تجهيل وتضليل في العالم المجنون... أصلا
...............................................................
| |
عالم مجنون | |
بقلم : مسعد غنيم
...................
الواقـعـية والتـفـــاؤل
صور مختلفة ترسمها كلمات متناثرة عبر الفضاء الإلكتروني، لعل في قرائتها معا ما يشكل مدخلا للفهم في عالم يستعصي على الفهم أصلا. أولها صورة طابعها الواقعية والتفاؤل نراها منشورة في آخر أيام عام 2009 بمجلة الإيكونوميست البريطانية، وذلك في إطار إعلانها لتجديد اشتراكات قرائها، تحت عنوان " العالم مجنون، ولكنه على الأقل يحظي بالتحليل المنتظم". ولأن هذه المجلة العتيدة تحسب على التيار السياسي المحافظ، فإن استخدام تعبير الجنون يستحق الوقوف عنده كثيرا بالتحليل والفهم، وأن يؤخذ بجدية كافية. وأول ما يتبادر إلى بعض الأذهان العربية المتشوقة للمعرفة، أنه إذا كان هؤلاء "العاقلين" المترفين في الغرب يصفون العالم بالجنون، فبماذا يمكن أن نصفه نحن "المتخلفون" الغارقون في الدم والفقر؟.
الـعــلم والإيـمـــان
وثانيها صورة طابعها العلم والإيمان نراها في مقال منشور في المجلة الربع سنوية "قضايا العلوم والتكنولوجيا" والتي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية تحت رعاية كل من الأكاديمية القومية للعلوم و الأكاديمية القومية للهندسة والمعهد الطبي وجامعة تكساس في الولايات المتحدة. ذلك المقال كتبه الرئيس باراك أوباما بعنوان "ماذا يمكن للعلم أن يفعله؟"، وجاء في خاتمته: " إن العلم في جوهره يجبرنا أن نعتمد على الحقيقة بقدر إمكان التأكد منها. إن بعض الحقائق لتملؤنا رعبا، ويجبرنا البعض الآخر على التساؤل عن وجهات نظر اعتنقناها طويلا. إن العلم لايستطيع أن يجيب على كل سؤال، وحقا يبدو في أوقات كثيرة أننا كلما كشفنا الكثير من غموض العالم الطبيعي، كلما وجب علينا التواضع أكثر. إن العلم لايستطيع أن يستأصل أخلاقياتنا أو قيمنا، أو مبادئنا أو إيماننا." إن هذا الملخص المكتوب بعناية فائقة، يمكن أن يشكل ورقة عمل لمشروع حضاري عربي. إن هذا خطاب للعقل من مدخل العلم في قاعة المعرفة والتنوير، هناك!.
التجهـيـــل والتـضـلـيـــل
أما الصورة الثالثة فهي عكس الثانية، ونراها في صحيفة الأهرام لسان حال السلطة، وتمثل خطاب الاستخفاف من مدخل الاستبداد في قاعة التجهيل والتضليل، هنا!. ونقرأها واضحة في سياق مقالات عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام، حيث ينتهج ويعتقد أن التهذب وأدب الحديث قد يمرر فحش وفسوق مضمون مايكتب، تبريرا وتجميلا لوجه قبيح لسلطة مستبدة، وكأن الاستبداد هو ثمن الاستقرار والتنمية التي يمن النظام المصري على المصريين بهما صباح مساء - بحسب رأي سائق تاكسي ركبت معه مرة في شوارع القاهرة- بينما في الواقع، مع الفساد الموثق للنظام، لم يحصل غالبية المصريين علي الاستقرار في غياب أي أمل لمستقبل أبنائهم، كما لم تصلهم بعد ثمار التنمية المزعومة بما يكفي ليطعموهم أو يسكنوهم منازل الكرامة والعفة، بدلا من المقابر والعشوائيات. وفي ذلك فإن عبد المنعم سعيد، مثقف نظام مبارك، قد خان ما وصفه إدوارد سعيد المثقف الأمريكي الفلسطيني بمسئولية المثقف تجاه السلطة، كما أن مقالات عبد المنعم سعيد تعد استخفافا لايليق إلا بعبدة فرعون. هذا وبينما يباهي ذلك الكاتب باعتماد الحوار سبيلا للوفاق الوطني المصري، فهو يستخف أيضا ويتجاهل حقيقة أن بدرج مكتبه على اليمين مفتاح زنزانة السلطة، حيث أن أن "مخبروة" جاهزون دائما بالتقارير لإقصاء من يصدق حقا أن هناك حوارا وطنيا حقيقيا في ظل قانون طوارئ أثري يتم تحديثه بقانون إرهاب قادم، ولنا في إقصاء الأستاذ فهمي هويدي من الأهرام مثلا حيا. مثل لاتستطيع فيه أكثر كلمات عبد المنعم سعيد أدبا وتهذبا أن تخفف من فحش "الفعل الثقافي" الذي اقترفه الأهرام، ولا يمكن مع هذا المثل لألف دعوة للحوار من عبد المنعم سعيد أن تقنعنا بجديتة في ظل الاستبعاد والإقصاء، هذا لو اقتصر الأمر على ذلك، للأسف.
نظرية الـمــؤامـــرة بين التداول العلمي والتضليل
الصورة الرابعة تتباين بين شقين، يقع أولهما في مجال التجهيل والتضليل أيضا ، وصاحبه هو النجم اللامع في فضاء الثقافة طارق حجي. والمجال هنا هو نفي نظرية المؤامرة عما يحدث لعالمنا العربي في مواجهته للمشروع الصهيوني. لم يكتف طارق حجي بمجرد نفي النظرية سردا، بل قطعا في يقين لا يستقيم مع عصر مابعد هيزنبرج صاحب نظرية اللايقين. وهي النظرية التي تقول باستحالة تعيين موقع الإلكترون وتحديد سرعته في نفس اللحظة بنفس درجة الدقة، فقط يمكن التيقن من واحد منهما فقط في نفس اللحظة، وقد انتقل ذلك اللايقين من مجال الفيزياء الرياضية إلى شتى مجالات العلم الإنساني، ولكنه لايبدو أنه وصل إلى نطاق "علم" د. طارق حجي! الذي لم يقتصر على اليقين من رأيه، بل ونصب من نفسه وصيا على المصريين أخذ على عاتقه أن "يرسخ" في العقل المصري مرجعياته الفكرية الشخصية، وذلك طبقا لنص مقالته "لماذا أكتب" المنشورة في موقعة. وبنفس درجة اليقين "الزائف" كما رأينا، ينفي طارق حجي مايطلق عليه نظرية المؤامرة على أساس بنى عليه مقال آخر له، فيه قام بتعريف نظرية المؤامرة، تعريفا لا أساس له إلا في ظن وتقدير كاتبنا، حيث أنه لم يشر من قريب أو بعيد من أين استقى تلك المعايير التي بناء عليها عرًّف نظرية المؤامرة وحدد أوجهها، بهذا الشكل اليقيني القطعي!. فهو ينسب تلك المعايير أو المقولات إلى هؤلاء "الآخرين" الذين صنفهم مابين إسلاميين ويساريين وأناس عاديين، ويخطئهم جميعا في فهمهم لنظرية المؤامرة، فيما يبدو أنه قول مرسل من عندياته. منطق تجهيلي وتضليلي، كما سنراه في ضوء الشق الثاني من الصورة، منطق صادرمن مثقف خان مسئوليته كما حددها إدوارد سعيد ، تماما كما يخونها عبد المنعم سعيد في جريدة الأهرام العتيدة.
وفي المقابل نشاهد الشق الآخر لصورة نظرية المؤامرة، صورة علمية جادة، ويتجلى في فيلم وثائقي على قناة "التاريخ" الأمريكية. صورة تنطلق من قاعدة علمية وتستكمل ملامحها بمنهجه في الطرح والنقد. في ذلك الفيلم الوثائقي، يتم استعراض تاريخ الجماعة الشهيرة المسماة بـ"الماسونيين الأحرار" أو "التنويريون" منذ العصور الوسطى إلى يومنا هذا، وذلك في خط مواز باستعراض فيلم "ملائكة وشياطين" بطولة توم هانكس مبنيا على رواية الروائي الأمريكي الأشهر دان براون بنفس الإسم، وهي الرواية الثانية بعد "كود دافنشي" التي دفعت الفاتيكان إلى الرد العلني على ما تم كشفه من أسرار الكنيسة منذ أيام عيسى عليه السلام. ومن المعلوم مدى دقة ورصانة دان براون في تقصيه العلمي الموثق للحقائق التي يبني عليها رواياته الفنية. في فيلم "ملائكة وشياطين" يمزج دان براون بين حقائق التاريخ الموثقة وحقائق العلم المثبتة في إطار روائي مثير، ولكنا لسنا معنيون بالدراما ولا الإثارة، ولكن ما يعنينا هنا هو مدى دقة البحث وصرامة الالتزام العلمي بالمرجعية فيما يستخدمه الروائي وذلك في سعيه للقيام بمسئوليته كمثقف عالمي في لعب دوره من أجل عالم أفضل مبني على العقل والعلم واحترام عقلية المتلقي، وهي أسس لاتعني في قليل أو كثير أشباه المثقفين المفروضين علينا بقوة الاستبداد، كما أن عدم حياؤهم العلمي والأدبي يسمح لهم بأن يكتبوا ماشاؤا.
جمع دان براون بين الحقائق التاريخية الموثقة عن جماعة "الماسونيين الأحرار" المعروفين بالعمل السري في إطار نظرية مؤامرة عالمية عبر مئات السنين، جمعها مع حقائق الفيزياء في أحدث منتجاتها من "المادة المضادة" التي يمكن توليدها أثناء تجربة محاكاة "الانفجار العظيم" التي تمت بنجاح في نوفمبر2009 ، بعد محاولة سابقة، حيث تمكن المهندسون العاملون في "مصادم الهدرون الكبير" (LHC ) في صدم شعاعات البروتونات مع بعضها البعض. ويبحث العلماء عن علامات " بوزون هيجز" أو "ذرة الإله" كما يقول البعض!، وهي جزيئة دون ذرية تعد اساسية لفهمنا الراهن للفيزياء. إذ على الرغم من العلماء توقعوا وجودها( نظريا)، إلا انهم لم يتمكنوا من تحديدها بعد.وقد وصفت هذه الخطوة ب" الانجاز العظيم " بالنسبة لمن يعملون في هذه التجربة الفيزيائية العملاقة.
مزج براون بين المفهوم التاريخي (موثقا) لنظرية المؤامرة لجماعة الماسونيين الأحرار في صراعهم الدموي مع الكنيسة الكاثولوكية، وبين أحدث نتائج علم الفيزياء، ووظفهما في مقابلة رائعة بين العلم والدين كأعلى ما يكون الفكر وأدق مايكون العلم وأجمل مايكون الخيال الفني. وطرحت قناة التاريخ الأمريكية العلمية ذلك المزيج التنويري المدهش في فيلم وثائقي علمي لم ينته إلى القطع بنفي نظرية المؤامرة مع تجلي شواهدها عبر مئات السنين، وطبعا لم يكن ليقطع بإثباتها، فليس القطع واليقين من شيم العلم. فقط أشباه علمائنا وأشباه مثقفينا العرب وأولهم المصريون لديهم اليقين القاطع عندما يتعلق الأمر بتأييد النظام الحاكم، أو بنفي المؤامرة عن المشروع الصهيوني الذي يقبع قادته في قمة هرم جماعة الماسونيين الأحرار.
نحن المحروقون بنار الهيمنة في العراق وأفغانستان وباكستان واليمن الآن، وفوسفور الصهينة في غزة - فلسطين المحاصرة في جبن تاريخي غير مسبوق، لا يفاجئنا أن من أعضاء جماعة الماسونيين الأحرار (التنويروين) بعض من كبار زعماء العالم ورموزه التاريخية، بعيدا عن البعد العلمي للجماعة الممثل في رموز علمية شاهقة مثل جاليليو وكثير من العلماء الذين اضطروا للتخفي هربا من اضطهاد الكنيسة الكاثولوكية. ، فمن الرموز التاريخية السياسية للجماعة نجد زعماء الثورة الفرنسية ورموز ثقافتها التنويرية، وونستون تشرشل البريطاني، وجورج واشنطن وكثير من الأباء المؤسسين للولايات المتحدة وحتى جيرالد فورد حديثا، وغيرهم الكثير. تلك زعامات امتلكت بالفعل زمام صناعة التاريخ وكتبته بالفعل. وهانحن نعلم أن وسيلتهم الأساسية في العمل هي العمل السري، أو ما يعرف أحيانا بالمؤامرة. أوضح الفيلم الوثائقي أصل تكوين جماعة الماسونيين الأحرار منذ الحروب الصليبية، وبين استمرار تلك الجماعة من خلال العلماء الذين لم يجدوا غير العمل السري في ظل تخلف واستبداد ودموية الكنيسة الكاثولوكية في روما.
عندما نجمع تلك الصور في إطار صورة أكبر نستطيع أن نتبين هناك الجنون ممثلا في مزيج من العلم والدين والفن، ومن ناحية أخرى نجد عندنا نفس الجنون ولكن في مزيج غير محترم من التجهيل والتضليل. ونجد هناك الاعتراف بالنقص وبالجهل، مع الإصرار على الاستمرار في محاولات الفهم بالعلم ومنهجه، رغم جنون العالم. وهنا نجد الغرور بالسلطان والاستخفاف بالبشر، مع يقين مذهل بامتلاك الحقيقة، سواء حقيقة امتلاك السلطة في مصر للأبد، أو حقيقة براءة المشروع الصهيوني من فعل المؤامرة، والعياذ بالله، وفي رؤية هؤلاء، فإن الذكرى 53 لمؤامرة العدوان الثلاثي على مصر في ديسمبر 1956 بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لابد أن تكون رواية ملفقة من جمال عبد الناصر، وأنه رآها في الحلم وفرضها علينا بالقوة في غياب الديموقراطية التي كنا نستمتع بها تحت الاحتلال الإنجليزي والملك الضعيف والأحزاب التي تدفع للقصر لكي تحكم. وفي عرفهم أيضا أن الحمد لله أننا نعيش أزهى عصور الديموقراطية في مصر، والدليل أن "توريث" الحكم يتم في شرعية كاملة للدستور والقانون!! منتهى الديموقراطية...والجنون! وكل عام وأنتم بخير.
حقا، إنه العالم المجنون!، وما كانت تلك إلا محاولة للفهم، ....لعل وعسى...
3 يناير 2010
06/11/2014