مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 ذكرى ميلاد ناصر بين السد العالي و الجدار المدفون
...............................................................

 

الجدار العازل بين مصر وغزة

 

بقلم : مسعد غنيم
...................

تحتفي الأمم بذكرى رموزها الوطنية، ليس لشخوصهم بقدر ما هو لمقدار تعبيرهم عن إرادة وطموحات أمتهم. وفي 9 يناير 2010 يمر 92 عاما على ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر، وهو نفس تاريخ تحويل مجرى نهر النيل إيذانا ببدء بناء السد العالي عام 1960، رمزا لإرادة الأمة وقمة لإنجازاتها في القرن العشرين. وتتوافق تلك الذكرى لبناء صرح هندسي مع "منشأ هندسي" آخر تقيمه مصر، بحسب تعبير حكومتها. وهو جدار فولاذي مدفون تحت الأرض فوق حدودها مع غزة المحاصرة إسرائيليا. يقول نظام الحكم المصري أنه لدواعي الأمن القومي، بينما تدعي غالبية المعارضين من مثقفين ورجال فكر وعلماء دين ونشطاء حقوق الإنسان داخل مصر وخارجها أن الجدار عمليا يدعم قوى الهيمنة الصهيو- أمريكية في إحكام حصار غزة. وفي جانب آخر، فإن هناك مفارقة لفظية تأتي من المدخل الهندسي الذي اختاره نظام الحكم نفسه توصيفا لما يفعله، فهندسيا السد العالي عال في وجه الشمس، والجدار الفولاذي مدفون ببطن الأرض!.

الســــد العــالـــي

اعتبر بعض كارهي عبد الناصر أن بناء السد العالي كارثة، وكتبوا الكثير في ذلك غالبا من موقع الانغلاق الأيديولوجي أو المشاعر الشخصية، بأكثر منه من موقع علمي متوازن، وذلك من طبقة محدودة جدا وقفت ضد ما مثله عبد الناصر من انحياز للفقراء الأغلبية واعتبرته على حسابها، أو من إسلامويين اختلفوا مع ناصر على السلطة. ولعل أبسط رد على ذلك يكمن في حرص الدولة المستمر حتى الآن على سلامة وصيانة ذلك الصرح الهندسي العملاق، وحتى بعد أن تم مسح آثار ناصر تماما من على جميع واجهات وأعمدة وأروقة وكتب المعابد الساداتيه والمباركية. كما أن هناك رأي هندسي هو البساطة بعينها، ويتمثل في فرضية تقول: من الممكن اليوم أن يبدأ تفريغ بحيرة ناصر، وتأخذ ما تأخذ من شهور أو سنين، وذلك بحسابات هندسية لاتضر بالوادي، وبذلك نتخلص من السد العالي، وكما يقول المثل المصري " يادار ما دخلك شر". فهل يستطيعوا أن ينطقوا بذلك الحل البسيط دليلا على رأيهم؟ لا أظن.

إذن فالسد العالي رمز عصر ناصر يمثل عمق إنجازه التنموي الاستراتيجي. ومصر التي هي ليست عبد الناصر أو غيره، لديها أكثر من سد عال لتبنيه بعيدا عن مشروع توشكي المثير للجدل. فالصحراء الغربية تنتظر مشروع العالم المصري فاروق الباز منذ أكثر من 15 عام ولا حياة لمن تنادي. ومنخفض القطارة يمثل المشروع الأكثر جدوى علميا مقارنة بمشروع منخفض توشكي بحسب رأي العالم الراحل جمال حمدان في كتابه الموسوعي "شخصية مصر"، ولكن من يقرأ ومن يسمع مع ضوضاء دوران عجلة اقتصاد ريعي (لايعتمد على الإنتاج بقدر ما يعتمد على عوائد القناة وتحويلات المصريين ومنتجات البترول و"تسقيع" وبيع الأراضي) ويحاول أن يقنعنا بالتنمية "الرقمية" من خلال الإحصائيات الاقتصادية، تنمية لايستفيد منها غير المقربين، بينما يموت الناس بالفعل في طابور العيش!. وقد ندهش عندما نعرف أن باب البحث في مشروع منخفض القطارة أَقفل بقرار جمهوري في بداية التسعينيات بعد بحوث استمرت عشرات السنين.

الجـــدار المدفون

تحققت إرادة الشعب المصري وفرحته عندما ضغط جمال عبد الناصر مع خرتشوف رئيس الوزراء السوفييتي على زر إطلاق مياة النيل إلى قناة التحويل بدءا لبناء السد العالي عند أسوان، ليبدأ الخير في غمر أرض مصر، فماذ عن علاقة الجدار المدفون بإرادة الشعب المصري؟ أعتقد أنه عندما يتكلم رجل بوزن المستشار طارق البشرى، المفكر ونائب رئيس مجلس الدولة سابقا، فيجب أن نستمع جيدا، وهو في إجابة هذا السؤال، مع غيرة من المفكرين وهم كثر، يستنكر بناء مصر للجدار الفولاذى على امتداد حدودها مع غزة، ويشير إلى أن مصر تقوم ببنائه لحماية إسرائيل، وليس لحماية أمنها القومي. كان ذلك رأيه خلال الندوة التى عقدت في 6 يناير 2009 بمركز الدراسات الاشتراكية عن الجدار الفولاذى، حيث أكد أن النظام يقوم بدور التحالف الاستراتيجى مع العدو الاستراتيجى، لخدمة مصالحه. صورة إن صحت فهي تبدو مظلمة من بدايتها دون حتى انتظار للتاريخ ليحكم عليها، ببناء الجدار المدفون في ستار من الخفاء والظلام، وعندما انكشف الأمر، بدا المشهد مثيرا للجدل عندما بدأ التبرير باستدعاء بعد الأمن القومي، ثم استجداء البعد الديني في هيئة فتوى أزهرية، هذا بينما تتدفق قوافل "شريان الحياة" بقيادة ناشطي حقوق الإنسان في الغرب عكس اتجاه النظام المصري!.

غـزة في الجيوستراتيجة المصرية

مشهد آخر يستدعيه منظور الأمن القومي فيما يجري على حدود غزة 2010، ويرتبط بموقع غزة في تاريخ ناصر بدلالاتها الجيواستراتيجية. ففي عام 1955 تعرضت غزة لغارة صهيونية بعد يوم واحد من قيام ناصر بتوجيه خطاب علني للسلام! من داخلها وكانت تحت الإدارة المصرية. حدث ذلك فقط بعد 7 سنوات من إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وبعد 3 سنوات من تحرير مصر بعد ثورة يوليو. لم يجئ خطاب ناصر من غزة اعتباطا، ففلسطين بدءا والشام عموما يمثل المدخل الجيواستراتيجي لمصر، مدخل يتم تأمينه بالالتحام به كبوابة استراتيجية، وليس بعزله بجدار عال أو مدفون، لأن العدو المشترك واحد، طال الزمن أو قصر، وهذا بحكم التاريخ كما أوضح المستشار البشري. لم تكن استراتيجية إسرائيل التوسعية لتسمح بالخطاب السلمي لناصر أبدا، فحالة الحرب ضرورة استراتيجيه لها لاستكمال التوسع، سواء سعت مصر للسلام أو دافعت بالحرب. فكانت غارة غزة 1955، ثم كانت مؤامرة العدوان الثلاثي عام 1956، ولما فشلت استكملت بعدوان يونيو 1967 فيما سمي بالحرب التي تم خوضها مرتان! (كتاب السويس:الحرب التي تم خوضها مرتان، المؤلف كينيث لف، والناشر ماكجرو هيل، نيويورك 1969). مراحل محسوبة لاستكمال مخطط المشروع الصهيوني المعلن بوضوح تام حتى اليوم، ولاينكره سوى أعداء ناصر، ليس حبا في إسرائيل أو تشكيكا في وطنيتهم، لاسمح الله، ولكن ببساطة لأن مصالحهم الفئوية أو الأيديولوجية الضيقة قد أضرها ناصر بتوجهاته الوطنية الشعبية وبقوته السياسية التي اعتمد فيها على الشعب مصدر السلطات والدستور، فاتسقت مصالحهم بالتبعية مع المشروع الصهيوني من حيث لم يريدوا أو أرادوا، حتى جاء اليوم الذي لم يعد يخجلهم إعلان ذلك.

