مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 الإســـــــلام بيـن التجديد والتحـديث والتفـكـيـــك؟
...............................................................

بقلم : مسعد غنبم
....................


كيف نقرأ الزوبعة المثارة حول جائزة الدولة المصرية الممنوحة لكاتب رأى فيه علماء الأزهر متطاولا على نبي الإسلام، بينما احتفى به بعض المثقفين الليبراليين الجدد، وبعض أقباط لم يحاولوا حتى أن يخفوا غبطتهم لذلك؟!. هذه زوبعة غير عادية كما أنها ليست دورية أو موسمية، وإن كانت ليست الأولى من نوعها، وليست فرعية بحكم شمول وجذرية موضوعها وهو الإسلام كعقيدة، بل يبدو أنها حادث فارق ذو دلالات متعددة، وهي مثل أي حدث بهذا الثقل وذلك العمق، لابد وأن يكون لها خلفيات ومؤثرات، ودوافع ومحركات، وأغراض وأهداف، وتوابع وآثار، ونتائج وآثار. ومن بديهيات القراءة المستنيرة لأي حدث أن نقرأه في إطاره الأكبر والأبعد، من منطلق المفاهيم والكليات، وألا ننحصر في تفاصيل الحدث، أو أن ننشغل بتفاعلاته الظاهرة، أو أن تستغرقنا آنية اللحظة عن امتدادها الزمني في الماضي والمستقبل على حد سواء، ناهيك عن مغزى توقيتها، فتعالوا بنا نحاول قراءة هذا المشهد المشكلة بدءا من المفاهيم والكليات حتى نفهم التفاصيل والجزئيات.

بين يدي ثلاث كتب جديدة ساعدتني كثيرا في تلمس طريقي لقراءة زوبعة الجائزة تلك. لم يكن استحواز تلك الكتب وليد الصدفة، بل كان نتيجة بحث مقصود في محاولة للإجابة على أسئلة جوهرية ماتفتأ تلح على ذهني، عن هذا الكون وتلك الحياة وعن ذلك الإنسان الذي ملأهما شرا وخيرا. ذلك هو أكبر وأعلى إطار يمكن قراءة أي حدث من خلاله، وحدث بمثل ذلك الذي نحن بصددة يجب أن يقرأ من ذلك الإطار تحديدا. الثلاث كتب تبدو للوهلة الأولى ألا رابط بينها، ولكنها في الواقع مرتبطة كأشد ما يكون الارتباط، بل والتوحد. فأولها كتاب فلسفي رياضي يتناول فلسفة الحياة من منظور الفلسفة الرياضية والارتباط بفن الرسم والموسيقى!، وثانيها موضوعه لاهوتي إنساني يبحث ماضي وحاضر ومستقبل الإسلام، وثالثها جغرافي سياسي تاريخي، مجاله الجغرافيا السياسية. مع هذا التنوع الشديد والاختلاف البين، كيف يكون ذلك الارتباط والتوحد؟!

أول هذه الكتب احتفلت به مجلة نيتشر Nature الأمريكية بمناسبة طبعة عام 1999 في العيد العشرين لنشر الكتاب عام 1979، وقالت أن هناك بين دفتيه تعليم إنساني شامل. موضوع الكتاب عميق جدا، وهو بعنوان "جوديل، إيشر، باخ: Godel, Escher, Bach" للعالم دوجلاس ر. هوفستادتر. وجوديل هو عالم رياضيات أشهر، وإيشر رسام فنان عالمي مشهور برسومه الغير منطقية، وباخ هو الموسيقار العبقري الشهير. والذي يجمع كل هؤلاء بموضوعاتهم التي تبدو متفرقة ومتباينة، هو ما يسميه المؤلف "النمط Pattern"، إذ يرى أن هناك أنماطا كونية تفسر كل ظواهر الكون والحياة. والمؤلف يستهدف من كتابه أعلى منطقة ممكنة للفكر الإنساني أن يفكر فيها، ويحدد هدفة بقوله " في كلمة، الغرض من الكتاب هو محاولة شخصية جدا للقول بكيف يمكن للمادة الحية أن تخرج من المادة غير الحية"، وذلك من خلال الغوص في الفلسفة الرياضية والخيال والعقل الإنساني في الرسم والموسيقى، للتعرف على كيفية بدء وعي العقل البشري بذاته. بل يسعى المؤلف لفهم وتفسير وعي المادة الحية ذاتها، بنفسها من خلال التكرار اللانهائي للنمط الرياضي المعبر عن علاقات جزيئات المادة الحية، التي هي في الأصل عناصر فيزيائية غير حية!. مدخل غير نمطي وغير معهود في دوائر العلم والفلسفة!، أليس كذلك!!.

العون الذي يمكن أن يقدمه كتاب دوجلاس هو مقدمة فلسفية رياضية كونية قد تساعد في فهم ثنائية الحداثة والعقيدة وأنه لابد وأن لها نمطا أعلى على المستوى الفلسفي والجدلي بين العلم والدين، نمطا يفسر ويساعد في قراءة المشهد الدرامي في ساحة الثقافة المصرية.

الكتاب الثاني يحلق بنا في في سماء الإيمان، ويغوص بنا في أعماق التاريخ الديني، ويقرأ من موقع إيماني مغاير إشكالية تجديد الإسلام. وما جعلني أربط هذا الكتاب الديني بكتاب دوجلاس ومقاربته عن طريق "النمط Pattern الرياضي"، هو أن كونج يتحدث عن مرادف مباشر للنمط وهو "النموذج أو الإطار Paradigm" منهجا لمقاربته في فهم وتحليل الدين، هل الأمر مجرد مصادفة؟؟ لا أظن إطلاقا، بل إن الأمر يؤكد نفسه بنفسه في دائرة مغلقة. بعد كتابيه السابقين عن اليهودية (1993) والمسيحية (1995)، ، يكمل هانزكونج ثلاثيته عن الأديان السماوية الثلاث بكتابه الثالث عن الإسلام: الماضي والحاضر والمستقبل (2007)Hans Kung Islam: Past, Present & Future. استشعرت صدق المؤلف عالم اللاهوت الدكتور هانز كـونج Hans Kung في دعوته للتسامح والتوافق بين الأديان السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام من مدخل الاتفاق الأعظم بينها، وهو الانتساب إلى إبراهيم أبو الأنبياء. في مقدمة كتابه الشهير هذا، يحدد الدكتور كونج السبب وراء كتابه هذا بقوله:

" أكتب هذا بغية مساعدة الناس في الانخراط في حوار، في هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة، نحو علاقة جديدة بين الحضارات، والأديان والأمم، بحيث أنهم، سواء كانو مسيحيين، مسلمين أو علمانيين، سياسيين، ،رواد أعمال أو صانعي ثقافات، معلمين، موظفين أو طلبة، ربما يكونوا قادرين على تقييم أفضل لأوضاع العالم وأن يتفاعلوا معها بطريقة أفضل."
ثم يقرر بوضوح الهدف من الكتاب بقوله:

" هذا الكتاب، المكتوب بمعرفة شخص غير مسلم، هو تعبير عن الأمل في أن الإسلام سوف لن يضعف ولن يختفي حتى، ولكن سوف يخضع إلى تجديد داخلي. وبدون أي إحساس بالتعالي (من النوع المسيحي أو العلملني)، وبوعي بديالكيتيك التنوير، فهذا الكتاب سوف يدفع باتجاه إسلام متجدد."

في إطار قراءاتي المحدودة كشخص عادي، لم أقرأ أوضح ولا أشمل من هذا السبب وذاك الهدف، في زخم ما يكتبه المعاصرون عن الإسلام، وذلك منذ صمويل هننجتون صاحب كتاب صدام الحضارات الشهير، في وضوح هدفه. يقع الكتابان على طرفي نقيض من الشأن الإسلامي، فهننجتون حلل وبين قوة وسرعة اندفاع الإسلام المعاصر، ليس فرحا به ولا اعترافا بواقع، بل تهويلا متعمدا لاستنفار موجة حرب صليبية جديدة ضد الإسلام تحت قيادة المحافظين الجدد بأمريكا، وذلك لملئ الفراغ الناشئ بتفكيك الاتحاد السوفييتي، أو بمعنى أوقع، لاستكمال مقومات الهيمنة على العالم بالقضاء على آخر منافس وهو الإسلام، بحسب رؤية فوكو ياما فيلسوف "نهاية التاريخ"!، قبل أن يعترف بخطأه لاحقا.

هذا الكتاب لكونج، يحدد عامل التوازن مع كتاب هننجتون عن صراع الحضارات، بالدعوة لتجديد الإسلام مقابل محاولات تفكيك الإسلام التي يدعو لها هننجتون، وفي نفس الوقت يحمل كونج عمق ثقافة دينية (مسيحية كاثولوكية) خبرت الصدام مع الحداثة الأوروبية منذ جاليليو، ثقافة استوعبت اندفاعة فلسفة الحداثة الأولى نحو نفي الدين، ونضجت باعتراف فلسفة ما بعد الحداثة بالأثر العميق لواقع الدين في حياة البشر. إن كتاب كونج قد يمكننا من قراءة المشهد الزوبعة في القاهرة والعالم العربي، بما يطرحه من موقع إيمان صادق وعلم واسع، فنستطيع مع قليل من التبصر في الرياح والأعاصير الإعلامية عبر الفضائيات والصحافة المكتوبة والكتب المنشورة، أن نتبين ملامح تلك الجدلية التي تملأ الفضاء السياسي العالمي عبر مراكزه من واشنطن إلى لندن إلى موسكو وبكين، ومن مغزى خطاب كل من أوباما وميدفيدف في القاهرة. وبقليل من التدقيق يمكن أيضا أن نتبين ملامح الخريطة الدموية التي ترسمها فرشة شيطان مهووس من بقع وأنهار الدم المهدور من أندونيسيا إلى أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين إلى السودان فالصومال والصين، وأخيرا بقع الدماء البريئة لمروة الشربيني في قاعة محكمة ألمانية. وقد يمكن أن يلقي الكتاب بعض من ضوء يمكن من قراءة ما، عاقلة وواعية، لمشهد جائزة فاروق حسني الوزير المصري العلماني للكاتب العلماني المتعدي على نبي الإسلام من وجهة نظر علماء الأزهر الذين اعترضوا، وغبطة ساذجة من بعض الأقباط، وترحيب حار من بعض المثقفين الليراليين الجدد.

الكتاب الثالث ينزل بنا إلى أرض مادية بعيدا عن كل من فلسفة الرياضيات عند دوجلاس، والتفسير اللاهوتي عند كونج. موضوع الكتاب هو الجغرافيا السياسية، وعنوانه: الجغرافيا السياسية لمؤلفيه كولين فلنت، وبيتر تايلور: Political Geography (World- Economy, Nation-State and Locality). والرابط أيضا وللغرابة الشديدة، بين هذا الكتاب وسابقيه هو أن محور مقاربتة لدراسة الموضوع هو المقاربة المنظومية World – Systems Approach، وكلمة السر هنا هي "المنظومة System"، مرادف ثالث مباشر لنمط Pattern دوجلاس، ونموذج Paradigm كونج!! مرة أخرى، هل الأمر مجرد مصادفة عشوائية؟؟ لا أعتقد!. صحيح أنني بحثت عن هذه الكتب واقتنيتها بموضوعاتها قبل أن أقرأها وأعرف مقارباتها المتطابقة رغم اختلافها النوعي فضلا عن اختلاف الموضوع تماما!، ولكني أبدا لم يخطر لي أنها مترابطة بهذه الشدة وبهذا الوضوح!، ومرة أخرى، فهي مترابطة بشكل يثبت أن جوهرها يثبت ذاته بذاته، أو كما يقولون ذاتي الإثبات Self Proof Prophesy.
في هذا الكتاب الأخير، يتبنى المؤلفان بشكل أساسي نظرية وورلاشتاين (2004 Wallerstein) عن منظومة عالمية World-System تحكم التغيير الاجتماعي في العالم، وهي التي تشكل الأساس لعلم الجغرافيا السياسية الحديث. هذه " المنظومة" تقول بأهمية دراسة وفهم البنى Structures والعملياتProcesses التاريخية على المدى الطويل، بدلا من التركيز التاريخي على "الأحداث الكبرى" و "الرجال العظماء". وتقول بأن التركيز على الصورة الكبيرة يوفر منظور شامل للبنى والعمليات، كما أن التركيز على الخبرات اليومية والتغيرات الثقافية يعني أن البنى والعمليات هي نتاج أفعال اجتماعية وليست قضاء وقدرا أو لايمكن تغيييرها. وأن التركيز على الخبرات اليومية يعني أن منظور الجغرافيا السياسية هو "من أسفل" أو هو مشكل ديموقراطيا. وإجمالا، فإن أنشطة الأفراد والجماعات والدول توضع في سياق بنى كبيرة ويظهر أنها تحافظ على تلك البنى وتتحداها.

أما نظرية النظم التاريخية Historical Systems ، التي يقدمها المؤلفان عن وورلشتاين Wallerstein، فتقول بأن علم الاجتماع الحديث هو تتويج لتقليد يحاول أن يخرج بقوانين عامة لكل الأزمنة والأماكن. يعني أن هناك قانونا عاما يحكم حركة التاريخ! أليس هذا هو ما يقول به الفيلسوف دوجلاس عن النمط أو الأنماط Pattern التي تحكم خلق الكون والحياة؟ أليس هذا المنحى نفسه هو الذي انتهجه العالم اللاهوتي كونج ليقرأ الأديان السماوية من خلال نموذج أو إطار Paradigm ؟!!

الخلاصة، يلزمني وقت طويل قبل أن أنتهي من قراءة الكتب الثلاث، ولكنها أنارت لي الطريق لقراءة مشهد الجائزة الثقافية المصرية لكاتب يخوض في سيرة نبي الإسلام بشكل ما، ويعترض عليه علماء الأزهر، ويؤيده علمانيون، ويغبط به بعض الأقباط. يمكن قراءة مستقبل هذا المشهد ببساطة في إطار النمط Pattern الذي تصادمت فيه المسيحية الأوروبية في مطلع إعصار الحداثة منذ خمسة قرون، باعتبارالدين والعلم كلاهما ظاهرة إنسانية كونية تخضع لنفس الأنماط الرياضية الطبيعية التي تحكم فيزياء مكونات هذا الكون. ويمكن قراءة التفاعلات الدينية لهذا المشهد، داخليا في الإسلام، أو خارجيا مع المسيحية، من خلال النموذج Paradigm المشترك بين الأديان لكونج، ومن الظريف أن هذا النموذج اللاهوتي يوقع أشقائنا الأقباط المغتبطين في مأزق مواجهة العلمانية الإلحادية التي تنفي الدين وأولها المسيحية نفسها. وأخيرا يمكن قراءة نفس المشهد من منظور جغرافي سياسي، بمعنى أصح بأخد العامل الإسرائيلي الصهيوني في الحسبان، فمن السذاجة أن نتصور أن إسرائيل بدعمها الوزير المصري العلماني فاروق حسني لمنصب رئاسة اليونسكو فإنها تدعم بالتالي المشروع الحداثي المصري والعربي عامة، لأن المشروع الصهيوني، طبقا لمنظومة System التاريخ هو حصن غربي متقدم لإمبراطورية أمريكية عالمية يسعى، طبقا لقانون التاريخ العام، لبسط نفوذها على العالم انطلاقا من فلسطين، عقدة المزيج الديني السياسي الأزلي الذي طالما حكم العالم، وذلك يستدعي عدم نهوض أو تحديث المنطقة العربية والإسلامية عموما!.

17 يوليو2009
 

 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية