هل مصر أكبر وأخطر من أن تترك لرغبات شعبها؟!
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
ماذا نحن فاعلون؟ إن أي شعب لايتصور منطقا أن يرحب بأن يكون إرثا لخلف من همشه فأورثه فقرا، واستبد به فأشبعه ذلا، واستخف به فأحاله هملا. هذا هو منطق الأمور، إلا أذا تحول الأمر إلى حال "استخف بهم فأطاعوه"، عندئذ يستحق هذا الشعب أن يوصم مع فرعونه بالقوم الفاسقين. إن غالبية الشعب المصري مهمش وبشدة فعلا، بمعنى أنه تم إقصاؤه عن تقرير مصيره على مستوى متطلباته الحياتية وحقوقه السياسية على حد سواء، وبمعنى أنه يتم معاملته كالهاموش التافه من قبل النظام الحاكم الذي يحكمه بقانون طوارئ أزلي كأنه لعنة أبدية لا فكاك منها. هذا الشعب يرى أن مراسم التوريث قد بدأت، فماذا هو فاعل؟
هل مصر أكبر وأخطر من أن تترك لرغبات شعبها؟!
يرجح بعض الواقعيين أن المشروع الغير شرعي لتوريث مصر سينجح. تلك نظرة واقعية عملية بعيدا عن الأماني أو الحسرات. ففي عرف هؤلاء، يستطيع الشعب المصري أن يولول ويرثي نفسه حيا، أو أن ينبح في عرف من يستبد به، ولكن أمور السياسة والحكم في دول المنطقة الآن تحكمها الآن ثلاث مجموعات من القوى: قوى الصراع / الوفاق الدولية، وقوى النزاع الإقليمية، وأخيرا قوة رغبة وإرادة الشعوب. فهل تقول محصلة كل تلك القوى بأن مصر أكبر وأخطر من أن تترك لرغبات شعبها؟!
لمن تكون الغلبة؟
إذا كان هذا صحيحا فإن أي خطة للتوريث لابد وأنها قد خططت لإرهاب وإسكات وتزييف إرادة الشعب إذا ما حاول إفشال تلك الخطة. إن هذا هو منطق واقع الأمور في المنطقة، بما يتفق ومحصلة القوى الدولية (أمريكا) الفاعلة فيها بشدة وكثافة، كذا وبما يتسق مع نتاج القوى الإقليمية المستوطنة (إسرائيل) والطامحة (تركيا) والجامحة (إيران). ثم أخيرا فإن تلك المقولة تحقق الأطماع الشخصية الطبيعية لأي فرعون في أن يورث خلفه. إذا ليس بعيدا عن المنطق إذا توحدت تلك هي القوى بشكل ما لإنجاح مشروع توريث مصر ضد قوى الشعب، تلك القوى هي بين المهمش أو المفكوك أو المحظور أو المطحون. فلمن تكون الغلبة؟
الانطباع لاستحالة الاطلاع تلك كانت ثلاث أسئلة، تظهر القدرة على فهمها للإجابة عنها من باب الإنطباع، وليس من شباك الإطلاع على ضيقه!، فليس لأمثالنا من المهمشين أي فرصة للاطلاع على أي وثائق ذات صلة بالموضوع، في الوقت الذي يتدنى ترتيب مصر في قائمة الشفافية الدولية (معدل الفساد) إلى المركز 115 بين 180 دولة، أفضلها الدانمارك في المركز الأول وأسوأها الصومال في المركز 180، وتأتي بعد دول مثل مالي وجيبوتي وتنزانيا! وذلك طبقا لتقرير 2008 لمؤسسة الشفافية الدولية Transparency International، وموقعها www.transparency.org
ولما كان الاطلاع على مجريات الحاضر وترتيبات المستقبل غير متاح عمليا، فلا يعد أمامنا إلا الاطلاع على المنشور من دراسات وكتب وعلى التاريخ الموثق والمدروس لمصر. أمامي ثلاث أعمال ذات صلة بالموضوع أعتقد أن الاطلاع عليها قد يفيد في فك طلاسم الحاضر وكشف اتجاه المستقبل. بترتيب زمني، فأول الأعمال (2008) هو كتاب " داخل مصر Inside Egypt" لمؤلفه جون برادلي John R. Bradley . وثانيها (2008 أيضا) هو كتاب "مصر بعد مبارك Egypt after Mubarak" لمؤلفة روث ك رزرفورد Bruce K. Rutherford. وثالثها رائعة الرائع جمال حمدان "شخصية مصر" (1981) التي هي باعتراف الدولة أفضل مرجع في هذا المجال، بفاصل زمني 27 عاما هي جل فترة حكم مبارك!. يمكننا إذن أن نطمئن إلى مرجعيتنا في القراءة من أجل الفهم والإجابة على التساؤلات المطروحة بعيدا عن الانطباعات الشخصية، ويبقى أمر التفسير بعد القراءة مسئولية كاتب هذا المقال، ويصير أمر التصديق والقناعة إلى وعي القارئ. وسابدأ القراءة بطريقة عكسية، أي من الأحدث إلى الأقدم، لأن كتاب جمال حمدان هو عمل أكاديمي شامل له صفة الاستدامة بحكم عمق الدراسة لثوابت الجغرافيا والتاريخ، وبالتالي يعتبر مرجعا أعلى مقارنة بالعملين الآخرين الذين يقعان في نطاق العمل الصحفي السياسي المعاصر، واللذان لهما صفة الانحصار في اللحظة وعواملها المؤقتة.
