| | | | ذكريات مقاتل عادي عن انتصار أكتوبر 73 ...............................................................
بقلم : مسعد غنيم ...................
سألني رئيس تحرير "مصرنا" الأستاذ غريب المنسي أن أكتب بعض من ذكرياتي، كأحد جنود أكتوبر 1973. وقد وضعني هذا الطلب في موقف لم أكن أحب أن أكون فيه. أولا، فليس لي من بطولات أو إنجازات خارقة للعادة كما يتصور أي قارئ عندما يقرأ عن ذكريات حرب أكتوبر، وما كنت إلا فرد من فريق عمل، وربما من هنا فقط، أتصور البطولات الحقيقية لذلك الانتصار التاريخي. ثانيا، أن كثيرا من المخلصين قد كتبوا عنها بصدق وحماس كافيين، منهم قادة كبار مثل الفريق سعد الدين الشاذلي، والمشير محمد عبد الغني الجمسي، ومنهم من هم أقل تراتيبية في هرم قيادة القوات المسلحة، وكلهم شارك في صنع هذا النصر. ثالثا، فقد كتب كثيراعن بطولات فردية لأبطال حقيقيين مثل الشاويش "عبد العاطي صائد الدبابات" الذي مات في عصر " ثقافة الهزيمة" منذ سنوات قليلة، مريضا فقيرا ومنسياً!. من هنا تحديدا، طوال 36 عام، لا يزيدني مجئ تلك الذكرى الغالية إلا مرارة وحسرة على انتصار شهدت قمة لحظاته المجيدة، ثم عشت لأشهد عبر السنين سرقة ذلك الإنجاز، وتفريغه من محتواه، وقتلا لروحه، وتجفيفا لمنابعه، اتساقا مع أو سوقا في اتجاه "السلام" والتأكد من عدم تكرار ذلك الانتصار مستقبلا!.
بطولة شعب
من هنا لم أحاول من قبل أن أكتب حرفا عن ذكرياتي عن تلك الحرب. أما وقد جاء طلب الأستاذ غريب في سياق رفض "ثقافة الهزيمة"، فليس أمامي إلا أن أستجيب، وعموما فما كنت لأكتب على صفحات "مصرنا" أي مقال من قبل إلا انطلاقا من قاعدة تلك المقاومة لثقافة الهزيمة، رغم مرارة الواقع، وضبابية المستقبل. وهذا المقال، من زاوية ما، يمكن اعتباره محاولة إجابة على تساؤل أستاذنا محمد عبد الحكم دياب: كيف تخرج ثقافة الهزيمة من رحم النصر؟. ومن ثم فإني أستميح القارئ الكريم عذرا ومغفرة عن هذا الخروج الاستثنائي عن أصول الكتابة الصحفية، بأن يكون محور المقال هو ذكريات شخصية، وليس رأيا موضوعيا، أو قراءة في تاريخ البشر أو استطلاعا لآفاق إنجازات العلم كما تعودت أن أكتب. في الواقع، فإني لا أتصور الكتابة عن تجربتي الشخصية في تلك الحرب إلا من خلال رؤيتي للآخرين على هيئة انطباعات إنسانية عن بعض الرجال الذين شرفت بمشاركتهم هذا الانتصار العظيم، في غير ما ترتيب ولا تنسيق. فقط لقطات من هنا ومن هناك، لعلها تصدق في نقل ملامح الصورة الأكبر، صورة البطل الحقيقي وراء هذا النصر، شعب مصر عندما آمن به وأصر عليه وعمل له، وبحسب تعبير المشير الجمسي "إنجاز كبير حققه الشعب المصري وقواته المسلحه في حرب أكتوبر 1973"، وذلك كما كتب في إهدائه لي نسخة من كتابه "مذكرات الجمسي - حرب أكتوبر 1973" في 15 يونيو 1990، وذلك باعتباري أحد جنوده.
هــرم النــصر
مخطئ في ظني من يعتقد أن انتصار أكتوبر 73 تم في يوم 6 منه تحديدا. فلم يكن ذلك اليوم، في رؤيتي الشخصية، إلا منتهى مسار تاريخي بدأ، على الأقل، يوم 9 يونيو 1967، حيث وجدت نفسي مع أبناء جيلي نمسح دموعنا ونلملم شتات نفوسنا المنهارة على إثر اكتشاف حجم الهزيمة المروعة، ومن غرفنا المغلقة علينا في حزن داهم فرض علينا صمت الموت، انطلقنا دون أي تدخل أو تأثير، لنفجر طاقتنا ونحدد موقفنا العفوي من التاريخ، انطلقنا إلى الشوارع نطالب عبد الناصر، الزعيم المهزوم، بأن لا يتنحي وأن يستمر في القيادة لأننا ببساطة "هنحارب". خرجنا إلى الشوارع بالملايين نعلن صمودنا وإصرارنا على النصر في أحلك لحظات الهزيمة، في وقت لم يكن أمام الطيران الإسرائيلي أي عائق من قصفنا بنيرانه، بعد تدمير أكثر من 80% من قواتنا المسلحة. إن ذلك اليوم لم يأخذ، في رأيي، حقه من التحليل العلمي التاريخي، وأعتقد أنه هو الذي شكل قاعدة الهرم الذي تم عليها بناء هرم النصر في أكتوبر 73. وهو أول ذكرياتي عن إرهاصات بطولات حرب أكتوبر، والبطل هنا هو الشعب المصري.
مصانع الرجال
في أعقاب الهزيمة مباشرة، رأيت ثاني ذكريات، أو إرهاصات، بطولات أكتوبر 73، ممثلة في شباب مصر الذي لم يكتف بالخروج إلى الشارع ليهتف "هنحارب"، في مظهر تمثيلي أجوف – كما تمثله أفلام ثقافة الهزيمة بالتندر والسخرية من نداء "بالروح بالدم نفديك يا ناصر" – بل إن هذا الشباب، في ردة فعل شعبية أصيلة ومنحوتة في ذاكرته الوطنية عبر آلاف السنين، اندفع إلى مصانع الرجال ليتطوع استعدادا ليوم الثأر واسترداد الكرامة. تلك المصانع هي الكليات العسكرية ومعاهد تدريب الصف ضباط. بالتأكيد كان كثير من هؤلاء الشباب من الغالبية الفقيرة الذين تطوعوا مدفوعين بالرغبة في تحسين أحوالهم المعيشية بالراتب المتميز لأفراد القوات المسلحة، ولكن من المؤكد أيضا أن هناك الكثير من الموسرين الذين تنتفي عنهم صفة الفقر تماما. إن هذا يؤكد صدق وعمق الشعور الوطني الجارف للشعب المصري، وأنه حقيقة يريد أن "يحارب" وأنه حقيقة "بالروح والدم" يفتدي قائده الذي أخلص له، لأن دم الشهداء في سيناء لم يكن قد جف بعد، وأخبار استشادهم لم تترك بيت عائلة في مصر إلا ودخلته ممثلا في ابنهم مباشرة أو "ابن الجيران". لم يكن الأمر أبدا هزلا أو ردة فعل عاطفية من شعب متخلف، كما تصورها ثقافة الهزيمة، بل كان جدا وأصالة صنعت أكتوبر 73 بعد ست سنوات، حيث استشهد من هؤلاء الشباب الكثير ممن أعرفهم بالفعل، ولم أعرف يوما أن أحدا من أهلهم أبدى ندما على قرارهم بالتطوع في الجيش.
الفريق محمد إبراهيم سليم
بدأ الفريق الشاذلي الفصل السادس من مذكراته بقوله "إن عملية بناء القوات المسلحة لم تتوقف قط منذ هزيمة يونيو 67 حتى أكتوبر73". كنت ممن اندفعوا للتطوع في الكليات العسكرية في إثر الهزيمة، حيث شكل الأخذ بالثأر جزءا جوهريا من دوافعنا الإنسانية. تم اختياري لألتحق بواحد من تلك المصانع، وهو الكلية الفنية العسكرية. تلك الكلية التي أشاد بها الفريق الشاذلي في مذكراته في الفصل التاسع لأنها كانت وراء تطوير صاروخ الظافر أو "الزيتون"فيما بعد، مما زاد في كفائته في الحرب. هنا نأتي لواحد من "أبطال الظل" كما أسميهم. كان صاحب فكرة الكلية ومنشؤها ومديرها لأكثر من 15 خمسة عشر عاما، هو الفريق محمد إبراهيم سليم، رجل من رجالات مصر العباقرة النادرين الذين أدوا دورهم الوطني في الظل، بكل إيمان وإخلاص، ورحلوا دون صخب إعلامي، وطبعا دون ملايين!. ولم يكن لتلك الكلية أن تكون لولا الرؤية الوطنية المخلصة لقائد يعرف قيمة الرجال وقيمة العلم، جمال عبد الناصر، حيث وافق على إنشائها عام 1959، وتولاها بالرعاية لقناعته بأهمية أن يكون للقوات المسلحة المصرية عقلها العلمي الهندسي القادر على البحث والتطوير. بحلول أكتوبر 1973 كان قد تخرج في الكلية الفنية العسكرية 10 دفعات من الضباط المهندسين المؤهلين ليس فقط على إصلاح وصيانة الأسلحة والمعدات، بل على تصميمها وإنتاجها وتطويرها بمعايير العلم الهندسي عالميا. كان المعيار الرئيسي لاختيار المتقدمين لتلك الكلية منذ تأسيسها وحتى انتصار أكتوبر هو الكفاءة العلمية وحدها، الأمر الذي أتاح للفريق سليم أكبر قاعدة للاختيار من مجموع الشعب المصري كله، لينتقي منهم الأفضل والأنبغ. لم يقتصر الاختيار على طبقة اجتماعية بعينها لتؤمن للنخبة الحاكمة استئثارها بالسلطة كما في زمن "ثقافة الهزيمة"، وذلك بمنع تسرب "العناصر" المحتمل مناؤتها لهم بسبب انتمائها للطبقات الفقيرة!. كان الاختيار إذن من قاعدة بحجم الشعب المصري كله، ومن المعلوم إحصائيا، أنه كلما زادت قاعدة الاختيار كلما كانت النتائج أفضل. إن تكافؤ الفرص ليس شعارا "اشتراكيا" إنما هو مصلحة مادية مباشرة لأي نظام حكم عاقل، يحكم لمستقبل الأمة وليس لصالح فئة بعينها، هذا قبل أن يكون حقا لكل طبقات الشعب. هذا التوجه الوطني الرشيد للقيادة الوطنية هو ما أتاح تميز أول عنصر من عناصر النصر في أكتوبر 73، وهو الإنسان. يذكرني هذا بنظام اختيار موظفي الحكومة للإمبراطورية الصينية في عز مجدها، حيث الكفاءة فقط هي المعيار، بل وكان الإمبراطور يقوم بنفسه بالاختبار النهائي للمرشحين، وهذا بالضبط ما كان يفعله الفريق سليم. بل إن هذا الرجل العظيم كان يفاجئنا بعد منتصف الليل شتاءً، ونحن "نذاكر" في فصول الكلية، ليتأكد بنفسه من جدية دراستنا ومن صحة فهمنا للعلم، وكان يراجع ويصحح بنفسه ما أمامنا من مادة علمية، خاصة الرياضيات، حتى لأذكر أنني بمجرد أن ألمحه كنت أسارع بفتح صفحة من جزء أفهمه جيدا حتى لا "يضبطني" متلبسا في حالة غباء، فيتم حبسي "خميس وجمعة" في الكلية ولا أرى الشارع مع زملائي. تلك كانت الجدية في البناء، وتلك كانت نوعية النخبة من الرجال التى تبني الأمة. علمنا الفريق سليم وربانا طوال خمس سنوات لنتخرج عام 1972 ليكون لنا شرف المشاركة في نصر أكتوبر 73، تلك المشاركة التي سعينا إليها منذ أن رفضنا هزيمة 67.
الجندي أمر الله بخيت
ثاني نموذج لبطل أتذكره من "أبطال الظل"، الجندي أمر الله بخيت، من سكان البحر الأحمر. في بدء ممارستي العملية لمهمتي كضابط مهندس، كنا نعبئ بعض المعدات في صناديق تمهيدا لنقلها، فأمرت الجنود بتربيط الصناديق بطريقة ارتجالية صورها لي غروري بعلمي في ذلك الوقت أنها طريقة هندسية. نفذ الجندي أمر الله أوامري بهدوء وصمت، ولما بدا أن طريقتي لم تنجح، استأذن في تواضع بأن يقترح طريقة أخرى. لم أتردد في أن آخذ برأيه، فقام في غضون دقائق معدودة بتحزيم الصندوق بشبكة محكمة ومشدودة من الحبال لم أتخيل أنه قد غزلها للتو. سألته أين تعلم هذا الفن، فقال لي أنه يعمل "بمبوطيا" في البحر الأحمر مع أهله الصيادين، وأن هذه خبرتهم في استخدام الحبال عبر الأجيال. منذ ذلك الحين أصبح أمر الله مسئولا عن التحزيم والتجهيز للنقل. تلك كانت معرفة أصيلة أضفناها إلى علمنا وممارستنا في القوات المسلحة، ولم أكن تعلمتها من قبل، وربما تكون من مقررات التعليم في القوات البحرية. تذكرت الجندي أمر الله بعد ذلك بسنوات عندما كنت في دورة تدريبية بالولايات المتحدة في مطلع الثمانينات، حيث وقعت على كتيب تعليمي لكيفية الربط والتحزيم للأشياء باستخدام الحبال، وكانت طريقة أمر الله أفضل من كثير من طرق الكتيب. ذلك كان من الرصيد الحضاري الطويل للشعب المصري ممثلا في قاعدته من الحرفيين والصناع، تم إضافته إلى المهارات والخبرات الفنية التي صنعت انتصار أكتوبر 73. كان الجندى أمر الله بخيت واحدا من هؤلاء الذين تفجروا حماسا وعطاء حتى من موقعهم كجنود في قاعدة الهرم التنظيمي للجيش، ذلك لأن إحساسهم وحسهم الوطني بالوطن في محنته كانا أكبر من أي مطالب فردية أو فئوية (تتعالى في صخب الآن في فضائيات "ثقافة الهزيمة")، وذلك الحس هو ما صنع نصر أكتوبر 73.
المقدم "الروبي"
ثالث بطل ظل أذكره، لا أعرفه من قرب ولا أتذكر غير رتبته "مقدم" ولقبه "الروبي". في إطار الإعداد للحرب كنا في اجتماع عام مع الرئيس السادات والمشير أحمد اسماعيل في مارس 1973 قبل الحرب بشهور قليلة في أسوان حيث القوات المسئولة عن حماية السد العالي وجنوب مصر. كان معظم الضباط غير راضين عن وجودهم في أسوان بعيدا عن الجبهة في السويس والاسماعيلية وبورسعيد، حيث الفرصة أكبر في مواجهة العدو والأخذ بالثأر في إطار عمليات العبور المحدودة لسيناء المحتلة. في تلك العمليات التي أصبحت شبه يومية قبيل العبور الكبير في 6 أكتوبر، كان يتم قتل أو أسر بعض جنود العدو الإسرائيلي على الضفة الشرقية لقناة السويس. تشجع أحدهم وطلب من السادات أن يتم نقله إلى الجبهة، فشرح السادات أهمية الدفاع عن السد العالي وأن أهمية الجبهة الخلفية لاتقل عن أهمية جبهة القتال. ثم وافق السادات تحت إلحاح الضابط وأمر المشير أحمد اسماعيل بنقله. لم يكن طلب الروبي حالة فردية أو انتهازية من أجل النقل قريبا من القاهرة حيث العائلة والأولاد!، بل كان ذلك شعورا عاما بين الضباط والجنود، ثم أن المقدم الروبي كضابط مقاتل لم يكن غبيا لدرجة ألا يفهم أنه معرض أن يسقط هناك مع الشهداء الذين يسقطون يوميا بطول الجبهة من جراء القصف الجوي والمدفعي للعدو الإسرائيلي. تلك كانت الروح المصرية العنيدة المصرة، ليس فقط على الثأر، بل على النصر الكبير الذي تحقق بالفعل في أكتوبر، ولا أعلم إن كان الروبي قد استشهد في عمليات ما قبل العبور أو أثناء الحرب، أو عاد سالما لأهله.
الجندي المثقف المجهول
رابع أبطال الظل هو جندي "مؤهلات عليا" لا أذكر اسمه. في نفس الاجتماع مع السادات في مارس 73، قام جندي مثقف وسأل السادات سؤالا كهرب الجو وفرض على قاعة "الصداقة" في أسوان حيث كان الاجتماع، صمتا خلنا أنه استمر دهرا. باغت الجندي الرئيس السادات سائلا: "كيف يمكنك يا سيادة الرئيس تخيل لو أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يمت، هل كان الوضع يبقى على ما هو عليه الآن؟!". كان السؤال معبرا عن اعتراض الشعب المصري المعلن في مظاهرات الطلبة حينئذ على الموقف الضبابي للسادات من قرار الحرب واستعادة الأرض والكرامة. كان السؤال ملتهبا بمشاعر شعب يرفض الهزيمة ويصرخ مطالبا بالحرب من أجل النصر. لم يطالب ذلك الجندي المجهول بالنقل إلى القاهرة ليرعى أمه المريضة مثلا، أو بزيادة الملاليم التي يقبضها من الجيش حتى يسد جزءا من احتياج أسرته، أو على الأقل ليستطيع أن يقضي وخطيبته يوما جميلا على شاطئ النيل في أجازته الميدانية. كما أنه لم يطالب بتحسين نوعية التعيين أي الطعام الذي كنا نقوم بفصل السوس من الفول قبل أن نتناوله في الصباح!. لم يكن ذلك الجندي الشجاع مدعيا، وإن كان ناصريا حتى النخاع كما يبدو وذلك قبل أن يخترعوا كلمة الناصرية، كان وطنيا يعتز بزعيم وطني مخلص لم تمر على وفاته ثلاث سنوات فقط في ذلك الحين. تلك كانت روح الشباب المثقف، الشباب الذي خرج في أعقاب الهزيمة يطلب القتال حتى النصر، وها هو يقاتل بالفعل، وهو نفس الشباب الذي خرج في مظاهرات 1968 ثائرا، حتى ضد ناصر، على الأحكام الشكلية التي صدرت بحق القيادات المتهمة بالتقصير في هزيمة 67. وطنية متقدة ترفض الهزيمة وتنضم للصفوف حاملة "روح وطنية ناصر وإخلاصه" فتقاتل وتصنع النصر في 73 تحت قيادة السادات.
العقيد شرطة / مباحث "الكردي"
البطل الخامس هو من نوع فريد، حتى وإن كان موقعه في شبين الكوم وسط الدلتا، وفي سلك الشرطة / مباحث، وليس الجيش، هو والد صديقي ودفعتي محمد شيرين الكردي. وشيرين من أوائل الثانوية العامة 1967 وخريج مدرسة المتفوقين بالقاهرة، وهي من مدارس كانت للنخبة المتفوقة من أبناء مصر بغض النظر عن قدرة أهلهم المادية، حرصا على ثروة مصر البشرية وتنمية لذلك الرأسمال البشري الذي لاتفرط فيه إلا الأمم الفاشلة في ظل "ثقافة الهزيمة". كما ذكرت من قبل بشأن نوعية من سارعوا بالتطوع في الكليات العسكرية في أعقاب هزيمة يونيو 67، فإن شيرين الكردي يعد نموذجا مثاليا لمن لم يكن مضطرا أبدا لأسباب مادية أو أدبية، فأبوه كان عقيدا في شرطة المباحث، يعني أنه في كان في غنى عن التعليم المجاني تماما والمرتب المجزي لطالب الكلية الفنية العسكرية، بل ومن المفترض بحسب قوانين "ثقافة الفساد" الحالية، أنه كان قادرا على تجنيد شيرين بعد تخرجه من الجامعة مثلا، في منطقة هادئة بعيدا عن الجبهة، أو حتى التحايل على تجنيده، استغلالا لموقعه الوظيفي الحساس. ولكن شيرين تطوع في الكلية الفنية مدفوعا بحسه الوطني في الأخذ بالثأر وثقته في زمن "ثقافة النصر" حتى في ظل الهزيمة، من تحقيق النصر، وقد كان. كان شيرين أثناء حرب أكتوبر ضابطا في بورسعيد يحرس المدخل الشمالي للقناة عند رأس العش، ذلك الموقع الذي شهد أول انتصار تكتيكي على العدو الإسرائيلي في معركة رأس العش الشهيرة في 67، فرغم الهزيمة الساحقة حينئذ، أجبر المدافعون الشجعان عن الموقع طابورا مدرعا إسرائيليا على الانسحاب بعد أن أوقعوا به خسائر كبيرة، وكانت تلك المعركة الصغيرة أول بشائر الصمود والنصر في أحلك ايام الهزيمة. أرسل العقيد "الكردي" لإبنه النقيب شيرين رسالة مطولة في أعقاب العمليات في أكتوبر 1973، هذا مطلعها، كما نشرها شيرين بنفسه في موقعه الإلكتروني: http://cherry0000.blogspot.com
شبين الكوم فى الأحد 28 / 10 / 73 ابنى وعزيزى شيرين
قبل أى أشواق أو تحيات أو تهانى – أود أن أوضح لك بعض نقاط كانت هى السبب فى تأخيرى عن مراسلتك طوال هذه المدة أول كل شئ .. لقد ترددت كثيرا فى أن أكتب لك – ليس ذلك عن قلة شوق طبعا ولكن لعلى كنت أحب ألا يشغلك أى شئ فى الدنيا عما بين يديك .. عن واجبك المقدس .. عن الحرب والدفاع عن الوطن الغالى .. لم أكن أريد أبدا أن أثير أدنى انفعال لك أو حنين إلينا نحن أهلك . كنت أرغب أن ينحصر كل همك فى قتالك .. فى اشفاء غليلك وغليلنا جميعا من هذا العدو الغادر .. ولم أكن أود أيضا أن تنحرف بتفكيرك ولو ذرة واحدة عن التفكير فى مصر ، ولذلك أرجأت مراسلتك..........
ثانى الأمور .. ان أنباء انتصاراتكم المذهلة .. أو هذا الاعجاز الذى صنعته انت وزملاؤك من ضباط أو جنود قد اذهلنا جميعا وجعلنا فى شوق كبير إلى مزيد من انباء الانتصار التى كانت تنهال علينا – والله أكبر – بطريقة متتالية لم يكن فى امكاننا ملاحقتها أو تتبعها أو هضمها من فرط حلاوتها .. وكنا دائما تواقين إلى المزيد من هذه الانتصارات حتى نسينا أولادنا ولم نفكر أبدا الا فى مصر وانها يجب أن تستمر فى هذه الامجاد مهما كان الثمن .. والحمد لله قد وفقكم الله ورعاكم وأحاطكم بحرب من عنده حتى شرفتم وجوهنا ورفعتم فعلا رؤسنا إلى أعلى عليين..
برضه صورة من وعى الشعب المصرى على لسان أم مصرية بسيطةحاجات كثيرة مش معقولة .. يكفى وده على سبيل المثال مش على سبيل الحصر ان اغلب جموع الشعب تقدمت للتبرع بالدم .. وكانوا بيتخانقوا مين اللى يتبرع الأول .. وطبعا الدم له مدة صلاحية محدودة وصعب انك تفهم كده للأهالى .. كله عاوز يتبرع والنتيجة اننا عملنا كشوف انتظار لهم بعد اخذ الكميات اللى ممكن نحتاج لها
حاجات وحاجات كثيرة جدا أوضحت للعالم مدى أصالة هذا الشعب وكل ده كنتم انتم السبب فيه .. شجاعتكم وانتصاركم وبطولاتكم هى اللى ايقظت الروح الحلوة .. روح الشهامة والجدعنة فى الشعب .. ده اكتر من كده انها ايقظت كل شعوب وحكومات الأمة العربية .. اصبحت فعلا متحدة وأمة واحدة وراجل واحد خللى الدنيا كلها تعمل لنا حساب .. حتى روسيا وامريكا شعروا بان دى كتلة صعب تحديها فاسرعوا الى حل الأزمة مين السبب فى ده كله ؟ قواتنا المسلحة .. ربنا يحميكم ويسدد خطاكم وينصركم دائما لأننا بعد 6 اكتوبر فعلا احسسنا باننا عايشين وافتخرنا كلنا باننا مصريين دعواتنا جميعا لمصر ولكم لاتنقطع وقلوبنا معكم والنصر لنا ان شاء الله ولازم تبر بوعدك وتخلصوا لنا على ولاد الكلب الجبناء دول على حد قولك
وختاما ولو انى مش عاوز اتوقف أقولها لك ولاخوانك من ضباط وجنود .. فكلنا جنود مصر الى النصر .. أقولها لك ربنا يشرف مقداركم زى ما شرفتم مقدارنا .. وربنا يدافع عنكم زى مادافعتم عنا .. وربنا يجعل راسكم دائما مرفوعة باذن الله يارجالنا وابطالنا .. ياللى رديتوا لنا كرامتنا وسط العالم كله .. واثبتم ان فى العرين أسودا مفترسين لايقبلون الظلم أو الاستكانة أبدا .. وان ده هو المقاتل المصرى اللى على أصله .. أول ما تيجى الفرصة بيعرف ازاى يثبت وجوده بمقدرة وشجاعة شهد لها الأعداء قبل الأصدقاء
أجمل تحياتى لك .. تحيات أب لولده .. بل تحيات أخ لأخيه فأنت من زمن طويل أخى الأصغر وقد زادتك المعركة تجارب عنى .. وصهرتك فى بوتقة الرجال .. وأصبح لديك من التجارب مايعجز الكثيرون عن احتوائه طوال حياتهم
مساعد المراقب العام - مديرية أمن المنوفية
أي روعة وأي عظمة لروح وطنية لأب مصري وابنه!، أنت لا تملك أن توقف دموعك عند قراءة تلك المشاعر الفياضة والرقي الحضاري الذي ارتقى بمفهوم الوطنية فوق غريزة الأبوة. منتهى العظمة!. تلك كانت "ثقافة النصر" التي صنعت انتصار أكتوبر 73، لم يتم بناؤها صباح يوم العبور على عجل، بل حمل بذرتها جمال عبد الناصر ورفاقة بعدما ذاقوا مرارة الهزيمة في 1948 (أيام الملك فاروق!) من نفس العدو الصهيوني، عندما بدأ العرب والمسلمون في التعبير عن رفضهم للمشروع الصهيوني ومقابلة عدوانه على الشعب الفلسطيني بالقوة مقابل القوة، ولكن اللعبة الدولية كانت أكبر منهم، ولا زالت!. وعندما أطلق ناصر طاقات الشعب المصري، بمشروعه الاجتماعي، ووطنيته الجارفة وإخلاصه العميق وشخصيته التاريخية، لم تمهله قوى الهيمنة فشنت عيه الحرب مرتين خلال 15 سنة فقط ، ولم يمهله العمر فرصة أكثر من 18 سنة حكما.
كنا، شيرين الكردي وأنا ضمن آلاف آخرين من متفوقي الثانوية العامة (تفوق بجد: 83 % فقط تكفي لتكون من أوائل الجمهورية)، اختاروا منا الأكثر كفاءة، وكلهم لاتقل ذكرياتهم وطنية وبطولة عن شيرين. عندما اندفعنا للتطوع لمعركة الكرامة على إثر هزيمة 67، كان ناصر هناك في الخط الأمامي يتفقد الجنود أثناء إعادة بناء القوات المسلحة، يزرع الصمود وثقافة النصر فيهم وفي الشعب المصري. عندما خضنا حربنا العادلة في 73 كانت صورة ناصر لاتزال معلقة على جدران بعض المكاتب الحكومية!. كان ناصر ولا زال ناظر مدرسة الوطنية الحديثة، مدرسة "ثقافة النصر والكرامة"، مدرسة لاتعترف بالهزيمة، وتؤمن أن النصر لمن أراد.
بنصر كهذا وروعة كتلك، كان لابد أن يسارع العدو الصهيوني في زمن السلام بزرع "ثقافة الهزيمة" حتى يقضي على ذلك الوهج الوطني والروح الباعثة لنهضة الأمة، وقد نجح في استقطاب أو تجنيد بعض من أصحاب المصلحة "العاقلين" في ظل ثقافة السلام، فأصبح الانبطاح للعدو هو مفهوم الواقعية والإدارة السياسية الحكيمة، حتى ولو تم ذبح أطفال غزة تحت سمعنا وابصارنا أوحتى غطائنا، وحتى ولو اقتحم اليهود المتعصبون ساحة المسجد الأقصى تحت حماية السلاح الصهيوني. وأصبح استحواذ النخبة السلطوية على أكبر قدر من ثروة الوطن هو معيار النجاح في الإطار الليبرالي الجديد، بدعوى أن ذلك النجاح لابد وأن ينعكس على الغالبية المعدمة على هيئة فرص عمل أو "إحسانات" الجمعيات الأهلية!، في ظل الشعار المباركي الجديد "سوء توزيع الثروة خير من عادلة توزيع الفقر!". وكأنه ليست هناك هناك مواقف بديلة عن "الانتحار العسكري" في ظل ميزان القوة المائل بشدة لصالح العدو الصهيوني، إلا الانبطاح والاستسلام، هذا في الوقت الذي نرى فيه دولا صغيرة استطاعت أن توازن موقفها السياسي والعسكري مع قوى الهيمنة بالحكمة الحقيقية بالاستفادة من باقي القوى العالمية، مثل كوريا الشمالية (النووية) وإيران (الصاعدة) وسوريا (الصامدة). وكأنه ليست هناك حلول أخرى غير "الاشتراكية البغيضة" إلا "الرأسمالية المتوحشة"، هذا في الوقت الذي تتخذ فيه أمريكا نفسها خطوات نحو المزيد من تواجد الدولة ونفوذها ورقابتها.
في ظل ثقافة الهزيمة يستحضرون هزيمة يونيو فزاعة لنا من أي رغبة في الكرامة والاستقلال الوطني، أو إظهار ميول "اشتراكية ناصرية"، هذا في غير سياقها الزمني، بل وضد التغيرات التي تجتاح العالم بشكل غير مسبوق، وكأن الزمن قد تجمد عند يونيو 67 كلما ذكرنا استقلال الإرادة الوطنية أو العدل الاجتماعي! ومن ناحية أخرى يغيبون ويمحون من الذاكرة الوطنية مقومات النصر والأداء الوطني الجماعي الراقي في أكتوبر 73، مكتفين بأغنية وفيلم واحتفال "للتليفزيون" وخطاب ممل في كل ذكرى، ومغيبين مقومات مثل "العدالة الاجتماعية" و "تكافؤ الفرص"، تلك التي هي المقدمات الضرورية لأي انتصار وطني، تماما مثلما رأينا في أكتوبر 73 كيف أطلقت الطاقات الإنسانية لرأسمال مصر الأعظم، وهي الطاقة البشرية، فخطط وأبدع القائد الكبير، ونفذ وتفانى الضابط الصغير، وقاتل وأقتحم الجندي البسط، وسيطر على التكنولوجيا كل من الضابط المهندس والجندي المثقف. تلك كانت مقومات "ثقافة النصر" وأظنها قادرة على هزيمة "ثقافة الهزيمة"، ولو بعد حين.
4 أكتوبر 2009 06/11/2014
مصرنا ©
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|