مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 ما بعد استراتيجية المضاربة و استراتيجية التبعية
...............................................................

 

الدكتور الفقى فى نوم عميق فى احدى جلسات مجلس الشعب, وعلما بانه رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس الموقر سيد قراره الا أنه مهتم جدا بالهم الداخلى وهاهو ينقل الينا كوسيط محايد خطة الأسرة الحاكمة فى تداول السلطة.

 

بقلم : مسعد غنيم
....................


" للأسف أن الرئيس القادم لمصر يحتاج إلى موافقة أمريكا وعدم اعتراض إسرائيل" ، قول للدكتور مصطفى الفقي ألقى به حجرا كبيرا في نهر الرأي العام المصري الهائج أصلا، ودشن به "إعلاميا" بداية رسمية لحقبة هيمنة جديدة على مصر. ولا أعتقد أن هناك جديد حقيقي في هذا الأمر من حيث النوع، وإن كان فهو من حيث الدرجة، بمعنى زيادة درجة الشفافية لاغير، سواء كان ذلك الأمر مجرد رأي مسئول "سابق" في جهاز الرئاسة كما يصر الفقي صاحب المقولة، أو كان خبرا صحفيا من "شاهد ملك" كما ترجمه الأستاذ هيكل وأتبعه بمجموعة أسئلة متلازمة بالضرورة على ناشر الخبر: المصري اليوم في 13 يناير 2009. ومما يثير الدهشة إلى جانب الإعجاب بجمال حمدان صاحب "شخصية مصر" الصادر منذ ثلاث عقود مضت هي عمر النظام الحاكم في مصر، أنه تعرض لهذا "الأمر" برؤية شفافة وعميقة من خلال ماسماه باستراتيجية المضاربة، كما سنرى.

أطول مستعمرة في التاريخ

أما وقد قيلت، من داخل القصر أو من خارجه، سيان، علنا بأشد ما يكون الوضوح والمباشرة، فلم يعد لنا نحن المقاومون عذر في التعلق بحلم استقلال الإرادة الوطنية، على الأقل لهذا الجيل وربما عدة أجيال قادمة. ذلك حكم التاريخ لمن يقرأه، وعدم قراءته قراءة صحيحة هو من قبيل السذاجة، بل والانتحار الحضاري. وتاريخ مصر طويل طويل، وليس هناك أطول من فترات استعمارها، وهذه جملة ناقصة تعطي انطباعا خاطئا بأنها أطول مستعمرة في التاريخ. وهي مقولة يجب إسقاطها، أو على الأقل تعديلها جوهريا، لماذا؟

يجيب جمال حمدان صاحب شخصية مصر بقوله: " لأن طول عصر التبعية في تاريخ مصر لا يجب أن يُعزل عن طول تاريخ مصر العام نفسه،..فمقارنة بتاريخ بريطانيا مثلا، يُحسب لمصر فترات استقلال تصل إلى 70 % من تاريخها، بينما في حالة بريطانيا البلد المتطوح والجزيرة المنفصلة فإن 50% من تاريخها المعروف على الأقلن وعلى قصره خضع للغزو والحكم الأجنبي....كما أن وقوع مصر للاستعمار الألفي ليس بدعة ولا شذوذا. كل الدنيا تقريبا تعرضت للغزو وخضعت للاحتلال طويلا. ...مثلا، فحتى وقت قريب جدا في القرن الماضي كان ملوك انجلترا مستوردين من القارة، ولا يعرفون الإنجليزية. والغريب جدا بعد هذا كله أن مصر وحدها هي التي تذكر كنموذج للظاهرة. ولا تفسير حقيقي لهذا التخصيص إلا أنها مركز من أهم مراكز التاريخ وأن تاريخها معروف جيدا وموضع اهتمام خاص جدا."
في هذا الموقف التاريخي المفصلي، لا أجد خيرا من كلمات جمال حمدان أيضا، فهو يقول بالحرف: " ليس الموقف..."نعيا" ولا "رثاء" لموقع مصر الجغرافي التاريخي، وإن كان فيه يقينا ما يدعو إلى الرثاء ولكن أكثر منه إلى الصمود والإصرار على مواجهته وتصحيحه إلى أقصى حد بوعي واقتدار." وإن كان جمال حمدان قد قال ذلك في شأن تدهور أهمية موقع مصر لصالح الخليج العربي في عصر البترول، إلا أن النص ينطبق تماما، حتى وإن كان السياق جغرافيا، فالجغرافيا أم التاريخ، وها قد بدأ، مكشوفا بدون حتى ورقة توت، فصل استعماري جديد في تاريخ مصر المحروسة، لاينفي حقيقته الإمبريالية أنه على شكل "هيمنة" تناسب القرن 21.
لقد آن أوان استنفار جينات البقاء المصرية في وجه حقبة استعمارية جديدة لمصر في مسلسلها الطويل من الاستعمار. وأول أدوات الاستنفار هو الفهم، وأول الفهم أن نستدعي لوعينا الفاقد الوعي، من نحن: ماهية مصر. وثانيها أن نفهم عدونا، آسف، السيد المستعمر، آسف مرة أخرى، السيد الصديق. وثالثها وفي عصر العولمة والاقتصاد الأخضر ومخاطر تدمير بيئة الكوكب ذاتيا بفعل تغيير المناخ، أن نفهم آليات عمل الجيوسياسة أو ديناميكية السياسة في الجغرافيا، والجيواقتصاد، أو ديناميكية الاقتصاد في الجغرافيا أيضا، وأن نفهم التغيرات الفكرية الجارية "قسرا" في سياقها التاريخي، بصدام الحضارات أو بحوارها، فالأمر سيان.

الغزوات والتجانس والتجنيس

يقول جمال حمدان: " منذ فجر التاريخ إذن يبرز الشعب المصري كوحدة جنسية واحدة الأصل متجانسة بقوة في الصفات والملامح الجسمية. وقد ظل محافظا على هذا التجانس حتى اليوم." هذا رغم الغزوات والتسللات كما يوضح أيضا جمال حمدان بقوله: " الواقع أن الذي يطالع تاريخ مصر بتفصيل يكاد ينتهي إلى أن الأثر البيولوجي للغزوات، بحكم تعددها الشديد – نحو الأربعين – ورغم محدوديته النوعية، بالإضافة إلى أثر التسللات المتسربة التي لاتنقطع، قد لا يقل في مجموعه عن مجمل أثر الهجرات الحقيقية. ومهما يكن من أمر، فمن بين نحو 40 موجة دخيلة أو داخلة عدت في تاريخنا، هناك على الأقل ثلاث هجرات حقيقية لا شبهة فيها هي الهكسوس فالإسرائيليين ثم العرب....وإثنتين ثانويتين هما الإغريقية وتلك المسماة المغولية."

(1675 – 1525 ق.م.) مصر تلفظ الجسم الهكسوسي

أول الهجرات الحقيقية كانت الهكسوس في 1675 قبل الميلاد، جاءوا من وسط الاستبس الآسيوي، ربما بسبب موجة جفاف (العامل المناخي)، كطوفان من المستعمرين المعمرين وكهجرات كلية شاملة تستهدف الاستيطان النهائي في مناطق الاستقرار الزراعي الغنية إلى الجنوب، واستوطنوا دلتا مصر لمدة 150 سنة. وتختلف الآراء العلمية في جنسهم، يقول جمال حمدان: " ..والرأي الغالب أنهم ساميون. والهكسوس أو "العامو" كما سماهم المصريون، أقاموا في مصر كمجتمع مكتف بذاته أنثروبولوجيا، بمعنى أنه كان يتزاوج داخليا. وعاشوا في عزلة تامة فرضها عليهم المصريون من جانبهم ولم يختلطوا بهم جنسيا، فظلوا كجزيرة بشرية مقاطعة ومحاصرة، إلى أن نجح المصريون في هزيمتهم وطردهم نهائيا من البلاد، حيث عادوا إلى فلسطين و الشام من حيث كانوا قد أتوا مباشرة، وبهذا يمكن الجزم بأنهم لم يتركوا أثرا جنسيا في تكوين الشعب المصري ولم يدخلوا دماءة، كما لم يتركوا بقايا أو فلولا منهم بين السكان."

وفي ذلك فإن مصر أظهرت تفردها الواضح في استيعابها للغزوات والهجرات، يقول جمال حمدان: " فبينما لفظت مصر الهكسوس كجسم غريب دخيل احتوته وعقمته حتى طردته، كان الغزو الآري للهند هو أساس تشكيل كيانها الأنثروبولوجي كله وكما نعرفه اليوم....بعبارة أخرى، لقد نجح رعاة الاستبس الآريون في الهند أنثروبولوجيا، بينما فشل رعاة الاستبس الهكسوس في مصر، رغم أن النسبة العددية إلى سكان المهجر كانت على الأرجح أكبر جدا في الأخيرة منها في الأولى، فلماذا؟ لا شك أن بعض هذا راجع إلى الفارق بين قوة الغازي وقوة المقاومة ومدى الانحدار الحضاري بينهما، ثم إلى مدى صلابة وتماسك النسيج البشري لسكان المهجر. ولعل هذا أول دليل تاريخي، من سلسلة كاملة، على حيوية الشعب المصري وطاقته الكامنة منذ القدم وقدرته على لفظ الأجسام الدخيلة إذا شاء وقدرته على امتصاصها إذا أراد."

(1785 – 1355 ق.م.) مصر تطرد اليهود

الهجرة الكبرى الثانية كانت من اليهود، ويقول عنها جمال حمدان: " ما قيل عن الهكسوس يقال، بقوة أكبر، عن اليهود أو العبريين أو الإسرائيليين الذين هم ساميون بلا جدال والذين كان المصريون يسمونهم الهابيرو... والكلمة تحريف واضح لعبري. دخل اليهود مصر في 1785 ق.م، في فترة أخرى من الاضطراب العام في العالم القديم، ربما أيضا بسبب موجة جفاف أخرى (العامل المناخي مرة أخرى!). بل إن البعض يربط بورة ما بين أولئك والهؤلاء، الهكسوس واليهود. فالمقول أن الإسرائيليين دخلوا مصر أثناء فترة سيطرة الهكسوس عليها، حيث سمح لهم هؤلاء بدخولها تابعين أو عملاء لهم، ثم خرجوا مع طرد حماتهم أو بعدهم بقليل." ثم يعقب جمال حمدان على تزامن الهكسوس واليهود بأنه أمر مشكوك فيه للفارق الزمني الكبير والفارق الجنسي أيضا ما بين آرية الهكسوس وسامية اليهود.
ويستكمل جمال حمدان " أيا ما كان، فقد اقتصر الوجود الإسرائيلي في مصر على "أرض جاشان" (وادي الطميلات والشرقية)، فكانت بحق "حظيرة اليهود" الأولى في التاريخ. بل إنها باعتبارها ممرا لهم أكثر منها مقرا، كانت "حارة اليهود" أكثر منها "جيتو كبيرا". وقد مكث اليهود في مصر 430 سنة في التقدير الشائع، أما حجما، ففي التوراة، "سفر الخروج"، أن اليهود عند طردهم لم يكن عددهم ليزيد عن 600 ألف.
ويختتم جمال حمدان سرده لتلك الهجرة بقوله: " إن وجودهم كان هامشيا على أطراف المعمور المصري، كما كان هامشيا في حياة المصريين نفسها، حيث تشرنقوا على أنفسهم في خلية متكيسة ومن ثم لم يتركوا أي أثر جنسي في البلد. لقد دخلوا مصر "لا كأعضاء أسرة في واحدة، ولكن كجماعة قائمة بذاتها" كما يقول كيث. وبعدها عادوا سكان صحراء مثلما كانت تفعل دوريات كثير من القبائل العربية، تحط حينا على أطراف الدلتا ثم ترحل، كما يشبه كيث أيضا."

(641 ميلادية -...) مصر تمتزج مع العرب

في هذه الموجة الرئيسية الثالثة، يقرر جمال حمدان: " لايمكن المبالغة في قيمة وخطر هذه الموجة من الناحية اللغوية، فهي التي غيرت لسان مصر القديمة وعربتها كليا ونهائيا. لكن في الناحية الجنسية بالذات مجال للخلاف في التقييم. والواقع أن موجة أو هجرة ما في تاريخ مصر لم تتعرض للاختلاف على تقييمها جنسيا كما تعرضت الموجة العربية. فهناك دائما أحد اتجاهين: إما إلى المبالغة المفرطة في تقدير أثرها ووزنها، وإما إلى المغالاة الشديدة في التقليل من خطرها ونتائجها. والاتجاه الأول، وهذا طبيعي، يظهر غالبا في كتابات بعض المصريين أنفسهم أو العرب، بينما يسود الثاني بداهة عند بعض كتاب الغرب والعالم الخارجي. ...فعلى هذا الجانب الأخير، ما أكثر مايشكو الأنثروبولوجيون الأوروبيون مثلا من إطلاق بعض الأفراد والجماعات في أفريقيا الشمالية، بما في ذلك مصر، لتسمية عربي على أنفسهم وهم أبعد ما يكونون عن ذلك ظاهريا أو تاريخيا. وبعض أولئك الأنثروبوليجيين أقنع نفسه بأن كلمة عربي إن هي إلا ادعاء شائع يكاد يصل إلى حد العقدة النفسية – الإثنولوجية بين الإفريقيين، ولايعدو أن يعني متعربا باللسان أو أن يرادف الإسلام، أي مجرد تعبير ثقافي لا جنسي، وعلى هذا الأساس يبالغ في التحفظ في تقييم الوزن الحقيقي للعرب. فمثلا يقول بيتري بلا تحفظ "إن الفتح العربي كان تغييرا في السادة الحكام أكثر منه تغييرا في الجنس."

ويستكمل جمال حمدان: " والحقيقة أن كلا الاتجاهين متطرف تعوزه الدقة، وربما الموضوعية. أما الحقيقة العلمية، حين تفهم صحيحة، فليست فقط وسطا بين النقيضين، ولكنها كذلك أبسط من أن تمثل مشكلة خلافية معقدة. فالذي لا شك فيه أن الهجرة العربية أول وآخر وأخطر هجرة استيطان موجبة فاعلة وناجحة في تاريخ مصر، ومن ثم أهم وأخطر إضافة، ولانقول بالضرورة تغيير أو تعديل، إلى تكوين الدم المصري منذ عصر ما قبل الأسرات، وبالتالي تاريخ الشعب المصري برمته بعد أن وضعت فرشته الأساسية. أو كما يقول بحق كيث مشيرا إلى الفتح العربي "في فترة واحدة فقط من تاريخ مصر اللاحق كان هناك تدفق كبير من الدماء (أو الجينات) الجديدة". لايقلل أو يغير من هذا أنها لم تغير أو تبدل بأي قدر مذكور من تركيب المصريين ذاته. ولذا فهي دون تناقض نقطة انقطاع، مثلما هي وبقدر ما هي، نقطة اتصال في تاريخنا الجنسي.

أنثروبولوجية التعريب

تفسير جمال حمدان لذلك أنه " هو التشابه الجنسي بل والقرابة الأنثروبولوجية الأساسية بين طرفي العملية. فعرب الجزيرة من الساميين، بل هم قلب السامية إن لم يكونوا أصلها. وليس من شك أن الساميين والحاميين، الذي ينتمي المصريون إلى المجموعة الأخيرة منهم، هما تعديلان من عرق جنسي مشترك أو فرعان من شجرة واحدة، وأن التمايز بينهما إنما تم في زمن ليس بالبعيد جدا، بدليل أوجه التشابه العديدة بينهما لغويا وحضاريا، فضلا عن الصفات الجسمية ذاتها التي تجعلهما معا أقارب للأوروبيين من جنس البحر المتوسط كما رأينا أنهم أقارب بعيدون نوعا."
أنثروبولوجية الهيمنة الجديدة: الصهيونيات بعد الصليبيات
إذن عادت مصر المعاصرة إلى مسارالاحتلال أو الهيمنة الذي قطع استمراره جمال عبد الناصر في استثناء تاريخي، فقط لمدة 18 سنة، فيما يمكن أن ينطبق عليه قول الأديب الجزائريّ إبراهيم الكُوني: " كلّ قرار في سبيل الحريّة فوز حتّى لو تبدّى خسارة." ثم فتح السادات الباب للهيمنة الأمريكية كقوة كونية عظمى لمدة 11 سنة، يأسا من صراع، أو أملا في صداقة!، فالنتيجة واحدة. ثم ورث مبارك ذلك "الإرث الاستراتيجي" بحسب تعبير أحد الحكماء كما نقله الأستاذ جميل مطر في مقاله بالشروق المصرية 14 يناير 2010. إن تصريح الدكتور الفقي وتفسيره لطبيعة تفاعل القوى العالمية الآن، يقول بأن الهيمنة الصهيو- غربية على مصر بدأت بالفعل عام 1979 مع اتفاقية كامب ديفيد.

وبعد أن عرفنا الرأي العلمي في أنثروبولوجية التعريب، فما هو الرأي العلمي الموازي في أنثروبولوجية الهيمنة الصهيو-غربية والقائمة بالفعل، فعل القوة لا فعل القانون؟ إن أول عامل فارق بين أنثروبولوجيا الغزوات والهجرات قديما وأنثروبولوجيا الاستعمار والهيمنة حديثا هو اختفاء العنصر الجنسي (الهجرة الجماعية والامتزاج بالتزاوج) وبروز العنصر الثقافي بما فيه اللغوي (التأثير الثقافي من المنتصر على المهزوم). هذا طبعا باستثناء الاستعمار الاستيطاني لفلسطين من قبل الحركة الصهيونية، فهو لم يستهدف فقط الاستطيان، بل والتطهير العرقي والترحيل القسري لأصحاب الأرض الفلسطينيين، ربما لأنه لم يعد مقبولا التطهير العرقي الكامل مثلما فعل الأنجلوساكسون بـ 18 مليون هم معظم السكان الأصليين لأمريكا الشمالية فقط.

وفي شأن التشابه التاريخي مع فترة الصليبيات يقول جمال حمدان: " واضح إذن التشابه التاريخي – الجغرافي بين جيوستراتيجيات الصليبيات الوسيطة والصهيونيات المعاصرة يكاد يكون كاملا حتى التفاصيل وإلى حد الإثارة فعلا. بل الأكثر أن الخطر الإسرائيلي وحده قد فعل بنا وبقناتنا وبموقعنا، بل وبالعالم القديم بعد ذلك، ما فعل الخطران الصليبي والبرتغالي مجتمعين في الماضي." ولا أظن أن الخطر الإسرائيلي بعد ثلاث عقود من هذا التحليل أقل قوة أو خطرا أو اتساعا، وما الهيمنة المعلنة أخيرا بمقولة الفقي إلا نتيجة منطقية لخط "اعتدال" واضح وصاعد بشدة مع جيوستراتيجيات تلك الهيمنة.

حرب ثقافية كونية

من زاوية ثقافية، فإن الاختلافات الثقافية لاتزال قائمة في هذا العالم الآخذ في التغيير، كما يقول د. آدم كوبر في تفسيره الأنثروبولوجي للثقافة (عام 2000)، ويؤكد أنه ربما تزداد تلك الاختلافات حدة، وأن طرق الحياة المتمايزة التي كان مقدر لها أن تبرز في هذا العالم الحديث أعتادت تأكيد اختلافها بطرق جديدة، وأن ثمة حرب ثقافية كونية تجري، إلا أن الغرب لا يضمن تحقيق النصر فيها بشروطه الخاصة، وأنه من السابق لأوانه القول ما إذا كانت هذه العمليات من التغيير ستسفر عن تجانس معولم أو عن نظام جديد للتنوع." وإذا كانت هناك بلد تتعرض لهذا الغزو الثقافي بقسوة وعمق، فهي مصر.

إن أنثروبولوجية الهيمنة الصهيو- غربية على مصر وباقي العالم العربي والإسلامي هي أنثروبولوجية ثقافية في المقام الأول والأخير، وهذا يستلزم قراءة مختلفة للتاريخ ونمطا جديدا من استراتيجيات البقاء، خاصة وأن بقاء الجنس البشري نفسه مهدد بانهيار الكوكب بيئيا تحت ضغط اقتصاد استهلاكي فشل حتى الآن في تحقيق النمط المستدام، وتلك قصة أخرى!

مقياس حيوية الشعوب والدول

كان هذا استعراضا مبتسرا لتاريخ مصر، قرأناه لنفهم أول عنصر من ثلاثية الفهم (من نحن – من العدو – ماذا نفعل) اللازم لاستدعاء استراتيجية البقاء الكامنة في الجينات المصرية في وجه حقبة هيمنة جديدة على مصر، من الواضح أنها ستطول، ولعل هذه القراءة الخاطفة تكون قد مهدت لفهم موضعنا حيث يجب أن نكون من استيعاب حركة التاريخ وفي قلبه مصر.
يقول د. جمال حمدان: "..ولم يحدث أن دخل مصر غاز أجنبي أو أقام بها كنزهة عسكرية هينة بلا ثمن باهظ من الدماء والخسائر الفادحة بل والانكسارات المحققة أحيانا. المقاومة الوطنية المستبسلة والمصرة هي، مثلا، التي طردت أول غزاة لمصر على البر وهم الهكسوس وأول غزاة لها على الماء وهم شعوب البحر."، جات تلك الكلمات تأكيدا لليقين بمستقبل مصر الحرة رغم الاستعمار المباشر، أما الهيمنة الخارجية في عصر العولمة والتكنولوجيا، والتي أشار إليها تصريح الدكتور الفقي، فهي تدير العمليات الإمبريالية عن بعد، أو بالـ"ريموت كونترول"، وذلك يوجب استراتيجية أخرى مناسبة للبقاء، ومصر قادرة على ابتكارها اليوم اختيارا، أو غدا إجبارا، فتاريخها الطويل يؤكد ذلك.

وهنا يمكن مرة أخرى استدعاء تعبير جمال حمدان في موقف مشابه يتصل بالجغرافيا، أسقطناه من قبل على التاريخ، حيث يقول: "....على أن "العزاء" الحقيقي أن الموقف برمته عابر مؤقت مهما طال، فهو موقوت بعمر البترول الخليجي، وبعده يتذبذب البندول مرة أخرى في الاتجاه الصحيح نحو الغرب مثلما فعل دائما. فمصر رغم كل شئ موقع خالد لايمكن أن يتجاهل أو يهمل أو يبلى. فمنذ صنعت مصر التاريخ، عاشت فيه كل عمرها، وكان تاريخها دائما مرتبطا أشد الارتباط بالتاريخ العالمي، ولم يغادرها التاريخ قط ولا نسيها، كل أولئك بحكم موقعها الباقي."

البقاء أم الاستقلال

يعتبر نظام الحكم القائم في مصر أن أهم إنجازاته هي تحقيق الاستقرار، وهي استراتيجية وصلت بمصر عمليا إلى التبعية الصريحة طبقا لمضمون تصريح الدكتور مصطفى الفقي. وبتعبير جمال حمدان، اختار النظام البقاء على حساب الاستقلال. وليس هذا الاختيار أيضا بجديد مطلقا، فهناك فعلا من قال من قبل بأن مصر فقدت استقلالها في مقابل بقائها، ولكن جمال حمدان رد على ذلك بقوله: " ولكن هذا بدوره مردود عليه، فالحيوية هي أساسا القدرة على الامتصاص، وعلى امتداد الصراع. والقدرة على امتصاص الصدمات، كما يؤكد جوبليه، هي المقياس الحقيقي الوحيد لحيوية الشعوب والدول." ومن الواضح تماما في تاريخ مصر أن أن المصريين قوة صابرة صامدة وكتلة صماء صلبة غير منفذه للأجنبي بسهولة، وعلى هذه الصخرة بالذات، حتى بسلبياتها أحيانا أكثر منها بإيجابياتها، تحطمت الغزوات أو تآكلت وأرهق الاحتلال والاستعمار حتى رحل." أي أن استراتيجية الاستقرار والمبالغ فيها إلى حد معنى البقاء ليست من طبيعة مصر، بل إن الاستقلال هو طبيعتها ويشكل معظم عمرها كما رأينا، بمعنى أوضح فإننا بدأنا في حقبة هيمنة صهيو- أمريكية ولكنها استثنائية، كعادة تاريخ مصر.

ماذا بعد استراتيجية المضاربة و استراتيجية التبعية

من المدهش في عبقرية جمال حمدان أنه يبدو وكأن لديه أجوبة على كل الأسئلة، حتى الحاضرة منها، تقريبا. ففي مقام إعلان الهيمنة هذا، يقول: " ..فواضح في الأساس أن الغرب بانحيازه العدواني للعدو الإسرائيلي هو الذي دفع مصر والمنطقة في البداية إلى أن تلقي بنفسها في أحضان الشرق، ثم كان الشرق بتحديده لتسليحها هو الذي دفعها في النهاية إلى أن ترتمي في أحضان الغرب من جديد....وفي كل الأحوال والمراحل فلابد لنا أن نسجل أن الذي قذف بنا من المعسكر الغربي إلى الشرقي ثم إلى الغربي ثانية هو إسرائيل والوجود الإسرائيلي في التحليل الأخير. فإسرائيل بلا جدال هي أكبر عامل تحريفي منفرد في توجيه مصر السياسي وفي تحديد زاوية عدم انحيازها من البداية للنهاية." ...ولاننسى أن ذلك التحليل كان قبل ثلاث عقود، عندما كان للانحياز معنى باق!.

ويلخص حمدان الأمر برمته بقوله: " صفوة القول، على أية حال، أننا قد تنقلنا تباعا خلال العقود القليلية الماضية من النفوذ البريطاني إلى الروسي إلى الأمريكي."

" بعبارة أخرى انتقلنا من قطب الاستعمار القديم المباشر والتبعية الكاملة، إلى قطب الاستعمار الأيديولوجي والصداقة الزائلة، ثم إلى قطب الاستعمار الجديد والصداقة الزائفة."

" هذا المد والجزر السياسي العنيف البعيد المدى، سواء كان جزءا من استراتيجية المضاربة المفروضة على الصغار في عالم الكبار أو كان ثمنا لها، تم جميعا أو غالبا من موقع عدم الانحياز وباسم الحياد الإيجابي، وهنا – موضوعا – وجه الغرابة وموضع السؤال."

بعد مكاشفة الدكتور مصطفى الفقي، لم يعد الأمر الآن يحتاج إلى أي تساؤل، فقد مضى زمن الدهشة وبراءتها إلى غير رجعة. فقط يمكن إضافة سؤال إلى أسئلة الأستاذ هيكل، والسؤال هو: بعد انقضاء العمر الافتراضي لاستراتيجية المضاربة، ثم الانحدار بقوة نحو استراتيجية التحالف أو التبعية بمعنى أصح، ما هي الاستراتيجية الجديدة المفترض أن تتبعها مصر، عندما يحين الحين وتعقد العزم والإرادة على تحقيق البقاء والاستقلال معا؟، و الأمر متعلق هنا بمتى، وليس بإذا. ذلك هو تاريخ مصر وقدرها، ومستقبلها أيضا.

15 يناير 2010
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية