رحلة إلى القدس ج2
...............................................................
| |
تهويد القدس | |
هناء عبيد
...........
العيسويه.. وجدتي
بعد زيارة الأهل والأحبة في أريحا ، تكون المحطة الثانية لنا في قرية العيسوية ، إحدى قرى مدينة القدس والتي تقع إلى الشمال الشرقي منها ، وظروف قرية العيسويه كغيرها من قرى القدس ، من حيث الإجحاف في المعاملة ، وسلب الحقوق من قبل سلطات الاحتلال الغاشم . فقد صادرت سلطات الاحتلال ما يقارب 8 آلاف دونم من أخصب أراضيها الزراعية . ومنعتها من التطور ، كما كان لجدار الفصل العنصري الأثر الكبير في صعوبة التنقل من مكان إلى آخر مما أدى إلى الحد من فرص العمل المتاحه ، وبالتالي إلى تدني مستوى الحالة المعيشية ، فأصبح من اللازم على جميع أفراد العائلة العمل لتأمين متطلبات الحياة ، وهذا بدوره أدى إلى تسرب الطلاب من مدارسهم طلبا للرزق . كما تقوم سلطات الاحتلال بالهدم المستمر بجرافاتها لبعض المنازل في القرية بحجة البناء غير المرخص ، هذا وتغص سجون الاحتلال الغاشم بالعديد من الأسرى من هذه القرية الصامده.
وتعد قرية العيسوية ذات موقع أثري ، حيث تحتوي على صهاريج منقورة في الصخر ومدافن ومغر وخزان مستقل ، وفيها صناديق للعظام يعود تاريخها إلى عصر هيرودوس ، وقد اختلفت الآراء في سبب تسميتها بهذا الاسم ، فبعضهم يعتقد بأنها سميت بالعيسوية نسبة إلى سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي أقام فيها لمدة يومين . وهناك رواية أخرى تقول أنها سميت بذلك نسبة إلى القائد عيسى أبو أيوب ابن أخت المجاهد العظيم صلاح الدين الأيوبي ، والذي كان حاكما على منطقة القدس . وقيل أيضا بأنه قد جلس مع قواد جيشه تحت شجرة خروب بالقرية ، التي أصبحت فيما بعد لها مكانتها في النفوس حيث يذهب الناس إليها ليلا لإضاءتها بفتيل الزيت طوال الليل.
وهناك، في قرية الأجداد ، كان موعدنا مع استقبال آخر حافل بكل أنواع الحب والشوق والحنين ، حيث كان في انتظارنا أغلى الأحبة على قلوبنا، الجدة والجد والعمات والأعمام . وفي هذا التجمع العائلي النادر بالنسبة لنا والذي كنا دوما نتوق إليه ، لم يكن أحد يستطيع أن يكبح جماح عينيه من فيض الدموع فرحا ، صغارا أوكبارا ، وكنا نحاول عبثا تهدئة جدتي التي ترى بعضا من أحفادها لأول مرة فلا تتوقف عن البكاء لحظة فرحا بلقاء طال انتظاره . تلك الجدة التي لا أظن بأن هناك قلبا يحمل بين ضلوعه مثل الكم الهائل من الحب والعطف والحنان الذي تحمله. كم كانت فرحتنا كبيرة بأن نحاط بهذه الهالة من الحب والعطف، ودفء العائلة الذي سرى في عظامنا.
في بيت الجد والجدة، كانت الحياة تختلف. حيث حضن الجدة الدافئ، وحديثها الطيب الذي لا يخلو من خفة الظل. فقد كان كل أمر من أمورها مميزا، حتى أثاث بيتها كان له ما يجعله متميزا لنا، فلا يمكن لأحد منا ان ينسى ثلاجتها الغريبة العجيبة التي كنا نندفع عدة أمتار للخلف بعد النجاح في محاولة فتحها التي تتطلب جهدا مضاعفا. وأجمل من ذلك كانت النملية الخاصة بحفظ المؤونة ، والتي هي عبارة عن خزانة خشبية تحتوي على عدة رفوف، كانت تضع فيها، الخبز الشهي ومرطبانات الدبس، والمربى، والتي لا أعرف السر للآن في تسميتها بهذا الاسم، فهل سميت بذلك لأن النمل كان يجد اللذة في غزو محتوياتها، أم سميت بذلك لأنها كانت تمنع النمل من الوصول إلى تلك المحتويات. وأكثر ما كان ملفتا في جدتي، ثوبها الفلاحي الجميل، المطرز بأجمل الألوان من الحرير، والمزركش برسومات جميلة يطغى عليها الفن الفلسطيني التقليدي، ويظهر بوضوح من خلالها مدى الدقة المتناهية في إتقان أياد لا شك انها غاية في المهارة، كذلك طرحتها البيضاء التي كانت تتوشح بها، وقد كان جيب ثوبها الكبير محط أنظارنا وأطماعنا، حيث كانت تخبئ فيه الحلوى وكل ما لذ وطاب مما كنا نعشقه ونحن صغار .
كان بيت جدي مبنيا من طابقين، أما الطابق الأول فهو سكن العائلة، وأما الطابق الأرضي فقد تم تأجيره إلى مدرسة ابتدائية كنت قد التحقت بها لمدة وجيزة هي مدة إقامتي والعائلة في القدس، وكان أمام البيت، حديقة تتشابه مع أية حديقة أخرى في قرى القدس، تحتوي على أشجار التين والزيتون واللوز والتوت بالإضافة إلى كروم العنب. وقد كنا نلهو ونقضي أوقاتا جميلة في اللعب في هذه الحديقة وفي قطف ألذ وأحلى الثمار، ولم تكن تنجو أية شجرة من شقاوتنا، خاصة شجرة التين التي كنا نتسلق عليها يوميا ، ونثقل على أغصانها، ولكنها كانت تظل صامدة تقاوم الانكسار، لتأتينا بأحلى الثمار، قوية راسخة، تماما مثل امرأة فلسطينية تتحدى الصعاب في غربة تحاول كسرها، فتأبى وترفع قامتها شموخا، أو أما فلسطينية يزيدها استشهاد فلذة كبدها قوة وإصرارا على إمداد التراب بمزيد من دماء تروي عطش الأرض وتنعش كرامتها.
من أمام الدار الممتلئة بالحب والدفء كانت تمر مجموعات من اليهود، فكنا نحاول مشاكستهم من خلال التحدث معهم من بعيد بلغتهم العبرية، التي تعلمنا القليل منها في المدرسة أثناء إقامتنا في البلدة، وما أن ننهي ما نتلعثم به من جمل مكسرة حتى نختبئ عن أعينهم ، ولكن من العجيب أنهم كانوا يضحكون علينا، مما يزيدنا حنقا وغضبا، ويبدو أنهم ضحكوا علينا في صغرنا وسيظلون يضحكون علينا إلى مماتنا ما دمنا لا نحرك ساكنا، كنا نعتقد أننا بذلك نقاومهم ونقلق راحتهم، هكذا هو الطفل الفلسطيني، يشب على عشق الأرض، ويخترع الوسائل للمقاومة. كان آخرها الحجر الذي أقض مضاجع العدو، وأوجد لديه فوبيا الحجر،وجاء بنتائج إيجابية فاقت كل الاتفاقيات والمفاوضات. والتي أصبح بعدها طفل الحجارة، الصورة المشرفة للمقاومة ضد الاحتلال التي حفظت في الوجه ما تبقى من ماء، وأعادت لو قليل من كرامة مهدورة، وباتت صوره تتصدر الصحف ممثلا رمز البطولة والكرامة والصمود.
أما يوم الجمعة فقد كان يوما مميزا، حيث كان يذهب الجد والجدة للصلاة في مسجد قبة الصخرة المشرفة، إنها إحدى واجباتهم الدينية التي تعودوا عليها منذ نعومة أظفارهم. ويقع مسجد قبة الصخرة في حرم المسجد الأقصى في البلدة القديمة من القدس، وقد أمر ببنائه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خلال الفترة 688م-692م وفي الجنوب منه يقع المسجد الأقصى وهو أولى القبلتين. وقد ذكر في القرآن الكريم قال الله تعالى( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). وللمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ الدعوة الإسلامية، وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي "ص" قبل أن يتم تحويل القبلة إلى مكة. وقد أسري بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء حيث فرضت الصلاة. وقد عبثت وما تزال تعبث اليد النجسة بتدنيسه ومحاولة زعزعة جذوره إلى يومنا هذا دون أن نحرك ساكنا.
وقد نالني الحظ الكبير بالذهاب معهم في إحدى المرات للصلاة في مسجد قبة الصخرة العظيم، لأصاب بذهول من الصعب نسيانه، حيث فن العمارة العريق، والزخارف الإسلامية الرائعة، والآيات القرآنية التي تزين جدران المسجد والتي تأبى إلا أن تجعلنا نحني رؤوسنا خشوعا وإجلالا لرب العباد، وتقديرا للسواعد التي بنت هذا الصرح الطاهر، وخجلا لإهمال أمة بأسرها في حماية أحد أعظم بيوت الله. كنت أنظر لوجه جدتي وهو يشع نورا وبهجة وإيمانا فرحا لصلاتها في أجمل مساجد الأرض، فتغمرني سعادة لا تماثلها سعادة على الأرض. يجعلني الآن أحمد الله أنها قد وافتها المنية قبل أن ترى الصعوبات التي يواجهها أصحاب القلوب العامرة بالإيمان حين يتوقون للصلاة في هذا المسجد العظيم. كم أنت محظوظة يا جدتي بأنك لم تري المسجد مطوقا لمنع المصلين من الوصول إليه، والتبرك بالصلاة فيه. فكيف سيتسنى لك الصلاة لو أنك ما زلت على قيد الحياة؟ هل سيتسلق جسدك الهزيل الجدران المشيدة لتتمكني من الوصول اليه، أم ستنالك ركلة من حذاء جندي حقير تطيح بك أرضا مثلما أطاحت بالمئات من العجائز اللاتي لم تحترم أعمارهن، ولا كهولتهن وعجزهن، وهل نستغرب ذلك و هن لم تحترم أجسادهن في قبورهن، لقد نبشوا الأرض يا جدتي، وأخرجوا رفات العظام من قبورها فهل طالتك جرافاتهم؟ وأيديهم القذرة؟ أم أنك سلمت وترقدين في قبرك في سلام....يتبع