مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 إشكالية المقاومة – الحداثة: مـن، ومـــــاذا نـقــــاوم؟
...............................................................

بقلم : مســـعد غنيم
....................

في العالم الإسلامي والعربي تتقاطع كل من عمليتي الحداثة والمقاومة في جدلية تاريخية ومعرفية، ولعل الدين هو أكبر نقاط تلك التقاطعات، بل لعله القاسم المشترك الأعظم بينهما، سواء بالتوحيد أو بالتفريق. وإذا كانت الحداثة في المفهوم العام هي عملية كونية مستمرة، وأنها في المفهوم التاريخي الحديث هي نتاج مفاهيم الأنوار أو التنوير في الغرب الأوروبي منذ القرن السادس عشر، إلا أننا عندما نتحدث عن المقاومة يجب أولا أن نحدد، بداهة، من نقاوم؟ وماذا نقاوم؟.

رؤية عربية لجذور إشكالية الحداثة العربية

في كتابه الذي صدر في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعنوان: "الإسلام – أوروبا – الغرب"، يقدم لنا محمد أركون المفكر الجزائري الأصل تحليلا للعلاقة بين حداثة الغرب وحداثة العرب والمسلمين من جهة، وتناقضاتها المحفزة للمقاومة من جهة أخرى، بقوله:

" ...أما مصطلح مجتمعات ما بعد الاستعمار فتكمن ميزته في أنه ينطبق على كل مجتمعات العالم الثالث التي شهدت تطورا تاريخيا، أو مصيرا تاريخيا متشابها منذ 1945 وحتى اليوم. وهو يجبرنا على تركيز الدراسة التحليلية على الجدلية التاريخية الحاسمة التي تتمثل في التضاد بين حداثة متولده في أوروبا، ثم نقلت على  هيئة الهيمنة العسكرية والتكنولوجية والمفهومية لكي تواجه حضارات عريقة، بالية، هشة، قائمة على الإيمان بالقوى الغيبية وعلى الإنتاج الأسطوري للمعنى. وهكذا أسست أوروبا في القرن التاسع عشر نظاما قائما على الظلم واللامساواة. ولا تستطيع العنجهية العلموية للعقل الوضعي، أو الوعي المتظاهر بتعذيب الضمير والذي ساد لفترة قصيرة بعد الاستقلال (...) لايستطيعان أن يمحوا الآثار السلبية المدمرة الناتجة عن نظام اللامساواة هذا. (...) ويمكن أن نجد ترجمة محلية لنظام اللامساواة هذا داخل كل بلد من بلدان العالم الثالث حيث أقيم نظام "الأمة – الوطن – الحزب الواحد" بعد الاستقلال. وقد حوفظ على هذا العنف وعُمِّم من قبل استراتيجية القوة والاستغلال التي تتبعها الأمم الأوروبية أو الغربية المهيمنة. بعنى أن الهيمنة الخارجية الظالمة ترسخ هيمنة ظالمة داخلية أيضا."

وفي ندوة فكرية نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في 2004، قدم كمال عبد اللطيف أستاذ الفلسفة المغربي ورقة بحثية  بعنوان "تيارات العقلانية والتنوير في الفكر ىالعربي"، يؤكد فيها على مقولة محمد أركون السابقة التي حلل فيها أصل الداء في الخلل المتعمد في تمرير الحداثة من الغرب الأوروبي إلى العالم الثالث. يقرر كمال عبد اللطيف بعد أن يشير إلى أنه لا يحاكم نتائج المرحلة الاستعمارية:

" التغلغل الاستعماري قد أوقف صيرورة ذاتية في التطور داخل العالم العربي الإسلامي، ورسم بدلها مقدمات صيرورة جديدة ترتب عنها المآل الذي آلت إليه أوضاعنا طيلة عقود الاستعمار وعقود مقاومته، وإلى حين حصول الاستقلال وبداية معارك التنمية والنهضة واستكمال التحرير."

