مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 السفر في نهر زمن الجنون....
...............................................................

بقلم : مسعد غنيم
....................


كثرت تساؤلات الجادين والمهمومين من المفكرين والكتاب عما يجري بمصر في عصر العولمة وعن مصيرها في المستقبل القريب والبعيد، هذا على تنوع اتجاهاتهم، وباختلاف مجال التساؤل من سياسي إلى اجتماعي إلى اقتصادي إلى تاريخي وأخيرا ديني. تكاد تكون المحصلة النهائية للإجابة على تلك التساؤلات هي الإبهام في أفضل الحالات والجنون في أسوأها. على مستوى البعد الرابع في الرياضيات وهو الزمن، فإن المشهد المصري يبدو أن الجنون التاريخي هو أقل ما يمكن أن يوصف به، وأن نهر الجنون الذي أشار إليه الأستاذ هيكل في تعليقه على المجزرة الصهيو-أمريكية في غزة، يبدو لي فقط أحد روافد متعددة لنهر زمني قوامه الجنون والعدمية! يكتسح كل ربوع مصر وينحر مسارها التاريخي في انقلابة جنونية، أكثر حدة من انقلابة النيل عند قنا، نحو الماضي، احتماءً أو إحياءً، وأراه في إطار انطباعي دفنا للحياة ووأدا للمستقبل.

هناك إجماع على أن التغيير الحادث في العالم كله الآن يتم بمعدلات غير مسبوقة ولا متخيلة، على كل أصعدة النشاط الإنساني. ربما تكون أكبر نقطة إنقلابية في معدل التغيير على الصعيد الجيوبوليتيكي هي انهيار الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة معا 1989، فأطلقت أول إشارات إلى رحلة السفر في نهر زمن الجنون إلى الماضي حيث حررت كوامن العقيدة وأظهرت عقد القوميات بشكل عولمي كما حللها هننجتون. وربما تكون واقعة 11 سبتمر 2001 هي نقطة بدء تسارع جنوني للجيوبوليتيكا الأمريكية، أطلقت مارد الحرب العالمية الثالثة لثماني سنين دموية، لم يخف منها غير حدة النبرة وتغيير المسميات بعد تولي أوباما عرش الإمبراطورية العالمية. ولكن حدسي الشخصي يلح على بنقطة تحول عالمية كبرى أخرى، لاتركز الميديا العالمية أو حتى البحوث الأكاديمية (فيما أعلم) بالطبع علي قدر مركزيتها في تشكيل التاريخ الحديث، نقطة أظهر الزمن بوضوح عمق جذورها وقوة تأثيرها وشمول وعالمية خطورتها، ألا وهي اغتصاب فلسطين وزرع إسرائيل 1948. بل وأرى بوضوح أن حدث إنهيار الاتحاد السوفييتي إنما هو أحد نتائج زرع إسرائيل، وأستطيع أن أرى بوضوح أكثر أن حدث 11 سبتمر هو نتيجة مباشرة لهذا الزرع وذاك الاغتصاب.

من موقع الانطباع، تبدو لي الصورة المعلومة للجميع عن تاريخ العالم الحديث، أن انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 هي التي حددت نقطة الصفر في بدء الرحلة النهرية في زمن الجنون، كيف؟. أعتقد أن هناك مغالطة وخدعة تاريخية كبرى في تسمية تلك الحرب بالعالمية، فهي في رأي الخبراء حرب أوروبية بالدرجة الأولى حتى ولو اتسعت لتشمل بقية العالم جغرافيا. وهذه الحرب أنهت صراعا أوروبيا داخليا وأزليا منذ وعيت أوروبا لنفسها بمطلع عصر النهضة في القرن الخامس عشر وبدأ عصر الاستعمار في العالم القديم، والإبادة العرقية والاستيطان في العالم الجديد. بمعنى فيزيائي فإن الأجزاء الأوروبية والغربية المتصارعة كان لابد لها أن تتجمع طبقا لظاهرة التجمع Clustering. استغرق هذا التجمع من أوروبا والغرب ما يقرب من نصف ألفية لكي ينضجا ويتوحدا. وربما نكون الآن وكما يرى الكثير من المتفائلين والمتشائمين معا، في مخاض التجمع على مستوى أكبر، وهو العالم بأسره، مخاض قد يجمع العالم باتجاه خلاصه المادي والروحي، أو تدمير الجنس البشري نفسه.

كان لابد أن تنعكس نتائج ذلك التجمع الفيزيائي الكوني على مصر والمصريين. ففي تحليل اقتصادي اجتماعي رأي جلال أمين فيما يحدث للمصريين أن مرضهم ليس سياسيا محضا بل هو اجتماعي اقتصادي متوغل في أوساط المصريين وفي قلب المجتمع المصري بشكل يحتاج عقود لعلاج (جلال أمين – ماذا حدث للمصريين 1998). ومن منطلق استراتيجي تخوف فهمي هويدي في "الشروق- 15-8-2009 " من وجود مخطط إبادة المصريين بالإهمال الصحي والاجتماعي، ومن منظور سياسي إجتماعي تندر إبراهيم عيسى في "الدستور 15-8-2009 " على فوازير النظام المصري في العبثية والعدمية، بينما أبدى محمد عبد الحكم دياب من منظور ديني هواجسه على صفحات "مصرنا 15–8-2009" من مخططات الانعزاليين الأقباط وبدايات التقسيم الرأسي والأفقي لمصر.

بالإضافة إلى كل ماسبق من رأي ومخاوف وهواجس وتندر لكتاب ومفكرين متنوعين، ففي رأيي أن ماكتبه أحمد عبد المعطي حجازي في أهرام الأربعاء 12 أغسطس 2009 عن "الصاحي والنايم" ناقلا فيه رأي فؤاد زكريا، يمثل الر ابط الجوهري بالبعد الرابع وهو الزمن في رحلتنا في نهر زمن الجنون!. خلص حجازي إلى أن " الذي حققه دعاة الصحوة هو ذاته الذي حققه أصحاب الثورة‏:‏ الطغيان‏,‏ والتخلف والفساد والهزيمة والفوضي والفتن الطائفية والحرب الأهلية‏,‏ فصحوة السلفيين وثورة الضباط وجهان لعملة واحدة‏,‏ الضباط يستخدمون الدين‏,‏ والسلفيون يستخدمون العسكر‏,‏ وحكم النسر ـ كما يقول فؤاد زكريا ـ هو خير تمهيد لحكم العمامة‏!."‏المفارقة هنا، الأمر الذي فات حجازي بغرابة لا تتفق وذكائه!، هو أنه نفسه يمثل تيارا من تيارات الجنون للسباحة نحو الماضي مع الليبراليين الجدد الذين يخططون أو يحلمون بـ "صحوة" ليبرالية تعيد الزمن الجميل بعد ما اعتبروه تصفية لثورة يوليو 52!! ، مثلهم في ذلك حلم علاء الأسواني في عمارة يعقوبيان، وتفسير جون برادلي في كتابه (داخل مصر – 2007)، والليبراليين الجدد في ذلك، بعد أن جرت في دمائهم الدولارات الأمريكية، لايختلفون في شئ عن الإسلاميين في صحوتهم بعد أن جرت في دمائهم البترودولارات بحسب رأي جلال أمين، الكل يهرول للقفز في نهر زمن الجنون المتجه للماضي بكل سرعة!!.

لكي تستعر نار الجنون في عالم العبث والعدمية، ظهر إلى السطح الديني المسيحي مؤخرا في مصر "صحوة" قبطية تحيي الأمل في "الرجوع" للزمن الجميل قبل أربعة عشر قرنا! أيضا، قبل دخول العرب أو غزوهم لمصر وأسلمتها، يعني طرد المصريين العرب الغزاة!!، ولم لا، ألا يحلم الإسلاميين بالعودة، سياسيا واجتماعيا و...، لمجتمع المدينة المنورة أيام الرسالة؟، ولسان حال الانعزاليين يقول إذا كان الإسلاميين مجانينا، فنحن لسنا بأقل جنونا، وإذا استقووا بالبترودولار، فنحن نستقوي بالدولار نفسه! بل تم "إحياء" وإعادة نموذج "المعلم يعقوب" الساعد الأيمن للقائد الفرنسي لحملة نابليون في غزو الصعيد والذي رحل مع الحملة بعد فشلها بحسب كتاب بونابارت في مصر للكاتب الأمريكي Christopher Herald; 1962، ويقال في يعقوب الآن الشئ ونقيضه. فهو في المنظور الوطني للأغلبية المسلمة خائن من الطراز الأول، وهو في نظر أصحاب الصحوة القبطية رجل صاحب مشروع وطني (قبطي التوجه على الأرجح) وصاحب دعوة قومية لتحديث وإحياء مصر وليس خائنا!.

إن الاتجاه الماضوي والديني تحديدا على مستوى العالم مرصود بوضوح منذ سبعينات القرن العشرين، بلوره فلسفيا في قمته هننجتون في "صراع الحضارات"، ورصده تاريخيا أخيرا صحفيان أمريكيان ذكيان في كتابهما "عودة الإله God is back" في ارتداد تاريخي واضح عن مقولة فريدريك نيتشة (1844 - 1900) "متى يعلن موت الإله؟"
على المستوى السياسي المتحلل والمتخطي للزمن في العودة إلى الوراء في نهر زمن الجنون، يتم إحياء الفرعونية القديمة في فرعونية "حديثة" يتم فيها "انتخاب" الفرعون الجديد الذي هو بالصدفة "الديموقراطية" ابن الفرعون القديم!. هذا رغم الفشل البين للفرعون القديم في "الإصلاح"! لمدة ثلث قرن. هناك محاولات للتجمل على مستوى الحلقات الوسطى من هرم السلطة والثروة من النخب المستفيدة من جانب، وذلك في تناقض ظاهري مع التجاهل المتغطرس على مستوى قمة النخبة المسيطرة الذين يروا أن لا شئ في الإمكان أبدع مما كان. إلا أنه لا التجمل ولا التجاهل استطاعا أن يقنعا أحدا من شدة وضوح الصورة السيئة أمام عدسة الشفافية الدولية على قلتها في مصر. فالكل مجمع تقريبا على سوء الحال. حتى الوريث غير الشرعي لمصر يعترف بذلك على الفيس بوك، ولكن بغطاء عولمي يستر به عورة نظام أبيه من فساد وتعفن على جميع الأصعدة بعد "إصلاح" دام لمدة ثلث قرن في ظل "سلام" الرخاء والتنمية! مع العدو الصهيوني "السابق"، وبإسقاط جانب من ذلك الفشل على "مقاومة التغيير" الطبيعية! استمرارا للتعالي والغطرسة في شكل من دبلوماسية المثقفين.

هكذا تكتمل معالم الصورة الجنونية العبثية لمصر اليوم، من كل زوايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والصحة والتعليم وأخيرا الدين، في تسارع متناغم مع استراتيجية الفوضى الخلاقة لتيسير فرض الهيمنة الأمريكية في توحيد العالم قسرا بحكم فيزياء الجيوبوليتيكا، وباتساق مع محصلة سلام صهيوني قطع هو الآخر أشواطا في السباحة في نهر الجنون الديني نحو الماضي السحيق منطلقا من تاريخانية توراتية، أحيا به لغة ميتة وأسطورة طواها الزمن. هكذا تطابق مصر نفسها وتتوافق مع معايير جودة الدول المساعدة على الهيمنة الصهيو – غربية، بتفكيك نفسها رأسيا وافقيا كما وصف بحق أستاذنا محمد دياب، وأزيد بتفسخ نفسها في البعد الرابع الزمني بالسباحة نحو الماضي الذي ولى في نهر زمن الجنون، سباحة ليست إيقاعية، وليست جماعية، ولكن سباحة ممزقة، عبثية وعدمية، تحقق لها "الاندماج" في التجمع العولمي!.

المضحك المبكي في الأمر، إنسانيا وعالميا وليس مصريا فقط، أن حقائق التغير الدرامي للمناخ العالمي أصبحت شبه مؤكدة علميا وأصبح غرق مدن وزوال دول أمر توقيت وليس أمر احتمال. وأن حقائق التاريخ الجيولوجي للأرض مع علوم الفضاء قد أثبتا حقيقة التاريخ العنيف للأرض (4.5 مليار سنة) التي تتلقى قذائف النيازك المدمرة للحياة بصفة متكررة لتبدأ بعد كل دمار حياة جديدة، أو تثور براكينها فتمحي تقريبا كل مظاهر الحياة عليها، فبركان "توبا" الأسطوري في أندونيسيا الذي حدث منذ 75 ألف سنة مضت قد أوشك على تنفيذ انقراض الجنس البشري، حيث نجا فقط حوالي 150 فردا في شرق أفريقيا، أثبت علم الجينات البشرية أننا ننحدر جميعا من صلبهم، جميعا في مصر، مسلمين وأقباط!، فهل ننتظر انفجار "توبا" آخر حتى نفيق من العدمية ونعدل مكان السباحة ليكون نهر الزمن الآتي بدلا من نهر زمن الجنون بالماضي؟؟؟!!!

16 أغسطس 2009
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية