدو بالحرية لإفريقيا السوداء، أما في القاهرة العربية فيحرص على تجاهل قضية غياب الحرية عن عالمنا العربي المغبون، ويستبدل بها حديثاً انتهازياً مستفزاً عن التجارة والبيئة!
الآخران الغربي والعربي يبرران خلو خطاب أوباما من الحديث عن قضية غياب الحرية عن مجتمعاتنا، باحترام الرجل للخصوصية الثقافية لأبناء الثقافة العربية الاسلامية! والسؤال: هل حقاً يحترم أوباما خصوصيتنا الثقافية أم أنه، كأسلافه، يسعى جاهداً لتكريس اغترابنا الثقافي، ذلك الوباء الطليق فى ربوعنا؟
احترام لخصوصيتنا الثقافية أم تكريس لاغترابنا الثقافي:
ثمة بون شاسع يفصل بين احترام الخصوصية الثقافية لأبناء ثقافة بعينها وبين تكريس الاغتراب الثقافي لأبناء الثقافة نفسها! احترام الخصوصية الثقافية ـ فى رؤيتى المقترحة للفكر الأنسني ـ يعنى احترام حق أبناء الثقافات المختلفة فى الاحتفاظ بثقافاتهم، وعدم دفعهم بعيداً عنها أو اجبارهم على التخلى عنها، سواء بحجة تخلفها أو عدم تناغمها مع قناعاتنا الثقافية! وكذا يعنى احترام الخصوصية الثقافية لأبناء ثقافة بعينها احترام حق أبناء هذه الثقافة فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، أى احترام حقهم ـ جميعهم وليس بعضهم ـ فى نقد وتطوير ثقافتهم!
أما تكريس الاغتراب الثقافي ـ وعلى نحو ما أوضحت فى دراستى المهمة، الاغتراب الثقافي للذات العربية، الصادرة فى القاهرة عن دار العالم الثالث 2006 ـ فهو يعنى تكريس تنازل أبناء ثقافة بعينها عن حقهم فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، أى تكريس تنازلهم عن حقهم فى تعهد ثقافتهم بالنقد والتطوير!
ويستوى فى تكريس الاغتراب الثقافي لأبناء ثقافة بعينها أن يضطلع به فريق من أبناء الثقافة نفسها، أو أن يقوم به من ينتمون لثقافات أخرى ـ مهما بلغ تطورهم وتقدمهم ـ، أو أن يقوم به أبناء الثقافة نفسها، بتوجيه وارشاد من أبناء ثقافة أخرى! أقول إنه ليس لفريق من أبناء ثقافة بعينها أن يحتكر امتياز نقد وتطوير الثقافة التى ينتمى إليها، وكذا ليس له أن يحجب هذا الحق عن غيره من أبناء ثقافته، بزعم تفرده بالحكمة والأهلية و..إلخ! فهذا إن حدث، إنما يُعد تكريساً لاغتراب أبناء الثقافة المنكوبة بالآخرية المحلية، وليس لمن يمارس هذا التكريس أن يدافع عنه ويعتبر مناهضة الأنسنية العالمية له انتهاك للخصوصية الثقافية! قارئ الكريم، أرانى قانعاً أن تشدق أولئك الذين يحتكرون حق نقد وتطوير الثقافة العربية الاسلامية، ويحرمون بقية أبناء ثقافتهم من الحق نفسه ـ بمقولة احترام الخصوصية الثقافية، إنما يرمى لخلط الأوراق وتضليل الذات العربية!
تشدق هؤلاء ـ وأقصد بهم الآخر العربي/المحلى ـ وتمترسهم وراء مقولة احترام الخصوصية الثقافية، يُصورهم فى عيون المغتربين من أبناء ثقافتهم على أنهم حُماة الثقافة، ويوفر لتواطئهم مع الآخرين الغربي والاقليمي الغطاء الكافي!
إذ كيف للمغتربين أن يصدقوا أن حُماة الخصوصية الثقافية، هم أنفسهم شركاء لأبناء الثقافات الأخرى فى تكريس اغتراب أبناء ثقافتهم وإدامة تخلفهم؟!
تشدق هؤلاء ـ وأقصد بهم الآخر العربي/المحلى ـ وتمترسهم وراء مقولة احترام الخصوصية الثقافية، يُرهب الأنسنيين ويصورهم فى صورة الخونة، إن هم سعوا لفضح الآخر العربي ومخططه فى تكريس اغتراب وتخلف أبناء ثقافته! وكذا إن هم سعوا للاستقواء بالأنسنيين من أبناء الثقافات الأخرى! إذ سرعان ما يُتهمون من قبل تجار الآلام بخيانة الأوطان والتواطوء مع أبناء الثقافات الأخرى!
هكذا يُحكم الآخر العربي قبضته الحديدية على المغتربين، فنراهم ينقادون له بفضل إغترابهم، ويهاجمون الأنسنيين، رغم احترام الأنسنيين للخصوصية الثقافية وعدم متاجرتهم بها وعدم مزايدتهم عليها، على خلاف الآخر العربي الذى لا يمل المُزايدة على الخصوصية الثقافية، عبر سعيه المحموم لمغازلة مشاعر المغتربين، فى غيبة عقولهم التى نجح فى تغريبها وتكريس سيطرته عليها!
أنا كأنسني مثلاً أحزن كثيراً عندما يُراسلنى عربي باللغة الإنجليزية، رغم إجادتى لها، لأن اللغة أحد أهم روافد خصوصيتنا الثقافية، والمحافظة عليها يصون هويتنا، بيد أنى فى الوقت نفسه أحرص على ممارسة حقي فى نقد وتطوير ثقافتى العربية الاسلامية، وأرفض إحتكار فريق من أبناء ثقافتى ـ الآخر العربي ـ لهذا الحق! ولكل من يطالع كتاباتى أن يتأكد من حرصى على آداء فريضة النقد!.. المقالة العاشرة توحش أصحاب الثروات في مجتمعاتنا
"ويلهم..ذوي الأيدي المُلطخة بالسوء.. أيها الأصدقاء..إذا ما لامستموهم صدفة!" ناظم حكمت
ما قد نتصوره اليوم ضلالاً نُناهضه هو في الأغلب فلسفة الغد! ومجتمعاتنا لن تكسب شيئاً من رفض استضافة احتمال أن أية نظرية جديدة قد تكون صادقة. كما أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تنجح في التقاط واختيار الآراء الصائبة إذا ظلت مُحاطة بأساليب القمع والتحريم. ولست أبالغ حين أؤكد أن أية قائمة بالآراء التي سبق مناهضتها قد تكون هي نفسها قائمة بالفلسفات الموجودة في زمننا الحاضر!
من هنا تأتى قناعتي بإمكانية أن يكون الفكر الأنسني هو فلسفة الغد في ربوعنا الطيبة، رغم ندرة، إن لم يكن انعدام، المؤشرات المُبشرة بهذه الإمكانية!
الاهتمام بالحرية يبدأ عندما يفيق الناس من الانشغال بمشكلة البقاء المُجرد، فهذا الاهتمام يوجد عندما تتوفر لديهم الفرصة ليفكروا فى موقفهم ويُدركوا أنهم لم يعودوا مضطرين إلى ذلك القبول اليائس للروتين الذى كان يبدو أنهم مغمورون فيه بلا أمل! الستر الاقتصادي والفراغ للتفكير هما شرطان مهمان للانسان الحر!
الذين يعرفون حياة أغلب الفقراء، وخوفهم الدائم من الغد، وإحساسهم المُرعب بالكارثة الوشيكة، وبحثهم المتشنج عن أمان دائم التهرب، سوف يفهمون مُحاجتي انه بدون اطمئنان اقتصادي وفراغ للتفكير يظل طائر الحرية مُهاجراً..
أصحاب الثروات، في أغلب الأحيان، إذا كان عليهم أن يختاروا بين ثرواتهم وبين شيوع الحرية في مجتمعاتهم، سوف يختارون ثرواتهم ويهدمون الحرية! يهدمونها بأنانيتهم وتوحش رغباتهم وتضييق الأرزاق على مواطنيهم!.. التضاد إذن قائم، بل ويكاد يكون حتمي ـ للأسف الشديد ـ، بين التمكين للحرية بين أبناء أي مجتمع، كلهم وليس بعضهم، وبين عدم لجم أصحاب الثروات في هذا المجتمع، وهم قلة بطبيعة الحال، بزعم احترام حقهم في الملكية والتربح!
بيد أنه ـ وأقول هذا للتسهيل ـ قد لايكون التضاد مُهماً فى بعض الأحيان، وهو أمر نادر الحدوث على أية حال! أقصد المواقف التى قد لا يُضار فيها صاحب الثروة من تمتع مواطنيه بلحظات حرية حقيقية نقية، وكذا المواقف التى يكون فيها من مصلحة صاحب الثروة أن يتمتع مواطنوه بلحظات حرية حقيقية..
ولسوف أحاول قدر استطاعتي فى السطور التالية إلقاء الضوء على بعض ملامح رؤية فكرنا الأنسني لكيفية التعاطي مع هذا التضاد المُزمن، لأنه وكما هو واضح لنا جميعاً، لم تنجح الفلسفات المأخوذ بها فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة (بشقيها الفقير والغنى)، وأظنها لن تنجح، فى التعاطي مع هذا التضاد المُرهق!
حتى أننا أصبحنا مضرب الأمثال فى تخلفنا المُضحك! وكيف لا واخوتنا أثرياء النفط، ومن فى معيتهم من مواطنينا، يتسلون بالآيس كريم فى خيامهم المُكيفة بعرفة، أثناء تأديتهم لمناسك حجهم السياحي! أقول كيف لا نُصبح مضرب الأمثال فى تخلفنا، وتليفزيوننا الوطنى يُهدر ساعات الارسال فى تغطية انتخابات نوادى "أبناء الذوات"، مستغلاً جهل البسطاء وهوسهم بفرق هذه النوادى الرياضية!
أصحاب الثروات وشهواتهم التحريضية:
قارئي الكريم، أرانى لا أقصد بالشهوات التحريضية لأصحاب الثروات، سوى ما يُفضي إليه هوسهم بالتملك والتربح من مؤازرة مُطلقة للجهود الرامية لتكريس إغتراب مواطنيهم (الذات) ثقافياً، وكذا التمكين لسلطان الآخرية الآثمة!
ففي كنف الاغتراب الثقافي والآخرية لا يجد أصحاب الثروات صعوبة تُذكر فى تكديس ثروات هائلة، على حساب الذات المُغتربة وفى حماية الآخرية!
ولك أن تتساءل أيها القارئ الكريم، إن لم تكن متابعاً لأعمال كاتب هذه السطور، عما يعنيه بمصطلحي الاغتراب الثقافي للذات والآخرية الاثمة..
المصطلحان يرتبطان برؤية مُقترحة للفكر الأنسني، تُخالف القول الشائع بانه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية!
الأنسنية، فى رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، تعنى أن يُحقق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص التالبة:
[1] معيار التقويم هو الإنسان. [2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. [3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. [4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. [5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وطبقاً للمعيار المأخوذ به فى رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، للتمييز بين الذات والآخر، يُعد الإنسان، أى إنسان، أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! والمقصود بالثقافة هنا تعريف ت.س.إليوت الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة، فلكل البشر، على تفاوت مراتبهم، ثقافاتهم الخاصة! وباستخدام نفس المعيار الأنسني، المُشار إليه تواً،، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات المُستعبدة من جني ثمار الأخذ بالأنسنية..
فتطور التاريخ الإنساني ـ في رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا ـ وكما أسلفنا ـ لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الشيوعيين، فالآخر لا يرمي فقط لاحكام السيطرة الاقتصادية على الذات المغتربة، وإنما يتخطى ذلك ـ بلأنسانية ـ إلى الحيلولة دون تمتع الذات بحقها الطبيعي فى نقد وتطوير طريقة حياتها! وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها..
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه..
وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي للنيل من خصوصيتها الثقافية وتسعى لهدر ثروتها العقلية..!!
والآن، وبعد أن أوضحنا المقصود بمصطلحى الاغتراب الثقافي للذات والآخرية الآثمة، أظنك تُشاركنى الرأى، أيها القاريء الكريم، انه فى ظل أجواء راكدة كهذه، يصير منطقياً أن لا يجد أصحاب الثروات صعوبة تُذكر فى تكديس ثروات هائلة على حساب الذات المُغتربة وفى حماية الآخرية! وكذا يصير منطقياً أن يعمد أصحاب الثروات، وبتحريض من هوسهم اللامحدود بالتملك والتربح، لتأبيد تخلف مواطنيهم، عبر تكريس إغترابهم ثقافياً والحيلولة دون تعرية الآخرية!
ولتجار الآلام الذين يشتغلون بخلط الأوراق وتعمية مواطنيهم عن التضاد القائم والحتمي، بين التمكين للحرية بين أبناء أي مجتمع، كلهم وليس بعضهم، وبين عدم لجم أصحاب الثروات في هذا المجتمع، بحجة ضرورة احترام حق أصحاب الثروات المُقدس واللامحدود في الملكية والتربح! أقول لهؤلاء التجار إنه لا يُعقل أن يكون فى عدم لجم أصحاب الثروات إرضاء لله، خاصة والتاريخ الانسانى يؤكد أن التضاد قائم، بل وحتمى، بين التمكين للحرية وعدم لجم هؤلاء!
ولتُجار الآلام الذين قد يتمترسون وراء القول بان التضاد لا يكون مُهماً فى بعض الأحيان، أقول إن ذلك يندر حدوثه، وإن الثروة يتم تناقلها بين أجيال تزداد تجبراً بمرور الزمن ويصير هوسها بالتملك والتربح تقليداً يزداد رسوخاً وصلابة.
ضيافة الأرض للانسان قصيرة أيها التُجار، وليس من المروءة ولا من الرفقة الانسانية الصحيحة أن ترفل قلة فى رفاهة مُستفزة، على نحو ما نرى فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة، على حساب كثرة تُنفق أعمارها فى خوف وشقاء!
إننى حقاً لا أفهم دواعى القبول بـ"القطط السمان" ـ أقصد المليونيرات والمليارديرات و...إلخ ـ فى مجتمعاتنا الهزيلة! فالأمر مُضحك ومُبك، وليس له ما يُبرره! اللهم إلا منطق تُجار الآلام وقبول المُغتربين له، على أنانيته وسخافته!
غير أنى لا أود لقارئي الكريم أن يخلط بين رؤية فكرنا الأنسني لكيفية التعاطي مع أصحاب الثروات وبين الفكر الشيوعي، فنحن نقول بلجم أصحاب الثروات لا إبادتهم، وكذا نقول بمُعاقبة من يتوحش منهم باجباره على القبول بالستر الاقتصادي، الذى يتمنى مثلي أن يرفل فى غلائله، لتُتاح له فرصة التفكير! أهم مراجع الكتاب
أولا: باللغة العربية: ــــــــــــــــــــ (1) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 224 ـ 310 هجرية، تاريخ الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987). (2) إدوارد سعيد، "غزة ـ أريحا" سلام أمريكي، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994). (3) ــــــ، ترجمة كمال أبو ديب، الاستشراق، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2003). (4) ــــــ، ترجمة حسام الدين خضور، الآلهة التى تفشل دائماً، (بيروت: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2003). (5) أدولف هتلر، ترجمة لويس الحاج، كفاحي، (بيروت: دار صادر للطباعة والنشر& دار بيروت للطباعة والنشر، 1963). (6) اريك فروم، ترجمة ذوقان قرقوط، ثورة الأمل، (بيروت: منشورات دار الآداب، 1973). (7) ـــــ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، الخوف من الحرية، (القاهرة: مكتبة دار الكلمة، 2003). (8) أنطونيو جرامشي، ترجمة عادل غنيم، كراسات السجن، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994). (9) إيليا حريق، "السراتية والتحول السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الحديث"، المستقبل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، أكتوبر 1985، العدد 80. (10) برتراند رسل، ترجمة زكي نجيب محمود، تاريخ الفلسفة الغربية، (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967). (11) برنارد لويس، تعريب نبيه أمين فارس ومحمود يوسف زايد، العرب في التاريخ، (بيروت: دار العلم للملايين، 1954). (12) ت.س.إليوت، ترجمة شكري عياد، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003). (13) جمال عبد الناصر، فلسفة الثورة، (القاهرة: وزارة الارشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات، بدون تاريخ). (14) ـــــــ، إقامة الحياة الديمقراطية السليمة ـ من أقوال الرئيس جمال عبد الناصر، (القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، كتب قومية، العدد 274، بدون تاريخ). (15) ـــــــ، عبد الناصر والثورة ـ من أقوال الزعيم الخالد يوليو 1952 ـ سبتمبر 1970، (القاهرة: لجنة منظمة الشباب الاشتراكي بمحافظة القاهرة ، 1970). (16) جيمس فريزر، ترجمة نبيلة إبراهيم، الفولكلور فى العهد القديم، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972)، الجزء الأول، ص 47-72. (17) حازم خيري، آلام العالم العربي، (القاهرة: نشر المؤلف، 2005). (18) ــــــ، الإغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2006). (19) ــــــ، الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007). (20) ــــــ، مقالات فى الفكر الأنسني، تحت الطبع. (21) حافظ الأسد، كذلك قال الأسد، (دمشق: طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1984). (22) حسين مؤنس، ظلمات بعضها فوق بعض، (القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1986). (23) رضوى عاشور، "الصوت: فرانز فانون، إقبال أحمد، إدوارد سعيد"، ألف مجلة البلاغة المقارنة، (القاهرة: قسم الأدب الإنجليزي والمقارن وقسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)، العدد الخامس والعشرون، 2005. (24) روجر أوين، ترجمة حازم خيري، فى ذكرى رحيل زعيم الحركة الطلابية المصرية، مقال منشور على شبكة الانترنت. (25) سعد الدين الشاذلي، مذكرات الشاذلي ـ حرب أكتوبر، (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب 1987)، (26) سلامة موسى، كتاب الثورات، (القاهرة: سلامة موسى للنشر والتوزيع، 1954). (27) سمير أمين، نحو نظرية للثقافة/نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، (بيروت: معهد الانماء العربي، 1989). (28) سمير سرحان ومحمد عناني ، المختار من تاريخ الطبري، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998). (29) شهدى عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية المصرية 1882ـ1956، (القاهرة: دار شهدى للطبع والنشر والتوزيع، 1983). (30) صموئيل هانتنتون، ترجمة سمية فلو عبود، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، (بيروت: دار الساقي، 1993). (31) ـــــــــ، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998). (32) صدام حسين، المختارات ـ موضوعات عن الحزب والدولة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988). (33) طه حسين، الفتنة الكبرى ـ على وبنوه، (القاهرة: دار المعارف، 2003). (34) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، (بدون بلد نشر: دار الأمين للنشر والتوزيع، بدون تاريخ ). (35) على شريعتي، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، مسؤولية المثقف، (بيروت: دار الأمير، 2007). (36) على عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، (القاهرة: دار الهلال، العدد 596، 2000). (37) غوستاف لوبون، ترجمة هاشم صالح، سيكولوجية الجماهير، (بيروت: دار الساقي، 1997). (38) فرانز فانون، ترجمة الدكتور سامي الدروبي والدكتور جمال الأتاسي، معذبو الأرض، (بيروت؛ الجزائر: دار الفارابي ومنشورات آنيب ANEP، 2004 ). (39) ــــــ، ترجمة ماريا طوق وديالا طوق، لأجل الثورة الإفريقية، (بيروت؛ الجزائر: دار الفارابي و منشورات آنيب ANEP ، 2007). (40) فواز جرجس، النظام الإقليمي العربي والقوى الكبرى، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997). (41) نادر الفرجانى، هدر الامكانية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985). (42) ياسر عرفات، أوراق سياسية ـ لقاءات ومقابلات صحفية مع الأخ أبو عمار، (الكويت: منظمة التحرير الفلسطينية، مكتب الكويت، 1985).
ثانياً: باللغة الانجليزية: ــــــــــــــــــــــ (1) Black September, (Beirut: Palestine Liberation Organization , Research Center , 1971) . (2) Michael Sterner, "The Middle East and the Superpowers: The View from Washington", Paper presented to The Middle East and the Superpowers: 25 th Near East Conference, Princeton university, Held on October 25 – 26, 1979 , PP.12- 30 . (3) National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004). (4) United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002 .
06/11/2014
مصرنا ©
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|