مصر بعد مبارك
يمكن تلخيص أهم ما في الفصل الأخير لـ "رزرفورد" في كتابه " مصر بعد مبارك" في عدة نقاط:
• إذا لم تكن تلك القوانين (المقيدة للحرية) كافية، فإن النظام قادر دائما على إطلاق قوة الطوارئ لاعتقال أي فرد أو قمع أي مجموعة يمكن أن تشكل تهديدا. ليس مفاجئا أن تكون المجموعات السياسية التي تنمو في هذه البيئة ضعيفة وممزقة".
• أهم أربع لاعبين في ملعب السياسة المصرية والقانون هم: " إصلاحيو الحزب الوطني الديموقراطي (يقصد نجل الرئيس ولجنة سياساته)، نخبة رجال الأعمال، نادي القضاة، والإخوان المسلمون."
• إن التعديل الدستوري الذي تم في مارس 2007 على دستور 1971، يعيد التأكيد على الطبيعة الهجين للدولة (بين اشتراكية وليبرالية) ولكنه في نفس الوقت يعلى من احتمال توجه الدولة إلى سلطوية عميقة....وتضم تلك التعديلات ملامح أخرى تحد أكثر من الفرص السياسية للإخوان المسلمين"
• الجهاز الأمني لايزال يتمتع بقوة سياسية هائلة دون أن يمسك رسميا بخيوط السلطة. والتعديل الأخير يزيد من تلك القوة (1.4 مليون فرد هي قوة الجهاز الأمني في تقدير سعد الدين ابراهيم)
• تتبع الولايات المتحدة مقاربة "الحد الأدنى من التدخل" في الشئون المصرية. وهي مقاربة تستهدف تقوية الضغوط المحلية الداخلية (من قبل الأربع قوى الرئيسية ) نحو الإصلاح الليبرالي، بدلا من فرض أجندة من أجل التغيير السياسي أو الانتخابي!
خلاصة رأي "رزفورد" أنه طالما أن القوى الفاعلة في السياسة المصرية على ضعفها وتفككها، تعمل في اتجاه تقوية الليبرالية، فإن هذا هو كل ما يهم أمريكا،اللاعب العالمي رقم 1 في شئون المنطقة. وهي لا يهمها إطلاقا تغول النظام المصري في الديكتاتورية واحتفاظة ب 1.4 مليون فرد أمن جاهزين لردع من تسول له نفسه المعارضة الحقيقية، ولايهمها غياب أي إصلاح ديموقراطي حقيقي. ولعل خطاب أوباما قد أكد ما قرره "رزرفورد" من قبل!.
داخل مصر
يمكن تلخيص أهم ما توصل له "برادلي" في كتابه "داخل مصر" في التالي:
• تم تصعيد جمال مبارك في هيراركية الحزب الوطني، طبقا للإجراءات البيزنطية الرسمية، بما جعله أخيرا صالحا قانونيا للترشح للرئاسة بقوته الذاتية.
• من السهل التنبؤ بسلوك النظم السلطوية، رغم قباحتها.
• يبدو للأسف أن واشنطن تريد ذلك!
ويخلص إلى أنه: " بين العوامل الرئيسية التي يمكن تمييزها باعتبارها يمكن أن تؤدي إلى تغيير في النظام؛ إضرابات العوام المنتشرة، التي شملت مختلف المجموعات الاقتصادية والاجتماعية؛ زودت قيادات المعارضة بفكرة واضحة عن المواطنين الذين يمكن أن يشتركوا في مظاهرات، والقدرة على استخدام الميديا بشكل ما لنشر رسالتهم على الشيوع؛ والآليات التي بها يمكن أن يزعزعوا النظام القائم؛ سواء بمؤامرة داخلية في حالة انقلاب عسكري، أو بروز إصلاحيين، أو أن الإنهاك الذاتي للحكومة الحالية سيؤدي إلى انهيارها.
شخصية مصر
أما جمال حمدان في "شخصية مصر" فيفتح أعيننا على ثوابت الجغرافيا وأنماط التاريخ بما يمكننا من فهم ما يجري الآن، وتصور ما يمكن أن يجري غدا. تحت عنوان " شخصية مصر الاجتماعية" في الجزء الثاني من الكتاب، وتحت عنوان فرعي " أرض الطغيان" يقول جمال حمدان:
" الآن لا يعرف تاريخ مصر من ينكر أن الطغيان أو الاستبداد، الباطش أحيانا غير الإنساني دائما، هو كظاهرة واقعة موضوعيا وبعيدا عن كل تفسير شخصي أو تنظير أكاديمي، نغمة دالة أساسية Leitmotif بل النغمة الحزينة فيه وأسوأ خط في دراما الشعب المصري. وقد لا تكون مصر أكبر سجن في العالم، ولكنها أقدم سجن في التاريخ"
بعد استعراض ملامح الشخصية الاجتماعية - السياسية للمصريين وما التصق بها من اتهامات ونظريات عبر التاريخ بدءا من الربط بالأيكولوجيا، إلى اتهام الشرق عموما بالاستبداد، إلى تأثير الاستعمار الأوروبي، إلى الآثار النفسية أو الخلقية لكبت الطغيان واضطهاده، إلى الربط بين الطغيان السياسي وبين البيئة الفيضية للنيل، إلى ترويج الاستعمار البريطاني لنظرية الحتم الجغرافي لتسهيل ودعم احتلاله لمصر، بل إنه يستعرض المقولات المختلفة التي تنتقد الشخصية المصرية على سلبيتها وخنوعها التي صدرت من أعلام مثل المقريزي، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي المرجع الأكبر في شأن الاستبداد، وفي كثير مما يكتبه الأجانب.
بعد كل ذلك ينتهي جمال حمدان إلى رفض كل تلك النظريات والاتهامات مسترشدا بقول "بارتلمي سانت هيلير:
"منذ الفراعنة كتبت على سكان مصر العبودية السياسية، وإني لأبعد ما أكون عن القول بأن النيل هو السبب الوحيد لهذا الوضع المحزن، وإني لمدرك أن ثمة كثيرا من الناس أكثر عبودية وبؤسا دون أن يكون لديهم نيل. كل ما أود أن أقوله هو أن النظام الطبيعي لهذا النهر العظيم كان في مصر أحد أسباب الطغيان، لقد وجد فيه الطغيان نوعا من الضرورة، وكذلك حجة وذريعة خاصة."
ويعقب جمال حمدان بمقولة مدهشة في تطابقها مع أحد أهم مبررات النظام المباركي في الاستبداد والاستئثار بالسلطة والشروع في التوريث، أعني غنوة "الاستقرار!"، يقول حمدان:
" ...لا شك أن مصر قد دفعت تاريخيا ثمنا فادحا جدا من الاجتماع لحساب السياسة، من المجتمع لصالح الحاكم، من الحرية والديموقراطية والكرامة من أجل هدف الوحدة السياسية المبكرة ومبدأ النظام والاستقرار السياسي."
ويعلق حمدان على حالة الشعب المصري مع "محمد علي" بأنه حتى في هذه الحالة اليتيمة التي نشط فيها الشعب وشارك إيجابيا، فإنه من أسف لم يول إلا أجنبيا أولا وعسكريا ثانيا. وفيما عدا ذلك لم يحدث في تاريخنا كله أن ولى الشعب الحاكم أو عزله إلا فيما ندر وكشذوذ بحت.
ويقرر أن مصر باستقرارها الشديد وفرط هدوئها وخضوعها وسلمها هي "أهل الوفاق و النفاق" مقارنة بالعراق "أهل الشقاق والنفاق"، ويقول أنه بغير هذا كله، فإن الملاحظ كأمر واقع وكتقرير لواقع الحال أن النفاق قد استشرى في الفترة الأخيرة (حكم السادات) أكثر منه في أي وقت مضى. لاحظ أن هذا الكلام منذ أكثر من ثلاثين عاما هي فترة حكم مبارك!. ثم يقول في نهاية الفصل"
" عند هذا الحد، يبسط البعض الموقف كله بجميع تناقضاته ومفارقاته فيقول إن هذا شعب مغلوب على أمره، على أساس أنه ضحية الطغيان، وبالتالي فهو ميئوس منه، فإنه بين العجز والسلبية غير قابل للثورة ولا قادر علىها، شعب غير ثوري باختصار. الإنسان المصري، بمزيد من الوضوح، مخلوق غير ثوري بالطبع أو التطبع، بالوراثة أو البيئة، بالجغرافيا أو بالتاريخ. فمصر لم تعرف الثورة في تاريخها على طول المدى فقط، الثورة الشعبية الحقيقية أعني (ثورة) إيبوير السحيقة البعد في الدولة القديمة في أوائل العصر الفرعوني غامضة جدا بحيث تقبل كل تأويل."
مـــاذا بـــعد؟
استعرضنا كتابات سياسية لمعاصرين أجانب، وكتابات جغرافية تاريخية لعالم مصري علم، ورأينا أبعاد الشخصية المصرية إجتماعيا وسياسيا. وبناء على تلك القراءات، أرى أن التحدي الحقيقي أمام الشعب المصري في تلك اللحظة الفارقة في تاريخه المعاصر في القرن 21 هو إثبات عدم صحة المثل المصري القديم: " إذا وجدتهم يعبدون العجل، حش برسيما واعطه"!
10 يوليو 2009
06/11/2014