الســـلام المستحيل مع عدو يتوسع

صفحة غزة 1955 ودعوة ناصر للسلام قد لايصدقها الجيل الجديد من المصريين، أو المصريون الجدد كما يوافق على تسميتهم المفكر فهمي هويدي، وذلك من كثرة الكذب عليهم ومن قوة تزييف التاريخ المروي لهم. صفحة يرويها الكاتب السياسي الأمريكي دونالد نيف Donald Neff. الموظف السابق في الخارجية الأمريكية في كتابه: المحاربون في السويس (1981) Warriors at Suez. يؤكد دونالد نيف على الأهمية المفصلية لتلك الغارة على غزة في 1955. ويروي كيف توجه ناصر إلى قطاع غزة الذي كان تابعا إداريا لمصر بعد اغتصاب فلسطين 1948، ليوجه منه رسالة ذات دلالة إلى إسرائيل، يؤكد اتجاهه التنموي السلمي وليس الحرب، وينتقد بن جوريون الذي يتجه لتسليح إسرائيل بقوة. وفي نفس الليلة، وبعد مغادرة ناصر لغزة، قامت القوات الخاصة الإسرائيلية بغارة على غزة بقيادة الملازم شارون قتل فيها 38 جنديا مصريا. تلك الغارة أحرجت عبد الناصر بشدة، ومن هنا اتجه شرقا وحصل على صفقة الأسلحة السوفيتيه الشهيرة من تشيكوسلوفاكيا حينئذ ليبدأ الصراع المسلح ضد أطماع المشروع الصهيوني المؤكدة.

تجاهل الطبيعة التوسعية للمشروع الصهيوني

جاء في كلمة نعوم تشومسكي الفيلسوف الأمريكي في الذكرى الخامسة (2009) للمفكر الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد أن موشى ديان قال في أواخر عام 1967: " إن بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية وسيناء المصرية أمر مخالف للقانون الدولي، ولكن...ما الجديد في ذلك؟!" ويشير تشومسكي في ذلك إلى اعتماد الصورة الصهيونية في فلسطين على الأصل الأمريكي في فكرة الاستيطان والتطهير العرقي لسكان أمريكا الأصليين. صفحة لايجرؤ أعداء ناصر على قرائتها أو الإشارة إليها إن قرأوها. فقط يستدعون مشاهد الحرب والهزيمة مقطوعة الصلة بدوافعها التي بيناها، كفزاعة يرسخوا مفهوم الاستقرار الذي يبرر به النظام الحاكم سياساته التي تبني جدارا فولاذيا تجاه غزة، وضد إرادة شعبية مصرية واضحة، وفي تجاهل واضح لحقيقة الطبيعة التوسعية للعدو الصهيوني. ويبقى السؤال: هل حقا يمكن أن تستقر مصر وعلى حدودها إسرائيل، ذلك العدو الذي شن 12 حربا ضد العرب منها 7 بعد إعلان السادات أن حرب أكتوبر آخر الحروب؟!. كان ذلك رأي المستشار طارق البشري حين أكد على أن إسرائيل هي العدو، بنفسها أو بأمريكا، وليست غزة فلسطين التي بني الجدار المدفون تجاهها.

الشـعوب أطول عمرا من الجدران

الرحلة منذ رحيل ناصر طويلة بمقياس العمر الإنساني الذي يقاس بعشرات السنين، وقصيرة بمقياس عمر الدول الذي يقاس بمئاتها، وقصيرة جدا بمقياس عمر الشعوب الذي يقاس بآلافها. والشعوب، عربية وغربية، ترفض الجدار المدفون، لأنها تفهم جيدا أنه في النهاية، ومهما كان حسن نوايا النظام في مصر، يصب في مصلحة المشروع الصهيو- أمريكي في الهيمنة على المنطقة والعالم. وعلى مدى عمر الشعوب، فحتما سيتلاشى جدار غزة "المدفون"، وسيهدم جدار "الضم" في فلسطين المحتلة، كما سقط جدار الفصل في برلين.

من جدار برلين للجدار المدفون

وبمناسبة سيرة الجدار المنهار بمعاول الشعب في برلين، فإن لنعوم تشومسكي موقفا طريفا من مقولة أنجيلا ميركر المستشارة الألمانية في الاحتفال الذي تم في نوفمبر 2009 بالذكرى العشرين لتحطيم جدار برلين حيث قالت: "يجب أن نعمل جميعا على استخدام هدية الحرية تلك التي لا تقدر بثمن، في تخطي كل الجدارات في زماننا". يسخر تشومسكي من ذلك القول ويدينها ويدين الغرب كله من نفس منطلق كلمتها، ويوجه تلك الإدانة إلى معنى جدار العزل الذي شيدته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويفضل تشومسكي تسميته بـ "جدار الضم". ترى ماذا يكون تعليق تشومسكي على الجدار المدفون؟!

يقول الأستاذ هيكل أن جمال عبد الناصر = تأميم قناة السويس = السد العالي. والطريف أن المفارقة اللفظية مابين "السد العالي" و "الجدار المدفون" قد صنعتها مفاهيم الهندسة المباشرة.

شتان مابين سد عال، يسعى نحو نور الشمس، وما زال يجلب الخير لثمانين مليون مصري رغم أنف كل المشككين، وجدار مدفون، يتواري في ظلمة الأرض، ويمنع تدفق بعض هذا الخير إلى مليون ونصف فلسطيني محاصر في غزة بدعوى للأمن القومي المصري يقول بها غالبا من يشككون في قيمة السد العالي.
تحية لذكرى ميلاد جمال عبد الناصر في 9 يناير 1918 وســـده العــالـــي، ولو كره الكارهون.

إضافة لازمة مع التهاب أحداث دامية:
مع أهمية تحليل وفهم المسار التاريخي للأحداث المفصلية ذات الدلالة التاريخية، فمن الصعب تأجيل التعليق على أحداث دامية رأيناها في اليومين الماضيين في مقتل جندي مصري برصاص أطلق من داخل غزة في شمال شرق مصر، ومقتل سبعة مصريين بينهم جندي على الطرف الآخرفي صعيد مصر برصاص مجهول، ليلة الاحتفال بعيد الميلاد الأرثوذكسي، في إطار احتقان طائفي غير خافية دلالته بالمرة.

واستقراءا للتاريخ الطويل للاستعمار البريطاني أساسا والغربي بصفة عامة، من حيث سياسة "فرق تسد" (كناب الجغرافيا السياسية في عالمنا المعاصر، المؤلفان كولن فلنت وبيتر تايلور، الناشر بيرسون إيديوكيشن، انجلترا 2006)، فلا أظن أنه من باب المبالغة أو التوهم المرضي بنظرية المؤامرة أن نظن، مجرد الظن، أنه من المعقول جدا ربط تلك الأحداث الدامية بما يواجه الجدار الفولاذي المدفون من رفض شعبي وعالمي عام.
فمن ناحية نجد أن رد الفعل الشعبي الأولي والملموس بعد مقتل الجندي المصري على حدود غزة، تشير إلى بوادر انقلاب من التعاطف مع غزة إلى العداء ضدها، ومن ناحية أخرى فإن اتساع الصدع الطائفي بهذه الوحشية غير المسبوقة في تاريخ مصر المعاصر قد سحب بعضا من الاهتمام بما يجري في غزة، وقديما قالوا إبحث عن المستفيد تعرف الفاعل!.

ساذج جدا أو مكابر جدا من يعتقد أن كلا من غزة ومصر خلو من نشاط الموساد والسي آي إيه، انخداعا بشخص من ضغط على الزناد في هاتين الجريمتين. فهناك دائما احتمال، ويجب أن يكون، في أن القتل هنا وهناك قد تم انتقائيا وبعناية لتفريغ الضغط الشعبي المصري أساسا والعالمي ضمنا، والموجه ضد حصار غزة والجدار الفولاذي، مجرد ظن!. ومن يشك في أهلية هذا الظن فليقرأ بعضا من صفحات التاريخ الحديث والمنشور عن عمليات المخابرات، بل وحتى صفحاته الحيه المعاصرة في العراق مثلا، كفانا الشر!، أم أنه قد حضرت بالفعل مقدماته؟!

9 يناير 2010
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية