حتميات طارق حجي في زمن اللايقين
...............................................................
| |
حجى | |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
كَدعـواك كُـل يَـدَعي صِحـةَ العَقـلِ ومَـ......ـن ذا الـذي يَـدري بِما فيهِ مِن جَهل .....المتنبي.....
لطالما اهتممت بمقالات الأستاذ طارق حجي مذ بدأت قراءته في صحيفة الأهرام بأوائل تسعينات القرن الماضي، ودام هذا لبضع سنوات انقطعت بعدها عن قراءة الأهرام وسائر صحف الحكومة لأسباب خاصة وأخرى عامة قد تكون مفهومة. ولطالما صاحب هذا الاهتمام إعجاب واقتناع، عندما كان ما يكتب يتمحور حول معرفته وخبرته في علم الإدارة. وبينما ظل الإعجاب له مايبرره فيما يخص شخصه، بدأ الاقتناع بفكره يتضاءل شيئا فشيئا، عندما أتاحت لي شبكة الإنترنت أن أستخلص ما أقرأ من صحف الحكومة وغيرها، فبدأت أقرأ له مؤخرا في شئون السياسة والتاريخ. وكان على أن أدلف إلى موقعه الإلكتروني لكي أفهم أكثر عن فكر الرجل، وذلك قبل أن أكتب عن سبب اضمحلال قناعتي بما يقول الرجل، وبما عبر عن نفسه بأنه يذهب على نهج يرى الناس غيره.
كان من الضروري أيضا أن أختار من مقالاته التي أراها تمس بأكبر قدر، الاختلاف أو الخلاف الذي اختاره هو بنفسه. فمن بين 298 مقال لكاتبنا اخترت مقالاين ينطبق عليهما الشرط السابق، ويمثلان في نظري محورين أساسين في فهم كاتبنا. وأعترف بداية أنهما لايشكلان عينة مثالية للدراسة والفهم، ولكن أظنها كافيان لتشكيل الإنطباع عن الاتجاه العام لفكر كاتبنا، وكذا عن منهجيته في التفكير، وأدواته في التحليل. والمقال الأول يحمل عنوان: " لماذا أكتب "، والثاني: الاعتقاد المطلق في"نظرية المؤامرة."
الرد على المقال الأول "لماذا أكتب":
حدد الأستاذ طارق حجي أسبابه في الكتابة هو أن "يرسخ" في العقل المصري مرجعياته الفكرية الشخصية في "أننا مصريون أولاً وأخيراً، وأن هويتنا تنبع من موقعِنا الجغرافي..شرق البحر المتوسط" وأن " لنا روابط إسلامية ومسيحية وعربية وأفريقية لا تنكر"، وأن "مشاكلنا برمتِها تنبع من الداخلِ"، وأن " إختيارَ أنور السادات التاريخي لنقلِ الصراع العربي/الإسرائيلي من أرض المعارك الحربية إلى موائدِ المفاوضاتِ والحوارِ هو السبيلُ الوحيدُ للوصولِ إلى تسويةٍ معقولةٍ لهذا الصراع"، وأوضح قناعاته بالليبرالية والديموقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة...إلخ، إلى رفضه للفكر الوهابي الذي غزا " الإسلامَ المصري المتحضر المسالم"، ثم عرج على رؤيتة لمشاكل التعليم والإعلام والأقباط، ثم عرض رأيه في العقل المصري خاصة الشباب.
وبغض النظر عن التعبيرات المراوغة مثل "أن لنا روابط إسلامية!" أو "الإسلام المصري"، فإن الهوية المصرية مابين فرعونية وعربية، أو شرق أوسطية أو شرق بحر متوسط، أو إسلامية أو علمانية،....إلخ، فذلك موضوع قديم استُهلك أكثر من اللازم. وموضوع الهوية هذا يتم استحياؤه عادة عندما تهتز قيم الأمة وتفقد بوصلتها التاريخية والاستراتيجية في غياب القيادات الوطنية ذات العيار الثقيل، كما هو حادث الآن. ويم استدعاء هذا الموضوع لأسباب عديدة، ولصالح أجندات مختلفة، ولا قبل لي كقارئ عادي أن أدلي بدلوي فيها، ولكني أحيل القارئ لكتاب الدكتور جمال حمدان "شخصية مصر"، مثلا، ليرى نموذجا للرأي العلمي، بغض النظر عن الفرق بين دراسة أكاديمية ومقال صحفي، فعلمية الرأي تظل واحدة.
كما أن أسلوب إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني (وهو لا يسميه كذلك) مابين المقاومة والحوار، فهو مازال مطروحا على طاولة الفكر والرأي، والتاريخ أيضا، ولكل رأي مبرراته، والقطع برأي بصفة يقينية أمر لايقبله العلم أساسا! والمقصود أن كاتبنا يقطع بما هو غير يقيني، ويتجاهل تماما احتمالية اختلاف أو خطأ مايريد أن "يرسخه" في عقول المصريين. وهنا نأتي إلى بيت القصيد، وهو أن منهجية كاتبنا مبنية على اليقين القاطع بما يعتقد، فهو لايريد أن يقنع أو يحاور أو يشارك المصريين، وإنما يريد أن "يرسخ" في عقولهم مايعتقده هو، وذلك بيقين قطعي يتناقض مع روح العلم أساسا. وهو لا يشير إلى أي احتمالية حوار مع من يصنفهم مخطئين برأيه، إنما هو يدفع مباشرة بالتكفير (العلماني) أو النفي، والنفي القاطع للآخر المصري أو العربي أو المسلم. وللغرابة، وفي تناقض صارخ لا يصدق، فإنه في ذات الوقت، يقطع (أيضا) بـ "أن الحوارِ هو السبيلُ الوحيدُ للوصولِ إلى تسويةٍ معقولةٍ لهذا الصراع (العربي الإسرائيلي)"، بمعنى أنه ليس هناك إلا الحوار مع الآخر "الصهيوني"، حتمية أخرى من حتميات الأستاذ طارق حجي. أسوق كل هذا من موقع القارئ العادي الذي يريد أولا أن يفهم مايريد الأخرون أن يرسخوا في عقله.
الرد على المقال الثاني:الاعتقاد المطلق في "نظرية المؤامرة"
في هذا المقال يعرف الأستاذ طارق حجي فكره في إطار الرفض والنفي القاطع لوجود مؤامرة شاملة، كما يعتقد كاتبنا أن المؤمنين بها وهم أغلبية المجتمع العربي، يؤمنون بأن كل ما أصابنا من هزائم ونكسات " ليس إلاَّ نتائج مباشرة وترجمات عملية لتلك المخُططاتِ التي يعتقد كثيرون منا أَنها وُضعَتْ من طرفِ القوى العظمى ليسير التاريخُ وفق مفرداتِها " بحسب تعبيره. وإلى هنا فذلك شأن الكاتب وحريته في أن يعتقد ما يشاء.
أما عن منهجية كاتبنا في المقال، فقد بدأ بوضع أربعة معايير أو "مقولات" يعرف بها أوجه تلك المؤامرة كما تؤمن بهاُ الأغلبية. ثم ومن باب الموضوعية فرق كاتبنا في درجات فهم النظرية من قبل مجموعات مختلفة، حددها في ثلاث هي: "الإسلاميين"، و ذوي "التوجهاتِ اليسارية" بكل أطيافها، و"المواطنين العاديين". ثم حدد مصادر مختلفة ينبعُ منها إيمان تلك المجموعاتِ بنظريةِ المؤامرةِ: فالإسلاميون ينطلقون من مفهوم "صليبي" لعلاقة الغرب بنا، واليساريون من مفهوم "إمبريالي" لتلك العلاقة، أما المواطنون العاديون فمن واقع "غسل العقول" الذي يتعرضون له من قبل المجموعتين الأوليين.
ومن موقعي كقارئ عادي يريد أن يفهم، فأرى أن الأساس الذي بنى عليه مقاله كله، وهو تعريف نظرية المؤامرة، لا أساس له إلا في ظن وتقدير كاتبنا، حيث أنه لم يشر من قريب أو بعيد من أين استقى تلك المعايير التي بناء عليها عرًّف نظرية المؤامرة وحدد أوجهها، بهذا الشكل اليقيني القطعي!. فهو ينسب تلك المعايير أو المقولات إلى هؤلاء "الآخرين" الذين يخطئهم، فيما يبدو أنه قول مرسل من عندياته، وهو أمر لاغبار عليه في مجال الفكر ولكن بشرط توضيح المرجعية. إن كانت تلك المقولات ترجع إلى "أولئك"، فكان عليه أن يشير إلى ذلك، الأمر الذي لم يفعله؛ لذا فسنأخذ حديثه هذا على محمل الافتراض أو الظن لا أكثر.
وفي ظل هذا الافتراض، حدد الأستاذ طارق حجي منابع فهم مجموعات ثلاث لنظرية المؤامرة، مجموعات حشد فيها مجموع البشر العربي وقسمهم تقسيما كلاسيكيا واستاتيكيا، مابين الإسلاميين واليساريين ثم الناس العاديين، ولايتبقى من هذا التقسيم إلا اليمينيون أو الليبراليون، الذين استثناهم كاتبنا من أي احتمال لأن يؤمنوا بشكل ما بنظرية المؤامرة، وبالتالي فلم يتطرق لبيان منبع محتمل لـ "عدم إيمانهم" بالنظرية!، اللهم إلا التضاد مع المجموعات الثلاث. ومرة أخرى، لانعرف من سياق ونص المقال إلى أي شئ يستند في هذا التقسيم وذاك التفسير للمنابع، وبالتالي فنحن نتقدم في فهم مقاله من افتراض إلى آخر، ليس في علاقة خطية بل أسيه طبقا لمبادئ الرياضيات، والمعنى أن نصيب الفكرة المبنية على الأولى من حيث صحة أو خطأ الافتراض تتضاعف بالضرب وليس بالجمع، أي أن صحة الافتراض الثاني تساوي جذرا تربيعيا من صحة الأول.
وعلى فرض أننا اتفقنا مع كاتبنا على صحة تعريفه لنظرية المؤامرة، فماذا عن منطقه وأدواته التحليلية؟. يقرر كاتبنا بيقين واضح أن "الحقيقةِ، أن هذه "المنابع" لإيمان كل مجموعةٍ من المجموعاتِ الثلاث بنظريةِ المؤامرةِ هي "منابعٌ وهميةٌ" ولا سند لها من الواقعِ والتاريخِ والمنطقِ". وهنا، مرة أخرى من موقعي كقارئ عادي، فإن إطلاق تعبير "الحقيقة" من كاتب بوزن كاتبنا الذي يحمل شهادة الدكتوراه، يعني أنه قد توصل "علميا" بما لايدع مجالا للشك إلى تلك النتيجة، وبما أنه لم يبين لنا شيئا من ذلك، فقد أدخلنا الأستاذ طارق في افتراضية أخرى، وإن سماها حقيقة!.
فموقف الإسلاميين يفسر كاتبنا منبعه في هذا الصدد بأنه مشوبٍ بما يمكن تسميته بالروحِ الجهاديةِ أو الحربيةِ أو "الضد –صليبية" بحسب تعبيره، وحتى يكون هذا المنبع وهميا يلزم أن يكون الأمر بالجهاد، من حيث المبدأ وباختلاف تفسيراته، هو أمر وهمي، ويستتبعه أن يكون الدين الإسلامي وهميا بالضرورة، كما يستلزم أن تكون صيحة الرئيس الأمريكي "الصليبية" على شاشات الفضائيات مجرد تهيؤات، وأن وثائق الحرب لوزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد المصدرة بآيات من الإنجيل، والمنشورة في الصحافة الأمريكية نقدا ورفضا!، هي أيضا من قبيل الوهم، ولكن هذه المرة من الغرب وليس منا نحن المصريون المتوهمون.
كما أن اتهام علماء التاريخ "الغربيين" للفاتيكان بتزوير التاريخ بالإخفاء المتعمد أو التزوير المباشر أو حتى باختلاق وثائق تاريخية فقط لدعم "استراتيجيتهم" في السيطرة على السلطة في الغرب، وعلى الأرض والبشر في الشرق والجنوب، هذا الاتهام الغربي وليس الشرقي المتخلف للفاتيكان!، يلزم أن يكون وهميا أيضا حتى نقبل بمقولة كاتبنا الأستاذ طارق حجي أن تلك المنابع "الضد- صليبية" لاسند لها من التاريخ! هذا فقط لإيضاح منطق كاتبنا في تحليل منابع الإيمان بغض النظر عن تعريف أو صحة موضوع الإيمان هنا وهو نظرية المؤامرة!.
أما موقف اليساريين بكل أطيافهم، فيرجع كاتبنا "منبع" إيمانهم بنظرية المؤامرة "للروحِ الأكثر علمية وتقدماً وعصرية للأفكار الاشتراكية (وإن ثبت أنها كانت كلها خاطئةً وعاجزةً عن تحقيقِ أهدافِها وشعاراتِها)". وهذا يعني أن الأفكار الاشتراكية "وهمية"، وأن نمو الاقتصاد الصيني الغير مسبوق والغير ملاحق من باقي دول العالم، تحت العلم الشيوعي وتحت سيطرة الدولة الاشتراكية، وإن كان المحتوى رأسمالي، بمعنى رأسمالية الدولة الاشتراكية، كل هذا "وهم" في عرف كاتبنا حتى تستقيم له "الحقيقة" كما يراها. هذا ناهيك عن "نغمة" اليقين السائدة في على فكر كاتبنا، عندما يقطع بأن الأفكار الاشتراكية " ثبت أنها كانت كلها خاطئةً"، فهذا يستلزم أن نفهم أن استمرار تدريس ماركس في الجامعات الأمريكية هو من قبيل تعلم "الخطأ" الأكيد.
بل إنه يجب أن يكون "وهما" ما ورد في تقرير مجلس المخابرات القومي الأمريكي (NIC) الأخير (نوفمبر 2008)، استشرافا للاتجاهات المستقبلية للعالم في 2025، تحت عنوان فرعي "عالم متحول". فقد ورد في التقرير أنه " يمكن أن تنجذب دول أكثر لنموذج بديل ممثلا في التنمية الصينية، هذا بدلا من تمثل النماذج الغربية للتنمية السياسية والاقتصادية". كل ذلك يجب أن يكون وهما حتى نصدق الأستاذ طارق حجي، ويجب أن نلغي حسنا المشترك وفهمنا الفطري لنصدق كاتبنا أنه لا منطق هناك ولاسند من "الواقع" في كل تلك الوثائق "الأمريكية"!!.
كما أن اقتناع "المجموعة الاشتراكية" بما تسميه بالقوةِ الإمبرياليةِ، يفسر في عرف كاتبنا منبع إيمانهم بنظرية المؤامرة. ويلزم، بناء على منطق الأستاذ طارق حجي، أن نقتنع بأن علم الجغرافيا السياسية والجيوسياسة هما من قبيل الوهم. وأن إمانويل ولارشتين عالم الاجتماع الأمريكي الأشهر، كان مجرد واهم أو متحجر يعيش في الماضي عندما حذر إسرائيل من أن عدم انصياعها للقوانين الدولية والقبول بإقامة دولة فلسطينية سيعني أنها ستكون "آخر ولاية صيليبة"! كما جاء بمقال العاصفة النارية القادمة "The Firestorm Ahead في موقع Agency Global، وبموقعه الإلكتروني أيضا. ولابد أن يكون نعوم تشومسكي، الذي لا يمل من نقد السياسات الإمبريالية للإمبراطورية الأمريكية بحسب تعبيره، هو أيضا في عرف كاتبنا واهما اشتراكيا كبيرا!
وأما مجموعةُ المواطنين العاديين، كما يسميها كاتبنا ويقرر بيقين قاطع: "أنها كوّنَت ميلها هذا للإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ كأثرٍ حتميٍّ إما لسطوةِ اللون الاشتراكي أو لسطوةِ اللون الإسلامي على مواقع غيرِ قليلةٍ من عالمِ الإعلام في واقعنا ومن كثرةِ تكرارِ المقولاتِ المنبثقةِ عن نظريةِ المؤامرةِ والتي غَدت وكأَنها من المُسَلماتِ. وفى المجتمعاتِ التي لا تتسم بمستوى عالٍ من التعليم والثقافة، فإن دورَ الإعلام (بما في ذلك منبر المسجد) قد يصل إلى حدِ (غسل العقول) و(تشكيل الوجدان)… ويكفي أن نذكر أن أولَ اسمٍ لوزارة الإعلام في بعض البلدان كان "وزارة الإرشاد" وهو اعتراف صريح وواضح بالرسالةِ الأساسيةِ وهي "الإرشاد" أي "التوجيه". انتهى الاقتباس. وهنا يبدو لي أن "المنطق" الذي ينفيه كاتبنا عمن يؤمنون بنظرية المؤامرة قد سقط منه هو أيضا. فلا أستسيغ، منطقا، أن أقبل أنه بعد ما يقرب من أربعة عقود من وفاة جمال عبد الناصر صاحب المشروع الاشتراكي، وقيام السادات بعكس اتجاه المسيرة تماما، وإيغال نظام العائلة المباركية في تطبيق الأجندة الليبرالية للمؤسسات الدولية، ولا أقول الأمريكية، لا أتصور أنه لا تزال سطوة للون الاشتراكي! خاصة مع السيطرة الكاملة للنظام المصري بكل اندفاعه الليبرالي على الإعلام الرسمي وشبه الرسمي بكل أشكاله.
ثم إن قبول فكرة الكاتب أن مجموعة المواطنين العاديين، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب المصري، ليسوا إلا أميين وجاهلين، وبالتالي فقد وقعوا تحت سيطرة لون سياسي ما بلا عقل أو فطرة بديهية، هو أمر ينافي منطق الحياة أساسا. فنفس هؤلاء الجهلاء هم الذين وقفوا مع غزة أثناء العدوان الإسرائيلي 2008 في مواجهة إعلام حكومي مصري طاغ ليس في صالح أهل غزة الفلسطينيين بأي حال! فمن أين جاء فهم هؤلاء الجهلاء؟ سؤال منطقي لكاتبنا لعله يراجع منطقه في اتهام معظم الشعب المصري باللامنطق، ناهيك عن الجهل. وهنا يقفز تساؤل "منطقي" أيضا، وهو: هل يريد كاتبنا أن يحاكي نفس دور تلك الألوان السياسية التي تشكل إيمان ذلك الشعب بنظرية المؤامرة كما يعرفها كاتبنا، فيستغل جهل وأمية معظم الشعب المصري كما يراه هو، بأن "يرسخ" في عقولهم ما يراه هو منطقيا، بل وحتميا في حتمية أخرى من حتمياته؟
يقول الأستاذ طارق حجي في هذا المقال: "وهذا الجانب من جوانبِ "عنصر المنافسة" هو ما أود أَن أُسلط مزيداً من الضوءِ عليه، لأننا إذا لم نفهمه جيداً وبوضوحٍ تامٍ ونقبل فكرةَ حتميته ونوّلد استراتيچيتنا للتعاملِ معه كحقيقةٍ لا تقبل التجاهل من حقائقِ الحياةِ المعاصرةِ، فلن نبلغ أيَّ شيءٍ مما نريد." وهنا فهو قد أعفاني من بذل الجهد لإثبات حتمية أخرى له. ولكن ذلك لا يمنع من طرح تساؤل ساذج من قارئ عادي عن مفهوم "عنصر المنافسة" ذلك، هل تلك المنافسة مطلقة، أم أن لها تعريفا علميا يحدد شروطا كثيرة؟ وألا يوجد بتلك الشروط ما ينفي حتميتها تحت ظروف معينة؟ ويحولها إلى احتكار واستغلال بشع ممن يملك القوة والسلطة؟! ثم أنه على أرض الواقع، ألم تحقق الصين أكبر معدلات نمو عالمية وشكلت عنصرا داعما للاقتصاد العالمي المنهار؟ وألم تحقق ذلك النمو دون إطلاق "عنصر المنافسة" دون قيد أو شرط؟ وأنها مازالت دولة شيوعية تمارس رأسمالية الدولة بشكل ما يعرفه الخبراء أفضل مني كثيرا وأولهم أستاذنا الكاتب؟ ثم، ألم تكمن إحدى الانتقادات الجوهرية لليسار العالمي في أنه قد قضى بـ"حتمية" الحل الاشتراكي؟ وأن أكبر نقد يوجه للإسلاميين يأتي من واقع دفعهم بـ"حتمية" الإسلام هو الحل؟، وبالتالي ألا يدفع كاتبنا هو أيضا بحتمية ليبرالية أخرى من حتمياته صراحة؟ هذا في الوقت الذي اعتذر فيه فوكو ياما وتراجع عن "حتميته" بنهاية التاريخ!!
ويفاجئنا الأستاذ طارق حجي بمتناقضة صارخة عندما يقول: "هذا المفهوم البسيط هو جوهر جانب المنافسة الذي يراه الكثيرون في عالمِنا كمؤامرةٍ محبوكةٍ- والحقيقة أنه يشبه المؤامرة لحدٍ ما، إلاَّ أنه يختلف عنها تماماً في الدوافع وقوانين الحركة." فرغم أنه لم يحدد إلى أي حد تشبه المنافسة المؤامرة، فسنقبل تعبيره كما هو. ويتبقى سؤالا منطقيا آخر؛ هل تبرر الدوافع وقوانين الحركة وحدهما أي فعل إنساني بغض النظر عن خطئه أو صوابه؟ وهل هما كافيان لإحالة "شبه المؤامرة" إلى فعل أخلاقي؟! ويجدر هنا أن أسجل قناعتي بأن "قوانين" أي حركة فيزيائية أو بشرية إجتماعية هي قوانين محايدة لا يتحتم أن تكون ليبرالية أو اشتراكية مثلا، وهذا التعبير من كاتبنا في هذا السياق هو من قبيل الخلط فيما أظن، أما "الدوافع" فليس هناك اختلاف على صياغتها في السياق هكذا، فهي التي يمكن أن تفسر بوضوح وبساطة نظرية "شبه المؤامرة" بتعبير الكاتب نفسه، ونظرية المؤامرة التي يؤمن بها الكثير ويخصص لها الكاتب هذا المقال، ولا أعرف ما دلالة الفرق هنا بين شبه المؤامرة كما يراها الكاتب والمؤامرة كما يراها من يراها، فالفرق في الدرجة وليس في الاتجاه، أليس كذلك؟ إذن فكاتبنا قد أوقعنا وأوقع نفسه في متناقضة واضحة يبدو أنه لا فكاك منها!
صراع أم مؤامرة؟!
يلخص كاتبنا رؤيته في آخر المقال: "فإن تصوير الأمر على أَنه "لعبة الصراع" وليس "مؤامرة عامة محبوكة" تحكم مسار التاريخ، يحفز أصحاب الإرادة والكرامة والهمم على أَن يدخلوا اللعبة بنية إحراز نتيجة طيبة، وهو وضع يختلف عن "الروح العامة" التي أفرزها الإيمان المترامي بنظرية المؤامرة العامة، وهى روح تميل إلى جانب الشكوى والبكاء والاستسلام والرضى بالنتائج (الوخيمة) سلفاً وليس التحدي والانخراط فى لعبة الصراع (رغم ضراوتها) بنية بلوغ نتائج كريمة وعظيمة كالتي حققها اليابانيو ن الذين خاضوا خلال نصف القرن الأخير واحدة من أشرس لعبات الصراع على مستوى التاريخ الإنساني." انتهى الاقتباس. وأراني متفقا مع كاتبنا كثيرا في المعنى العام الذي يقرره هنا ، مع التحفظ الشديد على مثال اليابان لاختلاف السياق الجيوسياسي، بل والتاريخي. غير أن الصراع الذي هو من طبيعة المخلوقات وحتى المادة نفسها، يأخذ أشكالا ويتبع استراتيجيات وخطط منها المؤامرة.
إذن فمعنى الصراع ليس مقابلا أو بديلا عن معنى المؤامرة، بل إنها فرع له وشكل من أشكاله! وفي الواقع فلم أتصور أن يتهافت منطق كاتبنا إلى هذه الدرجة!. ويبدو أنه غير واثق تماما من منطقه حيث يرجع ويقرر بنفسه: "كذلك فإنني لم أقصد على الإطلاق أَن أقول إن التاريخ خال من المؤامرات". إن تراجعه هذا يعود بنا إلى أبسط قواعد المنطق الذي ينفيه عن الناس بمجموعاتهم الثلاث كما قسمهم هو، وهو أنه طالما أن الاختلاف في درجة المؤامرة، فلا يستحيل منطقا أن تزداد الدرجة إلى حد الشمول، تماما كما ترتفع فيزيائيا درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان. وبشريا واجتماعيا وتاريخيا، فالمنطق يقبل أن المؤامرة التي تحاك على مستوى القرية يمكن أن تتم على مستوى المدينة والدولة والإقليم وهكذا حتى شمل في النهاية العالم كله، هذا منطقا فقط. ثم لماذ نستبعد هذه "الدرجة" الشمولية للمؤامرة منطقيا، خاصة وأن تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات وانكماش الزمان والمكان بحسب تعبير لويس هارفي في كتابه بنفس العنوان. ألا يتحدثون عن القرية الكونية؟
لا يقين هيزنبرج
تحدث الأستاذ طارق حجي كثيرا في مقالة عن ضرورة "المعرفةً الشاملةً بكلِ العلومِ والمعارفِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ من علوم العصرِ الحديثِ في مجالاتِ الإدارةِ والتسويقِ والمواردِ البشريةِ وما انبثق عن هذه المسميات الكبرى من عشراتِ المجالاتِ الجديدةِ المتخصصةِ." ويضيف : "وللأسف الشديد، فإن عدداً غيرَ قليلٍ من مثقفي العالم الثالث يندرجون ضمن هذا الفريق الذي يعلم أصحابُه الكثيرَ دون أن يمتد علمُهم ليغطي المناطق الحديثة والتي بدونها يكونون شخصياتٍ متحفيةٍ لا تقدر بأيةِ حال على فهمِ قوانين الحركة المُعاصرة وجوانبها المخُتلفة." على الأرجح فإن كاتبنا لا ينفك يحكم ويقطع باليقين في كل مايراه، وينفي الآخرين فكريا بل ويكفرهم علمانيا، ويريد أن "يرسخ" في عقول المصريين مايشاء، ويرى غالبيتهم العظمى المطحونة خلو من أي فطرة أو بديهة بعدما وصفهم، وهو محق على ما أرى، بالجهل والأمية. وها هو يصف غالبية مثقفيهم بالجهل أيضا، وهو للآسف غارق فيه، على ما أظن، إلى ذقنه! يكفيه أن يقرر بأي حتميات من منطلق علمي ليخرج من زمرة العلماء والمثقفين.
لو أن كاتبنا قد درس أبسط مبادئ الهندسة و الفيزياء – وهنا أستعير منطقة في نقد مثقفي العالم الثالث بنقص العلم- لعرف شيئا عن مبدأ هيزنبرج في اللايقين، وذلك في ثلاثينيات القرن الماضي!! ذلك المبدأ الذي قضى على كل يقينيات البشر.
ولو أن كاتبنا قد قرأ قليلا من فلسفة مابعد الحداثة، كارل بوبر على سبيل المثال، لعلم بانهيار أسطورة الإطار، يعني الحتميات.
وأخيرا لو أن كاتبنا قد قرأ قليلا في الإدارة الاستراتيجية – نعم الإدارة التي يظن أنه يعلمها – والجغرافيا السياسية، لعلم أن هناك نظرية مضى عليها أكثر من قرن، وهي نظرية "القلب – الحافة" للسير هالفورد ماكندر عن شكل الصراع الاستراتيجي العالمي من منطلق جغرافي سياسي يعززه التاريخ ويؤكده الواقع، وقد عاد الاستراتيجيون إلى ماكندر بعد ان هجروه زمنا نظرا لاستغلال نظريته في التوسع الاستعماري الأوروبي للعالم. عادوا إلى نظريته التي تقول بأن من يسيطر على أوراسيا (شرق أوروبا وغرب آسيا) وهي القلب، من مدخل الحافة وهي منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا، من ينجح في ذلك يسيطر على الكتلة البرية من العالم، ومن يسيطر عليها يسيطر على العالم كله، البحري والبري. ببساطة تعني النظرية التي تطبق منذ قرن على الأقل، أن منطقتنا العربية الإسلامية – التي يحصر كاتبنا علاقتنا بها في مجرد بعض الروابط بها!- هي مستهدف استراتيجي من أي قوة هيمنة عالمية تريد، ولابد أن تريد بحكم التاريخ والواقع، أن تسيطر وتنفرد بالقوة والسيطرة؛ أي إنها قوانين الصراع الإنساني التي تأخذ شكل النظرية ولايستبعد أن تصل إلى حد المؤامرة.
من هنا، يأتي أساسا الفكر الاستراتيجي العالمي من منطلق جيوسياسي وجيواستراتيجي، ولن أتحدث عن التفسير التآمري للنظام المالي العالمي وما ينشر عنه غربا، أو عن تحالف المجمع العسكري الصناعي المالي الذي حذر منه أيزنهاور، لكنى أرى بدرجة يقين عالية، أن الأمر ليس فقط كما يصوره كاتبنا من منظور محدود بالاقتصاد وآليات السوق أو من مجرد "مفاهيم علوم الإدارة الحديثة: إدارة الجودة Quality Management تقنيات التسويق على مستوى العولمة Global Marketing سرية البيانات Data Confidentiality والزخم الهائل من نظم المحافظة على الصحةِ المهنيةِ Occupational Health والاعتبارات البيئية Environmental Considerations وعشرات غيرها من مفردات علوم وممارسات الإدا رة العصرية إنما تهدف - في أولوية عالية من أهدافها - إلى أن يكون أصحابها من "السمك الكبير" القادر عن طريق هذه المفاهيم وتطبيقها تطبيقاً ناجحاً إما لأكل السمك الصغير وإما لزيادة حجمه صغراً." كما يقول، وكما ويحصر نفسه الأستاذ طارق حجي! ويريد أن يحصرنا معه بأن "يرسخ" في عقولنا المنعدمة المنطق والبديهة البشرية، "حتمياته" الشخصية أو الفئوية أو الأيديولوجية، في تناقض صارخ مع أبسط مبادئ الرياضيات والفيزياء والفلسفة والجغرافيا السياسية، التي لو كان قد نال منها ما يكفي – بنفس منطقه في نقد مخالفيه - لما أتحفنا بحتمياته في زمن اللايقين. حقا، لقد خاب أملي فيك يا أستاذنا الكبير! وصدق المتنبي، ....أو هكذا أظن.
مسعد غنيم
7 نوفمبر 2009
06/11/2014