أبعاد "كونية" للصراع العربي الصهيوني
...............................................................
|
السياحة الكونية |
بقلم : مسعد غنيم
....................
إن البحث في شبكة الإنترنت عن صورة إنسانية، علمية محايدة، لأبعاد، أو جذور، أو طبيعة الصراع العربي الصهيوني يمثل تحديا صعبا للباحث العادي غير المتخصص. فمن السهل جدا الانزلاق في مسار الحماس غير الواقعي بتأثير الوطنية الجارفة، أو الدوافع الدينية، لصالح الجانب العربي، فيتهم بالعاطفية أوالانفعالية التي تفقد الفهم الصحيح مضمونه. كما أنه من السهل جدا أيضا الانزلاق في مسار اليأس، غير الواقعي أيضا، بتأثير الحرب الثقافية من جانب العدو الصهيوني، خاصة وهو مدعوم بجيوش المراكز العلمية "الاستشراقية" المتخصصة في أمريكا. تلك المراكز التي لم تتخلص بعد من صفة الاستشراق السلبية التي نجح إدوارد سعيد في إقناع المجتمع العلمي بها إلى حد كبير. هذا إذا نحينا جانبا ضجيج الحرب الثقافية الواضحة التعصب والانفعالية من جانب المتعصبين أو المنحازين للجانب الصهيوني من الدارسين، سواء في إسرائيل أو الغرب عموما، أي من النوع "الأبيض" مما يمكن إدراكه بسهولة. أما تلك "الرمادية" أو "السوداء" التي يصعب تمييزها، فهي مما يزيد الأمر تعقيدا. في المقابل فإن هناك دائما عدد غير قليل من الدارسين والمفكرين، من كل طرف، يحاولون بجدية أن يكونوا منصفين، وهؤلاء هم من يمكن الرجوع إليهم بقدر من الثقة، اعتمادا على البديهة أوالحس الفطري الذي هو أساس كل علم.
من هنا تبدأ إشكالية الإنسان العربي أو المسلم العادي في فهم محايد على أساس إنساني، لموقعه من تلك القضية، أو موقعها منه، بعيدا عن التعصب هنا وهناك. إن الفهم بدءا مما انتهى إليه الآخرون يتطلب جهدا غير عادي لتمييز الحقيقي من الزائف في الرأي أو المعرفة، كما أوضحنا. ويمكننا تصور تلك الصعوبة عندما نجد أن هناك 9,670,000 عنوان (ما يقرب من عشرة ملايين) نتيجة بحث عن "الصراع العربي الإسرائيلي" باللغة الإنجليزية، ما بين كتاب ودراسة وندوة ومقال. لذا يبدو أنه ليس أمامنا، نحن الناس العاديون، بعد التيه في ذلك المحيط المعرفي عن القضية، إلا الاحتكام في النهاية للفطرة الإنسانية أو البديهة، بمعنى "إستفت قلبك". بمعنى واضح فنحن هنا لسنا في مقام البحث العلمي الأكاديمي، فقط نحن نحاول أن نتعرف على هويتنا الثقافية ومدى قوة وأصالة ثوابتها في عالم بلغ فيه الصراع حد "الثورة الكونية" بحسب تعبير آدم كوبر في كتابه "الثقافة – تفسير أنثروبولوجي، 2000".
مدخل جغرافي سياسي
كثيرة هي الدراسات العربية في أدبيات الصراع العربي الصهيوني التي تبحث في تاريخه وتوثقه، أو تحلل أبعاده وتؤطرها، أو تضع السيناريوهات المستقبلية له. وبالمثل هناك الدراسات الغير عربية، صهيونية صريحة، أو علمية مؤدلجة، أو علمية محايدة. ومن كل مايمكن الاطلاع عليه في هذا الشأن ومن مدخل الجغرافيا السياسية، فإن من أقربها للحيادية والموضوعية (مع تذكر غياب كل من البعد الديني والبعد الجيوبوليتيكي صراحة عن التحليل)، ما يمكن قراءته في ملخص كتاب "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – جغرافيا سياسية" من تأليف ألاسداير دريسديل من جامعة نيوهامبشاير، و جيرالد هـ. بلايك من جامعة دورهام، طبعة نيويورك أوكسفورد، مطبعة جامعة أوكسفورد 1985. جاء في ملخص الفصل التاسع بعنوان "الصراع العربي الإسرائيلي – السيطرة على الأرض":
" قليلة هي نزاعات القرن العشرين التي أثبتت أنها غير قابلة للتتبع، مثل تلك التي بين العرب والإسرائيليين، والذين خاضوا حروبا في 49- 1948، 1956، 1967، 1973 و 1982. لقد ساهم ذلك النزاع بشدة في تعجيل سباق التسلح في المنطقة، ويمكن أن يطلق شرارة المواجهة بين القوى العظمى. من زاوية ما، فإن الصراع بسيط: هناك شعبان، اليهود الإسرائيليون والفلسطينيون العرب، اللذان يدعيان ملكية نفس الأرض، وتدعى فلسطين أو إسرائيل حسب الاختلاف، كل بطريقته.
مع بداية هذا القرن، كانت فلسطين ذات أغلبية ساحقة من العرب، وكان الحال كذلك لألف سنة مضت. وخلال نصف القرن الماضي أو نحو ذلك، فإن اليهود، اللذين طردوا سابقا ومنذ ألفي عام، وعاشوا في الشتات وغالبا مطاردين، إستطاعوا نقل السيطرة على الأرض بالقوة لغير صالح العرب الذين طردوا أو هربوا بدورهم إلى البلاد المجاورة. وأثناء تلك العمليه أسس اليهود لأنفسهم وطنا قوميا، وأسموه إسرائيل، ولكن الفلسطينيون العرب فقدوا وطنهم القومي وشكلوا شتاتا جديدا. يصر كل شعب على حقه في تقرير مصير ذاتي قومي ودولة ولكن، بنفس القدر، ينكر ذلك على الطرف الآخر. ويستتبع ذلك لكي تكون هناك فرصة معقولة للسلام، أن المطالب القومية لكل شعب يجب أن يتم تلبيتها جزئيا على الأقل.
ومن كل الزوايا الأخرى تقريبا، فإن الصراع معقد للغاية، وقليل فقط من سكان الإقليم يرون الصراع بالشكل البسيط الذي طرحناه آنفا. ... إن هذا الموضوع ينتهي بنفسه إلى نطاق التحليلي للجغرافيا السياسية، لأن النزاع وفوق كل اعتبار هو نزاع على الأرض. لذا فإن الأمر يمكن فهمه ( كما يمكن عدم فهمه) بمجرد النظر ببساطة للخريطة. "
مدخــل ديــنــــي
يتمثل انحصار مثل ذلك التحليل الجغرافي السياسي في تخصصيته العلمية، بينما تبدو موضوعيته في الاعتراف بأن الصراع معقد للغاية. وفي هذا الحصر فأنه قد غيب البعد الديني صراحة، رغم أن هذا البعد يقع في القلب من المشكلة، وهذا ما يؤكده عالم اللاهوت والفيلسوف الألماني هانز كونج في كتابة "الإسلام – ماض حاضر ومستقبل"، بأن الصراع العالمي الحالي، والذي صوره هننجتون خطأً على هيئة صراع للحضارات، لن ينصلح ما لم ينصلح الحال بين الأديان السماوية الثلاث أولا.
من جهة أخرى، فإن إشكالية الليبرالية السياسية والصهيونية الدينية تمثل تناقضا ضاغطا على الصفة العلمانية للمشروع الصهيوني ككل، وهي الواجهة التي يوجهها نحو الغرب في إدعائه الديموقراطية. يعبر عن ذلك الكاتب اليهودي يوسي يونا في مقال بعنوان "الليبرالية السياسية والصهيونية الدينية – تحالف مؤقت" في موقع الثقافة والدين Culture and Religion، وذلك بطرحه سؤالا جوهريا عما إذا كانت الجماعات الدينية في إسرائيل يمكنها حقيقة أن تحتضن الليبرالية السياسية دون التخلي عن عقيدتها الدينية؟ ويوضح أن كتابات اللاهوتي (الأورثوذوكس اليهودي) يشاياهو ليبوفيتش تعتبر في إطار الفكر الليبرالي، ورغم أنه يعتبر أن الكتابات السياسية / الدينية لليبوفيتش متوافقة مع الليبرالية السياسية، إلا أن ارتباط مثل تلك المبادئ بالمجتمع الإسرائيلي غير مجدية، ليس فقط لأن الجماعات الدينية لاتقبلها، بل أيضا لأن الجماعات الغير متدينة (العلمانية) ترى أنها غير متوافقة مع عقائدهم القومية. وفي الجانب العربي بهذا الخصوص فمن الواضح أن حال الإسلاميين والتيار الديني الغالب على المجتمع العربي بصفة عامة، في مواجهته للتيار الليبرالي أو العلماني، ليس أكثر حظا من نظيره الإسرائيلي، وذلك من منظور إنساني عام.
مدخـل جـيوبوليتـيكي
من زواية أخرى، فقد اقتصر هذا التحليل على البعد السياسي الجغرافي (الجغرافيا السياسية: هي العلم الذي يبحث في تأثير الجغرافيا على السياسة، أي الطريقة التي تؤثر بها المساحة والتضاريس والمناخ على أحوال الدول والناس)، وبنفس القدر تم تغييب البعد الجيوبوليتيكي (الجيوبوليتيك: فن واستخدام القوة السياسية على أرض ما) وهو، في ظني لايقل قوة أو مركزية عن البعد الديني للصراع، كما أنه مرتبط به دائما، إنطلاقا، وتوظيفا، واستهدافا، في متناقضة إنسانية يمكن تشبيهها بمشكلة "البيضة والفرخة" منذ الحروب الصليبية – الاستعمارية!. إن كل من جيوبوليتيكا الهيمنة الأمريكية، ونظيرتها الأوروبية والروسية، لها نفس الأبعاد الجغرافية - السياسية التي تنطلق من أوراسيا، أو منطقة الارتكاز Pivot Area الواضحة في الخريطة المرفقة، مركزا للسيطرة على العالم، وفي مقدمة الهلال الداخلي Inner or marginal crescent كما هو موضح بالخريطة، تقع فلسطين، كموقع جغرافي متقدم، أو رأس حربة كما يصفها عالم اللسانيات الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي، وكموضوع تاريخي كما يستغله هننجتون والمحافظون الجدد أو الصليبيون الجدد بمعنى أوضح.
مدخـل (ديني – ثقافي – حضاري)
في مؤتمر عربى بالأردن عن مستقبل الصراع العربى – الصهيونى عام 2015، لخصه صلاح عبد المقصود، ووثقه ونشره الكاتب الصحفي والباحث / جمال ابراهيم حماد شمال غزة / فلسطين في 15/9/2009، اعتبر أ.د عبد الإله بلقزيز، أستاذ الفلسفة المغربي، أن الصراع العربي الإسرائيلي يختلف عن غيره من الصراعات الإقليمية من قبيل الصراع الهندي – الباكستاني على كشمير على سبيل المثال، ويعود هذا الأمر بدرجة كبيرة إلى أنّ "إسرائيل" ليست مجرّد دولة استعمارية، ولكنها مشروع إحلالي لا تقوم لكيانها قائمة إلاّ باختطاف أرض الشعب الذي أخضعته للاحتلال.
ويشبه بلقزيز " المشروع الصهيوني في طبيعته الاحتلالية الاقتلاعية بالمشروع الاستيطاني الأوروبي للقارة الأمريكية، في شمالها على نحو خاص, إذ يشتركان في مبدأ الغزو العنيف، والسطو المسلّح على الأرض، وإبادة السكان الأصليين، أو اقتلاعهم بالقوة وإجبار من تبقّى حيًّا منهم على تقديم السخرة في زراعة الأرض...إلخ، ويلخص الصراع بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية على أنّه صراع على الأرض، وعلى المصالح العادية فوق تلك الأرض، فهو بالتالي صراع على هوية تلك الأرض وهوية أهلها ونسبها الحضاري، ورغم أن القيادات العربية والفلسطينية حاولت أن تبتعد عن التعامل مع المدخل الديني والثقافي والحضاري للصراع، وتعاملت معه باعتباره صراعًا سياسيًا صرفًا، فإن القيادات الصهيونية للمفارقة لم تكن كذلك.
إنّ الناظر إلى واقع ومستقبل الصراع، يدفعه إلى الاعتقاد بأنه لن يجرى تغير كبير على رؤية تلك الأبعاد الثقافية والحضارية للصراع العربي- الإسرائيلي، بل ستسمر الرؤية عينها في السنوات العشر القادمة، ولعلها تشتدّ أكثر من ذي قبل. وستكون الرؤية محددة بمجموعة من الاعتبارات، أولها: السقف الذي رسمه الفلسطينيون حول مسألة القدس في مفاوضات كامب ديفيد، وثانيها: تنامي نفوذ الحركة الإسلامية، وبشكل رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس". انتهى الاقتباس من رؤية د. عبد الإله بلقيز.
مدخل ثقافي أنثروبولوجي
تصاب الشعوب بما يسمى "الإعياء الثقافي" عند نقطة ما في مسار صراعها الحضاري تحت ضغط الهزيمة السياسية أو العسكرية، فتبدأ بالشك في صمود ثوابتها الثقافية تحت تأثير "الحروب الثقافية" المفروضة عليها في ذلك الصراع. والمشروع الصهيوني لم يوفر جهدا منذ بداياته الأولى، ليس فقط في إصابة الإنسان العربي بالإعياء الثقافي، بل في تدمير الثقافة العربية الإسلامية في فلسطين، والحط من قيمتها عموما. بل إن المشروع بدأ بنفي حتى وجود الشعب الفلسطيني نفسه (آخر محاولة تصريح جولدا مائير الشهير في الستينيات). وعندما فشلت هذه الاستراتيجية بفعل المقاومة الفلسطينية والعربية عموما، بدأ المشروع الصهيوني في طمس وتشويه الهوية العربية الإسلامية للشعب الفلسطيني في فلسطين، مقابل استحياء وزرع وتثبيت الهوية العبرية اليهودية، سواء في الجغرافيا أو التاريخ. وتعتبر العلوم الاجتماعية مدخلا هاما وأداة رئيسية في يد وول ستريت والبنتاجون في إدارة وخوض حروب الرأسمالية والهيمنة. وكانت الأنثروبولوجيا وصيفة للحركة الاستعمارية. ويجادل كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" الذي نشر في عام 1978 بأن جميع "العلوم الاستعمارية" ذات البنية المشتركة تقسم شعوب العالم إلى فريقين" نحن و الآخرون، نحن وهم.
يصف كوبر التحول التاريخي المهم للأنثروبولوجيا (علم دراسة البشر) التقليدية في أسلوب التنبؤ للحقبة الجديدة:
" لقد حدث تحول مفاهيمي "تضمينات تكتونية". فنحن الآن، نثبت الأشياء على أرض متحركة. ولم يعد هناك أي مكان لإلقاء نظرة شاملة (من أعلى الجبل) لرسم خريطة طرق الحياة الإنسانية، ولم يعد هناك نقطة أرخميدية (نسبة إلى أرخميدس أو أرشميدس وقوانينه الهندسية) نصور العالم من خلالها. فالجبال في حالة حركة مستمرة. وكذلك الحال مع الجزر، حيث لا يستطيع المرء أن يحتل- بلا لبس – عالما ثقافيا محاصرا ويقوم منه برحلة إلى الخارج ويحلل الثقافات الأخرى. إذ تؤثر سبل الحياة الإنسانية باطراد في بعضها البعض. وإن تحليل الثقافات على الدوام جزء متداخل في الحركات في الاختلاف والقوة الكونية... والآن هناك "نظام عالمي" يربط المجتمعات على وجه الكرة الأرضية في عملية تاريخية مشتركة."
بمعنى مباشر، فإن هناك أزمة أو "مأزق ثقافي" بحسب تعبير جيمس كليفورد – المحرر المشارك لـكتاب "كتابة الثقافة" – حيث يجيب هذا المأزق – الذي لايقتصر على العلماء أو الكتاب أو الفنانين أو المفكرين – عن التراكم غير المسبوق للعادات في القرن العشرين. ومع ذلك، لا تزال الاختلافات الثقافية قائمة في هذا العالم الآخذ في التغير. بل ربما زادت حدة الاختلاف. يؤكد كوبر "إن ثمة حرب ثقافية كونية تجري، إلا أن الغرب لايضمن تحقيق النصر فيها بشروطه الخاصة، فإنه من السابق لأوانه القول ما إذا كانت هذه العمليات من التغيير ستسفر عن تجانس معولم أو عن نظام جديد للتنوع."
الدكتور صلاح السروي أستاذ الأدب بجامعة حلوان، يعبر عن مفهوم تلك الحرب الثقافية الكونية في مقاله بـ"مصرنا، 19 سبتمبر 2009" فيما سماه "المثاقفة القسرية" التي تقوم على فرض أنماط سلوكية وأطر معرفية – مفهومية لاتتطلبها ولا تسعى اليها الجماعة البشرية المحددة فى طورها الاجتماعى – التاريخى المحدد . وهى بذلك تعد نوعا من الاملاء الثقافى الذى يدعم أغراضا أخرى تندرج فى اطار الهيمنة, بأشكالها المتداخلة : العسكرية والسياسية والاقتصادية .وهذا بالضبط مانرى تطبيقه في الأرض المحتلة بالضفة الغربية لفلسطين، كما كتب الأستاذ فهمي هويدي في الشروق (22 سبتمبر 2009) عن " الفلسطينى الجديد الذي يقوم بتشكيله الجنرال كيث دايتون الذى يتولى رسميا وظيفة المنسق الأمنى وهو يقيم فى تل أبيب ملحقا بالسفارة الأمريكية هناك. أما وظيفته الفعلية فهى الإشراف على تهيئة الأوضاع فى الضفة الغربية بحيث تتوافق تماما مع الرغبات والمخططات الإسرائيلية. وهى المهمة التى يحتل رأس أولوياتها تهدئة الهواجس الأمنية الإسرائيلية. من خلال تخليق جيل من الفلسطينيين نافر من المقاومة ومتصالح مع الإسرائيليي، فنحن إزاء «سيناريو» إحلالى يطبق فى فلسطين ما سبق تطبيقه مع الهنود الحمر منذ ثلاثة قرون تقريبا.
ذلك أن ما يجرى الآن هو صورة طبق الأصل لما فعله المهاجرون البروتستانت الإنجليز حين وفدوا إلى بلادهم التى عرفت فيما بعد باسم الولايات المتحدة الأمريكية. وهى التجربة المثيرة التى وثقها بمختلف فصولها المروعة الباحث سورى الأصل منير العكش المقيم فى الولايات المتحدة وهو مؤسس مجلة «جسور» التى تصدر بالإنجليزية. وأستاذ الإنسانيات بجامعة «سفك» فى بوسطن. وقد صدر له فى الموضوع كتابان. (عن دار رياض الريس ببيروت) أحدهما سنة 2002 عن الإبادة الجسدية الجماعية للهنود، كان عنوانه: حق التضحية بالآخر ــ أمريكا والإبادات الجماعية. أما الكتاب الثانى الذى عالج الجانب الذى نتحدث عنه فقد صدر فى شهر يوليو من العام الحالى. تحت عنوان «أمريكا والإبادات الثقافية. ويكمل الأستاذ هويدي " المشهد لا يخلو من مفارقة، لأن المهاجرين الإنجليز حين فعلوا ما فعلوه بحق الهنود الحمر، فأبادوهم واغتصبوا أرضهم فإنهم استلهموا تجربة خروج العبرانيين من مصر إلى أرض الكنعانيين فى فلسطين. ثم دارت دورة الزمن ووجدنا أن الإسرائيليين «العبرانيين» فى هذا الزمان استلهموا تجربة المهاجرين الإنجليز بجميع مراحلها، من الاستيطان إلى الاحتلال واستبدال شعب بشعب وصولا إلى استبدال ثقافة بثقافة. وفى هذا الشق الأخير فإن فكرة أولئك المهاجرين فى إنتاج الهندى الجديد. جرى استلهامها فى محاولة إنتاج الفلسطينى الجديد. إذ ظل الهدف واحدا، رغم اختلاف التفاصيل والأساليب). انتهى الاقتباس من مقال فهمي هويدي.
على الصعيد النظري، يُنَّظِر لنا الدكتور صلاح السروي آليات تلك المثاقفة القسرية في الآتي:
1. تفتيت الهوية الوطنية, عن طريق اختلاق أوابتعاث الهويات الصغرى بأصولياتها ذات الوعي الزائف اللاتاريخى . كأن يتم تسليط الضوء على أشكال من الثقافة والأدب المنتميين الى طائفة أو منطقة بعينها , بشكل منفصل عن الجامعة الثقافية الوطنية أو القومية , كأن يتم العمل على محاولة احياء اللغة النوبية واختراع ابجدية للكتابة بها . وترسيخ مفهوم مايسمى بالأدب النوبى والثقافة النوبية ومحاولة صرف النظر عن انتمائهما الى الثقافة المصرية . وكذلك العمل على احياء اللغة القبطية والحديث عن الأدب القبطى أو الأدب الاسلامى بمعزل عن الأدب الوطنى المصرى .
2. الاحلال والازاحة , عن طريق التحكم فى برامج التعليم والاعلام والجوائز والترجمة , وهى تلك الممارسات التى تحدد مفهوم "الروائع" , وبالتالى الحكم بالسلب على نحو غير مباشر على الأعمال التى تمثل ما هو مخالف لذلك . ومن قبيل ذلك ما يتم من تسليط الأضواء - عن طريق تكثيف الاهتمام الاعلامى ومنح الجوائز والقيام بالترجمة - على الأعمال الأدبية التى تقوم بنقد وتسفيه الموروثات الثقافية التقليدية , كتلك الأعمال المنتمية الى ما يعرف بالنسوية Feminism التى تهتم بالممارسات الفلكلورية المتعلقة بقضايا المرأة (كالختان والممارسات غير العادلة والشاذة فى محيط العلاقة بين الرجل والمرأة ) فى المجتمعات المصرية والعربية . أو تلك الأعمال التى تطرح نوعا من الجرأة الأخلاقية والسلوكية وتقوم بطرح رؤى مناقضة للعناصر المكونة للأبنية الثقافية التقليدية أو السائدة . كل هذه الأعمال يتم النظر اليها باعتبارها تمثل نظرة "استشراقية" Orientalist للثقافة الوطنية , ولا تمثل نقدا لعناصر الثقافة الوطنية من من خلال الانتماء للثقافة الوطنية ذاتها . ان الاحتفاء بهذه الأعمال يتم على أساس الخطاب الذى تتبناه , وهو دائما مايكون مواتيا لمتتطلبات الخطاب العولمى الذى تتبناه دوائر المركز الأورو أمريكى , بقطع النظر عن قيمتها الفنية قياسا بالأعمال الابداعية المعاصرة لها .
3. خلق الحاجات" الثقافية عن طريق طرح الأسئلة التى تنبع من بيئة ثقافية تخص المركز الأورو- أمريكى وتعميمها على نحو تنميطى , باعتبارها ممثلة للتوجهات العالمية والممثلة لروح العصر . ومثال ذلك مايتم طرحه الآن عن طريق الايديولوجيات الاقتصادوية ومابعد الحداثية , باعتبارها يوتوبيا العصر , وطرح الايديولوجيا الرأسمالية الليبرالية الجديدة باعتبارها أيديولوجيا نهاية التاريخ .. الخ .
مـدخــل إنساني أخلاقي
في ظل هذا المأزق للثقافة الإنسانية، ماذا يمكن لنا إذن، نحن الناس العاديون، أن نفعله لكي نتعرف على هويتنا ونتثبت منها، ونفهم ونضع أنفسنا في الموضع الصحيح من الجغرافيا والتاريخ، ولكي نمارس مسئوليتنا الأخلاقية كبشر، من مدخل إنساني قبل أن يكون مدخلا عقائديا أو سياسيا؟. تلك المسئولية الإنسانية العامة وغير المحددة بالجنس أو القومية أو العقيدة، تزداد تبلورا وشدة كل يوم مع تسونامي العولمة المدفوع بالحركات التكتونية للاقتصاد العالمي خاصة حركة الطاقة والبترول، والنقلات النوعية للعلم والتكنولوجيا خاصة في الاتصال والمواصلات مما أدى إلى انضغاط حقيقي للزمكان (إنضغاط الزمان والمكان) حسب ديفيد هارفي في كتابه "حالة ما بعد الحداثة – 2005)، وانعكاس كل ذلك على الثقافة العالمية. تلك الثقافة العالمية التي رأينا مقدار سرعة تطورها مع تطور العلوم، سواء نحو تجانس معولم أو نحو نظام جديد للتنوع الثقافي.
إن محمود درويش الشاعر الفلسطيني العظيم، هو أقرب مايرد إلى الخاطر عندما نتصور مدخلا إنسانيا للقضية الفلسطينية. يقدمه الكاتب هاني الخير في كتابه "محمود درويش رحلة عمر في دروب الشعر" كشاعر القضية الفلسطينية الأول، إلا أن همه أبداً لم يكن محصوراً بالحدود الجغرافية لفلسطين أو حتى للعالم العربي. كان همه دائماً هماً إنسانياً عالمياً وكأن إحساسه الفطري كان يخبره أن مأساة الإنسان في كل بقاع الأرض هي ذاتها, ولا تختلف عنده مأساة الهنود الحمر عن مأساة الشعب الفلسطيني أو مأساة مواطني جنوب إفريقيا السود إلا في اختلاف المكان والزمان. إن عالم محمود درويش الشعري هو عالم متميز فيه العصافير وريتا والحصار والبندقية كما نجد أبا فراس والمتنبي والسنونو والتتار. جميعهم في رؤية حياتية واحدة متكاملة.
مدخل عـلمي معـرفي
من أهم المؤثرات في التغيير الثقافي والتي بلاشك أوجدت "أزمة الثقافة"، فيما أظن، هناك ثلاث علوم محددة هي علوم الكون والفضاء، وعلوم البيولوجيا والجينوم البشري، وعلوم البيئة والتغير المناخي. تلك العلوم، فيما أرى، تمثل أهم القوى الكونية التي تحرك الصفائح التكتونية للثقافة الإنسانية، وكلها تدفع في اتجاه واحد وواضح، وهو السخرية المريرة من الثقافة الإنسانية الحالية، والمبنية على طبقات أركيولوجية ثقافية لاتقل عنها سخفا وجنونا، والتي لايمكن فهمها في الإطار الإنساني للعقيدة الإسلامية إلا تحت مفهوم "إني أعلم ما لا تعلمون" عندما أجاب الله سبحانه وتعالى على ملائكته عندما تساءلوا بدهشة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟" (البقرة،30 ، "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ")
في نهاية كتابه "الكون" الصادر عام 1980، تسائل الراحل عالم الكون كارل ساجان عمن "يتكلم باسم الأرض" عند أول اتصال مع مخلوقات فضائية عندما تصل إلينا. وكان قد أكد بناء على معادلة رياضية أنه بالتحليل الإحصائي المباشر فإن هناك على الأقل حضارتان في هذا الكون المرئي (حوالي مائة مليار مجرة، بكل منها متوسط مائة مليار نجم، الشمس واحد متوسط منها، والأرض كوكب واحد من أصل ثمانية حولها) وصلا في سلم الحضارة إلى تكنولوجيا الراديو، وبالتالي لديها القدرة على التواصل معنا. وفي فيلم خيال علمي حديث باسم "اليوم الذي توقفت فيه الأرض عن الدوران"، يصور الفيلم مخلوقات فضائية من عوالم أخرى أتت للأرض للقضاء على الجنس البشري، لا لسبب إلا لأن البشر يدمرون الأرض التي اعتبرها أولئك الفضائيون ملكية كونية يجب الحفاظ عليها من تخريب بني الإنسان!.
عودة إلى العلم بعيدا عن الخيال العلمي، فإن كتاب "الكون في قشرة جوز - 2001" لعالم الفيزياء الأشهر ستيفن هوكنج، يمثل فيما أظن، أحدث مدخل كوني لفهم الصراع العربي الصهيوني، وأي صراع إنساني آخر. بالنظر إلى هذا الكون الشاسع إلى حدود أبعد من قدرة العقل البشري على الاستيعاب، فبالقطع يبدو مما يفوق حد السخف ويدور فيما وراء الجنون تصور صراع على بقعة مساحية بحجم فلسطين، أو نقطة بحجم القدس، على كوكب اقل من تافه مثل الأرض، تدور حول نجم صغير مثل الشمس، التي تدور بدورها حول مركز مجرة درب التبانة التي تضم حوالي مائة مليار نجم غيرها!، بل وتدور تلك المجرة في إطار كون يبلغ عدد مجراته قرابة المائة مليار مجرة! منتهى السخف والجنون أن نتصور ذلك الصراع الإنساني في الوقت الذي يصل حجم الكون إلى شبه كرة يبلغ قطرها 156 مليارسنة ضوئية (السنة الضوئية= المسافة التي يقطعها الضوء في سنة)، وبعمر يناهز الـ 13.7 مليار سنة هي عمر هذا الكون (الفرق المنطقي بين دلالة عمر الكون ودلالة حجمه يكمن في الاتساع الدائم للكون) ، ويبلغ عمر الأرض فقط 4.5 مليار سنة.
يزداد الأمر سخافة وجنونا إذا ما علمنا من علم الأنثروبولوجيا أن عمر الإنسان على الأرض (علميا منذ بدء ظهور الإنسان العاقل أو هوموسيبيانس) لايزيد عن 120 ألف سنة فقط! وأن الحضارة الإنسانية المسجلة لم تبدأ إلا منذ حوالي 10 آلاف سنة فقط، في أحواض الأنهار الكبرى في العراق ومصر حيث كان "فجر الضمير" طبقا لـ "جون أرستيد"، وأن وثائق الأديان السماوية لم تسجلها الإنسانية إلا منذ حوالي 3 آلاف سنة فقط بدءا باليهودية ثم المسيحية منذ 2000 سنة والإسلام منذ 1400 سنة، وأن عمر الصراع العربي الصهيوني يقرب من 100 سنة فقط!!!. ذلك الإنسان الذي يعتقد، بمقاييس السماء، أن الله قد جعله خليفته في الأرض، وجعله سيدا على باقي المخلوقات. وهو وحده دون باقي المخلوقات، بمقياس التاريخ المعلوم، الذي يسعى لإبادة بني جنسه. وهو وحده دون باقي المخلوقات، بمقاييس العلم، الذي يسعى بكل همة وغباء إلى تدمير الأرض بيئيا، الأمر الذي بات مؤكدا طبقا لقياسات ودراسات التغيير المناخي. أي جنون هذا وأي غباء؟!.
ثم يزداد الأمر سوءا على سوء عندما نعي من علوم الأحياء أوالبيولوجيا، خاصة علم الجينات أن أصل كل الحياة على الأرض يرجع إلى الحمض النووي DNA، وبعد التوصل لخريطة الجينوم البشري DNA، فقد ثبت علميا أن لامعنى لمفهوم الجنس أو العنصر Race طبقا للخريطة الجينية المشتركة للبشر جميعا، وأن 99.9 % من متتاليات الـ DNA متشابهة في جميع البشر (ولذلك فنحن ننتمي جميعاً للنوع الحي نفسه)، بل يتشابه الدنا DNA الخاص بالبشر مع مثيله في الشمبانزي بنسبة 98%. . أي أن لون البشرة أو ملامح الوجه وأبعاد الجمجمة والهيكل العظمي التي طالما اعتمد عليها الأنثروبولوجيون سابقا في تقسيم الأجناس البشرية لم تعد تشكل أي فرق على الإطلاق بين البشر. باختصار سقطت نظرية الأجناس إلى الأبد لأن هناك جنس بشري واحد، وواحد فقط.
هذا بينما تتطابق نتائج الأبحاث الأنثروبولجية الحديثة تماما مع نتائج أبحاث الجينوم البشري، حيث ثبت أن كل أطياف البشر على الأرض الآن، شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، في القطب وفي حوض الأمازون وأدغال أفريقيا وآسيا، وفي الصحارى العربية والأفريقية، في السهول والجبال الأوروبية والأمريكية، فيما تبقى من فلسطين وفيما يعرف الآن بإسرائيل. كل هؤلاء هم سلالة مباشرة من مجموعة بشرية واحدة في شرق أفريقيا (حوالي 150 فردا فقط!)، نجت منذ 75 ألف سنة من ثورة بركان "توبا" الأندونيسي فيما اعتبر تاريخيا أعظم وأخطر بركان فيما بعد عصر الديناصورات (اندثرت منذ حوالي 65 مليون سنة). هاجرت تلك الجماعة وراء الحيوانات العاشبة في رحلة أبدية في إثر العشب الذي تغيرت مواطنه على سطح الكرة الأرضية بفعل التغير المناخي الدوري (العصور الجليدية المتعاقبة) وغير الدوري عبر القرون، فانتشروا واستعمروا باقي الكرة الأرضية.
أما عن علوم الفضاء والفلك، فإنها تضيف إلى تلك الصورة للصراع العالمي ومنها العربي الصهيوني، بعدا سيرياليا يزيد الأمر لامعقولية. فمن الثابت معلومة ارتباط انقراض جنس الديناصورات على الأرض منذ 65 مليون سنة بسقوط نيزك ضخم في خليج المكسيك الحالي، قضى على أكثر من 90 % من الحياة على الأرض. وبعد أن شاهد العالم على شاشات التليفزيون عام 1991 اصطدام المذنب شوماخر- ليفي 9 بكوكب المشترى، فقد أصبح من باب اليقين المجمع عليه بدون أي استثناء أن مسألة اصطدام نيزك أو جسم سماوي بالأرض ليس مسألة هل؟ ولكن متى؟. أي أنه إن عاجلا أو آجلا ستتدمر الكرة الأرضية جزئيا أو حتى كليا. وهذا السيناريو لتدمير الأرض هو أحد ستة سيناريوهات تشمل الزلازل والبراكين والتسونامي، وكلها يمكن أن تحدث غدا، بالإضافة إلى التغير المناخي (غرق ثلث دلتا نهر النيل أمر مؤكد خلال هذا القرن!)، وآخرها الحتمي موت الشمس بعد 5 مليارات سنة. يستحيل مع العلم بكل ذلك أن نتصور ذلك الصراع الإنساني المجنون تحت باب العقل بأي شكل أو بأي منطق كان!
أيضا يخبرنا ستيفن هوكينج عالم الفيزياء والكون، أنه بالتحليل الرياضي المحض لموضوع النمو السكاني، فإن عدد سكان الأرض قد تزايد في الـ 200 سنة الأخيرة بشكل دالة أسية، فقد زاد سكان العالم منذ 8000 سنة قبل الميلاد وحتى 500 سنة ماضية فقط (1500 بعد الميلاد) إلى ماقيمته مليار واحد من البشر فقط، بينما ارتفع في الـ 500 سنة الأخيرة فقط إلى 6 مليارات نسمة!. وبهذا المعدل فإن عدد سكان الأرض سنة 2600 سيبلغ إلى حد "الكتف في الكتف" لو تراصوا على سطح الكرة!، وستبلغ الطاقة المولدة كهربيا والمصاحبة للنشاط الإنساني حدا تتوهج فيه الأرض مثل النجوم في السماء. باختصار فإن معدل النمو الحالي للسكان لايمكن أن يستمر بأي حال، وإذا لم يتم فسيدمر الجنس البشري نفسه بنفسه بشكل كارثي. بل ويضيف هوكينج نكتة سخيفة بحسب تعبيره، وهي أن سبب عدم زيارة مخلوقات فضائية لنا في الأرض هو أنه عندما تتطور حضارة ما إلى مرحلتنا الحالية، فإنها تصبح غير متزنة وتدمر نفسها. أي صورة مأساوية كئيبة! تضيف بعدا بائسا لأبعاد السخف والجنون للصراع الإنساني عموما.
هل هناك خلاص؟
يقرر هوكينج أن الحمض النووي البشري لم يطرأ عليه تغيير يذكر في آخر 10 آلاف سنة، ولكن من المرجح أننا سوف نتمكن تماما من إعادة هندسته في الألف سنة القادمة!. ويضيف أنه بالطبع سيقول بعض الناس بوجوب حظر الهندسة الوراثية للبشر، ولكن من المشكوك فيه أن نمنع ذلك. حاليا تتم هندسة النباتات والحيوانات جينيا لأسباب إقتصادية، وهناك من يعتبر نفسه ملزما بتنفيذ بذلك على البشر. وما لم نرضى بحكم ديكتاتوري شمولي للعالم، فإن شخصا ما في مكان ما سيقوم بتصميم بشر محسنين...ومن المرجح أن يحدث ذلك شئنا أم أبينا.
يضيف هوكينز، أن على الجنس البشري أن يحسن من صفاته العقلية والبدنية إذا ما أراد أن يتعامل بنجاح مع عالم يزداد تعقيدا حولنا، وأن يواجه تحديات جديدة مثل السفر في الفضاء. كما أن على البشر أن يزيدوا من درجة تعقيدهم إذا ما أريد لنظامهم البيولوجي أن يظل سابقا للنظام الألكتروني، وتلك قصة أخرى ربما تحتاج مقالا منفصلا.
الخلاصة
إن موت الشمس الطبيعي بعد خمسة مليارات سنة، يمثل المدى البعيد جدا الذي يفوق قدرتنا على تخيل مستقبل البشرية. باقي سيناريوهات يوم القيامة (العلمي) تتمثل في تدمير الأرض بفعل اصطدام أجسام سماوية، أو بفعل زلازل وبراكين عملاقة يحجب غبارها الشمس لسنين، أو بعصر جليدي عظيم (نتيجة انعكاس التيار الدافئ في المحيط الأطلنطي)، هي كلها احتمالات يمكن أن تحدث غداً. أما التغير المناخي وانهيار النظام البيئي للأرض الذي ثبت أنه من فعل الإنسان، فهو أمر يحدث الآن بالفعل، ومن غير المعلوم مدى جدية الإنسان في إنقاذ نفسه حتى الآن بسبب الأنانية الغبية على المستوى السياسي، رغم كل شعارات الأمم المتحدة، وكما رأينا فشل قمة المناخ في كوبنهاجن 2009، هذا إن لم يتم التدمير الذاتي في لحظة جنون نووية.
إذا استبعدنا كل تلك السيناريوهات الكونية وغيرها، عند النظر إلى الصراع العربي الصهيوني، فنحن مضطرون في النهاية إلى العودة إلى أرض الواقع، رغم لا عقلانيته وجنونه الذي رأيناه. وكما رأينا فالمدخل الجغرافي السياسيي الذي بدأنا به رحلتنا في هذا المقال، مع المدخل الجيوبوليتيكي، هما من أقرب المداخل العلمية براجماتية وواقعية، بعيدا عن تصادم تفسيرات النصوص الإلهية، والتشبث برومانسيات الوطنية، وشطط الليبرالية الجديدة. هذان المدخلان يحددان أنه لكي تكون هناك فرصة معقولة للسلام في الصراع العربي الصهيوني، فإن المطالب القومية لكل شعب (الفلسطيني والإسرائيلي) يجب أن يتم تلبيتها جزئيا على الأقل. هذا مايحاول الجميع الوصول إليه في ظل توازنات القوى الحالي بالمنطقة: عالمية مهيمنة بالفعل (أمريكا) بمركزها المتقدم (إسرائيل)، أو تسعى للهيمنة (روسيا)، أو إقليمية طامحة (تركيا وإيران)، أو قابعة في الظل (الصين). سعى للأسف دون جدوى عبر مفاوضات عقيمة، استمرارا لحالة الجنون الواقعية بكل أبعادها الكونية التي أسلفناها!
كان غاندي ولا زال، نموذجا فريدا للإنسانية في التسامي على صدام الثقافات في الهند، ولكن يصعب أو يستحيل تخيل حلا "غانديا" لمشكلتنا هنا، فإنه يمكن تناسي الماضي، وقد بدأ السادات مدخلا لذلك، والأرض يمكن اقتسامها بشكل أو بآخر (حل الدولتين)، أو التشارك فيها (حل الدولة الواحدة)، أما إصرار اليهود على استحياء رموز ثقافتهم التي يدعونها، على حساب المسجد الأقصى "ثالث الحرمين" القائم بالفعل، وحتى مع السكوت القسري لنظم الحكم العربية والإسلامية بصفة عامة، فمن المستحيل إنسانيا أن تتبدل ثقافة وعقيدة أكثر من مليار مسلم في المدى القريب أو المتوسط، حتى تقبل بهذا. سيكون هذا بمثابة تصادم كوكبي ليس فيه منتصر، تصادم تتفق عليه، للغرابة، الأغلبية المتدينة على الطرفين فيما يعرف بـ"هيرماجيديون". وسواء كونها ذات مرجعية دينية أو مجرد أسطورة، فهي باختصار قيامة ذاتية، أو انتحار طوعي حضاري للكوكب!.
وبعد هذه السياحة الكونية، فإن الهدف من هذا المقال، هو التعرف إلى ذواتنا وهويتنا ومسئوليتنا، كعرب ومسلمين على المستوى الإنساني، وذلك عند تناول قضية الصراع العربي الصهيوني. من الواضح أن نظم الحكم العربية قد استسلمت أو أًسلمت إلى شهوتها في الملك العضوض، فاستكانت أو استعانت بالاحتلال المباشر وغير المباشر من قبل قوى الهيمنة. في اللحظة الآنية، وبكل التراكم الثقافي للأمة، لايبقى لنا على المستوى الشعبي إلا الإصرار على "البقاء"، ليس بالمفهوم المادي الدارويني فقط، بل بمفهوم الوعي بالهوية والثقافة أولا. هذا إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، أمر لانعلم يقينا متى يحين أو كيف يقع في إطار التفسير الديني (هيرماجيديون)، ولكننا يقينا، نرى مؤشراته ومقدماته بالفعل، من خلال قوانين الفيزياء والكون والبيولوجيا، وتزداد الرؤية وضوحا بتقدم العلم والتكنولوجيا، لكن بلا بصيرة على مايبدو، حتى الآن!.
11 فبراير 2010