مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 ناصر في الذكرى 39: رؤية في إطار قانون مور
...............................................................

  
 

كبير العائلة

 
  

 بقلم : مســـعد غنيم
....................


بمرور 39 سنة على وفاة الرئيس جمال عبد ناصر، يكون عدد الترانزستورات في وحدة المعالجة المركزية (CPU) للحاسب الشخصي قد تضاعف مليون مرة منذ وفاته!. فقد كان عددها 2300 ترانزستور فقط عام 1971 بعد عام من رحيلة في 28 سبتمبر 1970، ووصل عددها في عام 2008 إلى 2000,000,000 أي 2 مليار ترانستور!!. وهذا طبقا لما يعرفه المتخصصون في هندسة الحواسب بقانون مور الذي يقول بتضاعف عدد لترانزستورات في وحدة المعالجة المركزية للحاسب كل عامين. ويمكن تصور ذلك بحساب بسيط في إطار دالة أسية، وليست خطية، فنحصل على الأرقام المذكورة آنفا. بمعنى أبسط فإن معدل التغير التكنولوجي الذي حدث في العالم منذ وفاة ناصر يمكن تصوره في ضوء قانون مور والمليون ضعف! لعدد الترانزستورات عبر تلك الفترة الزمنية (39 عام). وإذا ما اعتبرنا أن التغير التكنولوجي، خاصة في علوم الحواسب، يقف وراء التطور السريع الذي لم تشهد البشرية مثيلا له من قبل في كل مجالات النشاط البشري، يمكننا أن نتصور مقدار التغير المكافئ الذي تم في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والسياسة. وبمعنى مباشر، فإنه من قبيل الاستخفاف بالعقل، والتغابي عن قانون الطبيعة في التغيير والتطور، أن يخرج علينا اليوم من يقيم الرجل الذي أحدث أكبر ثورة إجتماعية في مصر الحديثة، بعد وفاته بـ 39 عاما، بمعايير تكافئ تغيرا يساوي المليون مرة عن وقت رحيله عنا!، ويتجاهل تماما السياق التاريخي والاجتماعي الذي أتى بالرجل في موعده المتسق مع مشروعه، ورحل به، ربما في غير موعده، وبفعل فاعل!.

حقوق الإنسان: الثابت والمتغير

هناك ثوابت ومتغيرات في الشأن الإنساني بصفة عامة، وقانون مور ينطبق على المتغيرات لا الثوابت. والتكنولوجيا كإنتاج بشري أول مثال على المتغيرات، وكذلك مردودها على ثقافة المجتمعات. وتمثل القيم الإنسانية العليا أكثر الأمثلة على الثوابت. فالعدل قيمة ثابتة رغم أنف قانون مور، كذلك الصفات الإنسانية مثل حب المال والسلطة والشهوة الجنسية وغريزة البقاء، وغريزة الصيد والقتل وغيرها، تبدو جميعها من الثوابت الإنسانية. فمن الثابت تاريخيا في إطار الصراع على السلطة، السجل غير المشرف للإنسانية في انتهاك حقوق الإنسان من حيث المبدأ، حيث لم يخلو عصر من العصور، ولا نظام حكم خلا من ذلك. إلا أن قانون مور في نسبة التغيير ينطبق هنا على حجم وشكل الانتهاك، فلكل عصر مفهومة لحقوق الإنسان، وأدواته في التعذيب والتنكيل. مثلا، تمثل "الفرعونية" أحد ملامح محاولات المتسلطين على مقدرات مصر في تحديد هويتهم السياسية، في إطار مشروعهم المناهض لمشروع القومية العربية الذي انتهجه ناصر ولم يخترعه!، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن، ولكن مايخص هنا هو ذلك الشعور بالفخر والاعتزاز بالانتساب لأصحاب تلك الحضارة الفرعونية العظيمة، وبالطبع فلا يقتصر الأمر عليهم وحدهم، بل إنه لايوجد مصري حقيقي عاقل لايشعر بذلك الشعور، إلا أن هناك رسم جداري فرعوني مشهور للفرعون المصري (رمسيس غالبا) يصور أسراه الراكعين على ركبهم ومقيدة أيديهم خلف ظهورهم وهم بلا رؤوس بعد أن قطعها الفرعون. كيف يبرر أولئك المتسلطون ذلك المنظر إذا ماخرج عليهم اليوم من يصفهم بالوحشية وانتهاك حقوق الإنسان لأنهم يتأسوا بالفراعنة السفاحين؟! من المرجح بأن مثقفيهم سيدفعون بأن لكل عصر أوان، وأنه لايجب أن نحكم على ثقافة الفراعنة في هذا الشأن إلا في إطار وسياق زمانهم. مثال آخر: ماذا لو تم الحكم بمعيار قوانين حقوق الإنسان الحالية، وخارج السياق التاريخي لجيل الآباء المؤسسين الأمريكان وعلى رأسهم جورج واشنطون؟! أتصور قيام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو-اوكامبو بالأمر بالقبض عليهم فورا، مع الرئيس السوداني البشير!، وتقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية باعتبارهم مجرمي حرب من العيار الثقيل، فقد أبادوا معظم السكان الأصليين، واستعبدوا ملايين الأفارقة المختطفين من أوطانهم. كيف يبرر الليبراليون الجدد تبنيهم لشعارات الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان من دولة بهذه البشاعة في انتهاك الحريات بل والإنسانية ذاتها؟ طبعا سيتمحور الرد حول السياق التاريخي المختلف!.

