مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 المصيبة الحقيقة ...
...............................................................

بقلم : مسعد غنيم
.....................


مشهد عصبي في واشنطن
كالمعتاد، وفي سمة لازمة للحقبة المباركية، فإن "أقباط المهجر" قد خططوا خططهم، وأعدوا عدتهم، وشحنوا معنوياتهم لاستقبال الرئيس مبارك في زيارته لواشنطن 2009 بعد انقطاع دام خمس سنوات. إلى هنا وليس في الأمر أي مفاجآت. ولكن شدة أو حدة نغمة "المشاغبة" هذه المرة يبدو أنها فاجأت السياسي المخضرم د. مصطفى الفقي أثناء زيارته التمهيدية لواشنطن للإعداد لزيارة الرئيس. ففي اجتماع عقد بكنيسة قبطية انفلتت أعصابه على إثر سؤال، وإن يكن مستفزا، من شابة أمريكية مصرية الأصل مسيحية، ربطت فيه بين استمرار حكم مبارك، وانتشار الفساد، وزيادة اضطهاد الأقباط. إلا أنه اعتبر أنها تجاوزت حدود الوطنية المصرية وأصول أدب الحوار حينما اتهمته بالتضليل. تلك كانت لقطة أظهرت جرأة أو وقاحة التجاوز عندما تفاجأ اطمئنان أو غرور التعود!. ولعل هذا هو ما حرك جهاز الرئاسة، طبقا لكاتب الدستور المبدع الساخر جمال فهمي، إلى استبداع بدعة ذكية وهي أن يؤجر الرصيف المقابل لمقر إقامة مبارك أثناء الزيارة، منعا لأي تجمعات معارضة أو محرجة!. تلك كانت القراءة الأولية لذلك المشهد العصبي. أما القراءة المتأنية له فتقول أشياء مختلفة!. إن المشهد له دلالات أعمق من مجرد إثارة حدث إعلامي. فهو قد وقع على مستوى قريب من القمة السياسية وإن كان يلبس ثوب المعارضة!، ومن شخصية محسوبة على الاعتدال وبعيدة عن التعصب! لأن الفقي وكما أوضح هو نفسه، قد بدأ حياته المهنية برسالة الدكتوراه عن "الأقباط فى السياسة المصرية» مع دراسة تطبيقية عن شخصية «مكرم عبيد» الزعيم الوفدى قبل الثورة المصرية، وأنه طالما أولى "الشأن القبطي" موقعا مركزيا في اهتماماته وهمومه الوطنية. لو أن هذا الصدام حدث مع رمز من رموز التيار الإسلامي لما كان في الأمر أي مفاجأة!.
تولد لدي انطباع سلبي عميق حيث قرأت في المشهد دلالتة الواضحة من حيث أنه نقطة ذات أهمية نوعية تضاف إلى باقي نقاط الاحتقان الطائفي في مصر بكل دوافعه واستثماراته الخارجية باستراتيجية "فرق تسد" منذ الاحتلال الفرنسي فالانجليزي فالأمريكي الصهيوني، وبكل بواعثه وتداعياته المحلية بغباءات بعض المسلمين والأقباط على السواء، وبكل زخم وضغط رياح الحرية الأمريكية التي دفعت بأشرعة "أقباط المهجر" إلى مياه لم تكن لتسبح فيها منذ سنوات قليلة مضت. وصار من المقلق رؤية تراكم تلك النقاط وهو يشكل منحنى صاعدا بقوة الخطر، ويبدو أنه لم يصل إلى قمته المأساوية بعد!.

...ومشهد سخيف في سيناء
من ناحية أخرى تبدت إرهاصات تلك الزيارة في بعدها القبطي مع ازدياد معدل المنشور من مقالات العقلاء من الكتاب والمحللين عن الشأن القبطي. ، فنقرأ لأستاذنا محمد دياب في القدس العربي ما يشعرنا بتصاعد خطورة إرهاصات تقسيم مصر رأسيا وأفقيا بحسب تعبيرة وتعبير غيره أيضا، وذلك من جراء نشاط من سماهم بالانعزاليين الأقباط، خاصة في المهجر. ثم نقرأ لإبراهيم عيسى في الدستور نقده الحاد والصريح كعادته، لما رصده وحلله بنفسه من تحيز اختياري وطوعي من أفراد مؤسسة الشرطة ضد الأقباط. وكان ذلك عقب شكوى تقدمت بها فتاة مصرية مسلمة كانت في طريق عودتها في سيارة مع صديقها المسيحي من رحلة سياحية لسيناء بعد أن سبقتهم مجموعة أصدقاؤهم. شكوى الفتاة أنه تم احتجازها مع صديقها المسيحي بمعرفة الشرطة في سيناء، حيث تم الاستفسار المركز والخشن والتأخير المتعمد بدون أي وجه حق اللهم إلا كونها مسلمة وصديقها مسيحي!. بل إن الضابط الكبير في نهاية مسار التحقيق نصب من نفسه مفتيا حاميا للإسلام وأبا مرشدا ومنقذا للفتاة المسلمة من مغبة الانزلاق مع صديقها المسيحي!، هذا رغم اعتراض الصديقين اللذين تبقيا وحدهما.

...ومشهد متوتر في الدقهلية
ولعل أخطر ما قرأت في هذا الشأن هو ما كتبه د. حسن أبو طالب من مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام في أهرام 2 سبتمبر 2009، مقال بعنوان "الوحدة الوطنية مسئولية قومية وليست عبثا"، حيث علق على أحداث "فتنة طائفية" تسبب فيها قرار خاطئ لمحافظ الدقهلية سمح به بإقامة مولد ميت دمسيس (مسيحي) ولم يسمح بذلك لمولد آخر للشيخ محمد بن أبي بكر الصديق‏، ‏في الوقت الذي صدر فيه قرار وزاري بمنع الموالد (كلها، مسلم ومسيحي) لأسباب تتعلق بالصحة العامة لجموع المصريين، خوفا من انتشار فيروس انفلونزا الخنازير بين المشاركين في هذه الموالد. هذا رغم أن القرار الوزاري واضح‏,‏ فهو لا يميز بين موالد مسلمة أو أخري مسيحية‏، وبنص تعبير حسن أبو طالب في نقد عبث العابثين بالوحدة الوطنية من أقباط مهجر وأقباط الداخل والمسئولين المسلمين على حد سواء:
‏"هذا العبث هو الذي يصور الأمور علي عكس حقيقتها‏,‏ وهو الذي يشحن بعض ضعاف النفوس بقوة زائفة بغية شهرة عرجاء أو مصلحة شخصية أو انتصار وهمي علي جزء من الأمة لن يستطيع أحد أن يخرجهم من حيث هم حتي لو امتلك دعما دعائيا أو سياسيا من أكبر قوي العالم المعاصر‏.‏ فالحقائق علي الأرض أقوي من كل خيال جامح‏.‏"

مصيبة المثقفين
صدمتني تلك الفقرة بشدة!، رغم المنطق الواضح للقضية الذي دفع به الكاتب والذي لا يقبل اختلاف العقلاء فيه، فليس موضوع القضية هو ماصدمني، ولكن الذي فعل هو لغة خطاب الدكتور عضو مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام!. ففي مقارنة مع لغة الخطاب القوية والصريحة لإبراهيم عيسى في الدستور، لغة شفافة لا تتخوف من نقد الشرطي المسلم صاحب الأغلبية عندما يضطهد قبطيا من الأقلية!؛ نجد أن لغة خطاب الأهرام هي أقرب للغة استخذاء أمام لغة استقواء!. استخذاء وضعف من الكاتب ومؤسسته ونظامه، واستقواء من "أقباط المهجر" ومن يشايعهم من الداخل!. فمن الواضح في لغة عضو مركز الدراسات الاستراتيجية، رغم حماسه الظاهر، أنها تتبع دبلوماسية أو"تقية" الصحف المسماة بالقومية في التعامل مع "الشأن القبطي" ذي الحساسية الدائمة وموضع الدعم الأمريكي المباشر!. فقد حرص الكاتب على الإشارة إلى الأغلبية المسلمة بالـ "جزء" ولم يضف صفته المميزة وهي "الأكبر"!. وكأنه من المستفز لأشقاء الوطن ذوي الأقلية العددية أن نصف الكثير بالكثرة!. ليس مما يعيب المسلمين أنهم الأغلبية الساحقة بلغة السياسة وصندوق الانتخابات. كما أنه ليس مما يشين المسيحيين أنهم الأقلية. فالكل سواء في المواطنة في الوطن الواحد، وليس هناك وطن تقريبا بلا أقلية!. في هذا فإن كاتب المقال لم يختلف كثيرا عن موقف المحافظ الذي منع مولدا إسلاميا وسمح بمولد مسيحي، مجاملة أو رضوخا لضغوط سياسية.إن اعتبارات العدل بإحقاق الحق لأهله بغض النظر عن دينهم أو جنسهم، سواء كانوا أغلبية أو أقلية هي الأولى دائما وهي الأبقى دائما، فبغياب العدل تنحدر الأمم وتزول الدول!

استدعاء العدل شجاعة
إن إحقاق حق الأغلبية بغض النظر عن شبه التحيز لهو من صميم العدل، بل هو أعلى درجات العدل فيما أعلم، ذلك العدل نفسه هو الذي يضمن إحقاق حق الأقلية حتى بشبهة الاستقواء بالآخر!. وليس المقصود هنا استعداء أحد على أحد، حاشا وكلا. ولكن المقصود ببساطة هو استدعاء العدل، فالعدل، رغم حساسية الملف الديني، هو فقط ما يوحد مصر وغيابه هو ما يفرقها. ومصر بالتعريف هنا ليست كيانا هلاميا عصي على التعريف، بل هي من أشد بلاد العالم تعريفا: "مصر"، البلد الوحيد بالاسم المطلق دون تمييز. لغويا، فالأمصار كثيرة بكثرة دول العالم، فالعراق مصر وتونس مصر ونيجيريا مصر والأرجنتين مصر وفرنسا مصر، ولكن مصرنا فقط هي مصر وكفى. مصر تلك، هي نتاج الجيولوجيا فالجغرافيا فالتاريخ الذي صنعه في الزمن ذلك التفاعل المبدع بين الإنسان والنيل على أرضها. إن حاضر مصر بكل قبحة الآني وبقايا جماله الغابر، يمثل خلاصة ما انصهر وذاب في تلك البوتقة: مصر كما وصفها جمال حمدان، عبر آلاف السنين منذ ما قبل الأسرات وقبل المسيحية وقبل الإسلام وحتى الآن.

الجهل المخجل
كان هذا عن لغة خطاب مقال الدكتور عضو مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام ودلالاتها، أما عن معنى الخطاب، فالمصيبة أنكى وأمر!، أو هكذا أرى. فقد أورد جملة نفي قاطعة بأنه " لن يستطيع أحد أن يخرجهم (يقصد المسلمين) من حيث هم حتي لو امتلك دعما دعائيا أو سياسيا من أكبر قوي العالم المعاصر‏". والجملة للأسف تنطق بالضعف والاستخذاء وليس بالشجاعة ولا المنطق كما يحاول الكاتب. بل أعتقد أننا هنا أمام حالة نفسية يمكن لعلم النفس أن يفسرها لنا، حالة من الخوف الذي يأخذ شكل الشجاعة!. ببساطة إن دعاوي "الإخراج" تلك لاترقى من العقل منزلة ولا من الواقع موقعا، ولا من العلم شأنا يجعلها مناط مناقشة أصلا. وليس في هذا استعلاء غبيا، أو استخفافا بمنابع خطر محتمل، فعقلاء مصر، وهم ليسوا قله، أقباطا ومسلمين، على طول تاريخ مصر منذ أن قبلت أولا بالمسيحية دينا نسخت به آلهة الفراعين، ثم رحبت بالإسلام ثانيا دينا سماويا مؤمنا بإله المسيحية الواحد. هؤلاء لهم مواقفهم المعروفة والمسجلة والتي تستلهم تاريخ أكثر من 30 ألف سنة هي عمر هذا الوادي، وادي النيل، مصر، منها عشرة ألاف سنة حضارة زراعية ممتدة، وسبعة آلاف حضارة مكتوبة مستمرة.

كانت هناك مفاجأة خاصة بي بشأن هذا الموضوع. فقد خطر لي أن أرجع إلى رأي الدكتور جمال حمدان في هذا الشأن القبطي، وقد تذكرت أن له رأيا في ذلك في موسوعته "شخصية مصر". وكانت المفاجأة أن ليس هناك أي مفاجأة!!. لم أجد هناك أي مفاجأة فيما يحدث من فصيل قبطي هنا، وفصيل مسلم هناك، فقد سجله جمال حمدان بحس تاريخي يبدو لي أبديا لا يعرف للزمن تأثيرا. فقد استخلص جوهر الأحداث ووصل إلى مبادئ الأشياء التي لا تتغير بتغير الزمن. وهناك، في الجزء الثاني من "شخصية مصر" وجدت لدهشتي تلك الصيحة من بعض أقباط المهجر التي حسبتها وحسبها د. حسن أبو طالب جديدة، وجدتها قديمة سبق إطلاقها من بعض من أشقاء الوطن الأقباط :" فليعودوا إلى صحراء العرب التي أتوا منها!" التي أطلقوها في عصبية مفلوتة بعد هزيمة يونيو 1967!". وهي صيحات كما يصفها الرائع د. جمال حمدان قبل ثلث قرن مضت! يصفها بأن " أغلبها ينبع لا من سوء النية ولكن من سوء المعرفة إن لم يكن الجهل المخجل حقا". ولأن ما قاله جمال حمدان عن الشأن القبطي تضيق به مساحة هذا المقال، فلنا عودة في مقال قادم نتعرض فيه بالتفصيل لرؤية جمال حمدان وتحليله الرائع لذلك الشأن في بعده التاريخي والجيوسياسي.

الخوف من الخوف
جاء نفي حسن أبو طالب لإمكانية "إخراج المسلمين" من مصر، نفيا بطعم الخوف من الإثبات!، نفيا يورث ضعفا مذهلا لايتصور من كاتب مثله. إن ماكتبه له دلالة خاصة وهي أنه كشخص من المفترض فيه أنه من صفوة المثقفين قد نال منه طول التصايح فتملك منه الخوف!، وذلك في حد ذاته يسقط عنه صفة الصفوة أوالنخبة من المثقفين بسقوطه في مستنفع الخوف الذي لا يأتي إلا من الجهل المخجل حقا بتعبير جمال حمدان، ولا يؤدي إلا إلى أسوأ الكوارث عندما تتوتر الأغلبية بالخوف في مواجهة أقلية لا ينقصها الخوف رغم علو صوتها. إن الخوف هو أقصر طريق للعنف الغريزي الذي يصعب السيطرة عليه، هكذا أفهم من علم النفس.

المصيبة الحقيقة: الجهل القاتل
ثم خطر لي أن أستشير من هو أدرى بشعاب مكة، خاصة عندما راعني هذا الموقف المتهافت ممن يفترض فيه العقل والحكمة، فسارعت بالاتصال بصديقي الحكيم الأستاذ منير مرقص، وكيل وزارة بالمعاش عمل في إحدى الوزارات السيادية بنجاح مرموق، وسألته ما هذا الذي يجري من خبل المسلمين والأقباط؟ فأجابني بتلقائية وبساطة الحكماء، وفي غير مفاجأة أيضا، أن كل ذلك تفاهات لاتستحق الوقوف عندها، فالمصيبة الحقيقة تتجلى في قرار السفارة البريطانية في القاهرة غلق مكتبتها العريقة لأن المصريون (مسلمون ومسيحيون) ما عادوا يقرأون!!! فعندما تغرق السفينة إلى هذا الحد فإنه لا فرق بين غريق مسلم وغريق مسيحي! تلك هي المصيبة الحقيقة. صدقت ياأستاذي الحكيم/ منير مرقص، وبمناسبة رمضان فإني عازمك وأسرتك العزيزة إلى مائدة إفطاري يوم الجمعة القادم، لنناقش كيف يمكننا أن نقرأ أكثر!.

الخلاصة هي أن السؤال الأهم والأخطر لا يجب أن يكون عما إذا كان يمكننا أن نتفادى غباءات المسلمين والأقباط في مصر، ولكن عما إذا كان يمكننا أن نتفادى الغرق في كهوف الجهل، هذا قبل أن نغرق فعليا مع الدلتا التي لايختلف العلماء على حقيقة غرقها مع احترار المناخ العالمي، ولكن يختلفون على متى تغرق!. بل وأزيد أن ما نحن فيه من خبل وهطل منسوب إلى الدين ليس جهلا مخجلا فقط كما وصفه جمال حمدان، بل هو الجهل القاتل الذي ينتهي بنا في مصر إلى الانتحار الحضاري!
3 سبتمبر 2009

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية