مهرجان الكرة والتسويق السياسي
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
|
شحن الجماهير لأغراض سياسية |
أعتقد أن الشكل الذي تمارس به الرياضة العربية قد تم إفساده كثيرا باستغلاله وتوظيفه باقتدار من قبل النظم العربية المفلسة سياسيا واقتصاديا (بعيدا عن البترول المنبثق ذاتيا من أرض الله)، قامت تلك النظم بهذا لأنه الشكل الوحيد الممكن لها لتتمحك – لحظيا - ولا أقول تتوحد، بصفوف الجماهير. إن مثل هذه الأحداث الرياضية الكبرى تمثل فرصا كبيرة للنظم العربية لتخرج من عزلتها الشعبية خلف أسوار السلطة والاستبداد، ولكنها لاتغفل أبدا التمترس وراء جيوش الأمن المركزي حتى في أكثر اللحظات حميمية داخل الملاعب، وهذا لأسباب أمنية مفهومة، ولكنها هي التي خلقتها بنفسها في المقام الأول من خلال سياساتها المخالفة لرغبات شعوبها، باسم الديموقراطية وهي من تلك النظم براء.
بعنوان "الرياضة والسياسة الدولية" نشر كتاب في لندن عام 1998، وأعيد نشره في 2001. يتناول الكتاب المفهوم الكلاسيكي للرياضة، وليس التطبيق التعبوي لها بشحن الجماهير لأغراض سياسية، مثل أعياد باليلاس Ballilas في إيطاليا، أو شباب هتلر في ألمانيا، أو بشكل ما، أعياد الشباب في فرنسا. ويؤكد الكتاب أن لمثل هذه المناسبات التعبوية المهيبة هدفا رئيسيا واحدا هو: زيادة درجة التماسك الوطني، وتأكيد هوية وتضامن أفراد الأمة، وفي النهاية، وكوظيفة ثانية، فهي تلعب دورا رادعا موجها لأعداء محتملين. ويضيف الكتاب أن تلك المناسبات التعبوية لم تكن أبدا وسيلة المناورة التي يمكن لدولة أجنبية أن تقوم بقمعها. ولهذا يفرق الكتاب بين التجمعات الرياضية العالمية الكبرى، والتي يمكن أن تؤثر نتائجها أو تضعف من صورة أمة ما أو نظام سياسي ما، في نظر الأجانب، وتلك الممارسات التعبوية التي تنتهج شكلا تعليميا وتحفيزيا بغرض الاستهلاك الداخلي، دون استبعاد أن تكون مصممة لتخويف دولا أجنبية.
وأعتقد أن هذا النموذج التعبوي السياسي الموظف داخليا لاستغلال الشعوب ينطبق تماما على الحالة المصرية والعربية عموما، وليس هناك أي مجال لانطباقه خارجيا لتخويف دول خارجية، فليست الدول العربية بقادرة على تخويف "نملة" خارجية وهي تحت سيطرة الاستعمار المعاصر، فما بالك بإسرائيل، عدو الأمس والغد أيضا، بواقع الحال مع الشعوب، رغم "السلام" مع الأنظمة. إن النظم العربية قادرة فقط على ترهيب شعوبها بجيوش الأمن المركزي، وما المناسبات الرياضية إلا فرص ذهبية – ليس للنظم أي فضل فيها - لتخدير الجماهير حتى يتم التقاط الصورة الإعلامية وسط حشودها، وتنويمها مغناطيسيا للإيهام بولائها لتلك النظم. وعلى الرغم من أن التاريخ يقول أن نفس تلك الجماهير سرعان ما تعود لتلعن نفس النظم عند سقوط أول شهيد في طابور الخبز، أو عند غرق أول عبارة بالعمال الساعين للعمرة والعمل بالخليج، أو عند أول احتراق لقطار صعيدى آخر؛ إلا أن نظم الحكم تلك لا تتوانى عن توظيف ذلك المشهد الرياضي انتخابيا، وكأن هناك انتخابات حقيقية فعلا!!
يمكن فهم دوافع هذا الاستجداء المخزي لعواطف الجماهير من قبل النظام المصري والعربي عموما، إذا قرأنا تحليلا غربيا، في الواقع أمريكيا صهيونيا، لعلاقة تلك النظم بشعوبها. ففي كتاب "جيوسياسة النظام العالمي" الصادر في أمريكا عام 2003، لمؤلفة د. سول برنارد كوهين، حلل فيه تأثير الجغرافيا السياسية المعاصرة على تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي في القرن الواحد والعشرين. وهو يرى أن الخوف المشترك من "الإرهاب"– ذلك الذي لاتعريف له –، قد وحد دول التحالف الغربي، وبدأ في إحداث تآكل في الانقسام في النظام الجيوسياسي العالمي الذي تشكل في النصف الثاني من القرن العشرين. ويضيف أن ذلك "الإرهاب العالمي" هو مصدر التهديد للسلم والاستقرار العالمي الآن، ولهذا تم شن الحرب عليه في العراق وفي أفغانستان (هكذا! طبعا ثبت كذب هذا الادعاء فيما بعد وباعتراف الغرب نفسه). ويؤكد الكاتب أن تلك الحرب قد بينت بوضوح شديد أن كسب الحروب وتحقيق الاستقرار في العالم يتطلب جهودا متعددة الأطراف تشمل مراكز القوة في العالم، وكذا العديد من الدول القومية.
وعن دور الدول العربية، أو الحزام المهشم كما يسميها، في تلك الحرب، فقد وصفه د. كوهين بما يوضع علاقة الفصام للنظم العربية الحاكمة بشعوبها على النحو التالي: " إن أكثر المساهمات غموضا في تلك الحرب كانت من الحزام المهشم، تلك الدول العربية الشرق أوسطية، حيث كانت المعارضة (يقصد الشعبية) للقصف الأمريكي منتشرة جدا وغالبا عنيفة، مسببة لنظمها الحاكمة التي انضمت للتحالف أن تساهم بنصف قلب. ففي مصر دفع الأصوليون الإسلاميون نظام مبارك أن يشجب حملات القصف الطويلة والممتدة (وذلك في إيحاء بأنه لم يكن ليفعل لو أن القصف كان خاطفا)". والمعنى واضح ومباشر كما يقرره د. سول كوهين؛ فالنظم العربية وقفت ضد الأغلبية من شعوبها المسلمة، مع تحالف غربي دمر واحتل العراق بعدما أعلن صليبيته صراحة (بدعوى كاذبة عن الإرهاب لم يكن قد افتضح كذبها حين كتب كوهين كتابه في 2003)، تلك حقائق مجردة عايشناها بالأمس القريب، دون تفسير أو إسقاط أو انتهازية.
هذا التقرير الواضح عن علاقة الفصام بين نظام الحكم والشعب في كل من مصر والجزائر، والأهمية الغير مسبوقة لمبارة كرة قدم بين فريقي البلدين في المنافسة على الاشتراك في كأس العالم 2010، كلاهما يفسر لم تم عن عمد ذلك التكثيف الإعلامي، بل وإشعال الحروب الصحفية والاستثارة الرخيصة للمشاعر الوطنية في كل من البلدين. كان لابد من "خلق" عدو وهمي في "معركة" وهمية حتى يلتف كل شعب حول نظامه السياسي المستبد بالسلطة، وحتى ينسى الشعب المصري ذلك "الصفر الكبير" الذي أخذه النظام عندما تقدم لإقامة نفس هذه المسابقة لكأس العالم الكروية في مصر، منذ سنوات قليلة، وذهبت إلى جنوب إفريقيا حيث يأمل الفريق المصري أن يذهب الآن. من هنا يمكننا أن نفهم هذا الاستجداء الملح والمخزي لعواطف الشعبين في مناسبة كروية تحدث لكل شعوب العالم بلا استثناء، لم نر في أي منها مثل هذا الترخص وتعمد الإثارة لأغراض انتهازية منها المتاجرة الانتخابية المسبقة في "معركة" سياسية حقيقية وغير متكافئة، لاغتصاب الحكم في مصر بمشروع "توريث" في ظل عقد عرفي مضروب يسمى الدستور.
لو أن للنظم العربية مصداقية ما من جراء تبنيها سياسات وطنية صادقة تنحاز لجموع أغلبية شعوبها، لما احتاجت إلى مناسبات رياضية عالمية لتتمحك بالتمركز في إطار الصورة الإعلامية الفاقعة والمصاحبة للحدث الرياضي، ولما اضطرت إلى هذا الاستجداء المخزي والمحزن لتعاطف الجماهير معها، ولو أن تلك النظم تخلت عن استبدادها واستئثارها بالسلطة بالتزوير والتوريث، لما احتاجت لكل تلك الإثارة الرخيصة.
والعجيب أنه على الجانب الآخر من الصورة، أعني الجماهير المصرية والجزائرية والعربية عموما، فإنها هي الأخرى استفادت، ولا أقول استغلت، هذا الحدث الرياضي. فالرياضة أصبحت المتنفس الوحيد للشعوب العربية في التعبير الجماعي، بعد أن سُدَت عليها جميع المنافذ السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى داخل أسوار المدارس والجامعات في الإطار التعليمي. كان التعادل هو نتيجة مجموع المباريات حتى الآن، وإلى أن تحسم على أرض السودان بعد أيام بفوز أي من الفريقين وكلاهما يستحق بحق، فهناك فائزون كثر بالفعل منذ الآن، أولهم الشعب المصري باختطافه للحظة سعادة كاسحة وإن كانت عابرة (إحييني النهاردة وموتني بكره)، وثانيهم أو أولهم مكرر هو من قبض الملايين لتصميم وإخراج حملة تسويق مشروع "توريث" النجل المبارك، أما عن بيع ذلك المشروع فهو مستحيل شعبيا رغم أي انتهازية للحظة الكروية الكأس عالمية، وأما تنفيذ مشروع التوريث نفسه فلايحتاج أصلا لأي تسويق في ظل حيازة السلطة والثروة بقوة السلاح والدستور التفصيل.
15 نوفمبر 2009
06/11/2014