دعونا من السياق التاريخي، "خلينا ولاد النهارده" كما يقول المثل الشعبي المصري، كيف يوفق المتسلطون على مقدرات مصر، ومعهم بعض أقباط المهجر المتحمِسون أو المحَمَّسون، كيف يوفقوا بين فخرهم واعتزازهم بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان الأمريكية وبين ماحدث في أبو غريب وجوانتامو وما يحدث من قتل جماعي بالطائرات لعائلات بأكملها في أفغانستان وباكستان الآن وفي هذه اللحظة؟! إن هذا النظام الديموقراطي نفسه هو الذي أتى بمتخذ تلك القرارت اللأنسانية إلى سدة الحكم! فلا يتلكك أحد بالقول بأن تلك "مجرد استثناءات" من شريحة صغيرة هي المحافظين الجدد المتعصبين، فذلك على ما أظن سخف واستخفاف! إني أسوق تلك الصور المختلفة من انتهاك حقوق الإنسان عبر التاريخ البشري كله عندما يتعلق الأمر بالسياسة والسلطة.

عندما يتعلق الأمر بضرورة انتهاك حقوق الإنسان سعيا للسلطة، لافرق هناك بين شرق متخلف وغرب متحضر، ولا فرق بين يهودي ومسيحي ومسلم. فهذا جنتلمان إنجليزي مهذب يذبح بهدوء ودم بارد متحضر،عشرات الهنود المتظاهرين سلميا في استاد رياضي في الهند إبان الاحتلال البريطاني للهند (تم محاكته وإدانته إثباتا للتحضر الشكلي للانجليز)، وهاهو أول خليفة عباسي يقيم مأدبة طعام فاخرة كمبادرة تصالح مع بقايا الصفوة الأموية بعد زوال ملكهم، ثم يذبح أكثر من ثمانين منهم حتى يتخلص من أي أثر أموي. وفي صورة مماثلة وأبشع، هاهي كاثرين أوف ميدتشي تقيم حفل "الزفاف الدموي" في ليلة الاحتفال بالقديس بارتميليو في باريس عام 1572 م. وتذبح عدة آلاف من الهوجينوتس (اسم أطلق من القرن 16 وحتى الـ 18 على أتباع الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية في فرنسا والمعروفين تاريخيا باسم الكالفينيين) طبقا لما ورد في كتاب عالم اللاهوت الألماني هانز كونج عن الإسلام (2007). وهاهم الصهاينة، واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط، مدانون من قبل الأمم المتحدة بجرائم حرب في عدوانهم الأخير على غزة، وحماس الإسلامية أيضا أدينت!.
بعيدا عن أي تبرير لأي انتهاك لحقوق الإنسان لأي سبب كان، تم سوق تلك الأمثلة التاريخية والمعاصرة عن الانتهاك الدائم لتلك الحقوق، من قبل جميع الأنظمة السياسة وجميع متبعي الأديان والملل، بصور علنية وما خفي كان أعظم دائما. والمناسبة هنا هو كشف انتهازية الليبراليين الجدد منذ أن أطلقهم السادات مع غيرهم من الإسلاميين نهشا في سيرة ناصر من مدخل انتهاك حقوق الإنسان، ورغم أن نجيب محفوظ (مع كامل الاحترام للألقاب) قد حكم بإدانة جميع المصريين دون استثناء على لسان بطل روايته الشهيرة "الكرنك" عندما قال "كلنا مجرمون"، إلا أن التوظيف الانتهازي السياسي لتلك الرواية تم لضرب المشروع الناصري برمته لأسباب سياسية محضة، ولتحويل دفة التوجه السياسي من الشرق إلى الغرب، بغض النظر عن صواب الرأي، أو الاختلاف عليه (الدكتور أنور عبد الملك مثلا). لم يهدم السادات جدران المعتقل في استعراض سينمائي إلا ليتم بناء ما هو أكثر مناعة وأشد تعذيبا وأكثر تطورا في تقنيات التعذيب، وهي مازالت تعمل بكفاءة حتى هذه اللحظة بعد رحيل ناصر بـ 39 عاما، لم يخجل طوالها المتسلطون على مقدرات مصر من تكرار نفس القصة المملة عن "زوار الفجر" أيام ناصر، وكأن هذا العصر هو فقط ما انتهكت فيه حقوق الإنسان. بالقطع ليس هذا تبريرا بأي شكل لأي جرائم إنسانية حتى إذا كان تبرير العصر الناصري هو حماية الثورة صاحبة مشروع العدل الاجتماعي ضد القلية المتضررة، أو تبرير العصر ما- بعد الناصري بحماية الاستقرار والثروة لآصحاب مشروع زواج السلطة بالثروة لسحق الأغلبية المتضررة. حتى مع مبررات مقاومة الإرهاب لجورج دبليو بوش في إنشاء معتقل جوانتامو، ومبررات أوباما في الرجوع عن قراره بغلقه! في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة!!.

العدل الاجتماعي والتنمية الزائفة

بعيدا عن الانتهازية والانتقائية في التاريخ، ورغم أي شئ، فمن المتفق عليه تقريبا، فيما أظن، أن جمال عبد الناصر قد انحاز لأصل حقوق الإنسان الحقيقية، فكان مشروعه الإجتماعي والعدالة الاجتماعية هي قمة إنجازاته، مع احترام إنجاز تأميم قناة السويس وبناء السد العالي رمز النظام بلا جدال. وها نحن نشهد محاولة لتصفية أحد أهم المكاسب التي حققها ناصر لفلاحي مصر، فعن وكالة أنباء الشرق الأوسط في 16 سبتمبر2009، أكد أمين أباظة وزير الزراعة واستصلاح الأراضى أنه لا تفكير إطلاقا فى بيع بنوك التنمية والائتمان الزراعى التى تقدم الخدمات والقروض المدعمة للفلاحين واكثر من 22 مليار جنيه من الودائع من أموال المزارعين . وبنهاية التصريح نقرأ استثناء مناقضا حيث أكد الوزير أن الحكومة تعمل فى شفافية ووضوح وفى حالة التصرف فى أى منشأة بالبيع وطالما للصالح العام سيعلن عنها فورا. أي أن مبدأ البيع لـ "أي منشأة" أمر وارد طالما أنه للـ "الصالح العام"!، ويبقى السؤال هنا: من يحدد الصالح العام؟ إن نتائج التنمية المعلنة من النظام نفسه هي أنها غير متوازنة وأنها لم تصل بالقدر المناسب للأغلبية الساحقة من الشعب. بمعنى أوضح أن ذلك "الصالح العام" ليس عاما، بل خاصا، وخاصا جدا على مايبدو. في حال تنفيذ هذا "التصرف" ستكون "بنوك التنمية الزراعية" آخر إنجازات ناصر لصالح الشعب الذي انحاز له، قد تم تصفيته للـ "الصالح الخاص"!. إن مخطط تصفية كل آثار انجازات ناصر في إطار ثورته و رؤيته الاجتماعية جار بكل قوة وإصرار. إن اندفاع المتسلطين على مقدرات مصر، أو الإصلاحين كما يسمون أنفسهم، نحو محو كل أثر لناصر. في غمار هذا الحماس الواضح، فقد أوقعوا أنفسهم في متناقضة لاتتناقض مع غبائهم التاريخي، فحقيقة، ربما يكون مفهوما في إطار ذلك التغيير العالمي الذي اشرنا إليه أن البعد الاقتصادي التنموي في "الحل الاشتراكي" للمشروع الناصري الذي طرح منذ أكثر من نصف قرن في سياق عصره وأوانه، لم يعد مناسبا في سياق الزمن الآني، ولكن الذي لم يتغير، ولا يتغير بمرور الزمن، هو العدل الاجتماعي، وهذا ما فشلوا فيه بامتياز رغم معدلات النمو العالية فيما قبل الأزمة الاقتصداية العالمية الحالية، وذلك حسب إحصائياتهم التي لا نثق فيها كثيرا، حتى مع شهادات اعتماد بعض المؤسسات الدولية التي نشك فيها كثيرا.

ذلك العدل الاجتماعي الذي هو من مشتقات العدل المطلق هو تحديدا ما يجعل جمال عبد الناصر رجلا يأبى على النسيان، وهو تحديدا ما يؤكد الرؤية المحدودة تاريخيا لما يمثله مبارك الإبن عندما قال بـ" إن سوء توزيع الثروة خير من العدل في توزيع الفقر"، فالعدل قيمة مطلقة لاتقبل الاستثناء إلا للرحمة، ولا أعتقد أننا هنا في مقام الرحمة، بل العكس وهو أننا في مقام الظلم والقسوة الغبية. من الواضح حجم التغيرات التي فرضتها الأزمة المالية العالمية في اتجاه واضح لليسار العالمي بالمفهوم العام، بمعنى عودة الدعوة إلى استعادة بعض من الدور المركزي للدولة، خاصة في المجال المالي والخدمات الأساسية، وزيادة الرقابة على نشاط المؤسسات المالية لضمان عدم شططها وجموحها الذي أدى إلى الأزمة الحالية في المقام الأول. هذا التغيير التاريخي الطبيعي هو ما أثار غضب المحافظين الجدد، وهو ما يضع قائل مثل هذا القول "الظالم" عن الظلم في توزيع الثروة في مقام الغباء التاريخي المنقطع النظير!.

التنمية الحقيقة

كما رأينا، وفي كل حدث يتصل بأصول الحكم والتاريخ في مصر المعاصرة، فإن اسم ناصر وذكراه وعصره دائما ماتستدعى إلى صدر موضوعات الشأن المصري خاصة والعربي عموما، ومن أعدائه قبل محبيه!. فهو رجل يأبى على النسيان، ليس بشخصيته الفذة فقط، كما أجمع عليه تقريبا كل معاصروه، بل بموقفه من التاريخ، وهو موقف انحاز فيه بكل وضوح في مشروعه للنهضة إلى الطبقات الاجتماعية صاحبة الأغلبية الساحقة عبر التاريخ المصري، تلك الطبقات التي سحقتها من بعده، في مصر وفي غيرها من الدول، قوى التغيير العالمية وحالة الاستقطاب الشديد والانفراد التقريبي لقوى المحافظين، قدامى وجددا، بدفة الاقتصاد العالمي، وبالتالي باتجاهات التنمية والتغيير الاجتماعي، تغييرا إلى أسفل، بمعنى "النمو مع الفقر" بحسب تعبير عالم الاجتماع المعاصر إمانويل ولارشتين.

لاشك في إجماع علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة على التدهور الذي أصاب تلك الأغلبية في كل العالم مع معدلات النمو الاقتصادي وتضخم الثروات لدى القلة القليلة من أفراد المجتمع الإنساني بصفة عامة. وإذا كان هذا هو الحال عالميا، فإنه مصريا، ومع معدلات فساد لا يجرؤ أحد أن يتجاهلها، حتى أكبر المستفيدين منه، فقد فاق ذلك الاستقطاب حدود الخيال في الاستحواذ على الثروة (بغض النظر عن مدى شرعيتها). فقد تم تقريبا الاستحواذ على ثروة مصر التي نماها عبد الناصر والتي تمثلت في القطاع العام، ونتاج قناة السويس المؤممة، والأثر التنموي للسد العالي، كما يتم اقتناص ثمن "سلام السادات" المتمثل في سيل المنح والقروض الأمريكية وغيرها عن طريق الجمعيات الحكومية غير الحكومية (GNGO) كما يصفها بحق المعارض الدكتور سعد الدين ابراهيم، وعلى التوازي يتم امتصاص تحويلات المصريين في الخارج ببيعهم سكنا على أرض مصر التي يتم تخصيصها أو إقطاعها للمستحوذين الجدد بمعايير الزواج غير المقدس بين رأس المال الجديد والسلطة. تم هذا الاستحواذ بدعوى إطلاق حرية رأس المال ليقود التنمية طبقا لرياح التغيير العولمي التي نعيشها. كان المفترض أن تصل بعض ثمار تلك التنمية إلى الأغلبية الساحقة التي انحاز إليها ناصر، وأن يطالهم نصيب ما من ثروة مصر،على هيئة فرص عمل أو خدمات حكومية في الحاجات الإنسانية الأساسية. ولكن الذي حدث ونعيش مآسيه كل يوم هو أن كل تلك الموارد، قديمها وحديثها بما فيها أرض مصر، استحوذت عليها أقلية الأقلية فظهرت لنا في صورة غنى فاحش ومتوحش غير مسبوق، وفي صورة غنى شديد للحلقات الأقرب لها، وفي صورة غنى واضح للحلقات الأقل قربا من السلطة، وبالمقابل صور فقر لايرحم يطال الأغلبية الساحقة، ويزحف بقسوة كل يوم ليطال فئات جديدة تنضم إلى طابور الكادحين، فئات لم تتصور يوما أنها ستستحق الزكاة شرعا!.

الكادحون يزدادون

كان من نتائج الحراك الاجتماعي الذي أطلقه عبد الناصر كأشد وأسرع مايكون، عندما طبق مجانية التعليم أن تحركت العناصر الأكثر كفاءة في الترقي إجتماعيا بغض النظر عن أصولها، واقتحمت المناصب العليا في جميع المجالات، وكان ذلك مما أعطى الأمة حيويتها وإبداعها الغير مكرر حتى الآن، في العلم والفنون والآداب. إن إبداع فترة الستينيات لا يختلف عليه الكثير، خاصة في مجال الفن والأدب والسينما، فهناك عشرات الأعمال القمم التي تقف علامات بارزة لاتضاهي حتى الآن. لم يكن ذلك ممكنا، علميا وعمليا، إلا بتوافر البيئة السياسية والاجتماعية، الصحية والهادفة في إطار مشروع قومي حقيقي لشعب تعرف إلى ذاته في لحظة توهج تاريخي، فأبدع وتجلى. ولايقلل من هذا الإبداع أي تشوهات استثنائية من فساد وخطأ هو من طبيعة البشر أينما كانوا، كما لايمحو إنجازات الستينيات هزيمة عسكرية مهما كانت منكرة، فهاهي الأيام تثبت وتظهر حجم وعمق المؤامرة من آلة الهيمنة الأمريكية في طموحها لكسر الاتحاد السوفييتي من أجل السيطرة على العالم، وقد نجحت إلى حد ما قبل أن تتراجع مؤخرا أمام المقاومة الطبيعية للشعوب التي مازالت تعتز بهويتها وتعرف قدراتها. في ذلك كانت إسرائيل، موقع الإمبراطورية الأمريكية المتقدم في قلب العالم العربي كما يصفه بحق عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشوموسكي، كانت رأس الحربة، وما زالت. هذا التوهج الحضاري في الستينيات إنما كان نتاج انتقاء طبيعي على أساس الكفاءة من خلال تكافؤ فرص حقيقي إلى حد كبير. فتكافؤ الفرص ليس منحة من الحاكم أو الطبقة الحاكمة لباقي الشعب، بل هو امتياز لصالح الطبقة الحاكمة نفسها قبل أن يكون حق للباقين، إذ أن تكافؤ الفرص يعني توسيع قاعدة الاختيار والانتقاء للأصلح والأكفأ في قيادة عمليات التنمية بالتعليم والإنتاج، وبالتالي زيادة قوة الدولة. أما حق الشعب في تكافؤ الفرص فأمر بديهي. ذلك الشعب الذي تم تهميشه ودفع حتى الفئات التي تصعدت في السلم الاجتماعي في عهد ناصر إلى أسفل السلم الاجتماعي، وحتى فئات كانت في أعلى السلم أصلا، لا لشئ إلا لأنها لم تتعلم لغة الفساد ولم تتقن حرفة الانتهازية إلى حد الخيانة الوطنية!، فزاد طابور الكادحين وما زال يزداد.

إن الإنسان ليعجب من غباء الطبقة الحاكمة الآن في مصر عندما تحصر قاعدة الانتقاء لقيادة الدولة في 7% فقط من مجموع الشعب المصري، وتلك هي نسبة الذين يحظون بالتعليم المتميز في المدارس والجامعات الأجنبية في مصر كما أعلنها وزير التعليم نفسه. فهل تعي هذه الطبقة أن حكمها سيضعف بتضييق قاعدة الاختيار؟ أم أنها تتكفي بطموحاتها القصيرة النظر في مزيد من الاستيلاء على الثروة والسلطة الآنية والاستئثار بها، دون الوعي بالضعف الحتمي لقوة الدولة على المدى المتوسط، والذي ينخر في عظامها أمام أعيننا من الآن؟! وي كأنهم لم يتعلموا شيئا خلال ذلك التعليم المتميز الذي حصلوا عليه في أن التزاوج العائلي المحصور يضعف النسل! أو كأنهم مساقون لتأكيد تخريب مستقبل هذا البلد بعد أن دمروا حاضره! ضمانا لبقاء إسرائيل آمنة مستقرة، إسرائيل التي بدأ مقاومة مشروعها الصهيوني الملك فاروق! واستكمله عبد الناصر، وهزم كلاهما في 48 و67 في إطار نفس المخطط الإمبريالي للإمبراطورية الأمريكية التي ورثت البريطانية التي عجل ناصر بانهيارها. لكن البعض يسقط الهزيمة الأولى من التاريخ ولا يرى إلا الثانية!، ولا يتذكر إلا عصر الليبرالية كما يسمونه، فقط لضرب معنى المشروع الناصري المنحاز إلى الكادحين الذين يتم دفعهم بقسوة إلى مزيد من أسفل السلم الاجتماعي، فالمهيمن الأمريكي يعرف ذلك طبقا لآليات العولمة ونتائجها الحتمية، ولكنه لايرضى بغير مزيد من الإصلاح الليبرالي والدمقرطة كما يحلو لهم التسمية، كما كتب بروس ك. رذرفورد في كتابة "مصر بعد مبارك (2007)، بينما لاتجد غضاضة في التغاضي عن ديكتاتورية الحكم في مصر بحسب تعريفهم أيضا، كما كتب جون هـ. برادلي في كتابه "داخل مصر".

العزة هدية ناصر للمصريين

بعد رحلته الإنسانية الدرامية، فأهم ما يمثله عبد الناصرإذن هو العدل الاجتماعي الذي يكرهونه، وهو من مشتقات العدل باعتباره من القيم الإنسانية المطلقة، مابعد الرحمة. ومن هنا أعتقد أن من الإنصاف أن يتم تقييم المشروع الناصري في تاريخ مصر المعاصر بالقيمة المكافئة التي يساويها في التغيير الذي يفرضه قانون مور على مدى الـ 39 سنة الماضية، والذي تساوي نسبته 1:1000,000 واحد إلى مليون، في البعد التكنولوجي (الحواسب) من النشاط الإنساني، وينطبق بقيم مكافئة على البعد الاجتماعي فيما نعيشه من تغيرات ثقافية حادة بفعل تطور الاتصالات والمواصلات والخدمات، وكما صورها المفكر الأمريكي دافيد هارفي في إطار نظريته عن انضغاط الزمان والمكان Space-Time Compression . نفس هذا المنطق ينطبق أيضا بقيم مكافئة أخرى على البعدين السياسي والاقتصادي في زمن المشروع الناصري. بمعنى آخر، فإن من يقيمون المشروع الناصري وأحداثه العظام، خارج السياق الزمني لعصره، إنما يستغلون حالة الجهل والتجهيل التي فرضوها على الشعب المصري، ولكنها لن تجدي نفعا في التقييم التاريخي القسري، فما أكثر من حاولوا تزييف التاريخ وفشلوا، لأن القوانين التي تحكمه تقع في إطار خارج سقف تفكيرهم القصير النظر، ذلك السقف الذي يقول بأن العدل من الثوابت الإنسانية التي تظل أبدا مطلقة فيما بعد الرحمة، ومن هنا تأتي القيمة الأبدية لجمال عبد الناصر وكل القادة التاريخيين الذين انحازوا إلى شعوبهم، ومن هنا تجب تحية ذكرى رحيلة كأقل واجب.

لا أجد أبلغ وأكثر مصداقية من تلخيص جون هـ. برادلي في كتابه "داخل مصر" (2008) لأكبر فرق بين مصر عبد الناصر ومصر مبارك بقوله (ص 195):

" إذا كانت هدية ناصر للمصريين هي إحساسهم بالعزة، فإن لعنة مبارك تكمن في خلق بيئة ثقافية حيث الصفات التي تعود بالنفع والمكسب هي فقط تلك المتميزة بالانتهازية الفاجرة وفقدان الكرامة."
 
بكل فخر واعتزاز وطني بمصر وزعيمها الراحل جمال عبد الناصر، تحية للكادحين الذين يقبضون على الجمر حفاظا على كرامتهم وعزتهم التي استعادوها مع عبد الناصر، وذلك في الذكرى 39 لرحيله، رغم أنف المستحوذين الجدد على ثروة مصر والذين يرعبهم مجرد ذكر اسمه، لا لشخصة، فهو إنسان أولا وأخيرا، له ما له وعليه ماعليه، ولكن لما يمثله، ويعرفون يقينا أنه تهديد لمصالحهم، ومصالح المهيمن الأمريكي الذي يدعمهم ويحركهم، وشريك "السلام!" الصهيوني الذي يرقب ويسجل خطاهم وما خفي كان أعظم!..

........................................

بدون تعليق

بعد كتابة هذا المقال ونشره، وفي مصادفة مع حلول ذكرى وفاة ناصر في 28 سبتمبر 1970، وقعت على خبر أستأذن في إضافتة كمقدمة، بدون أي تعديل في المقال، وبدون تعليق أيضا:

كتب دافيد أ. جراهام في 22 سبتمبر 2009 في جريدة النيوزويك الأمريكية مقالا بعنوان "المحَوِلون Transformers" عن هؤلاء القادة الذين أعادوا تشكيل بلادهم. جاء جمال عبد الناصر (14 سنة في الحكم) ضمن قائمة من 11 زعيم استطاعوا تحويل أممهم جذريا. ضمت القائمة لويس لولا الرئيس البرازيلي ومارجريت ثاتشر البريطانية وهلموت كول الألماني ونلسون مانديلا الجنوب أفريقي ودينج هسياو بينج الصيني و زايد بن سلطان آل نهيان الإماراتي.

جاء في تقييم ناصر أنه " على الرغم من أن معظم أفكاره قد تم التخلي عنها، إلا أن ناصر بسبق واضح هو الزعيم العربي الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. في 1952، وفي عمر 34 سنة، قاد مجموعة من شباب ضباط الجيش الوطنيين لخلع الملك فاروق، آخر سلالة الملوك الفاسدين المتهتكين الذين حكموا مصر – غالبا تحت توجيه أجنبي – منذ 1905. بدأ برنامج سريع لتحديث الاقتصاد المصري، شاملا سد أسوان (يقصد السد العالي). وعندما سحبت كل من بريطانيا وأمريكا الوعود بالقرض في 1956، أمم ناصر قناة السويس، بغرض استخدام عوائدها في بناء السد.
 
ورغم أن الهجوم البريطانيي، الفرنسيي الإسرائيلي كان ناجحا عسكريا، إلا أن ناصر استطاع أن يعبئ الرأي العام العالمي – بما فيه الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، ودول عدم الانحياز – دبلوماسيا إلى إفشال نتائج الغزو. بعد ذلك حول ناصر نفسه إلى حامل لواء العروبة والوحدة العربية وفيما بعد القومية العربية التي مازال مفهومها قائما، وذلك بقصد تبني الأفكار الاشتراكية في الثقافة العربية. توفي ناصر على إثر أزمة قلبية بينما هو في مكتبه عام 1970، تاركا مصر التي تغيرت ولكن أيضا ترك طموحات محبَطة"


26 سبتمبر 2009
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية