ما بعد الفضيحة: قراءة في عقلية النخبة
...............................................................
| |
مسعد غنيم | |
بقلم : مسعد غنيم
........................
في مستهل أزمة مناخ كوكبية مؤكدة، تتقلص فيها موارد المياه العربية وتهدد مستقبل سكانها، جرت في ملعب كرة القدم العربية مياه كثيرة، بل وفيضان غير مسبوق، جرى مابين القاهرة والجزائر العاصمة و أم درمان. اكتسح فيضان "فضيحة" 2009 في طريقه شتى جوانب الشأن الإنساني العربي، فكشف منه وعرى أبعادا سياسية واجتماعية لم تبين في نكبة 1948، ولم تنكشف في نكسة 1967، بينما توهجت إيجابياتها في لحظة نادرة بأكتوبر 1973 قبل أن تنطفأ. النكبة والنكسة كلاهما معروف بالتاريخ، أما الـ "فضيحة" فهي ما وصلنا إليه. اقتحم الفيضان أسوار نظم الحكم وكشف فقر مدقع في رؤية القيادة، وفشل ذريع في أداء الدولة، واختزال مهين للطموح الوطني والقومي في حدود ملعب للكرة. وأطاح الفيضان بجموع الجماهير المغلوبة على أمرها حيث انفجرت منها مشاعر الانهزام والإحباط والفشل الذي يسكن بيوتهم وحياتهم ونفوسهم. وعرى الفيضان أستار النخبة، وهي في رأي البعض نخبتان، الأولى نخبة مصنوعة ومفروضة بقوة الثروة والسلطة معا، وهي نخبة على تفاهاتها استطاعت من خلال سيطرة إعلامية تكاد تكون شاملة، خاصة وحكومية، أن تنفذ الرؤية الرخيصة لمنظومة السلطة في تعبئة الجماهير لأغراض انتخابية بالدرجة الأولى، تتحقق في جميع الأحوال (فليس هناك مايسمى بالدعاية السيئة)، ولنتائج رياضية بالدرجة الثانية تحققت هناك ولم تتحقق هنا.
أما النخبة المفروزة أو المهمشة أو المطرودة تلقائيا بعيدا عن سيف المعز وعن ذهبه، فقد عرى اندفاع الفيضان تباين مواقفها بل وتناقضها.
وسنحاول في هذا المقال قراءة ما انكشف من تضاريسها وملامحها مما أزال عنه الفيضان آثار التجمل والتصنع والتوظيف لأيديولوجيات مختلفة. وسنستثني من قرائتنا ما ظهر منها على الشاشات الفضائية، فهي في معظمها موجهة ومقيدة بشدة في إطار استراتيجيات إعلامية كبرى تتجاوز حدود القومية، غالبا. ومن خلال قراءة ما نشر لبعض ممن يمثلون تلك النخبة، وبمقياس الطيف نتبين وجود طيف ألوان كامل بألوانه السبع الرئيسة، وجميع الألوان الفرعية، فقد انكشفت الأمة و"افتتضح أمرها" بكل أطيافها وعلى رؤوس الأشهاد. وبمقياس العمق نجد فيما نقرأ ماهو سطحي يفاجئنا بالمستوى الحقيقي لكاتب يظن فيه العمق، ونقرأ ماهو عميق وحكيم يتفق وانطباعنا عن الكاتب. وبمقياس الأصالة والزيف، فقد فصلت "الفضيحة" بين الأصيل والمزيف.
تنطلق هذه القراءة، من انطباعات شخصية عادية، وبالطبع تقبل الخطأ قبل الصواب. وأول مانقرأ ويحظى بكامل التقدير والتأييد هو ذلك النداء الذي نشره جمال فهمي في جريدة الدستور المصرية، وهو ما وصفه فهمي هويدي في مقاله بالشروق المصرية في 28 نوفمبر 2009 بأنه "نداء يكتسب أهميته من أنه يستهدف تصحيح الإدراك، وصد الهجمة الغاشمة التى شنها نفر من الجهلاء والمتعصبين لتخريب وعى الأشقاء وتشويه الوشائج النبيلة التى تصل بينهم. وهو فى ذات الوقت بمثابة إعلان للبراءة من تلك الهجمة الغبية، وتأكيد على أن الذين يقومون بها ويشعلون نار الفتنة تذرعا بالوطنية لا يتحدثون باسم ضمير الأمة، وإنما هم يهينون ذلك الضمير ويبتذلونه."
ويشرح الأستاذ فهمي هويدي: "لقد نشر النداء زميلنا الأستاذ جمال فهمى فى جريدة الدستور يوم الثلاثاء الماضى 24/11 . وحين اطلعت عليه بعد عودتى من سفرة خاطفة خارج مصر، وجدت أن واجبى يحتم على ليس فقط أن أوقع عليه مع كوكبة المثقفين الذين أعدوه وأيدوه، وإنما أيضا أن أسعى إلى إيصاله إلى أوسع دائرة ممكنة من المصريين والجزائريين والعرب أجمعين. إليك خلاصة النداء الذى تجاهلته أغلب وسائل الإعلام المصرية فى حين أتمنى أن يعلق على كل جدران مصر." وها نحن نعلقه على جدران "مصرنا"، نداء من الأستاذ جمال فهمي وترديدا وتأييدا من الأستاذ فهمي هويدي، ومنه نرى مدى جمال لونهما في مقياس الطيف الفكري، ومدى أصالتهما، وعمق رؤيتهما."
نشر موقع سويس إنفو بتاريخ 26 نوفمبر 2009 حديثا مع الدكتور يحيى الرخاوي، الطبيب النفسي والمفكر المصري. على مقياس الطيف فإن فكر الدكتور الرخاوي يبدو لي أخضرا بلون حقول البرسيم المصرية ومشرقا بلون زهره ومنعشا بطبيعية أريجه، فقد بدا عمق وعي الرجل عندما تحفظ على سؤال استدراجي قد ينزلق به إلى مدارك التهريج الإعلامي عندما بدا السؤال تخصصيا في الطب النفسي بينا أكد الرخاوي شمولية الموضوع وسياسيته في المقام الأول. كما تبدت أصالته عندما احتجّ على لهجة سؤال آخر عندما وصلته منها شيء من المعايَـرة المذلّـة التي يرفُـضها تماما (احتوى السؤال على جملة تفيد بأنه ليس منتظر من الجزائر أو مصر أن تحقق أي إنجاز في كأس العالم عموما؟)، وقال: " فالحصول على كأس العالم أو حتى دخول مباريات كأس العالم أو الفوز بالمركز الأول في الأولمبياد، ليس هو المِـقياس الذي نقِـيس به إنجاز أمّـة من الأمم أو مدى إسهامها في إنقاذ الجِـنس البشري مما يحيق به ويهدِّده فِـعلا بالانقراض." .
وتبدى عمق رؤيت د. يحيى كمفكر عندما فسر ما حدث على أنه "دليل على أن الشارع العربي مُـفرغ من المعنى ومن الانتماء ومن الهدف، مؤقّـتا على الأقل، اللّـهم إلا من اجتهاد أفراد يُـحاولون هنا وهناك. إن اختزال الوطن إلى ملعب كُـرة واختزال الإنتماء للوطن والعمل له والإبداع فيه إلى تشجيع فريق في مباراة، هي جريمة سياسية خبيثة أو غبية على الأقل." ثم يؤكد الرخاوي في خلاصة حديثه شمول رؤيته واتزان تحليله بقوله: " فإن أغلب ما وصلني لا يمكن أن يتّـصف إلا بالسطحية والانفعالية والشوفينية والبله، ثم إني قد أحسسْـت أن قِـوى خفية تستدرجنا بخُـبث إلى ما يُـريده العدو تحديدا، (والعدو ليس إسرائيل أو أمريكا فحسب، وهو ليس عدوّنا نحن فقط، بل هو عدو كل الشعوب، من داخلنا ومن خارجنا)."
وفي قراءة لنجم ساطع في دنيا الرواية والأدب بمقياس حجم قرائته ومدى انتشاره، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، وهو علاء الأسواني، نقرأ مقال له (الشروق 24 نوفمبر 2009 - وصل عدد التعليقات عليه إلى 348 بتاريخ 28 نوفمبر)، ومن خلاله نرى له لونا باهتا بعكس إبهار ألوانه المرئية من خلال رواياته ومقالاته التي تنال قدر كبير من التلقي والقبول من الشباب. فقد ركز في مقاله على اتخاذ موقف "دفاعي" ضد "الهجوم" الجزائري على علم مصر،وهو بذلك، فيما أرى، موقف فيه انتهازية للمشاعر الوطنية للجماهير المصرية التي يبدو أنه حريص على ألا يفقد شعبيته بينها، وذلك بدلا من التمسك بالتعقل والصدق في النصيحة بعيدا عن الحوم حول ذلك "الـسيل الهائل من الغَـباء والعبث والوقاحة والغوغائية والردّة" بحسب تعبير الدكتور الرخاوي. صحيح أن علاء الأسواني في مقاله قد وضع بعضا من الأمر في نصابه عندما ألقى باللوم على النظام المصري في الأساس من حيث " السياسات الخاطئة المشينة التي يرفضها المصريون أنفسهم قبل سواهم ويتظاهرون كل يوم تضامنا مع إخوانهم فى العراق وفلسطين ولبنان." إلا أنه انزلق في أو تناغم مع نداء "الكرامة" الزائف الذي تبناه النظام الحاكم، ليركب موجة الفوران الشعبي المصنوع صنعا.
ولعل حكمة الدكتور جلال أمين في مقاله بالشروق أيضا تشرح تفصيلا أكثر لمدى انتهازية كاتب مثل علاء الأسواني، حيث يقول جلال أمين: "كان المفروض أيضا أن يدرك الكاتب أو الإعلامى انه فى عراك كهذا، مهما كانت شدته ودمويته، لا يهم كثيرا فى الحقيقة معرفة من البادئ بالعدوان، ومن الذى تصرف كرد فعل لهذا العدوان. ففى مثل هذه الأمور، يصعب جدا تقدير ما إذا كان رد الفعل متناسبا من الفعل المردود عليه. الطرفان فى نظرى مذنبان، ومن السهل جدا، بمعرفتنا لظروف التهييج الإعلامى، وأعمار المتعاركين وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، أن نعرف سبب ارتكابهم لهذا الذنب. ولكن من المؤكد أيضا أن المنتظر من أولياء أمورهم أن يتصرفوا تصرفا أعقل مما رأيناه من تصرفات أولياء أمورنا. فمن الحماقة أن يأتى الأب والأم فيشتركان فى عراك مع أب أو أم الولد الآخر، ويتبادلا السباب مثلما تبادله أولادهم، فتنقلب المعركة من شجار بين صبيين غريرين إلى معركة بين دولتين المفروض أنهما شبتا عن الطوق، وتعرفان ما يمكن أن يترتب على عراكهما من خسارة فادحة للجميع، الصغار والكبار."، من هنا نتبين مدى زيف علاء الأسواني، رغم ذكاءه الانتهازي الذي قد يفسر بعضا من نجاحه الجماهيري!.
ويكفي لفضح هذا الموقف الانتهازي لعلاء الأسواني، تبيان موقف أصيل وصدوق للكاتب بالشروق، هاني شكر الله، في مقال بعنوان "وداعا للعقل أهلا بالعضلات" بتاريخ 26 نوفمبر 2009 ( 57 تعليق على المقال حتى 28 نوفمبر)، حيث يحدد بوضوح وقوة الغرض من مقاله: "أنه سيكون على الأرجح مؤذيا لمشاعر الكثير من القراء. وأكتب اليوم لا لأحذر ولكن لأقرر بأن الهدف الأساسى من السطور التالية هو إيذاء مشاعر أكبر قدر ممكن من القراء، لعل فى جرح المشاعر ما قد يسهم ــ ولو بأقل القليل ــ فى إنقاذ العقول."
ويلخص الأستاذ جميل مطر في الشروق أيضا رؤيته للمشهد العبثي بقوله " هنا، وفى الجزائر، وفى بقاع عربية أخرى توجد عناصر تمثل حالة من حالات تردى العقل العربى والإسلامى، عناصر تنحت أصناما وتنصبها أمام جماهير تئن بعذابات الفقر والأوبئة والكوارث والتطرف الدينى، وتحن بصدق إلى انتماء لوطن يوحد الصفوف ويذيب الفوارق الفاجرة التى صارت تفصل بين فئات المجتمع بعضها عن البعض الآخر، وتصنع أملا فى مستقبل أفضل."
وفي قراءة لأحد نجوم الفضائيات في مقال له بالشروق في 22 نوفمبر 2009 بعنوان بعد الحدث.. أنت دائمًا أذكى! (25 تعليق على المقال حتى 28 نوفمبر)، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة عمرو حمزاوي، لا نستطيع أن نتبين في مقاله لونا محددا حيث جاء باهتا وفي خطاب للتقية، حيث نجدة قد اكتفى بإدانته منظومة الإعلام المصرية والجزائرية، وتشخيص أزمة ما أسماه بالإدراك العام، حيث قال: " لا أعلم أين يتلقى مثل هؤلاء الإعلاميين تدريبهم المهنى، ولا كيف يقبل رؤساء ومجالس تحرير الصحف المعنية نشر هذه العناوين، إلا أننى على يقين من أن عسكرة وتديين التنافس الرياضى، وبغض النظر عن درامتيكياته أحيانا كما فى حالة مباراة السودان، هو دليل وجود أزمة عميقة فى الإدراك العام، وغياب للقدرة على التعامل بموضوعية ورشادة مع ما يحدث لنا وحولنا كمجتمعات عربية." هذا بينما لم يفته، وهو "باحث أول بمؤسسة كارنيجي للسلام (واشنطن وبيروت)"، أن يلمز بوضوح في الشأن العروبي في شبه شماتة بحالته التي لايستطيع أحد أن يدافع عنها، فإنه يكتفي بالإشارة من طرف خفي للعدو المشترك دون أن يسميه صراحة؛ "إسرائيل"، وذلك بقوله: "فقط أقول إن التشدق بخطاب مستهلك حول أخوة العرب ومصيرهم الواحد وعدوهم المشترك لن يجدى نفعا فى ظل واقع عربى معاش ينطق قبل أى شىء آخر بالخلاف والشقاق بل والتناحر، وأن من الأفضل أن نبدأ داخل كل مجتمع بالاعتراف بوجود القابلية للتعصب والتطوير الواعى لأدوات تربوية وتعليمية وإعلامية للحد منها." ومن ملامح الاتساق مع لون حمزاوي الإعلامي أنه لم يتفوه بحرف واحد عن مسئولية نظام الحكم أو الحزب الحاكم في الفضيحة، واكتفى بخطاب تعميمي بقوله: " ما حدث فى الأيام الأخيرة مؤسف ومحزن ويندى له الجبين"، أي أن الفعل مبني للمجهول!.
ومن المقالات التي كشفت لي لونا مشرقا لكاتب هو محل جدل وشكوك ومتناقضات، وهو د. سعد الدين إبراهيم، مقال كتبه في المصري اليوم بعنوان "مُباراة كُرة.. وثلاث دول فاشلة.. وخسارة شعبين" بتاريخ 28 نوفمبر 2009:
"إن الخاسرين فى مُباراة مصر والجزائر (١٨/١١/٢٠٠٩) الشعبان، المصرى والجزائرى، وقضية الوحدة العربية. فمشهد الاعتداءات، والدماء التى سالت فى استاد أم درمان، ربما يتضاءل بالنسبة لما تعرض له أبناء الشعبين على أيدى الاستعمار أو أطراف أجنبية أخرى، ولكنه لم يكن على أيد الأشقاء، ولم يكن مُسجلاً بالصوت والصورة، مثلما فى أم درمان والخرطوم، وفى صُحف القاهرة والجزائر، وعلى شاشات التليفزيون التى رآها الملايين.
لذلك لم يكن غريباً أن كثيراً من الأصوات المصرية، خرجت من معاقلها مُنكرة، بل ساخرة، من «العروبة»، ومُطالبة بإسقاط «عربية» من الاسم الرسمى لبلدهم (وهو جمهورية مصر العربية). وطاف بخاطرى وأنا أقرأ هذه الدعوات، أحلام ونضالات أربعة أجيال عربية، طوال القرن العشرين، من أجل «العروبة» كأمة واحدة، ذات رسالة خالدة!.
نعم طاف بخاطرى أسماء شريف حسين وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وجمال عبدالناصر وشكرى القوتلى، كما طاف بخاطرى جهود بقايا آخر هذه الأجيال، من العراقى خير الدين حسيب، إلى المصرى محمد حسنين هيكل، إلى الجزائرى الأخضر الإبراهيمى، ولم أملك إلا أن أزفر مثلما زفر ابن أبى عبدالله، وهو يُغادر آخر القلاع العربية فى الأندلس (١٤٩٢)، ولكن العزاء لحسيب وهيكل والإبراهيمى، هو أن الزفرات ربما تنتهى وتموت مع أصحابها، ولكن الأحلام لا تنتهى ولا تموت...
وكما حدث مع أحلام أجيال أوروبية، تحققت وحدتها، رغم ماضيها من العداوة والاقتتال، فربما ستأتى أجيال لا يصرفها اعتزازها بوطنيتها عن مصيرها القومى المُشترك، الذى صاغته الجغرافيا والتاريخ واللغة. "
أرى هنا لونا مصريا أصيلا، وعمقا في الرؤية، وأصالة في التمركز والانتماء، فقد أضاف سعد الدين بإلقاء المسئولية على نظم الحكم للثلاث دول، إلى موقفه الصلب ضد نظام حكم مصري غير ديموقراطي، بل ويراه لاشرعي أيضا. وقد يفسر سكوت سعد الدين عن ذكر إسرائيل من قريب أو بعيد ما يحوم حوله من شكوك الاستقواء بالأمريكي، ولكن الرجل بذكاء شديد لم يتعرض لما يوجب أي ذكر لها، على الأقل كمستفيد مما يجري على المستوى الاستراتيجي، إن افترضنا عدم ضلوعها في ذلك التآمر الواسع الذي يشير إليه د. يحيى الرخاوي. وقد أعفاني سعد الدين إبراهيم من قراءة ثقيلة على قلبي لما يكتبه عبد المنعم سعيد في الأهرام، حيث لخص مقال هذا الأخير بقوله: " ولعل من أصوب ما قرأت فى الأيام الأولى بعد واقعة أم درمان (حيث كانت مُباراة مصر والجزائر) مقالاً جامعاً للدكتور عبدالمنعم سعيد، بعنوان «لم تكن مُباراة فى كُرة القدم؟!» (الأهرام ٢١/١١/٢٠٠٩)، وآخر للدكتور حسن نافعة، بعنوان «حالة تلبس» (المصرى اليوم ٢٢/١١/٢٠٠٩) قدم فيه تحليلاً أميناً لمسؤولية حكومة البلدين وإعلامهما عن الشحن النفسى، والتحريض السلوكى اللذين كانا لا بد أن يؤديا إلى ما أديا إليه من عواقب وخيمة، ربما ستستمر تداعياتها لسنوات بين الشعبين المصرى والجزائرى، ناهيكم عما لحق بمفهوم «العروبة» من إساءة."
وقد تطوع د. حسن نافعة في مقاله (المصري اليوم ٢٢/١١/٢٠٠٩) بتقديم رؤيته لما جرى على النحو التالى:
١- نظامان سياسيان مستبدان وفاسدان، لم تعد لأى منهما قضية وطنية أو قومية كبرى، يسعيان باستماتة - كلٌ لأسبابه الخاصة - لاستعادة شعبيتهما باستثمار لحظة توحد وطنى حول فريقيهما الكرويين.
٢- شعبان عظيمان يبحثان عن لحظة فرح بانتصار، فى ظل حالة عامة من الإحباط الوطنى والقومى عمّ فيها الفساد وشاع الاستبداد، فلا يجدان سوى تلك المناسبة الكروية الحساسة للتعبير عن مشاعرهما الوطنية المكبوتة وإحباطاتهما المزمنة.
٣- نخب حاكمة فى البلدين تسلم قيادتها فى تلك اللحظة بالغة الحساسية، وفى ظل حالة فراغ وعقم تتسم بها الحياة السياسية فى البلدين، إلى إعلام رياضى جاهل ومتعصب، ينجح بامتياز فى تحويل مباراة فى كرة القدم إلى معركة كبرى من خلال استثارة أحقر المشاعر والغرائز الشوفينية.
ويضيف نافعة أنه "أدرك أن الكتابة فى موضوع على هذه الدرجة من الحساسية، فى وقت لاتزال فيه الأعصاب مشدودة والمشاعر ملتهبة والغضب يمسك بتلابيب الجميع، خصوصا إذا كانت فى عكس اتجاه التيار السائد - تبدو نوعا من الجنون. " هنا نستطيع أن نميز لون الصدق وليس الجنون، بما يستدعي مرة أخرى، رغما عني، لون الانتهازية المزيف لعلاء الأسواني الذي تماهي مع الانفعال اللاعاقل للجماهير المشحونة، والفرق أنها لها بعض العذر، بينما هو ككاتب ذو جماهيرية يقع عليه كل اللوم والجرم.
أما أكثر ألوان طيف النخبة بُهتانا (بضم الباء)، وليس بَهتانا (بفتح الباء)، فهو مقال عبد المنعم سعيد في أهرام 22 نوفمبر 2009. ففي ماراثون تحليلي طويل ومتهافت، تعرض سعيد لتسعة "نظريات" شائعة في تفسيرالمشهد الجاري، قام بتفنيد معظمها بثقة السلطة وقوة النفوذ، وهو لايشعر بذلك على مايبدو، فهو للغرابة الشديدة لم يقدم "نظريته" الصحيحة بشكل مستقل وواضح، وإنما جاءت كـ "دفاعات" مبعثرة من خلال تفنيد النظريات التسع، وهو خطاب دفاعي واضح وفاضح لنفسية المذنب الذي يستغرقه هوس الدفاع سواء كان هناك هجوم أم لا. ومن تهافتات عبد المنعم سعيد أو سقطاته أنه ساوى ببساطة شديدة بين نظام الحكم (الجاني) والشعب (المجني عليه) في هذه الواقعة تحديدا، وذلك عندما نسب لـ" جزء غير قليل من الجماعة الإعلامية والفكرية بدت وكأنها لا تريد فقط حكومة أخري, وإنما شعبا آخر."
وأكثر مايثير الشفقة على كاتب بدا يوما ما كبيرا مقولته: "ومن المؤكد أنه لو كان لدي الشعب المصري هذا الغضب الفائر, والسخط البالغ, لكانت الفرصة لديه أكبر من كل الفرص التي عرفتها الثورات البرتقالية والبنفسجية التي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة." فهو يستخف بأبسط العقول المصرية التي تفهم بالبديهة ماتراه وتعلمه من حشد النظام الحاكم لجيش أمن داخلي يتعدى المليون، كان المحشود منه لمنع مظاهرة المصريين في الأزهر انتصارا لغزة أضعاف المتظاهرين، ومن حشود المصفحات والقوات الخاصة والعامة التي ملأت شوارع القاهرة يوم 6 أبريل الماضي، فقط لردع أي بوادر مظاهرات "محتملة" لشباب 6 أبريل. فعن أي مظاهرات برتقالية أو بنفسجية مصرية لاينقصها إلا الغضب، يتحدث عبد المنعم سعيد؟ بل إنه يتمادى في الاستخفاف ويستمر في التسطيح ويختتم مقاله بقوله: " وبصراحة فإن ما نحتاجه ضمن هذا السعي هو أن يكون لدينا ما هو أكثر نضجا وتطورا مما حصلنا عليه حتي الآن."، كما لو أننا قد تطورنا ونضجنا بما يكفي ولم يبق إلا القليل،. كان هذا لونا فاقعا في "الاستخفاف" ولا أقول "الاستعباط" لكاتب كبير فقد مصداقيته، وتخلى عن أصالته تحت إغراء ذهب المعز وعزوة السلطة.
كانت هذه بعض القراءات المحدودة لمشهد ما بعد الفضيحة، رأينا فيها كيف أن أسباب الفضيحة وعواملها مازالت قائمة من خلال كتابات إعلاميي الحزب من خلال خطاب استخفافي ودفاعي من عبد المنعم سعيد (الأهرام)، مما يزيد الهم هما، ويلون المستقبل القريب بدرجة أكثر سوادا وضبابية، وفي المقابل رأينا ألوانا مشرقة في خطابات الأصالة والحكمة والمواجهة من كل من يحيى الرخاوي (المصري اليوم)، فهمي هويدي (الشروق)، جمال فهمي (الدستور)، حسن نافعة (المصري اليوم)، هاني شكر الله (الشروق)، وسعد الدين إبراهيم (المصري اليوم).
وفي هذا الطيف الكامل من ألوان فكر النخبة، رأينا وضوح المواقف والاتجاهات فيما بين سواد المستقبل وإشراقه، ثم رأينا درجات ألوان مشوبة بالانتهازية من علاء الأسواني (الشروق)، وخطاب التقية والتجهيل من عمرو حمزاوي (الشروق) وهما نموذجان للون رمادي يثير الريبة قبل أن نتيقن من اتجاهه. تلك القراءة السريعة لمشهد الفضيحة جاءت من موقع انطباعي كما ذكرنا، ونؤكد قابليتها للخطأ قبل الصواب.
29 نوفمبر 2009
06/11/2014