وحـي سـرمـدي: قـضـيـة الإلــــــه
...............................................................
| |
مسعد غنيم | |
بقلم : مسعد غنيم
........................
نشرت مجلة نيويورك تايمز الأمريكية قائمة بأكثر مائة كتاب تحظى بالاهتمام عن العام 2009، منها كتاب بعنوان "قضية الإله" لعالمة الأديان والراهبة الإنجليزية السابقة كارين أرمسترونج، وهو موجه بالدرجة الأولى إلى القارئ الأمريكي والغربي عموما. وترى الكاتبة قارئ الكتاب بين اثنين؛ مؤمن أو ملحد. ورغم أنها تنطلق من موقع مسيحي كاثوليكي، إلا أنها توجه الكتاب أيضا إلى كل من المسلمين واليهود، بالإضافة إلى الملحدين أو العلمانيين.. وقد جاءت كارين أرمسترونج في المرتبة 87 من أفضل 100 مفكر بحسب رأي مجلة فورين بوليسي الأمريكية لعام 2009 أيضا، وقد نالت هذا التقدير بسبب تأييدها لإعلان الهدنة في حروب الأديان القائمة.
صدر لكارين أرمسترونج أكثر من 20 كتاب عن الأديان المقارنة، منها الكتاب الذي نعرض له وكتاب تاريخ النبي محمد والإنجيل، وهي ترى أن الأصولية اختراع حديث، وليست ظاهرة موروثة في الاعتقاد الديني نفسه. وهي تعمل الآن على إطلاق "ميثاق تعاطف" لترويج روح المرونة والإنسانية التي تعتقد في وجودها في الأديان الكبرى. تقول أرمسترونج: " لم يكن المقصود من العقيدة أن تقدم تفسيرات تقع في نطاق جدارة العقل، ولكن لتساعدنا على أن نعيش بأسلوب خلاق مع الحقائق التي لايوجد لها حلول سهلة وأن نجد الجنة الباطنة في السلام." في عامود بعنوان "وحي سرمدي"، قدم محرر النيويورك تايمز روس دوثات ملخص كتاب "قضية الإله"، وهذا المقال مخصص لتقديم هذا الملخص:
كان عهد بوش وقتا عصيبا للعقيدة الحرة أو الليبرالية في أمريكا. ولم تكن أحداث سبتمبر 2001 بالضبط إعلانا عن توافق الإيمان مع العقل، أو الإيمان مع الحداثة، أو الإيمان مع سياسات يسار الوسط . وأيضا لم تكن الحرب الثقافية المحلية التي اشتعلت في صحوتها فأعارت شعار "معنا أو ضدنا" قيمة تساوي تقريبا كل الجدل المرتبط بالإله. وبالنسبة لكثير من الليبراليين، فإن الخيارات الوحيدة المتاحة بدت بين علمانية و أصولية، أو بين الإلحاد الجديد و العقيدة السلفية، أو بين ريتشارد دوكينز (عالم بيولوجيا من المتحمسين لنظرية النشوء والارتقاء لدارون) و جورج دبليو بوش (في دعوته لنظرية الخلق الذكي، وهي نظرية أطلقت حديثا من منظور ديني لتفسير النشوء والارتقاء، ويرفضها المجتمع العلمي).
أما الآن فقد دارت العجلة، وأصبح بإمكان المؤمنين المتحررين (الليبراليين) أن يتنفسوا الصعداء بأسهل من قبل، فقد تقاعد بوش في تكساس، وشكل خلفه في البيت الأبيض نموذجا أمثل للمسيحي الليبرالي الحديث، وبدا أن المحافظين المتدينين قد تقلصوا أو وهنت عزيمتهم. إن الموضوعات الأكثر أهمية في اللحظة الراهنية هي الرعاية الصحية والأزمة المالية، وليس تعليم الصوم أو التصميم الذكي، كما أن الملحدين الجدد قد بدا أنهم استنفذوا أسبابهم في وصف المؤمنين بالأغبياء.
وبمعنى أخر، فإن الوقت أصبح مناسبا لكتاب مثل "قضية الإله" والذي يلخص وجهة نظر نقدية لذلك النوع من الإلحاد المتسم بمزيد من الروح القتالية، كما تبين من استقصاء للفكر الديني في الغرب، وأن كارين أرمستروج تستهدف من الكتاب أن تنقذ فكرة "الإله" من تأثير الاستخفاف الثقافي وما التصق به من جنوح للعقلية الحَرْفية، نسبة إلى الحَرْف، في تفسير وفهم النصوص المقدسة. وفي سبيل تلك الغاية، فإنها تدفع بأن مقاربتها الأفضل نحو العقيدة – التي تؤكد على السعي لمعرفة إله غير معروف، بدلا من استهداف صواب اللاهوت – ليست مقاربة متوافقة مع المجتمع الليبرالي العلمي المتقدم تكنولوجيا فقط، بل تدفع بأن ذلك (التوافق) ينطبق فعلا على التقاليد القديمة لليهودية والإسلام والمسيحية (خاصة)، بأكثر مما يرتبط بالعقيدة "المحافظة" حاليا. وأن إهمال تلك التقاليد، كما تقترح كارين أرمسترونج، هو "واحد من أسباب لماذا يجد كثير من الغربيين أن مفهوم الإله هو مفهوم معضل اليوم."
تدفع كارين أرمسترونج بأن كلا من المؤمنين، والملحدين الجدد، قد تفهموا العقيدة مبدئيا باعتبارها مجموعة قضايا يتفق عليها، أو باعتبارها "كتالوج" من حقائق بعينها حول طبيعة الإله والعالم والحياة الإنسانية. ولكن هذه المقاربة للإله قد تبدو غريبة لكثير من المفكرين الدينيين ما قبل الحداثة، شاملا أعظم العقول في الماضي المسيحي، بدءا من الآباء الأوائل للكنيسة إلى البارزين في العصور الوسطى من أمثال توماس الأكويني.
هؤلاء مع مفكرين آخرين، كما كتبت أرمسترونج، قد فهموا الإيمان بداية على أنه ممارسة بدلا من كونه منظومة – ليس مثل "شئ يعتقد فيه الناس ولكن شئ يفعلونه." لم يكن إلههم ذاتا مطلوب تعريفها أو قضية مطلوب إثبات صحتها، ولكنه كان حقيقة نهائية يتم الوصول إليها من خلال الأسطورة والطقوس واللاهوت الغامض (الذي يذكر الشئ بعدم ذكره)، والتي تمارس "تكتم متعمد من حيث المبدأ حول الإله أو المقدس" وتؤكد ما لانستطيع أن نعرفه حول الإلهي. وكانت عقيدتهم عبارة عن مجموعة من المهارات، بدلا من قائمة تعاليم غير قابلة للتعديل – منظومة هي بمثابة صنعة أو موهبة أو مهارة، مثل تلك التي امتلكها الطاويون (تعريف بالإنجليزية لأتباع مختلف المفاهيم والتقاليد الدينية والفلسفية الصينية من أمثال لاو- تسو) للإبحار في مجاهيل الوجود الإنساني.
وتجادل أرمسترونج بأن تلك موهبة افتقدها الغرب المسيحي كثيرا، ويلام في ذلك بزوغ العلم الحديث. ليس لأن العلم والعقيدة متضادان بطريقة جامدة، ولكن لأن المفكرين الدينيين استسلموا لحالة من الحسد العلمي. فبدلا من تقديم صورة لانتصار التجريبية على الخرافة، تصف أرمسترونج غواية ممتدة تم إقناع المؤمنين بها ليحتضنوا "الـلاهوت الطبيعي" لإسحاق نيوتن" و "ويليام بالي"، حيث بدا أنه قدم ضمانا علميا للإيمان بإله خالق. وفيما بدا أنهم مقتنعون بـأن "القوانين الطبيعية التي اكتشفها العلماء في الكون كانت أدلة على العناية الإلهية،" فقد تخلى المسيحيون الغربيون عن مقاربة الغموض والأسطورة نحو الإيمان لصالح تعنت الزيف العلمي – ثم لم يجدوا مفرا عندما ظهرت نظرية داروين في المشهد.
لم يكن للأكويني أو أوغسطين (أعلام دينية مسيحية غربية) أن يندهشا من فكرة التطور الدارونية، ولكن من اتبعوهما من المحدثين قد اقنعوا أنفسهم بأن الحقيقة الدينية هي حَرْفية، تؤخذ كلها أو تترك كلها، وفي ذلك فإن العقيدة كانت المكافئ للمفهوم العلمي، وأن النص المقدس يتطلب أن يتطابق تماما مع العلوم الطبيعية. أفرزت الأزمة الناتجة كل ارتباكات يومنا هذا، حيث يعمل الحَرْفيون الإنجيليون على التوفيق بين كلمات سفر التكوين ووجود الديناصورات، هذا بينما يسْخَر الملحدون من الإنجيل لفشله في محاكاة مراجع العلم.
ومن أجل تحاشي هذا الجدل العبثي، فإن أرمسترونج تنصح الملحدين بأن يلاحظوا أن الإلحاد ليس منافسا للنظرية العلمية، وأنه " ليس هناك فائدة عظيمة تأتي من تقييم تعاليم الدين لكي نحكم على مدى صدقها أو زيفها، وذلك قبل أن نرسو على طريقة دينية للحياة. وسوف نكتشف صدقها – أو عدم صدقها – فقط إذا ما ترجمت هذه العقائد إلى طقوس أو شعائر أو أفعال أخلاقية." هذا بينما يجادل المؤمنون لاستعادة حكمة السابقين، اللذين فهموا أن "الحقيقة الموحاة رمزية، وأن الإنجيل لايمكن تفسيره حرفيا" وأن "الوحي لم يكن حدثا قد حدث مرة في الماضي البعيد ولكنه عملية مستمرة وخلاقة تتطلب الإبداع الإنساني."
تلك حالة بليغة للجذور القديمة للمقاربة الليبرالية نحو الإيمان، وهذا الملخص لايوفي حق استبصاراتها وفطنتها، ولكنها تستحق أن تدرس بجدية وقوة. تُسَلِم أرمسترونج بأن القصة الدينية التي تحكيها تلقي الضوء فقط على اتجاه بذاته داخل الإيمان التوحيدي. إلا أن القارئ العادي سيكون معذورا إذا ما اعتقد أن النماذج الرائدة لمسيحية ما قبل الحداثة كانوا بالضرورة أساقفة ليبراليون فيما قبل الحرف.
في الواقع، كان هؤلاء الرواد المسيحيون دوجمائيين بشدة (الجزم بدون دليل)، بأي مقياس معاصر. لم يكونوا أصوليين يقرأون كل سطر من الإنجيل حرفيا، وكانوا، كما تقول أرمسترونج، "مجددين بلا خوف، وواثقين من تفسيراتهم للإيمان." ولكن اجتهاداتهم كانت مؤسسة على اعتقادات مشتركة ومقيدة بافتراضات وشروط مشتركة. كان لاهوتهم متكتما وغامضا في ادعاءاته حول الطبيعة النهائية للإله، ولكنه كان محددا جدا بشأن الكيفية التي كشف الإله بها عن نفسه على الأرض. فعلى سبيل المثال فإن أوغسطين لم يفسر النسخ المبكرة لسفر التكوين حرفيا، ولكن من المؤكد أنه تبنى قراءة حرفية لبعث او قيامة عيسى – ولم يكن ليعد لاهوتيا مسيحيا إن لم يفعل.
والمعنى أن الأمر أصعب جدا من أن تسمح أرمسترونج بفصل الفكر عن الفعل، والتعاليم عن الممارسة، والعقيدة عن الممارسة في التاريخ الديني. إن العقائد تميل إلى استدامة الممارسة، والعكس صحيح. من الممكن الحصول على نوع من " الموهبة أو الصنعة" في عقيدة ما دون الإيمان بأن تعاليمها صحيحة حرفيا: إن الشخص ضعيف الإيمان يستطيع بلا شك أن يستخلص غذاء روحيا من جمهور (كنيسة) الكاثولوكية الرومانية بدون أن يؤمن بأن القربان هو حرفيا جسم ودم المسيح، ولكن بدون عقيدة "تحول الشكلين" Transubstantiation فإن ذلك الجمهور أو الكنيسة لم تكن لتوجد أصلا لتوفر ذلك الغذاء الروحي. كما أنه لن يتفق كل مداوم على الذهاب للكنيسة مع وجهة نظر "فلانري أو كونر" في أن القربان عبارة عن " رمز، لا أكثر." ولكن الإيمان الكاثوليكي استمر لمدة 2000 سنة بسبب فلانري أو كونر وليس بسبب كارين أرمسترونج.
إن ذلك يفسر لماذا يميل الدين الليبرالي إلى أن يكون طفيليا على أشكال من الإيمان أكثر عقائدية، أشكال تخلق ممارسات وتحافظ عليها، يلتقطها المؤمن الليبرالي ويختارمنها، ويقرأ رمزيا ويفسر لعصر أكثر استنارة. إن ذلك التسطيح الروحي له سحره، ولكنه يفتقر إلى الجاذبية القوية لعقيدة التوحيد الغربية، تلك العقيدة التي لاتقدم فقط الأسطورة والطقوس والرمزية ( يملك الجاهليون تفسيرا لتلك القواعد)، ولكنها أيضا تدَّعي بشكل حرفي فضائحي – أن اليهود حقيقة، شعب الله المختار؛ وأن المسيح حقا قد قام من الموت، وأنه مهما تجاوز منشئ الكون لقدرتنا على الفهم، فإننا نستطيع العيش على أمل أنه يحب العالم بما يكفي لإنقاذه، وإنقاذنا، من القوة المهلكة للموت.
يمكن لمثل تلك الحَرْفية أن تذهب بعيدا، ويدفع كتاب "قضية الإله" بشكل مقنع بأن الأمر في حاجة إلى أن نتعايش مع اشكال أسطورية وصوفية وفلسفية للإيمان. وبالرغم من ذلك، فإن معظم الناس ليسوا بصوفيين ولا فلاسفة، ولكنهم متعطشين لأساطير ليست فقط رنانة ولكن حقيقية. يمكن للعقيدة الغامضة التي تذكر الشئ بعدم ذكره، أن تكون أكثر الطرق صرامة للمضي في البحث عن الإله المراوغ، ولكن بالنسبة لمعظم المؤمنين، ستظل بديلا فقيرا لفكرة أن الإله قد جاء للبحث عنا.
كان ذلك تلخيص وتعليق روس دوثانت محرر النيويورك تايمز تحت عنوان "وحي سرمدي"، لكتاب كارين أرمسترونج "قضية الإله"، وهو ككاتب يرى في الكتاب اجتهادا يجعل وحي السماء غير منقطع وسرمدي. والكتاب كما رأينا هو اجتهاد متحرر أو "ليبرالي" في مسألة هي جوهر الأديان ومبدأ علاقة السماء بالأرض، من كاتبة غربية ذات مرجعية دينية، ويشكل الكتاب مع تعليق محرر النيويورك تايمز اجتهادا كما يبدو، لا سقف له، فماذا عن سقف الاجتهاد في المشهد الإسلامي؟
يقرر المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "نقد العقل العربي": " إن ابن رشد ... يرى أنه بدلا من الانطلاق في بناء الصرح النظري للعقيدة من وضع الإرادة الإلهية المطلقة كشئ يناقض إرادة الإنسان وقوانين الطبيعة، أنه بدلا من ذلك ينبغي الانطلاق من النظام والترتيب اللذين في العالم بوصفهما تجليات للحكمة والعناية الإلهيين ودليلا عليهما، وبالتالي دليلا على وجود الله ذاته. وفي هذه الحالة لن يكون هناك أي تعارض بين العقيدة الدينية وبين القول بالسببية والطبائع واطراد قوانين الطبيعة والقول بإرادة الإنسان وقدرته في ظل الشروط التي يقتضيها النظام والترتيب اللذين في العالم بما في ذلك بدن الإنسان نفسه. أما الإرادة الإلهية المطلقة فلن ينال منها كل ذلك شيئا لأنها هي التي قضت أن يكون ذلك كذلك."
نستطيع أن نرى بوضوح ذلك الخيط الذي يربط كارين أرمسترونج، المتدينة الليبرالية، بابن رشد الفيلسوف الإسلامي الذي كان فكره نقطة انطلاق أجيال من اللاهوتيين الأوربيين، بدءا بتوماس الأكويني، في طريق التحرر من جمود وتحجر الكنيسة الكاثولوكية الرومانية التي تشير إليها أرمسترونج. ولكن!! كم ياترى تخلف المسلمون عن نقطة البدء تلك منذ ثمانية قرون ؟ وبالطبع لا نجرؤ على السؤال عن مدى تخلفهم عن مثل فكر أرمسترونج في القرن الواحد والعشرين؟ أما الأمر المؤكد في الحالة الإسلامية فهو أن ما لانفتقر إليه، بل وننافس فيه الغرب المسيحي بجدارة، هو وجود أولئك العلميين "المتدروشين" الذين ترخصوا في العلم ولم يقيموا دينا، من أمثال زغلول النجار، الذين أصبحوا نجوم فضائيات، أغواهم ذهبها وبريقها، فحاصرونا وأمطرونا صباح مساء في الصحافة والتليفزيون بمحاولاتهم التوفيق بين كلمات القرآن ووجود الديناصورات!.
3 ديسمبر 2009
06/11/2014