| | | | مــن ذا يُحـطِّم رَفْـرَف الجـوزاء? ...............................................................
مسعد غنيم ..............
في هذا الزمن القبيح أعاد الليبراليون المصريون الجدد، مسخا وغباء، ألقابا عفا عليها الزمن، فجاءت خارج سياقها التاريخي التي حملت فيه معنى متطابقا مع واقع اجتماعي، رغم استقطاب هذا الواقع للشعب المصري في قطبين متباعدين أشد ما يكون التباعد الاجتماعي. القطب الأول هو قطب الـ 5% وانحصرت فيم ألقاب "بكوات" و "بشاوات" من إقطاعيي وكبار تجار المصريين وطبقة الأنتليجنسا في القاهرة، وهم الذين شكلوا قشرة الليبرالية المصرية قبل ثورة يوليو 1952 ، تلك القشرة التي لم تصل أبدا بجذورها لعمق الطين المصري. ولم يكن هناك رأسمالية مصرية بالمعنى الحقيقي كالتي يزعمها الآن طبقة رجال الأعمال المحدثين أنهم امتداد لها، استجداء لمصداقية في احتراف رأسمالية كشف الواقع فشلهم الذريع في إدارتها، كما فضح ادعائهم في احتراف "أجيالهم السابقة" لها، ويزعمون تلك الوراثة الرأسمالية أيضا لتأمين شرعية وراثة مصر، سلطة وثروة. والقطب الآخر هو قطب الغالبية الساحقة من الفلاحين المطحونين والعمال المستغلين (لدى الشركات الصناعية الكبرى التي يملكها ويديرها الأجانب!) وتشكل الـ 95% من الشعب المصري. كانت نتيجة استنساخ زمن ومناخ إجتماعي مضى وقته، مسخا مشوها ممثلا في ضابط شرطة صغير لايكفيه مرتبه أن يعيش في مستوى أي ضابط شرطة أو حتى معاون في العالم حولنا، وقد أصبح "بيه"، وفي تاجر مخدرات أو محترف "تسقيع" أرض الدولة بعد اغتصابها أو تعاطيها منحة ممن لايملك!، أو مستول على مصنع قطاع عام بالتواطؤ والفساد، وقد أصبح "باشا"، وبالعدوى الاجتماعية المباشرة أصبح الميكانيكي الأمي (مع احترام مهنته) "باشمهندسا"، وهلم جرا.... خطرت لي تلك المقدمة لأبدأ بها هذا المقال الذي أنتوي فيه أن أعزف على نفس اللحن الذي ردده "الأستاذ" هيكل. فعندما ينطق الأستاذ فعلى التلاميذ وعي الدرس وفهم الإشارة. ومقالي هذا بعض صدى من تلميذ لحديث "الأستاذ" على قناة الجزيرة اليوم الجمعة 28 أغسطس 2009. ولقب "الأستاذ" هنا لم تفرضه سلطة، ولم يطلبه صاحبه فيما أظن، وإنما فرضه واقع الأستاذية التي أرسى قواعدها ذكاء نادر مشهود، وإنتاج أدبي سياسي غزير، ودور تاريخي عظيم في فترة متوهجة بالعزة والكرامة أيام "الريس"، و "الست"!. طبعا فمجرد ذكر الريس والست هنا لايتطلب مزيدا من التعريف، فليس هناك "ريس" إلا ناصر، وإن كان هناك رؤساء!، وليس هناك من "ست" إلا أم أكلثوم، وإن كان هناك مطربات تخيلنا صدورهم وخصورهم المغنية على شاشات الفضائيات العربية! ولاننسى اللقب الأصلي للباشا، فالباشا الأصيل في مصر هو محمد على "باشا" مؤسس مصر الحديثة، وما بعده استنساخ باشوات درجة ثانية ثم ثالثة ثم.....حتى انحدر الحال إلى أن وصلنا للباشا الحرامي! والباشا تلميذ!. تلك كانت الألقاب وإلا فلا، ألقاب لايستطيع الليبراليون الجدد المصريون أن يشتروها لأي رئيس أو "أيتها" هانم أو أي رجل أعمال و راقصتة المغنية قبل أن يقتلها!، حتى ولو أنفقوا كل ما استحوذوا عليه بالحق أو بالباطل من ثروة مصر، ولو اختطفوا السلطة لمائة عام!!. بعبقرية مغلفة بالحب الإنساني بين "الأستاذ" و "الريس"، اختار "الأستاذ" ما يناسب المقام من مقال، وبما يليق بـ"الريس" من الأقوال. فقد اختتم "الأستاذ" حديثة عن مأساة 67 وعن "الريس" ببيتين من شعر "أمير الشعراء" (شوقي طبعا) في رثائه لـ "شاعر النيل" (حافظ طبعا): مـا حَـطَّموكَ, وإِنمـا بـكَ حُـطِّموا مــن ذا يُحـطِّم رَفْـرَف الجـوزاء? اُنظُـره, فـأَنت كـأَمْسِ شـأْنُكَ بـاذخٌ فـي الشـرقِ, واسْـمُكَ أَرفعُ الأَسماءِ اختار الأستاذ أن يؤخر تلك الخاتمة العبقرية لنهاية الحديث التليفزيوني ولنهاية حكاية يونيو 67، ليؤكد ثوابت التاريخ وسط صخب المتغيرات التي يضخمها أصحاب العقول الصغيرة والرؤى المحدودة، ليبرروا لأنفسهم ولنا "واقعية" الرضوخ للأمر الواقع والاستسلام أو التطبيع مع "العدو" (الصهيوني طبعا)، من أجل مغانم موقوته (لهم طبعا). ويسجل الأستاذ ذلك للأجيال القادمة، بالقلم والصوت والصورة، ليبقي على ذاكرة الأمة في وجه طوفان التمييع والطمس والتزييف. يفعل الأستاذ هذا من موقع المسئولية الأدبية التاريخية التي تحملها سنونه التي تخطت الثمانين، والتي يستشعرها بحس تاريخي عميق ورؤية حياتية صافية استخلصها بعقل ذكي من "تجربة حياة"، ووصل فيها بحكمته إلى حد أقصى في التمييز بين الغث والثمين، وبين الزائل والباقي. ولنا فيما نري من رئيس ليس بـ "ريس" كيف اختار الزائل من التاريخ ممثلا في ملك عضوض له ولخلفه، وعمي عن ثوابت التاريخ بذكاء شديد!!
كانت الحلقة الأخيرة التي تحدث فيها الأستاذ عن ملحمة يونيو 67 ذات دلالات كثيرة وعميقة، لعل أعمقها فيما أفهم هو التذكير لمن عاصر تلك الأحداث، والتوصيل لمن لم يحضر، بالمشهد المهيب للشعب السوداني الذي زحف بالملايين من كل الولايات إلى الخرطوم ليقول للبطل "المهزوم" في يونيو 67 "عاش ناصر" وذلك صباح انعقاد القمة العربية في الخرطوم لبحث سبل التعافي من الهزيمة والإعداد للقتال من أجل الحق، في نفس تاريخ اليوم منذ 42 عاما في 28 أغسطس 1967. وكما يفسر الأستاذ، فلم يكن خروج الشعب السوداني مطعونا فيه بالعاطفية في رد الفعل كما طعن في خروج الشعب المصري في 9 و10 يونية بردة الفعل العاطفية على أثر الهزيمة والتنحي. هذا لأن المشهد السوداني كان في نهاية أغسطس 1967، أي بعد زوال صدمة الهزيمة بثلاث شهور ظهر فيها حجم الخطأ وفداحة الخطيئة من أي من كان، وللجميع. أي أن خروج الشعب السوداني ممثلا لشعوب الوطن العربي كان واعيا مدركا لقيمة اللحظة التاريخية، وفاهما بذكاء فطري ليس بغريب على الشعب السوداني، لقيمة البطل القومي المخلص لأمته حتى ولو كان مخطئا ومهزوما، فالمعيار هو الإخلاص والاجتهاد. وهذا ما أشار إليه الأستاذ من نشر مجلة النيوزويك وعلى صدر غلافها صورة "ناصر" ذلك الزعيم المهزوم الذي تحييه الجماهير Hail the Conquered!، بدلا من التحية التاريخية للمنتصرين Hail the Conqueror.
ولعل عندي ما أؤكد به أن حركة جماهير مصر في أعقاب يونيو 67 وحركة جماهير السودان كلتاهما يعترف بهما كل من علم الجغرافيا السياسية وعلم التاريخ، فيما يشبه النمط أو المنظومة التي تؤكدها ثوايت التاريخ ولا تزيف وعيها عوارضه ومتغيراته. قال بنظرية "النظم التاريخية" عالم التاريخ وورلاشتاين (2004 Wallerstein)، استنادا على، واقتباسا من مدرسة أناليس الفرنسية للتاريخ Annales School of History ، وهذه النظرية تقول بضرورة النظر إلى التاريخ "من أسفل"، وليس من أعلى!. وتقول بمنظومات أو نظم عالمية World-Systems تحكم التغيير الاجتماعي في العالم، وهي التي تشكل الأساس لعلم الجغرافيا السياسية الحديث. هذه " المنظومة" تقول بـ "أهمية دراسة وفهم البنى Structures والعملياتProcesses التاريخية على المدى الطويل، بدلا من التركيز التاريخي على "الأحداث الكبرى" و "الرجال العظماء". وتقول بأن التركيز على الصورة الكبيرة يوفر منظور شامل للبنى والعمليات، كما أن التركيز على الخبرات اليومية والتغيرات الثقافية يعني أن البنى والعمليات هي نتاج أفعال اجتماعية وليست قضاء وقدرا أو لايمكن تغيييرها. وأن التركيز على الخبرات اليومية يعني أن منظور الجغرافيا السياسية هو "من أسفل" أو هو مشكل ديموقراطيا. وإجمالا، فإن أنشطة الأفراد والجماعات والدول توضع في سياق بنى كبيرة ويظهر أنها تحافظ على تلك البنى وتتحداها."
من هذه الزاوية، زاوية النظم التاريخية، أستطيع أن أرى أن موقف الشعب السوداني هو الذي حسم موقف القمة العربية في الخرطوم لصالح "الصمود والمقاومة" والإصرار على استرداد الحق والاستعداد للمعركة القادمة، والتي كانت في 1973، بعد أن أعد "الريس" وخطط لها ودرب جيشه الجديد عليها قبل أن يرحل عن عالمنا فجأة عام 1970، سواء طبيعيا أو اغتيالا، فالأمر سيان طبقا للنظرية، فالرجال العظماء تأتي قوتهم من الشعوب الأصيلة في المواقف الفاصلة، وهذا ما أكده الأستاذ حيث ذكر أن "الريس" قد عادت إليه الثقة بالنفس رغم انكسارها، وقاد القمة كعادته زعيما وبطلا، ورضخ فيصل السعودي الحكيم لرغبات الشعب السوداني ممثلا للشعوب العربية، فأضاف لمعنى البطولة بعدا للحكمة كما تبلور فيما بعد في انتصار 1973، وربما كان الاغتيال من نصيبه أيضا لهذه الأسباب. ولكن الشعوب تظل باقية أبدا، بحكمائها من "الأساتذة" وبوعيها بتاريخها الذي صنعته مع أبطالها، لا يزيف ذلك الوعي "كدابو الزفة" أو جوقة "ثقافة الهزيمة"، وذلك لحين عودة من يقود ولا ينقاد، فيستحق لقب "ريس".
ذلك كان "الريس" الذي تحل ذكرى رحيلة الـ 39 في 28 سبتمبر القادم، ذلك "الريس" الذي استحق أن يخلع عليه "الأستاذ" قول "أمير الشعراء": مـا حَـطَّموكَ, وإِنمـا بـكَ حُـطِّموا مــن ذا يُحـطِّم رَفْـرَف الجـوزاء? اُنظُـره, فـأَنت كـأَمْسِ شـأْنُكَ بـاذخٌ فـي الشـرقِ, واسْـمُكَ أَرفعُ الأَسماءِ 28 أغسطس 2009
06/11/2014
مصرنا ©
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|