| | | | رسالة العقلاء بين قوسي جهل! ...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم ....................
إن موضوع العقل والعقلانية، فيما أظن، هو أهم محاور تصحيح وضع الأمة للتصالح مع دينها ودنياها بالعلم ومنهجه، لذا كان من الطبيعي أن استجيب لمقال حماسي للزميل محمد كوحلال بعنوان "رسالة العقلاء" تضمن الدعوة "لنفتض بكارة الظلم و الجهل و الاضطهاد و الرجعية"، واختتمه بالقول "ان الغرب قد صفى الحساب مع الغيبيات و الفكر الرجعي و ترك للمواطن الحق في إتباع الملة التي تناسبه". فالهدف الذي يدعو إليه لاخلاف عليه، لكن الإشكالية في دعوته تلك، كما أظن، أنه قد خلط بين أمور ثلاثة:إشكالية العلم والميتافيزيقيا أو "الغيبيات" بحسب تعبيره وهي إشكالية فلسفية، ومفهوم حرية اختيار الملة وهو شأن إنساني عام، وبعد جغرافي بين شرق وغرب وهو أمر سياسي أيديولوجي فيما يبدو، وهذا خلط بين أمور لاترتبط ببعضها بالضرورة، مما يشي بخلل منطقي في الفكر الذي يطرحه كاتبنا.
فالأول إشكالية عظمى في فلسفة العلم لم تحسم حتى اليوم، بعكس مايدعى كاتبنا! وكما سنبين فيما بعد، والثاني فرع من أصل هو الحرية بصفة عامة وهو مطلب بشري لاخلاف عليه في الموروث البشري دينيا كان أو وضعيا، شرقا كان او غربا!. فحرية اختيار الملة قد تأتي مع عدم حسم الغيبيبات أو الميتافيزيقيا أو الفكر الرجعي كما يدعوه كاتبنا، وبالعكس قد تنعدم تلك الحرية مع قمة الفكر المادي البعيد عن الغيبيات، وما تاريخ الاتحاد السوفيتي – في الشرق- من التضييق على الأديان وملاحقة المتدينين ببعيد. بل إن مساحة حرية اختيار الملة في ظل حكم الإمبراطورية الإسلامية هو بكل المقاييس أكبر من تلك التي كانت في ظل الاتحاد السوفيتي العلماني!. أم أن كاتبنا معني بالغرب فقط؟!
قد يكون كاتبنا مبهورا بالغرب من حيث أنه غرب، وليس بقيم العقل والعقلانية أيا كان مصدرها، أو بتراث حرية العقيدة أيا كان تاريخها. إن ذلك الغرب وبعد تصفية حسابه مع الغيبيات كما يدعي كاتبنا، قد تبنى قيم التنوير في الفلسفة الغربية وهذه القيم "قد تمثلت في طريق التقدم الواحد والوحيد الذي يرسمه العقل والذي قطعه الإنسان الأوروبي باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعا أو كرها.. وكان هذا هو الأساس الإيديولوجي للحركة الاستعمارية البائدة" كما تقول الدكتورة يمنى الخولي في تقديمها لكتاب الفيلسوف كارل بوبر الشيخ الأكبر لنظرية المعرفة العلمية: أسطورة الإطار The Myth of the Framework . بل إن كارل بوبر نفسه، وهو من هو في مملكة الفلسفة، و "بوصفه آخر التنويريين العظام لا يبرأ – للأسف الشديد – من وصمة الفكر الاستعماري، ويناقش أحيانا حق الدول المتقدمة بل واجبها، في فرض وصايتها على الدول المتخلفة." كما تضيف الدكتورة يمنى الخولي، هنا نرى عدم الارتباط بين التنوير والذي هو عكس التخلف الذي يشير إليه كاتبنا، ومصادرة الحرية لشعوب بكاملها وليس فقط فرد في اختيار عقيدته.
ليس على أن أذكر كاتبنا والقارئ العزيز بحالة العراق حيث تم احتلاله– بغض النظر عن غباء القيادة العراقية- وفرض مفهوم الديموقراطية بالقوة العسكرية من قبل دولة علمانية وتحت شعار غيبي وهو الحرب الصليبية وكما أعلنها رئيس أمريكا نفسه!. أين الرابط بين حسم الأمر مع الغيبيات وسلوك الغرب العلماني في سلب حرية شعب بأسره في الشرق؟ وهل إسرائيل دولة علمانية أم غيبانية متخلفة؟ وهل سلب الفلسطينيين وطنهم وأرضهم وحريتهم بل وحياتهم، بتخطيط الغرب الأوروبي والأمريكي ودعمه اللامحدود حتى اليوم، هل يعتبر شأنا شرقيا إسلاميا غيبيا متخلفا؟!
إن كاتبنا يحمل طوال مقاله بشدة وعنف على من وصفهم بـ" مشايخ السلاطين و شيوخ الفتاوى اكسبريس express "، الذين يبررون ويباركون فساد الحكام في الساحة العربية بحيث صرنا كما يقول" امة مفككة صارت فريسة سهلة و غنيمة بين فكين حادين, أعلاه للسلطة الحاكمة أسفله لتجار الفتاوى, جوقة من المتخلفين, حولوا حياة الأمم العربية و الإسلامية إلى أضحوكة أمام العالم. صناعة للتقرب من الحكام, فبئس الصناعة". إلى هنا فنحن لانختلف مع كاتبنا في توصيفه للحالة ورأيه فيها، بل نؤيده وبشدة في دعوته، ولكن عندما يسحب الأمر من مجرد حكام طغاة ومفتيين منافقين، وهم أولا وأخيرا بعض من المسلمين تسلطوا علي شعوبهم لأسباب أو لأخرى تكمن في الشعوب قبل أن تصدر منهم، ولايمثلون الإسلام بقدر مايمثلون نظما سياسية فاسدة وطالمة، عندما يسحب ذلك على "الإسلام" كعقيدة طبقا لصياغة كاتبنا حيث يدعو" لفتح قنوات الحديث حول الإسلام, و حقوق الإنسان, الكلمة التي صارت مضغة في الأفواه"، فإن الأمر يخرج عن إطار نقد المستبدين والثورة على الظلم وكما يصف كاتبنا نفسه بأنه "مناضل مشاكس و قح مثله طويل اللسان عاشق للحرية متيم بها تواق إلى الديمقراطية"، أو كما يضيف في موقع آخر أنه "ليس حاقدا على الإسلام , رغم عدم اقتناعه به , لكنه كعلماني معتدل اكتر من الاعتدال نفسه, و ديمقراطي من واجبه احترام معتقدات الناس و عدم الخبش في شعورهم, لكن النقاش فرض عين"، نعم يخرج كاتبنا عن الإطار الثوري، الحقوق إنساني، والعلملني المعتدل، والمحترم لعقائد الآخرين، إلى اللمز مباشرة في الإسلام كعقيدة، الأمر الذي نختلف معه فيه بشدة سواء فيما يخص الإسلام أو غيره.
أما إذا كان كاتبنا لايعني ما يكتب ولايعرف الفرق بين الكلام عن " الإسلام" كعقيدة والكلام عن "المسلمين" الحكام والمفتيين والذين هم بشر يسري عليهم ما يسري على كل البشر من كل المعتقدات، فإن هذا الحوار يفقد معناه وجدواه مع من لايعي مايكتب لقارئ واع ومثقف.
من ناحية أخرى فلنا كلمة عن معلومات كاتبنا ومدى عمق معرفته، فإن الغرب حقا لم يحسم الأمر مع الغيبيات او الميتافيزيقيا كما يدعي كاتبنا، وأحيله في ذلك إلى اثنين من أعظم عقول الغرب الحديث أولهما سبق تقديمه وهو كارل بوبر شيخ فلاسفة الفلسفة العلمية في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، حيث جاء في تقديم الدكتورة يمنى الخولي لكتابه "حرر بوبر فلسفة العلم من هيلمان الوضعية بنظرتها التجريبية المتطرفة الصلدة الضيقة النابذة للميتافيزيقيا" (عالم المعرفة - أسطورة الإطار – ص 11)، وفي موضع آخر يقول بوبر نفسه " وكما نسلم جميعا، يؤثر العلم الآن على حياة الناس أجمعين تأثيرا عميقا. بيد أن تأثير الدين أيضا على حياة البشر أجمعين تأثير عميق. وتاريخ الدين له على أبسط الفروض أهمية تاريخ العلم نفسه. وقد ارتبط العلم ذاته ارتباطا وثيقا بالأساطير الدينية." (عالم المعرفة - أسطورة الإطار – ص 165)، إذن فالغرب لم يحسم الأمر بعد مع الغيبيات، أم هل يريد كاتبنا أن يحسم "المسلمون فقط " الأمر مع غيبياتهم، أي يتخلون عن إسلامهم وبهذا يصبحون عقلاء في عرف كاتبنا؟
وينقل كاتبنا عن الرازي, تحت عنوان, فضل العقل و مدحه, قوله " العقل هو المرجع الأعلى الذي نرجع إليه و لا نجعله هو الحاكم محكوما عليه و لا هو الزمان مزموما و لا هو المتبوع تابعا بل نرجع في الأمور إليه و نعتبرها له و نعتمد فيها عليه" ولا أعرف لماذا توقف كاتبنا في الزمن عند الرازي ولم يكمل بنقل فلسفات الغرب في العقل لديكارت أو هيوم مثلا؟ ليعرف أن الفلسفة الحديثة لم تقطع أبدا بتسيد العقل.
كان هذا من جانب علم الفلسفة، ومن جانب علم الفيزياء، فمن المرجح أن كاتبنا قد قرأ أو سمع عن ستيفن هوكنج، العالم الفيزيائي الأشهر في كتابه الأكثر مبيعا في العالم " موجز تاريخ الزمن Short History of Time" والذي قدم فيه نظرية "الانفجار العظيم" لتفسير نشاة الكون، حيث قرر " إن المقاربة العادية للعلم بتصميم نموذج رياضي لاتستطيع الإجابة على السؤال الذي يقول: لماذا يجب أن يكون هناك كون على النموذج أن يصفه؟" (ص 190) واختتم كتابه الرائع بتقريره " ومع ذلك، لو اكتشفنا نظرية كاملة، ... سنكون قادرين على التشارك في الإجابة على التساؤل بلماذا وجدنا نحن والكون؟، وإذا وجدنا إجابة على ذلك السؤال سيكون هذا هو النصر النهائي للعقل الإنساني، حيث أنه حينئذ سنعرف عقل الرب." (ص 191)، أي أن علم الفيزياء في قمة علمه يعترف بالعجز والنقص عن فهم الكون وخالقه، أي عدم اليقين من نفي الميتافيزيقيا أو الغيبيات كما يدعي كاتبنا خطأ أو جهلا. لقد أطاح هيزنبرج بيقين العلم والرياضيات التي هي لغة العلم، نهائيا عندما اكتشف مبدأ اللايقين Uncertainty Principle في الفيزياء عندما أثبت استحالة التيقن من قيمة سرعة الإلكترون ومكانه بدقة في نفس الوقت ويمكن التيقن من أحداهما فقط، ومن ناحية أخرى فإن نظرية الانفجار العظيم افترضت أن الكون وجد من عدم!! وهذا عكس القانون الفيزيائي الذي طالما قال بأن المادة لاتفنى ولاتخلق من عدم!!. وفي الثقب السود سقطت كل القوانين والمعادلات الرياضية والزمان والمكان، ولا يملك العلم شيئا ليقوله أو يفعله إلا الأمل في مزيد من الكشف العلمي مستقبلا. أي أن العلم أوالعقل في قمة أدائة يعترف بالجهل بداية وينتهي إلى جهل! إن مايقرب من 9 أسئلة لم تجب عنها الفلسفة، و28 سؤال لم تجب عنها العلوم الطبيعية ومنها الفيزياء، و4 أسئلة لم تجب عنها العلوم الاجتماعية، ولم يدع عالم بعد أنه وجد إجابة أي منها، أي أن العقل يقع مابين قوسي جهل!!
فمن أين لكاتبنا إذن هذا اليقين إذا كان كل من الفلسفة والفيزياء لا تملكان مثل ذاك اليقين؟! أخشى ان كاتبنا قد قاده ظاهر من العلم إلى ذاك الحماس واليقين الساذج الذي ميز فترة مراهقة العلم في صدر الحداثة، ونقل دون وعي مفاهيم مابعد الحداثة بتهجمه على الميتافيزيقيا أو الغيبيات، ومن ناحية أخرى غيب الإعلام الغربي وعيه فتعامى عن زواج الدين والسياسة فعلا ونفيه قولا في الغرب (أول مناظرة بين أوباما وماكين كانت في كنيسة بكاليفورنيا!! وبدأت بسؤال رجل الدين لهما عما هما بفاعلين لمقاومة الشر في العالم، يقصد الإسلام!!) ، وتهجم بعد تبرأه من الإسلام عليه، خلطا بين الإسلام والمسلمين، فأعماه غضبه على الظلم والاستبداد والنفاق في أرضنا عن قيمة حضارتنا وعمق ثقافتنا وانهزم أمام نفسه وفقد هويته أو كاد من باب العلمانية والعلم أبعد عما يدعيه. أنصح كاتبنا أن يرجع، بالإضافة إلى الكتابين الذين ذكرتهما إلى كتاب الفيلسوف المغاربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي ليعرف الفرق بين الدعوة الصحيحة والعلمية لإعلاء قيمة العقل العربي واستخدامه لمقاومة الاستبداد والظلم وتحالف مدعي الدين والفتوى مع السلطة، وبين الدعوة السطحية الحماسية المفعمة باليقين الساذج انبهارا بما يظنه علما وحداثة والعلم في الأصل لايقيني، أو دعوة تسبح بحمد بديموقراطية الغرب دون وعي بأبسط مبادئ الجغرافيا السياسية واستراتيجيات القوى العظمى على طول التاريخ في استعمار واستعباد الشعوب وتفريق صفوفها تحت دعاوى الحرية والديموقراطية!.
نعم ضد الظلم والاستبداد أيا كانت عقيدته أو جغرافيته، ولا للسذاجة والجهل والخطل والخلط والانهزامية حتى لو رفعت شعار العقل والعلمانية، فهي أخطر من التخلف الواضح والمفهوم، لأن من يتكلم بالعلم والعلمانية والحداثة وهو أبعد مايكون عنها، ويتخذ من الدفاع عن الحرية والديموقراطية شعارا وهو لايفهم آلياتها واستخداماتها معه أو ضده، قد يخدع نفسه دون أن يدري فينخدع به البعض، أحيانا. والله أعلم.
أكتوبر 2008 mosaadg@hotmail.com
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|