مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 رحلة إلى القدس ج3

 

تهويد القدس

 

هناء عبيد
...........

 القدس العتيقة.. والشيخ جراح

بعد انشراح قلوبنا بالصلاة في مسجد قبة الصخرة المشرفة ، وشرف زيارة المسجد الأقصى الذي لم ولن تتوقف محاولات زعزعة جذوره من قبل سلطات الاحتلال بكل الوسائل الممكنة من حفريات بل واستخدام مواد كيماوية لإضعاف أساساته وذلك لإقامة بناء الهيكل المزعوم الذي نسج اليهود المعاصرون حوله أسطورة كبيرة لتعطيهم الحجة في هدم واحد من أعظم مساجد الله لطمس الهوية الإسلامية , والعربية في مدينة السلام . بعد هذه الزيارة العظيمة المباركة تأتي مرحلة التسوق في أسواق القدس العتيقة التي تعتبر أبرز معالم المدينة المقدسة ، والتي تظهر تاريخا عريقا منذ أيام الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين. من أشهر هذه الأسواق سوق العطارين وهي سوق مسقوفة وفي سقفها توجد نوافذ لإدخال أشعة الشمس من خلالها. كذلك هناك سوق اللحامين وهي مسقوفة أيضا ولكنها مظلمة بالرغم من وجود النوافذ في سقفها. ومن الأسواق المشهورة أيضا سوق البازار التي تباع فيها الخضروات والفاكهة بمختلف أنواعها وتحتوي على رصفات جميلة بديعة تسر الناظرين ، وسوق باب العامود وسوق الباشورة وسوق القطانين وغيرها من الأسواق التي يتواجد فيها كثير من البضائع المختلفة. وتحاول سلطات الاحتلال طمس هذه الأسواق ومعالمها وذلك باتباع عدة سياسات من شأنها التضييق على أصحاب المحلات لإغلاقها، منها مثلا فرض الضرائب الباهظة التي لا يستطيع أصحاب المحال تسديدها مما يؤدي إلى مصادرتها، أيضا من الوسائل المتبعة للقضاء على رونق هذه الأسواق ما تقوم به بلدية القدس من إهمال هذه الأسواق من ناحية عوامل النظافة اللازمة ، مما يؤدي إلى تراكم القمامة والروائح الكريهة التي تسبب مكاره صحية وتعمل على تكاثر القوارض والجرذان وبالتالي إلى إتلاف البضائع. إضافة إلى الصورة القبيحة التي تصبح عليها هذه الأسواق أمام المتسوقين. فبدلا من الروائح الجميلة المنبعثة من البخور وأسواق العطارة أصبحت الروائح الكريهة تنفذ إلى المنطقة لتنفير المتسوقين من متعة زيارة هذه الأسواق وبالتالي إلى المخاسر الفادحة لأصحاب الدكاكين الذين لا يجدون مفرا غير إغلاقها لتفادي هذه المخاسر .

لا شك بأن مساعي سلطات الاحتلال كبيرة جدا لطمس معالم المدينة عربيا وإسلاميا ، وملئها بالمستوطنات اليهودية ، وتغيير البنية الديموغرافية فيها، لذلك فإن سلطات الاحتلال تحاول دوما التحرش بسكان المدينة والتضييق عليهم لإجبارهم على الرحيل عنها . وهذا بالطبع مخطط مدروس لصرف نظر العرب والمسلمين عن واحدة من أعظم المدن المقدسة ، ومحاولة منهم أن يمحوا هذه المدينة من ذاكرتنا ولإقناع العالم بأننا مجرد ضيوف على مدينة مهبط الأنبياء ، وأنهم أصحابها الحقيقيون.

في كل أسبوع وبعد كل صلاة جمعة كانت جدتي تقوم بالتسوق في هذه الأسواق القديمة المميزة التي يتجلى فيها قدم وعراقة هذه المدينة الطاهرة ، وكانت تجد متعة كبيرة في التنقل بين محالها التي تبعث في النفس الفخر والإعتزاز بالأصالة والعراقة والتراث الإسلامي المبهر. ولكن للأسف الشديد فإن عدم التدخل السريع لإنقاذ هذه الأسواق من عبث أيدي سلطات الإحتلال سيؤدي الى دمارها ، وإلى أن تؤول إلى طي النسيان وبذلك سيمحى تاريخ عريق بأكمله .

أما محطتنا الثالثة بين الأهل فتكون في منطقة الشيخ جراح. حيث يقطن الأخوال هناك، ومنطقة الشيخ جراح هي أحد الأحياء المشهورة في مدينة القدس . وهي تقع في الجانب الشرقي لمدينة القدس وقد وقع هذا الحي تحت الاحتلال الصهيوني عام 1967م . أما اسمه فقد استمده من اسم الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي طبيب القائد صلاح الدين الأيوبي . ومنذ سنوات وهذا الحي يتعرض لهجمات استيطانية كغيره من مناطق القدس . حيث تحاول بعض الجماعات اليهودية إقامة حي يهودي هناك ، فالمخطط قائم لتهويد هذا الحي وما تبقى من القدس العربية. حيث تم طرد العديد من السكان الفلسطينيين الأصليين من منازلهم في الشيخ جراح ، وإسكان عائلات يهودية مكانهم . وقد تم في هذا الحي السيطرة على ضريح الشيخ سعدي أحد المعالم الإسلامية فيه وتحويله إلى معلم يهودي حيث حول إلى قبر شمعون الصديق.

بالطبع كنا نقضي أوقاتا جميلة في دفء العائلة في حي الشيخ جراح ، وهناك تكون الأمور مختلفة قليلا عما هي عليه في قرية العيسوية حيث اللهجة الفلسطينية لأهل المدينة التي تختلف في بعض المفردات البسيطة، بالإضافة إلى الاختلاف في لفظ بعض الحروف. فمثلا في القرية يلفظ حرف القاف كافاً بينما في المدينة يلفظ هذا الحرف همزة . وهذا كان موضع تهكم وممازحة للجدة التي ترعرعت في قرية العيسوية ، فقد كنا أحيانا نطلب منها أن تتحدث باللهجة المدنية لتخلق حوارا وسيناريو كوميديا ما زلنا نتحدث عنه إلى يومنا هذا ، فقد كانت تقلب حرف الكاف إلى همزة مما يؤدي بالصغار إلى الضحك عاليا ، فمثلا كانت تلفظ كلمة كهرباء أهرباء اعتقادا منها بأن اللهجة المدنية لا تحتوي على حرف الكاف فتتعالى ضحكاتنا صغارا على ذلك مما يبعث المسرة في قلبها ، وفي الشيخ جراح حيث يقطن أهل المدينة لم يكن الثوب الفلاحي يظهر بشكل بارز هناك ، حيث كانت السيدات كبيرات السن يلبسن ملابس سوداء ويضعن على رؤوسهن مناديل بيضاء يعلوها غطاء أسود. ولم يكن الفرق شاسعا بين معيشة القرية ومعيشة المدينة فقد تلاشت الفروق إلى حد كبير بين قرى ومدن فلسطين وبخاصة في مدينة القدس .

وكما كانت لنا جدتنا في قرية العيسوية كانت لنا أيضا جدتنا في الشيخ جراح والتي لم تختلف صفاتها كثيرا عن جدتنا ابنة القرية ، فكلتاهما كانت تحمل قلبا يمتلئ بالحب والدفء ، ووجها بشوشا يمتلئ بالنور . لقد تمسكت هذه الجدة بهويتها الإسلامية العربية الأصيلة فلم تقبل أن تحصل على الهوية الصادرة عن الكيان الصهيوني ، مضحية بامتيازات كثيرة كانت تعتبرها خيانة للإسلام والعروبة والأرض والتراث .

في الشيخ جراح كنا نقيم لعدة أيام بين الأهل والأحبة . كان للمكان رائحته المميزة ، وشوارعه العتيقة التي تنقش في الذاكرة أصالة وعراقة وتراثا . وكان للطفولة هناك منافذ لإطلاق كل طاقاتها ، فالمكان فسيح يحتوي على كل ما يشبع شقاوة الأطفال . كانت الأيام في الشيخ جراح تسير على وتيرة جميلة ، ففي الصباح كنا نصحو على صوت بائع الكعك مروجا لألذ وأشهى كعك في المدينة والذي كانت تنفذ رائحته إلى حواسنا بالرغم من المسافة الكبيرة التي تفصلنا عنه ، وكان ينافسه في الصباح بائع اللبن الطازج ، كان صباح الشيخ جراح مشرقا بشمس دافئة ونسمات هواء عليلة وقد كانت الأوقات تمر بسعادة بين جمال المكان وعطف و حنان الأهل ، كانت المحلات التجارية والدكاكين في الشيخ جراح تحمل رمزا وصورا جميلة كانت وما تزال تؤثث غرفات ذاكرتنا بأناقة وروعة منقطعتي النظير ، بحيث لا يمكن نسيان أثرهما الرائع على وجداننا ، فقد كانت هذه الدكاكين المكان الذي نتطلع اليه لشراء كل ما لذ وطاب لمذاق طفولتنا البريئة .

هكذا كانت تمضي أيامنا متنقلين بين العيسوية والشيخ جراح ، أيام جميلة ، سعيدة ، نعتبرها من أروع أيام حياتنا ، فقد استطاعت ان تنقش في الذاكرة حنينا وشوقا ودفئا لا يمكن للأيام ولا السنين محوها ، إلى أن آن الأوان لترك مدينة الأحبة ، مدينة السلام ، مدينة الآباء والأجداد حيث صدر قرار الترحيل من قبل سلطات الاحتلال بعد رفضها لنا في الحصول على ما يسمى بلم الشمل الذي يصرح لنا من خلاله الإقامة الدائمة في القدس ، فما كان علينا إلا أن نلملم شتاتنا مرة أخرى لنغادر المدينه إلى شتات آخر لينتهي اللقاء مع الأحبة تماما كما بدأ ، بالدموع ، ولكنها هذه المرة دموع الفراق والألم. لنعود أدراجنا إلى بلد المحبة والخير الأردن الذي أصبح يحتل في القلب مكانة عظيمة، وأصبحت ذكرياته تحتل ركنا جميلا في الذاكرة ، وكلنا أمل بأن اليوم سيأتي لتستعيد الأمة العربية كرامتها المهدورة وتسترد أراضيها المنهوبة وتحافظ على أماكنها المقدسة المسلوبة ، فإلى ذلك اللقاء الذي ندعو الله أن لا يطول.


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية