قـــــراءة فـي سِـــفْـر الأولـويـات
...............................................................
| |
مسعد غنيم | |
بقلم : مسعد غنيم
....................
مع انفجار منابع المعرفة وفيضانها عبر شبكات الاتصال في القرن الواحد والعشرين، تداخلت الثقافات في فوضى خلاقة، بالطبيعة وبالقوة، وتعددت مردوداتها في سفر أولويات البشر لفهم موقعهم في الكون، وحل مشاكلهم. وفي الحالة العربية عموما، والإسلامية خصوصا، والمصرية تحديدا - حيث تحالفت قوى الخارج المهيمن مع انتهازية الداخل المستبد، لتهيئة المشهد لشتى أشكال التشتت والتشرذم والتخلف - تتقاطع الأولويات بل وتتضارب مشكلة مزيجا معقدا يلون وجه سفر الأولويات المصرية. وهذا السفر له أوجه سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مفهومة، وسنضيف لها في هذا المقال وجها بيولوجيا أنثروبولوجيا، لأن الحالة المصرية قد ارتدت فيما يبدو إلى أطوار ماقبل الهوموسيبيانس (الإنسان العاقل)، ودليلنا في هذا هو حالة اللاعقل التي غرق فيها الشعب المصري على إثر مبارة رياضية بين فريق كرة قدم مصري وآخر جزائري. وسنحاول في هذا المقال أن نفهم أثر امتزاج كل تلك التيارات الثقافية والمؤثرات السياسية والأجندات العالمية على أولويات الإنسان المصري المرتد إلى ماقبل الهوموسيبيانس، في حل مشاكله المزمنة منذ ما يقرب من ألفي عام من عمر حضارته العجوز، غير فيها لغته وبدل ديانته، مرتان على الأقل.
البـعـد الجــيـني
أثبت علم الجينات بأنه لم يعد هناك مايسمى بالجنس أو العرق، فالجينات البشرية واحدة، وبالتالي فلم يعد هناك تخوف أو شك في خلل جيني إقليمي أو محلي!. ولكن في مقابل هذا التوحيد على المستوى الجيني، فإن الأمر يختلف عند الحديث عن العقل والعقلانية على المستوى الفلسفي، حيث يقرر د.عبد الإله بلقيز أستاذ الفلسفة المغربي في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية حول حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر: " لقد انصرم الزمن الذي كانت تعني فيه العقلانية – في الغرب نفسه – نسقا فكريا موحدا، فجرى الاعتراف بعقلانيات متعدده بتعدد أنظمتها الأكسيومية (البديهية)، بل إن الأنثروبولوجيا المعاصرة قد سددت ضربة موجعة لفكرة العقل الواحد المطلق المجرد، حين كشفت عن البنى العقلية الخاصة بمجتمعات "طًرْفِيَّة" لاتقبل المقارنة من داخل العقل الغربي، ولايمكن إدراك عقلانيتها إلا من خلال نظامها الثقافي والطقوسي." وهذا المدخل يلقي بالضوء على ما يطلق عليه في العموم الخصوصة المصرية أو العربية، تلك الخصوصية التي تستخدم ذريعة عند مقاومة أي إصلاح حقيقي يمس مصالح النخبة الحاكمة، بينما يتم تجاهلها عند "استيراد" منتجات ثقافية قد تتعارض مع تلك الخصوصية ولكنها تخدم كرسي الوالي في القاهرة، أو تحقق إملاءات السلطان في واشنطن.
البـعـد التشـــريحي
على المستوى التشريحي، يتكون المخ البشري من ثلاث أمخاخ تطورت تباعا عبر أكثر من 500 مليون سنة. في المركز يقع مخ الزواحف، وفوقه مخ الثدييات، وفي الخارج يقع المخ الإنساني، وهي تعمل مع بعضها البعض ولكل وظيفته. يتحكم الجزء الزواحفي في وظائف الجسم المسئولة عن الحفاظ على الحياة مثل التنفس ودرجة الحرارة، والسلوك الجنسي وارتباطه بغريزة حيازة المكان. ويتحكم الجزء الثديي في وظائف الجسم المسئولة مثلا عن الهضم واتزان السوائل وضغط الدم، وكذلك مسئول عن تراكم الخبرات الجديدة في الذاكرة، وعن استخدام تلك الخبرات المخزونة في مواجهة الخطر، والمخ الثديي أكثر وعيا بالبيئة المحيطة عن المخ الزواحفي، وهو أقل تأثرا بالغريزة، حيث تبدو فيه مشاعر مثل الحب والغضب والخوف مرتبطة بأنماط سلوك الرعاية والقتال والهرب. كما أن المخ الثديي يشكل قاعدة لتصورنا عن تقدير القيمة، في اللاوعي غالبا، وبالتالي تحديد سلوكنا، وهو أيضا مسئول عن مشاعرنا.
أما الجزء البشري من المخ (85 % من كتلة المخ الكلي) فهو المسئول عن تطوير اللغة الإنسانية والفكر المجرد والتخيل والوعي. وهو يتميز بالمرونة وبقدرة على التعلم تكاد تكون لانهائية، وفي النهاية فهو الجزء المسئول عن تطوير ما يعرف بالثقافة الإنسانية. وفي كل ذلك، فإن كل المشاعر و مظاهر السلوك الإنساني ومكامن الفكر والثقافة تتفاعل وتمتد عبر شبكة أعصاب تصل المخ البشري بالمخ الثديي ثم المخ الزواحفي في منظومة عمل واحدة لم يفك العلم بعد كل أسرارها.
البـعـد النفـســـــي
ربما من المناسب هنا الإشارة إلى علم النفس وفكر فرويد الذي سبق التشريح الحديث في تمييز ثلاثة أنظمة هي الهو، والأنا، والأنا الأعلى، وأن الشخصية هي محصلة التفاعل بين هذه الأنظمة الثلاثة. الهو هو الجزء الأساسي الذي ينشأ عنه فيما بعد الأنا والأنا الأعلى، والهو ذو شقين، فطري ومكتسب في آن واحد، ويعمل وفق مبدأ اللذة وتجنب الألم ولا يراعي المنطق والأخلاق والواقع وهو لا شعوري كلية. والأنا هي شخصية المرء حيث تقبل بعض التصرفات وتربطها بقيم المجتمع وقواعده، فتقوم باشباع بعض الغرائز التي تطلبها الهو ولكن في صورة متحضرة يتقبلها المجتمع ولا ترفضها الأنا الأعلي التي هي شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظاً وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، مع البعد الكامل عن جميع الأفعال الشهوانية أو الغرائزية، ويمثل الأنا الأعلى الضمير.
بــدء الـقـــراءة
بعد هذه المقدمة الطويلة في استعراض جوانب تشكيل الأولويات لدى البشر عموما، والشعب المصري خصوصا، يمكننا أن نقرأ قليلا في سفر أولويات المصريين، ليس فقط على ضوء المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وعلى قاعدة بيولوجية، تشريحية، نفسية، أنثروبولوجية، وفلسفية أيضا. ويمكن القول بصفة عامة أن لتلك الأولويات محاور متعددة بتعدد المؤثرات السابقة، ورغم تعددها فالمفترض أنها تصب في النهاية في مصلحة الإنسان المصري، وهي مناط الحكم على جدوى وصلاحية كل أولوية من الأولويات المطروحة على الساحة، وما أكثر تعقيداتها وتقاطعاتها.
أولويات المخ الزواحفي
يمكننا أن نرصد ملامح أول أولوية في مصر، متمثلة في الغرائز الأساسية التي تحكم السلوك المنتظر لحجم غير معلوم من المصريين اختاروا المخدرات مهربا من الألم أو مطلبا للذة، فغيبوا مخهم البشري وانفصلوا عن مجموع الجنس البشري، ويمكننا أن نتخيل حجم هذه الفئة إذا عرفنا أن نسبة سائقي النقل الذين يتناولون المخدرات أثناء القيادة على الطريق الصحراوي بين القاهرة والأسكندرية تزيد نسبتهم عن 80 % بحسب إحصائية مصلحة المرور نفسها، أما نسب المدمنين من الشباب فهي معلومة ومحسوسة. وهذه الفئة لاتقتصر على شريحة عمرية واحدة، ولا شريحة اقتصادية واحدة. ولن نتجاوز كثيرا إذا افترضنا أن تلك الفئة لايعنيها أكثر من غرائزها الأساسية، وبالتالي فإن الحديث معها مثلا عن تأثير مشروع التوريث على أولوياتها هو من قبيل الخيال العلمي، وأن مستقبل مصر السياسي والاجتماعي لايعنيهم من قريب أو بعيد، وهم باستغراقهم في غرائز مخهم الزواحفي لايتخلفوا فقط عن زمانهم الثقافي بل يتخلفوا إلى زمن أحفوري سادت فيه الزواحف وجه الأرض، ولكنها اليوم قد تداس بالأقدام.
أولويات المخ الثديي
ما يقرب من 40 مليون مصري هم نصف المجتمع المصري يعيشون تحت خط الفقر طبقا للإحصاءات العالمية المنشورة. وهؤلاء لايكادون يهتمون بغير إشباع غرائزهم في الطعام والجنس، والمحظوظ منهم من وجد سكنا في العشوائيات أو في المقابر. هؤلاء لايجدون الأمان إلا في التجمع الجماهيري، كما قال بذلك الدكتور جلال أمين في مقاله بالشروق. فيساقون تماما مثل قطعان الماشية البرية، وها قد رأينا كيف تم التلاعب بهم حيث قامت منظومة إعلام فاقدة الأهلية بتنفيذ أجندة نظام حكم مستبد، بسوقهم قطعانا على إثر مبارة رياضية بين فريق كرة قدم مصري وآخر جزائري، في فورة شعبية لاجدوى منها إلا في تغييب الوعي عن الأولويات الحقيقية لتلك الجماهير، فغيبوا فيهم المخ البشري فارتدوا إلى المخ الثديي. ويمكننا أن نتصور أنه من السهل جدا، مثلا، شراء أصوات هؤلاء في أي انتخابات قادمة، حتى لو نزيهه، بمجرد التلويح لهم بوجبة طعام فاخرة، أو وعد لاينفذ بشقة متواضعة، وبالتالي فمن منظور تلك الفئة، من المحتمل أن يتحدد مستقبل مصر السياسي على مستوى المخ الثديي أي بنظرية القطيع، بما يعني التقدم إلى أسفل مدارك التخلف، ليس بمعيار أيديولوجي أو ثقافي لا قدر الله!، بل بمعيار غرائزي بحت.
أولويات المخ البشري
يتبقى فئة واحدة مازالت تملك زمام أمرها بفضل وعي المخ البشري فيها، وهي المرشحة لتحديد أولويات المخ البشري المصري لحل مشاكله المزمنة مع الاستعمار والهيمنة من الخارج، والاستبداد والانتهازية من الداخل. هذه الفئة تتكون من الشريحة الرقيقة ممن تمكنوا من ثروة مصر في غفلة من الزمن، ومن البقية الباقية من الطبقة الوسطى حاملة المعرفة والقيم، ومجموع الشريحتين ليس موحد الفكر بالطبع، بل إنه يشمل ويشهد تضاد وتداخل وتقاطع دائما، وفي قراءة سريعة لأولويات تلك الفئة يمكننا تمييز الآتي:
الإسلام هو الحل
أول ما نرصد من الأولويات هو أولوية العامل الديني ممثلة في شعار "الإسلام هو الحل"، ويطرحه التيار الديني السلفي أو من يسمون بالإسلاميين. يقيم الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة المصري هذه الأولوية من خلال مداخلته في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية حول حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر، بقوله: "..ولدى الحركات الإسلامية المعاصرة، لم يعد العقل أحد أركانها. ففي خصائص التصور الإسلامي ومقوماته يتسم الفكر الإسلامي بسبع خصائص ليس من بينها العقل أو العقلانية، وهي: الربانية، الثبات، الشمول، التوازن، الإيجابية، الواقعية، التوحيد." وذلك كما صاغها سيد قطب في كتابه "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته".
بينما يقيم هذه الأولوية د. عبد الله العروي أستاذ الفلسفة المغربي بقوله في نفس الندوة: " عندما نلتفت – وهذا لايحصل إلا نادرا – إلى حياتنا اليومية نلاحظ من دون عناء أن تطبيق ذلك العقل المفترض لدينا (منسوبا إلى الفكر السلفي) يؤدي في الغالب الأعم إلى نتائج محبطة، بمعنى أن المسلك الذي يفرضة علينا العقل – كما نتصوره – يقودنا إلى غير، أو إلى عكس، ماتمليه علينا المصلحة البينة الواضحة والأمثلة على ذلك لاتكاد تحصى في تاريخنا الحديث: في الحرب، في السياسة، في الاقتصاد، في التربية، في الحياة العائلية، إلخ....أمام هذه النتائج السلبية، المجددة والمتوجة بالاستعمار والتبعية والتخلف، نتعجب ونقول: هذه مفارقة. ثم نروح نبحث عن الظروف والدوافع والأسباب...لعبة تستهوينا ولا نكاد نسأم منها منذ أكثر من قرن ونصف. لم يخطر ببالنا أن نتسائل بجدّ: أو لا يكون ذلك العقل الموروث، العقل الذي نتصوره بإطلاق ونعتز به هو بالذات أصل الإحباط؟".
هذا بينما يؤكد د.عبد الإله بلقيز أستاذ الفلسفة المغربي: " أن العقلانية الإصلاحية الإسلامية لم تتوقف مساهمتها عند حدود إعادة بعث الصلة بابن خلدون (مع أحمد بن أبي الضياف)، والإمام الشاطبي (محمد عبده ومحمد بلحسن الحجوي وعلال الفاسي)، وابن رشد (خير الدين التونسي)...، بل تخطت ذلك إلى توطين – بل تأصيل – بعض موضوعات الفكر الليبرالي الأوروبي نفسه على تواضع صلة الإصلاحيين به. وكذلك سعي تلك العقلانية الإصلاحية الإسلامية في تقديم رؤية حديثة للإسلام تصالح بينه وبين العصر، بين الإيمان والعلم، وتتخطى الفهم النصي الجامد لتعاليمه خارج مقتضيات المكان و الزمان."
الليبرالية هي الحل
يطرح هذه الأولوية شريحة عالية الصوت من النخبة المصرية، وتتبناها كل رموز نظام الحكم الحالي ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والإعلامية، بقيادة النجل المبارك ولجنة سياساته، وهي أولوية يراها الكثير منقوصة ومنبتة الصلة بأصلها الغربي، فقد تم تطبيقها مشوهة وناقصة لاشتراطات أساسية في النموذج الغربي الأصلي، أهمها غياب الديموقراطية والاكتفاء بتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية لم تنجح إلا في زيادة حجم شريحة المصريين تحت خط الفقر، بالإضافة إلى انهيار الخدمات الأساسية من صحة وتعليم لجموع الشعب المصري. وفي تناقض صارخ مع المفهوم الليبرالي، تتمسك النخبة الحاكمة بقانون طوارئ أزلي، لتمكينهم من السلطة ضد رفض شعبي عام وواضح، وهذا الأمر وحده كفيل بنسف أولوية الليبرالية كما تمارس الآن في مصر.
وعلى المستوى النظري لتاريخ الليبرالية العربية فيلخصه د.عبد الإله بلقيز بقوله: " أن العقلانية الليبرالية تبدو أعلى جرعة من من العقلانية الإصلاحية الإسلامية لسببين هما: تحررها من سلطة النص الديني الحاكم للعقلانية الإسلامية، واعتمادها على أصول عقلية حديثة تخلصت من "الحاكمية" الأرسطية وخاضت في فتوحات معرفية لم تلجها الثقافة العربية – الإسلامية. ومع ذلك لاتزال هذه العقلانية الليبرالية تعاني أمرين: أولهما أنها تبدو – في أعين قطاع عريض من المثقفين والمتعلمين – فكرة برانية غير ذات جذور في تربة الثقافة العربية – الإسلامية، وثانيهما أنها لم تتحرر، إلا لماما، من منزعها التبشيري الذي حولها – في نظر ناقديها من أهل خطاب الأصول والهوية – إلى إرسالية فكرية مبتعثة بين ظهرانينا، لإنجاز ما عجزت عنه جراحات ثقافية قيصرية أجنبية."
ويحلل د. على محافظة أستاذ التاريخ الأردني تاريخ التيار العقلاني الليبرالي العربي ويحدد أسباب فشله في تحقيق أهدافه، وكما أرجعه الباحثون العرب، إلى عدة أسباب:
• عدم إدراك الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور العقلانية الليبرالية في أوروبا والظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي رافقت ظهورها. فاستوردوها نتاجها كما يستوردوا البضائع، وحاولوا تطبيقها في الواقع العربي فجاءت مسوخا مشوهة.
• تقليد أعمى للغرب فتبنوا الأفكار والمبادئ والقيم الغربية، وتحمسوا لها، ودافعوا عنها، فعادوا الدين واستهانوا به، واعتبروا الرفاهية الفردية معيارا لقياس التقدم الاقتصادي.
• تبني العقلانية الغربية المتطرفة الملحدة، التي تعادي الدين وتهمله، بينما لم تمنع العقلنة الغربيين من التأكيد على أن ثقافتهم هي ثقافة يهودية – مسيحية.
• تعتبر نوعا من السلفية الفكرية والتبعية الثقافية، حيث قلدت العقلانية الغربية تقليدا أعمى، ولم تقدم نتاجا فكريا أصيلا نابعا من فهمهم للعقلانية الليبرالية في الواقع العربي، بينما أن تلك العقلانية نشأت أصلا لتحرير العقل من النقل.
• العقلانية الليبرالية هي حليف للفئات العليا في المجتمع، التي هي بدورها حليف للغرب المستعمر أو مرتبطة بالسوق الغربية، ولهذا ظل تأثير هذا التيار محدودا ومقصورا على فئات اجتماعية معينة لاتمثل الشعب كله.
• استهدفت تثبيت نظم الحكم القائمة وتبريرها، رغم أن العقلانية اللييبرالية الغربية قامت على تأكيد حرية الإنسان الفرد والجماعة.
ويمكننا أن نرى أن هذا التحليل الذي تم في 2005 عن رواد الليبرالية العربية الأوائل وهم الطليعة المثقفة، ينطبق وبشدة على دعاتها الجدد – ولا أقول مفكريها-، خاصة مع ضعف صلاتهم بتاريخهم الثقافي والاجتماعي والسياسي. فأهم مايدفع به منظرو النيوليبرالية المصرية هو أولوية التنمية على مقاومة المشروع الصهيو-أمريكي، وكأنه سيتركهم ينمون مصر حتى يصبحوا قادرين على مقاومته!، بل وكأنه لايشجعهم أو يفسدهم بالمنح من أجل تخريب مصر. وأوضح ما يتجاهلونه هو الديموقراطية بدعوى دعم الاستقرار، وبادعاء مخجل بعدم أهلية الشعب المصري للديموقراطية (تصريح شهير لأحمد نظيف رئيس الوزارة)، وفي سبيل ذلك يبررون الاستبداد الداخلي، بل ويحللون مشروع توريث الحكم في فعل ديكتاتوري فاضح. هذا غير درجة تبعية أوضح، وأكثر جرأة في تجاهل مصالح الجماهير، وأكثر تبجحا في تبرير الزواج بين السلطة والمال.
ومن الغريب أنه رغم الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم منذ نهاية 2008 وحتى الآن، قد طرحت الشكوك في أسس النظام الرأسمالي والليبرالي بصفة عامة، وبدأ الغرب فعلا في المراجعة والتصحيح (تصريح ساركوزي وإجراءات أوباما التي يعترض عليها الجمهوريون)، إلا أن الليبراليون الجدد في مصر مازالوا يرددون بعناد غبي ما حفظوه من "منافيستو" الرأسمالية الليبرالية ماقبل الأزمة!.
الديموقراطية هي الحل
يتخذ الروائي علاء الأسواني هذه الأولوية شعارا لكتاباته، وإشكالية هذا الشعار التي لاأظنها تغيب عن الأسواني هي ابتذال استخدامها من قبل كل الأنظمة الديكتاتورية بدءا من النازية فالشيوعية فالرأسمالية الغربية. ولعلنا لم ننسى بعد أن أمريكا وبريطانيا قد غزتا العراق خارج إطار الشرعية الدولية عام 2003 وما زالا يحتلاه بدعوى نشر الديموقراطية حتى بعد الفضيحة التاريخية لبوش وبلير في كذبهما المتعمد بادعاء امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. أي أن الديموقراطية كادعاء لاتمتنع عن التماهي مع أي نظام كان، يساريا ديكتاتوريا، أو ليبراليا إمبرياليا، وأخيرا إسلامويا تبريريا. لعل جورج أورويل هو أكثر من كشف إدعاء ومرواغة تعبير الديموقراطية في روايتيه عن الديكتاتورية المطلقة باسم الديموقراطية: "1984" و "مزرعة الحيوانات". وهناك مفكر من العيار الثقيل أقل شهرة من أورويل، فقد كتب هربرت ماركوس الفيلسوف الأمريكي في سبعينيات القرن العشرين عن " الإنسان ذو البعد الواحد"، وأوضح أن لا فرق إطلاقا بين النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والنظام الرأسمالي في أمريكا، من حيث تنميط الإنسان وسلبه حرياته الأساسية وفي انعدام حقيقي للديموقراطية رغم كل شعاراتها، ويكمن الفرق فقط في شكل الدعاية وبراعتها.
الوطنية هي الحل
طرح هذه الأولوية المفكر د. أنور عبد الملك، وهي فيما يبدو ردا مصريا خالصا، وتصويبا وتصحيحا لكل من أولوية "الإسلام هو الحل"، وأولوية "الليبرالية هي الحل." وهذه أولوية تستوعب إلى جانب العقلانية المفقودة في الأولوية الدينية، الانفتاح والبراجماتية اللازمين للتعامل مع عصر العولمة والجيوسياسة. جاء ذلك في كتابه "الوطنية هى الحل" (الشروق الدولية عام 2007)، حيث تكلم عن الضياع وغياب الرؤية فى مصر، ويقول إن التوهان يؤدى الى التغييب وغياب الرؤية حتى تسللت الى نسيج المجتمع المصرى أمواج "الايديولوجية الاستهلاكية العدمية... ومعها سلوك السلفية الرجعية" التى أدت فى رأيه الى الانحراف بوجدان المصريين عن الوطنية كقاعدة للمواطنة "والولاء الأوحد للوطن" وإحلال مرجعيات أخرى للولاء.
خــاتـمـــــة
كانت هذه قراءة انطباعية في سفر الأولويات العربية ومنها المصرية، لم تشمل كل المطروح على مستوى الفكر أو الإعلام السياسي أو التعبير الفني عبر الشاشة الفضية أو الفضائيات، وتلك الأخيرة تعج بمبادرات كوميدية ليس أقلها تيار " الجنس هو الحل" كما تطرحه مخرجة سينمائية مشهورة، أو ما طرحته مؤخرا رموز الأسرة الحاكمة وشخوص من الحزب الحاكم من أن " الكرة هي الحل" عندما رهنوا "كرامة" مصر بنتيجة مبارة كرة قدم!
ربنا يستر........
ديسمبر 2009
06/11/2014