مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 من قمة النصر في الحرب إلى قاع التنافسية في سوق العمل
...............................................................

بقلم :  مسـعد غـنيم
......................

كان لديه إصرار غريب أن يضع بصمته على كل "شغلة لحام حديد" ينهيها بأن يكتب عليها بلمبة لحام الأكسيجين "محسن أفندي السيد بيه الطاهر باشا"، اعتزازا وافتخارا بجودة وتميز إنتاجه كعامل لحام، وخالعا الألقاب على نفسة وأبيه السيد وجده الطاهر. ولم يكن صعبا علىَ أن أدرك حينئذ أن هذا العامل المجند في القوات المسلحة المصرية أثناء حرب أكتوبر 73، ذلك الصعيدي الإسناوي، إنما يحمل جيناته الفرعونية الصافية التي تحب أن تخلد نفسها، تماما كما صورها العالم البيولوجي البريطاني ريتشارد دوكينز في كتابة "الجينة الأنانية" Selfish Gene, a book on evolution by Richard Dawkins ، وذلك بتسجيل الأعمال على جدران المعابد والمقابر، ولقد خلدت الجينة الفرعونية نفسها بحق، وخلد "محسن أفندي" نفسه في ذاكرتي الضعيفة أصلا، وعلى ألواح الحديد والصلب التي يمكن أن تكون باقية حتى اليوم في مكان ما من مصر.

ما أيقظ تلك الجينة في الجندي العامل "محسن افندي" فابدع وأجاد وانتصر، إلا وطنية أصيلة وروح ثأر صعيدية رفضت هزيمة 67 وصنعت انتصار اكتوبر 73، وفيما بينهما وفي ظل قيادة وطنية مخلصة، أكمل بناء السد العالي كعمل هندسي يشهد بجودة وتنافسية العامل المصري إلى اليوم؛ فلم نسمع طوال 45 عام عن شرخ ما في بناء السد العالي أو عيب في أدائة منذ أن ضغط عبد الناصر على ذر تفجير السد الترابي لتحويل مجرى النيل في مشهد تاريخي معروف. واليوم يحلو لمروجي ثقافة الهزيمة في "بجاحة" منقطعة النظير تثير الغثيان، أن يسحبوا أثر تلك الهزيمة على كل فشل في الأداء العام أو الخاص في مصر حتى بعد 40 سنة!!، متناسين أن "محسن أفندي"وأمثاله من العمال المصريين وتحت القيادة الوطنية المخلصة قد استوعبوا أحدث تكنولوجيا وصلتهم واستخدموها بكفاءة وفاعلية فبنوا السد العالي في واحد من أكبر المنشآت الهندسية المدنية في العالم، وصححوا الوضع واستعادوا الكرامة وانتصروا في معركة عسكرية بعد 6 سنوات فقط من الهزيمة.

فماذا فعل مروجو ثقافة الهزيمة في أبناء "محسن أفندي" حتى يصلوا إلى الحضيض بدرجة تنافسية أبيهم العالية والتي بنت السد العالي وصنعت نصر أكتوبر ؟ يكفي أن نتخيل أحد أبناء محسن أفندي غريقا في عبارة "السلام"، أو محروقا في قطار الصعيد، أو مدفونا حيا تحت صخور المقطم، أو أن يكون هو الوحيد الذي في حريق مجلس الشورى دونا عن جحافل الشرطة والأمن المحيطين بالمجلس المحترق، استشهد دفاعا عن بقية كرامة، ولن يكون صعبا بعد ذلك ان نتصور مقدار تنافسيتهم بالتالي!.

جاء ترتيب مصر رقم ‏130‏ من ‏131 في درجة التنافسية في سوق العمل العالمية عام 2008 بحسب التقرير الدولي وكما نشرته الأهرام في نفس يوم ذكرى النصر،6 أكتوبر 2008، سوء حظ أو سخرية قدر، في القسم الاقتصادي تحت عنوان "تراجع في مستوي إنتاجية العمالة المصرية‏..‏ لماذا؟ تقرير التنافسية لسوق العمل يضع مصر في مرتبة متأخرة؛ ‏التعليم والنظم الإدارية وهجرة العقول أساس المشكلة"؛ ، وعجب العجاب أن ينتهي التحقيق إلى أن أحد أهم الأسباب في ذلك الفشل المخجل هو العمالة المصرية!!، وذلك بعد سؤال أهل العلم والاختصاص، مرة بالخلط مع الأسباب المذكورة في عنوان التحقيق في رأي المتخصصين، وأخرى صراحة وحصريا في رأي أصحاب الأعمال (ولا أقول رجال الأعمال)؛ أينك ياحمرة الخجل؟ إنهم يقصدون "محسن أفندي" وأمثاله من أبنائه الآن، كيف يكون ذلك بأي منطق علمي موضوعي، وبعيدا عن أي توجهات سياسية أو معتقدات أيديولوجية أو حتى حماس وطني مشروع؟.

حتى مع اعتبار التقييم الخارجي أو المعادي في الانتقاص من انتصار أكتوبر 1973، فإن موضوعية الحقائق على الأرض تقول بأن هذا العمل العسكري قد أجبر أمريكا على التدخل السافر لصالح العدو الصهيوني أثناء المعركة إمدادا بالسلاح والمحاربين، وبعدها برعاية أو هندسة المفاوضات بعد وقف إطلاق النار، وبعد أن كان قد صرف النظر حتى عن وضع قضية الشرق الأوسط ،كما يدعونها، على قائمة أولوياته السياسية وخريطته الاستراتيجية. بمعنى آخر فإن أداء الإنسان المصري كان على درجة تنافسية عالمية فرضت وجودها على أعلى مستوى استراتيجي سياسي. ولم يكن ليتم ذلك إلا بالإيمان بالله والوطن، والاعتماد على الإنسان المصري واحتراما لقدراته الحضارية الكامنة، وباتباع المنهج العلمي في إدارة الحرب من معرفة العدو ووضوح الهدف وصياغة العقيدة القتالية، ووضع الاستراتيجية والتخطيط العلمي والتدريب المتفاني والتنفيذ المتقن والبطولي. لقد كانت أكبر مفاجآت حرب أكتوبر طبقا لتحليلات بعض خبراء الاستراتيجية في العالم، هو الجندي المصري وأداؤه الرائع؛ ذلك الجندى الذي استوعب تكنولوجيا الشرق حينئذ، ورغم تخلفها عن نظيرتها الغربية في يد عدوه الصهيوني، استخدمها بكفاءة وفاعلية وانتصر، تلك كانت درجة تنافسية أكتوبر.

أما عن أداء الإنسان المصري في بناء السد العالي في الستينيات، حتى مع استبعاد الحماس الوطني والفخر القومي المشروع إنسانيا، فإن التقييم الموضوعي العلمي لنتائج إرادة القيادة وأداء الشعب يتمثل في حقيقة هندسية معمارية راسخة على الأرض هي سد عال يعمل بكفاءة ممتازة حتى الآن، ولا يمكن تصور هذا الأداء إلا بدرجة تنافسية عالية.

فماذا حدث للمصريين حقيقة على مدى 35 عام لينحدروا من قمة هذا الانتصار إلى قاع قائمة التنافسية في سوق العمل العالمية؟ يقول التقرير في عنوانه أن التعليم والنظم الإدارية وهجرة العقول هي أساس المشكلة، ويقول في ثنايا التحقيق وبوضوح أن العمالة المصرية هي أحد أهم الأسباب إن لم تكن السبب الوحيد من وجهة نظر رجال الأعمال! فهل هذا صحيح؟

لا يمكن الحكم بموضوعية علمية على ملخص بعض الآراء المتخصصة والتي لا تمثل عينة إحصائية ممثلة، تم إعداده بمعرفة محقق صحفي غير متخصص، ولكن من المفترض إجادة الصحفي لعمله وأن "درجة تنافسيته عالية"، وبالتالي فستفترض أنه اختار أفضل الخبراء ولم يكن انتقائيا في اختياره بحيث يفضل مدرسة علمية بعينها أو تيار فكري او سياسي معين. ومن ناحية اخرى فمن المفترض أيضا أن المتخصص يعلم أهمية نشر رأيه في الأهرام العتيدة، وبالتالي فسنفترض أن الآراء المنشورة تم اختيارها بدقة وعناية في إطار "درجة تنافسية عالية". ومن هذا المنطلق يمكننا باطمئنان أن نستنتج بعض المؤشرات العامة وليس نتائج علمية تحليلية من التحقيق المنشور.

أرى أن منهج تناول التحقيق هو في حد ذاته أكبر دليل على تدني مستوى "التنافسية" لدى كل من الصحفي المحقق والمتخصصين الذين استشارهم للأسباب التالية:
1. تجاهل التحقيق تماما الأسباب الواردة في أصل التقرير الدولي، وهذا يضع التحقيق موضع الشك في نواياه وفي انحراف الغرض منه لصالح توجيه إعلامي لخدمة سياسات معينة او اتجاهات محددة.

وأهم الأسباب التي تعرض لها التقرير الدولي لتدني تنافسية مصر تشمل:
• السبب الرئيسي في تدني مستوى مصر في قائمة التنافسية هو هبوط مؤشراتها الاقتصادية الكلية Macroeconomic indicators ، وأن الحكومة مازالت تعاني من عجز شديد في الموازنة، وزيادة الدين العام بشكل صاروخي!، وزيادة نسب التضخم (تعدت 23% مؤخرا). وعلاوة على ذلك فإن مصر تشتهر بأنها من أقل الدول في العالم ترشيدا للإنفاق العام. ويساهم في انخفاض ترتيب مصر في درجة التنافسية أيضا الأعداد الضخمة للموظفين العموميين والتي تقدر بـ 6 مليون موظف، وبالدعم الحكومي للطاقة والغذاء.
• سبب آخر هو تدني درجة كفاءة أداء المؤسسات الحكومية والعامة، والبيروقراطية والإسراف الحكومي في الإنفاق، وعلى العكس من ذلك تميزت مؤسسات الأعمال الخاصة بسلوك أخلاقي أفضل إلا أن هناك تدني في درجة المسائلة لمجالس إداراتها والمراجعين الماليين.
2. لم يطرح المحقق الصحفي إطارا كليا لفهم المشكلة من مداخلها الاستراتيجية مثل أثر التوجهات السياسية والاقتصادية لنظام الدولة ودرجة تفاعلها مع منظومة الاقتصاد المعولم، وإنما طرح أو سمح للمختصين بتداول مداخل فرعية متنوعة بتنوع المختصين الذين استعان بهم المحقق في إعداد تحقيقه الصحفى الاقتصادي، مثل مدخل تأثير هجرة العمالة للخليج، و مدخل التعليم والتنمية البشرية و مدخل الأخلاق بصفة عامة، و الإتيان على ذكر الفساد والغش على هامش التحقيق، ربما لذر الرماد في العيون واكتساب صفة الموضوعية والشجاعة في العرض. كل ذلك أسباب فرعية نجح المتخصصون بدرجات متفاوتة في ربطها بأصل المشكلة، ولم يطرح أيا منهم مدخلا كليا لفهم مثل تلك المشكلة الاستراتيجية، وثلاثة منهم يحملون شهادة الدكتوراه ويشغلون مواقع عالية في مجال العمل والتعليم والتنمية!
3. بعد استبعاد احتمالية جهل كل من الصحفي والمتخصصين بموضوع التحقيق لأسباب واضحة، فسواء كان ذلك التحقيق بسبب سياسة وتوجهات الأهرام التي تتحدث باسم الدولة، أو كان نفاقا من أي من الصحفي والمتخصصين أو كليهما، فإن المحصلة النهائية هي أن التحقيق مضلل ومغرض لتحويل انتباه الرأي العام بعيدا عن الأسباب الحقيقية للمشكلة وهي التوجهات السياسية الاستراتيجية للدولة والاقتصادية على المستوى الكلي، وإغراق القارئ في تفاصيل وتفريعات فنية تكنوقراطية على المستوى الجزئي لتشتيت فهمه، وذلك أسلوب تقليدي وهو سمة التوجه العام للإعلام الحكومي في تضليل القراء.
4. تعمد التحقيق الصحفي للأهرم بشكل أو بآخر أن يتضمن رأي كل من المتخصصين الأربعة الذين استعان بهم المحقق الصحفي توجيه الاتهام المباشر للعمالة المصرية باعتبارها إما السبب الرئيس في المشكلة، وذلك من وجهة نظر أصحاب الأعمال، أو على الأقل مشاركة في المسئولية من وجهة نظر المتخصصين التكنوقراط. وهذا هو على ما يبدو بيت القصيد من التحقيق الصحفي؛ إبعاد المسؤولية أو تخفيفها عن الحكومة وإلصاقها بالعمالة بمختلف مستوياتها من عمال وموظفين. باختصار يعني أن الشعب هو المذنب بقلة أخلاقه وتدليله، وأن الحكومة معذورة في أخطائها من حيث التعليم والتنمية البشرية!!، وأن رجال الأعمال عملوا ماعليهم وأعطول للعمال كل حقوقهم وأنهم – أي العمال – مصرون على الاستهتار والتغيب رغم المرتبات والحوافز المغرية!! يعني قلة أدب وفُجر كمان! أما الفساد والغش فهي أمور ثانوية! هكذا يصور التحقيق أسباب تدهور تنافسية الإنسان المصري ببساطة، أو ببجاحة!

على سبيل المثال، وليس الحصر، لما جاء في التحقيق الصحفي للأهرام، فإن القول بأن " نظم الإدارة في مصر والعمالة تتقاسم المسئولية" كما جاء على لسان أحد المتخصصين (الدكتور سمير رضوان رئيس منتدي البحوث الاقتصادية العربية والدولية ونائب مدير منظمة العمل الدولية سابقا) الذين استعان بهم التحقيق الصحفي هو قول يتعارض ببساطة مع ما استقر عليه جمهور علماء الإدارة شرقا وغربا! وبالتالي فهو يتناقض مع قوله بـ " ضرورة تناول ملف العمل والإنتاجية والأجور بأسلوب علمي"، فليس فيما يقول المتخصص ما يؤيد درجة علميته!، ولنر مايقول العلماء عن دور "العمالة" ودور "الإدارة" كان الدكتور عثمان أتاش يشغل إلى وقت قريب منصب مدير إدارة تنمية مؤسسات الأعمال BMDS بمركز التدريب العالمي بجنيف ITC والتابع لمنظمة التجارة العالمية WTO، وفي نموذجه لتنمية الأعمال والتنافسية Business Management System model (BMS) والمنشور والمطبق في حوالي 37 دولة في العالم منها مصر، يقول الدكتور أتاش بالبنط العريض في مقدمه نموذجه: " لايوجد شئ اسمه مشاكل عمالة، فقط يوجد مشاكل إدارة" فأين الأسلوب العلمي هنا في قول المتخصص المصري أعلاه؟

هكذا نرى أن مقاربة الدولة في تناول تدني درجة تنافسيتها الدولية ممثلا في الأهرام جريدتها الناطقة باسمها هي مقاربة التضليل وعرض نصف الحقائق وتعمد الإغراق في التفاصيل وإخفاء الأسباب الكلية أوالمنظومية التي هي المدخل العلمي الوحيد لحل المشكلة. والنغمة السائدة الآن والتي تعزف عليها كثير من الأقلام ورموز الإعلام وشخوص الفئة التي تسلطت على مقادير الحكم والإدارة في معظم مؤسسات الدولة، هي أن صحيح أن الدولة لها أخطاء ولكنها تعمل مافي وسعها وحققت أعلى معدل تنمية (7.2 %) ولكن "الناس دول" هم المخطئون وقليلي الأدب وجهلة لايريدون أن يتعلموا كما أنهم ينجبون كثيرا من العيال!. وبذلك يبررون استمرارية تسلطهم على السلطة والحكم، ويسقطون في سبيل ذلك التاريخ القريب والبعيد لإنجاز وتفوق هؤلاء "الناس دول" وأهم انجازين لهم وهما بناء السد العالي شكلا ومضمونا مدنيا، وانتصار أكتوبر حجما ونوعا عسكريا .

إن درجة التنافسية العالية والوحيدة للحكومة هنا هي في فن التضليل الإعلامي وعدم مواجهة المشاكل بشجاعة وطنية وبمنهج علمي، ولا عجب بعد ذلك أن تتدني كل مؤشرات أداء الدولة كما هو منشور في التقارير الدولية، فمصر التي يشكل سكانها 1.15 % من مجموع سكان العالم تساهم فقط بـ 0.33 % من إجمالي الناتج العام GDP العالمي و بـ 0.21 % من سوق التصدير العالمي.
إني لأعتذر لـ "محسن أفندي السيد بيه الطاهر باشا" العامل المتخصص والمتميز في اللحام بالكهرباء أينما كان الآن، عن هذا السفه الإعلامي والتضليل الحكومي وإنكار الفضل وعدم الوفاء والإهمال، وأكرر شكري له والاعتراف بإنجازه الشخصي في بناء السد العالي ومشاركته بعرقه ودمه في صنع النصر في أكتوبر 1973.
مســعد غنيم - mosaadg@hotmail.com
8 أكتوبر 2008
 

 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية