نعوم تشومسكي في الذكرى الخامسة لإدوارد سعيد
...............................................................
| |
إدوارد سعيد | |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
في عالمنا العربي ومن منظور"خصوصيتنا" المصرية، يبدو الحديث عن المثقفين وثرثرتهم "الفارغة" ضربا من الانفصال و التعالي على واقع مرير تعيشه الغالبية المطحونة. ذلك الواقع الذي تبدأ ملامحه من أزمة طابور العيش، ولا تنتهي عند أزمة طابور غسيل الكلى، وبالطبع لاتشمل تلك الملامح أزمة طابور المدرسة بعد أن فرغت العملية التعليمية من الشكل، حتى قبل انفلونزا الخنازير، فضلا عن تفريغها من المضمون منذ عقدين على الأقل. ولكن "مهمة المثقفين ليست حل الأزمات، بل إن مهمتهم هي خلق الأزمات"؛ وذلك كقول أحد المثقفين الإيطاليين عندما طلب منهم رئيس وزراء إيطاليا في سبعينيات القرن العشرين أن يساعدوا في حل الأزمة السياسية الإيطالية حينذاك. وقد استدعى ذلك القول مقدم اللقاء الذي عقد في 3 ديسمبر 2009 بجامعة كولومبيا الأمريكية في الذكرى الخامسة لوفاة إدوارد سعيد.
قام مقدم اللقاء بتقديم المتحدث الرئيسي في اللقاء؛ نعوم تشومسكي، حيث جمعه مع المحتفى بذكراه، إدوارد سعيد، في وصفهما معا بقوله أن ما يجمع الإثنين هي صفات العلم المدقق، و الشغف السياسي، والشجاعة الشخصية، وأنهما يمثلان ضمير المثقف الذي يقاوم غواية أصحاب السلطة. وذكر قول تشومسكي "أن معظم الأباطرة لا مخالب لهم"، وأن تشومسكي يقدم للسلطة السياسية البدائل المناسبة عندما تدعي تلك السلطة أنه ليس هناك غير حل واحد، كما يضع المحتملات الأخرى عندما تدعي تلك السلطة واقعية الأمر الكائن سعيا لتكريسه. صفات ومواقف يشترك فيها تشومسكي مع سعيد في توظيفها في إثارة الأزمات للسياسيين المتسلطين على الحكم.
قالوا عن إدوارد سعيد
لخص تشومسكي قيمة إدوارد سعيد في أعظم وأشهر أعماله: كتاب "الاستشراق". ففيه، بحسب تشومسكي، وضع سعيد الإمبريالية في موضع القلب من الحضارة الغربية. ومن ناحية أخرى وصف ناشر كتاب الاستشراق إدوارد سعيد بـ"أنه من القلائل، إن لم يكن الكاتب الوحيد الذي تصدى للغرب بلغته ومنهجه العلمي الحديث في كتابه "الاستشراق" وفي كتبه التالية، وتصدى له فكشف الغطاء عما يخفيه الغرب تحت قناع الثقافة والدراسة العلمية من مواقف سياسية لاترمي إلا لتحقيق مطامع ومصالح مادية صرفة، وبهذا ساهم إدوارد سعيد في توطيد الهيكل الثقافي في النقد الأدبي. وهو الذي يربط بين الأدب والكتابة والدرس بصفة عامة، وبين النزعات البشرية المنحطة التي يدينها الغربيون بألسنتهم ويؤيدونها في قلوبهم وأفعالهم حتى هذه اللحظة، مثل النزعة العنصرية، والتعصب العرقي تحديدا، ومثل الأطماع الاستعمارية القائمة على الجشع المحض، ومثل نشدان التسلط والسلطان لذاته، وهو ما يتجلى في بناء الإمبراطوريات أي الإمبريالية."
كما وصف تشومسكي إدوارد سعيد، مع صديقه إقبال أحمد، بأنهما مثال نادر وساطع للمثقف الملتزم بالحقيقة والعدل، قولا وفعلا، وأن سعيد نجح في سحب الثقافة الإمبريالية خارج الظل وكشف جذورها العميقة وانعكاساتها على كثير من المجالات الإنسانية في العالم.
وقالوا عن نعوم تشومسكي
بالإضافة إلى كونه أستاذا جامعيا مدى الحياة في اللغويات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإن نعوم تشومسكي هو صاحب العديد من الكتابات السياسية الأكثر رواجا في العالم. يقول عنه محرر النيويورك تايمز بوك ريفيو أنه ظاهرة عالمية....ربما يكون الصوت المقروء على أوسع نطاق حول السياسة الخارجية الأمريكية على وجه الكرة الأرضية. بينما تقول عنه مجلة بيزنس ويك "بمنطق لا يلين، يدعونا تشومسكي إلى الاستماع بتمعن إلى ما يقوله لنا زعماؤنا – وكذلك التقاط مايسقطونه من كلام...وسواء وافقناه الرأي أم خالفناه، فإننا خاسرون حتما إن لم ننصت إليه."
لحظة القطبية الواحدة وثقافة الإمبريالية
متمحورا حول فكرة الإمبريالية الغربية كما حللها وجذَّرها إدوارد سعيد، ألقى نعوم تشومسكي كلمتة في الذكرى الخامسة لإدوارد سعيد بعنوان "لحظة القطبية الواحدة وثقافة الإمبريالية"، ويقصد باللحظة يوم تحطيم جدار برلين عام 1989 رمزا لزوال الاتحاد السوفييتي ونهاية ، وحيث ارتكزت قوى الإمبريالية على رد فعل اللحظة فأطلقت مكنوناتها وخططها الإمبريالية التي أعاقتها الحرب الباردة. ثم يلتقط تشومسكي مقولة أنجيلا ميركر المستشارة الألمانية في الاحتفال الذي تم في نوفمبر 2009 بالذكرى العشرين لتحطيم جدار برلين: "يجب أن نعمل جميعا على استخدام هدية الحرية تلك التي لا تقدر بثمن، في تخطي كل الجدارات في زماننا". يلتقط تشومسكي ذلك القول ويدينها ويدين الغرب كله من نفس منطلق كلمتها، ويوجه تلك الإدانة إلى معنى جدار العزل الذي شيدته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويفضل تشومسكي تسميته بـ "جدار الضم".
جدار العار بعد جدار برلين
في فضحة لنفاق الغرب في سكوته عن جدار العزل في فلسطين، يتهكم تشومسكي على مقولة أنجيلا ميركر عن الجدار بقوله: "أننا يجب أن نتبع نصيحتها التي جاءت عفوا منها بغير قصد، وربما يكمن فيها درس كبير، وهو أن نعمل على تحطيم جدار يبدو جدار برلين قزما بالنسبة إليه، فهو بمقياس الضخامة أعلى وأطول من جدار برلين، هذا الجدار أقامته إسرائيل حول الأراضي الفلسطينية (المحتلة) في مخالفة واضحة للقانون الدولي – وذلك لمن يريد التفاصيل، أضاف تشومسكي ساخرا وضاحكا – وبدعوى الأمن التي تنقصها المصداقية على الإطلاق. إن إسرائيل تقيم جدار "الضم" بدعم حاسم من الولايات المتحدة وبتأييد الاتحاد الأوروبي، وأن هذا الضم المحدود يتم بغرض الاستيلاء على الأرض والموارد المائية في المنطقة، وذلك في إطار استراتيجية ضم أكبر وأوسع."
ترى ماذا سيكون تعليق تشومسكي على جدار العار، بحسب وصف الإعلامي الكبير حمدي قنديل، وهو الجدار الفولاذي الذي تزرعه حكومة مصر في بطن الأرض على حدودها مع غزة – التي كانت تحت إدارتها يوما ما – بدعم أمريكي أكثر حسما وبتمويل يبلغ 50 مليون دولار، لإحكام مخارج أكبر سجن في التاريخ لأكثر من مليون إنسان.
الاستشراق والإمبريالية والهيمنة
في ضوء نتائج أعمال إدوارد سعيد وانعكاساتها العلمية، وبالتركيز على فضح مفهوم الاستشراق، يستعرض تشومسكي في كلمته تاريخ الإمبريالية الأمريكية، وهو في هذا لايتفق فقط مع سعيد، ولكن يتسق مع نفسه ومع موقفه كمثقف غربي من الحضارة الإنسانية بمفهوم شامل، وهو الموقف الذي صنف تشومسكي في صفوف المعارضة العالمية لقوى الهيمنة كما يحب تسميتها، وذلك من خلال فكرة ومقالاته وأحاديثه وكتبه، وأشهر ما تم ترجمته للعربية منها: "الدولة الفاشلة"، و "طموحات إمبريالية"، و"اللغة والمسئولية". في كلمته تلك، إنطلق تشومسكي من مفهوم الاستشراق كما كشفه سعيد، إلى الفكرة المركزية في هذا الكشف وهي الإمبريالية، وعاد بها إلى أقدم جذورها فيما اتفق عليه الجميع، وهو ثبوت الإبادة المنظمة لسكان أمريكا الأصليين وعددهم طبقا لآخر بحوث علمية – منذ عقود مضت- يقدر بـ 18 مليون من السكان الأصليين، ولأمريكا الشمالية فقط. هذا في الوقت الذي يدعي فيه البعض أنه مليون واحد فقط. ويشرح تشومسكي كيف أن ذلك جاء في إطار تعصب عنصري أنجلوساكسوني، مغلفا لأيديولوجية إمبريالية متأصلة في الحضارة الغربية، ومن هنا يمكننا أن نتفهم أكثر نكتة ألقاها تشومسكي في بداية كلمته يوضح فيها أنه ابن مهاجر بولندي لأمريكا قبيل الحرب العالمية الأولى، أي ليس من الأنجلوساكسون، أو هكذا فهمت.
خطاب إنساني شامل
إذن، فإن تشومسكي في كلمته عن سعيد، لا يتحدث عن خطاب إقليمي محدود كما ننتظر أو نحب أن نسمع نحن هنا في الشرق العربي تحت الضغط المباشر للواقع الصهيوني والهيمنة الأمريكية، إنما هو يتحدث من منطلق إنساني أشمل وأعم، تماما كما كتب سعيد في "الاستشراق". فلم يقتصر حديثه على أثر الهيمنة الأمريكية على فلسطين وشرقنا العربي، بل عرج تشومسكي على جرائم الحكومات الأمريكية المتعاقبة، دون استثناء، في أمريكا اللاتينية، سواء أثناء الحرب الباردة أو بعدها في فترة الأحادية القطبية التي نرى انحسارها الآن. أي أن ما تم في الشرق من ممارسات إمبريالية تحت مسمى الاستشراق بمعانيه السلبية ووتوظيفاته ونتائجه الإمبريالية، هو نفسه ما تم في الغرب الأمريكي اللاتيني، وفي المحيط الباسيفيكي (الفلبين وجزر البالسيفيكي).
أين نحن من إدوارد سعيد
في هذه الذكرى، لا نكاد نسمع صوتا أو نرى صوره في فيضان الفضائيات العربية عن علم علمي بارز بحجم إدوارد سعيد. كما لا نسمع أو نقرأ لكتاب السلطة حرفا واحدا عن تشومسكي أو سعيد، فقد يتهمون المعارضين هنا بالتشاؤم بقصر النظر على النصف الفراغ من الكوب كما يقول بذلك أحد كبار مبرري الاستبداد الداخلي وهو عبد المنعم سعيد رئيس تحري الأهرام، وشتان بين سعيد، وسعيد!، بل إنه، ومن شابهه، انطلقوا بلا خجل يبررون سلوك الحكومة المصرية الشائن والباعث للعار التاريخي، يبررون زرع الجدار الفولاذي المصري، ويبررون إعاقة قوافل الإغاثة العالمية إلى غزة، ولايتطرق هؤلاء المثقفون السلطويون أبدا إلى نتاج أولئك المثقفين الحقيقين الذين يلتزمون بالحقيقة والعدل ولم تغوهم السلطة وأصحابها من أمثال إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي، بل أستطيع أن أقول أنهم لا يجرؤون أن يتعرضوا لفكرهم بالقراءة، فمبا بالك بالنقد. إن عبد المنعم سعيد وأمثاله ممن أغواهم التعلق بأهداب السلطة وباب السلطان، هم خونة لمسئولية الثقافة ومعناها الإنساني، بغض النظر عن التوجه السياسي. إنهم يوهموننا أنهم يجرون حوارا سياسيا عقلانيا من منطلق واقعي، بينما هم يتجاهلون تماما أي حوار حقيقي من أمثال إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي، لأنهم إن فعلوا لبدا مدى تقزمهم على المستوى العلمي وعلى مستوى الرأي على السواء. إن أمثال عبد المنعم سعيد تحرير الأهرام يكتفون أو "يتشطرون" على نتاج المثقفين المحليين، وحتى في ذلك فإنهم لايتحاورون، بل يلفقون وينافقون ويناورون بشكل يبعث على القرف والغثيان.
بقي أن نتذكر أو نعرف
كلمة أخيرة؛ بقي أن نتذكر أو نعرف أن نعوم تشومسكي يهودي، وأن إدوارد سعيد مسيحي، هذا فقط لمن خدعهم خطاب التفكيك والفوضى الخلاقة، بنصه المباشر القادم من الغرب، نصا متمسحا في شكل "صليبية" المسيحية الصهيونية للحزب الجمهوري على عهد بوش الإبن، أو بنصه المحلي متمثلا في التطرف الديني على إطلاقه والموظف بذكاء، منطلقا من مراكزه المختلفة في صحراء وبوادي جزيرة العرب وإيران، وفي حواضر مصر وصعيدها وثغرها السكندري وحتى بمهجرها الأمريكي، وفي جبال الأطلس ووديانها في المغرب العربي، على السواء.
27 ديسمبر 2009
06/11/2014