وقبل ذلك كان كمال عبد اللطيف قد أشار إلى ملابسات لحظة تعَّرف الفكر العربي على منظومات الفلسفة العقلانية وتيارات الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي المستند إليها بأنها:

" تمت في لحظة تاريخية كان فيها الغرب الأوروبي قد انتقل إلى عتبة الإمبريالية، فحصل صدام عنيف داخل المجتمعات العربية، بين الغرب المندفع تحت تأثير تطور نظامه الاقتصادي الرأسمالي، وبين المجتمعات العربية التي كانت تعيش في مستوى من التأخر التاريخي، الذي سهل إمكانية اغتصاب جغرافيتها، واختراق أنظمة المجتمع والثقافة السائدة فيها. (...) وقد حددت هذه اللحظة نقطة بداية المواجهة المتواصلة في فكرنا بين قيم العقل التراثي في مجالاته المختلفة، وبين قيم العقلانية كما تبلورت في الأزمنة الحديثة.(...) إن ميلاد تيارات العقلانية والتنوير في فكرنا المعاصر لم يرتبط كما هو الحال عليه في الفكر الأوروبي بثورات علمية وسياسية محددة، ولم يكن موصولا بتحولات اقتصادية واجتماعية داخلية ومحلية، بل إنه حصل في إطار عملية اتسمت بالصراع والصدام بين أوروبا الغازية، وبين مجتمعات العالم العلاربي الإسلامي."

وهنا فإن كمال عبد اللطيف يضع أيدينا على دقائق اللحظة التاريخية التي فرقت بين حداثة غربية أصيلة، وحداثة عربية إسلامية سطحية. بل إن عصام نعمان، عضو الندوة من لبنان، ذهب إلى حد إنكار حدوث الحداثة العربية أصلا لتلازمها مع العدو الخارجي، حيث قرر:

" أن العرب والمسلمين أخفقوا في اكتناه الحداثة مثلما أخفقوا في طلب الحرية. السبب؟ تلازم مزمن بين الحداثة والعدو الخارجي. فقد شق عليهم أن يطلبوا الدواء ممن اعتبروه مصدرا للداء!"

 ويؤكد نفس المعنى الباحث اللبناني عبد الغني عماد في تعقيبه على ورقة أخرى في الندوة بعنوان "في معنى التنوير" بأن:

" قراءة عناصر الأزمة العربية المزمنة لايجب أن تجعلنا نغفل عن ضغوط "الآخر" وتحدياته وتخريبه واستنزافه لمجتمعاتنا وبما يستقطبه من ردود أفعال تجِّد في تحدي الهوية لاتحدي التنوير الأولوية."

رؤية غربية لجذور إشكالية الحداثة العربية

إذا كانت تلك هي رؤى وتحليلات المفكرين العرب لإشكالية الحداثة العربية والإسلامية، فإن من المفكرين الغربيين من خرج بنفس النتائج من مدخل عكسي تماما، إذا جاز التعبير، وهي الرؤية العلمية الغربية. إحدى تلك الرؤى هي من مدخل الجغرافيا السياسية. ففي كتابهما "الجغرافيا السياسية"، يؤكد كل من بيتر تايلور وكولن فلنت مسئولية بريطانيا عن فرض التخلف والتفكك على مستعمراتها وفي قلبها العالم العربي والإسلامي:

" الإمبراطورية البريطانية في سعيها وتنقيبها عن عناصر محلية في مستعمراتها (ومنها البلاد العربية)، لتتعاون مع سلطات الاحتلال، كانت تتبع سياسة "فرق تسد". ويتضح من الوثائق الرسمية أن الإمبراطورية البريطانية هي المسئولة الأولى عن خلق هذه "الشعوبية" في خريطة العالم الحديث، التي لا يزال موروثها باقيا حتى اليوم: من ذلك ما وقع في التسعينيات من صدام بين الملل والنحل، بين الهندوس والمسلمين والسيخ في الهند، وبين التاميل والسنهال في سريلانكا ( وقد شاهدنا على الهواء في منتصف مايو 2009 النهاية الدموية لمتمردي التاميل على يد الجيش السيرلانكي)، وبين اليونان والترك في جزيرة قبرص، وبين الهند والفيجيين في جزر فيجي، وبين اليهود والفلسطينيين (في فلسطين المحتلة)، وبين الصينيين والماليزيين في ماليزيا وغير ذلك من الصراعات العرقية على طول المستعمرات البريطانية السابقة وعرضها في أفريقيا. (...) وأخيرا في منتصف القرن العشرين، بعد تفكك الاستعمار، يجئ دور الهيمنة الأمريكية ليرتبط بإمبريالية غير رسمية، بمعنى الاستقلال السياسي لدول الأطراف مع التبعية الاقتصادية."

  وفي فقرة أخرى يؤكد بيتر تايلور وكولن فلنت على مفهوم التبعية الذي صبغ علاقة النخب الحاكمة والرأسمالية المحلية في دول الأطراف (المستعمرات) ودول المركز (المستعمرة والمهيمنة):

" ..نقلا عن جندر فرانك، فإن رأس المال المحلي في دولة ما، عندما يتحالف مع رأس المال الأجنبي فهو إنما يساهم بذلك في تخلف هذه الدولة."

وعن علاقة التبعية بالإمبريالية والعولمه، والليبرالية الجديدة، يقرر مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية:

" إن السؤال لا يتعلق بما إذا كانت العولمة قد حلت محل الإمبريالية، وإنما يتعلق بكيفية أداء الإمبريالية في ظل شروط أو أوضاع العولمة. (...) موضوعات ثلاثه يتضح فيها بجلاء علاقات السيطرة الإمبريالية، فأولا: يوضح نقاد مرحلة ما بعد الاستعمار أن لغتنا مشوبة بالإمبريالية، وثانيا: هناك الإمبريالية الثقافية المترتبة على ثورة الاتصالات الجديدة. وثالثا: هناك انتصار النموذج " الليبرالي الجديد" لا تقل رسوخا عن أشكال تبعية وجدت من قبل."   

أما نعوم تشومسكي المفكر الأمريكي وعالم اللسانيات الأشهر، وفي كتابه " مانقوله نحن يمشي" فيلخص العلاقة العضوية لـ "إسرائيل" بالولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ استراتيجية هيمنة على العالم العربي بقول لو قال به أحد المثقفين العرب لاتهمه مثقفوا الهزيمة بـ "الناصرية" والشيوعية والقومية العربية، وكلها مفردات نجح الليبراليون العرب الجدد في تصويرها كمرادفات للهزيمة في الوعي العربي المعاصر وكمعنى سلبي مضاد لنهضة الأمة وتحديثها!:

" (حرب) 1967 هي التي قطعت الشك باليقين. وأهميتها الرئيسية أنها حطمت عبد الناصر. كان عبد الناصر بمثابة الرمز والمحور للقومية العربية العلمانية. وكانت تساور الحكومة الأمريكية خشية كبيرة مما كان يمثله هذا الرجل. (...) تذكر أن الولايات المتحدة قد دأبت على امتداد التاريخ على دعم وتأييد أكثر الجماعات الإسلامية الأصولية تطرفا، وكذلك على معارضة ومحابة الحركات القومية العلمانية. وهكذا حطمت إسلاائيل عبد الناصر وقضت على خطر القومية العلمانية. كان ثمة قلق متلبس في النفوس من أتيجه العرب إلى استخدام ثروات المنطقة لما فيه خير شعوبها وليس من أجل زيادة ثروة الغرب وقوته. كان ذلك خطرا كبيرا، وقد وضعت إسرائيل حدا له، وهذا ما متن عرى التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل وأدى إلى حدوث تحول سريع للغاية." 

بعد أن نذَّكر بأن الفقرة المقتبسة السابقة كتبها عالم ومفكر أمريكي يهودي، وليس أحد الرعاع المصريين أو العرب الذين خدعهم ناصر بديماجوجيته وكارزميته، فأحبوه بغباء تاريخي!!، نلفت النظر إلى التطابق في رؤية أصل إشكالية الحداثة العربية بين ما استنتجه محمد أركون من مدخل فلسفي تاريخي، وما أجمع عليه مجموعة مفكرين وباحثين عرب مختلفي التخصصات في العلوم الإنسانية، على رأسهم حسن حنفي، وعلى أومليل، وعبد الإله بلقيز، وما قرره بيتر تايلور وكولن فلنت أستاذا الجغرافيا السياسية، وأخيرا ما أكده نعوم تشومسكي عالم اللسانيات الأشهر والمفكر الأمريكي المعاصر. 

مــــن نـــقـــــــاوم ؟

عودة إلى محمد أركون المفكر الجزائري، حيث يشير إلى الإجابة على سؤال: من نقاوم؟ من خلال تحديده مبدئيا للهيمنة الخارجية الغربية والظلم الداخلي، وفي تحليله التالي في نفس الكتاب السابق، يحدد بصورة أعمق وأكثر تحديدا: "من نقاوم؟":

"...ونلاحظ بهذا الصدد أن المحللين السياسيين والاقتصاديين الغربيين لا يتحدثون إطلاقا عن هذا العنف المخبوء والبنيوي (أو المفصلي). نقول ذلك وبخاصة عندما تمارسه القوى الغربية المهيمنة ضد البلدان الإسلامية بالأخص العربية. وذلك لأن هذه الأخيرة واقعة مباشرة تحت نفوذ أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. فهي تشكل أقرب دائرة جيوسياسية للغرب. ولا ينبغي أن ننسى بهذا الصدد أن دولة إسرائيل تلعب الدور ذاته لصالح الغرب منذ تأسيسها عام 1948. ونحن نعلم حجم الدور الكبير والحاسم الذي تلعبه للحفاظ على هذا العنف المفصلي أو البنيوي المتأصل في المنطقة العربية. فغالبا ما يتحول إلى عنف عسكري وبوليسي رهيب يمارس على الشعوب. ولا يمكن أن نفهم سبب ظهور النظم القمعية والديكتاتورية وهيمنتها في البلدان العربية وكذلك ظهور الحركات المضادة لها والمدعوة بالراديكالية "الإسلامية" أو الأصولية أو التزمت "الإسلامي"،  إلا إذا موضعناها داخل الإطار العام لهذا العنف المفصلي الذي يمارسه الغرب وإسرائيل. فهما مسئولان بالدرجة الأولى عن رزوح مثل هذا الوضع."

إلا أن محمد أركون يستطرد بسرعة ليشمل العامل الداخلي:

" إني إذ أستعرض الأمور ضمن المنظور التاريخي والجيوسياسي والأنثربولوجي الواسع لا أقصد حجب العوامل الداخلية أو التقليل من دورها ومسئوليته، فوصف استراتيجيات الهيمنة في الفضاء المتوسطي لايمكن أن يتم بدون دراسة العوامل الداخلية والخارجية. فهذه العوامل الداخلية هي السبب المستمر في المجتمعات الإسلامية من إيرانية أو تركية أو عربية. وهي سبب التأبيد الطقسي أو الشعائري (أي الجامد) للمؤسسات السياسة والممارسات الثقافية و"القيم" الأخلاقية – القانونية – الدينية   " المبتعدة أكثر فأكثر عن ينابيع الإسلامي الكلاسيكي، وعن المكتسبات الأكثر رسوخا للحداثة الأوروبية"

ثم يضيف مؤكدا على استمرارية استراتيجية القوة واللامساواة من الغرب حتى اليوم:

" أقول وأكرر القول بأن المجريات التاريخية و الإجتماعية والنفسية – الثقافية التي تقبع خلف الحالة الراهنة المتدهورة لمجتمعات ما بعد الاستقلال لم تحظ حتى الآن بتحريات علمية دقيقة ومرضية. (...) ولاتزال هذه الرهانات (رهانات القوة) وتلك الاستراتيجيات تحرك الجماهير منذ القرون الوسطى وحتى اليوم، كما ولا تزال تبرر "الحروب العادلة" في هذا الفضاء المتواصل تاريخيا، ولكن المنقسم إلى ثلاث دوائر من الناحية الجيو – بوليتيكية: أي الإسلام، أوروبا، الغرب. قلت لا تزال الأمور مستمرة على النحو ذاته منذ العصور الوسطى وحتى اليوم على الرغم من انتقال البشرية الأوروبية من المرحلة اللاهوتية – السياسية إلى المرحلة العلمانية – السياسية. " 

إن محمد أركون لم يشر لنا فقط على إجابة سؤال من نقاوم، بل قام بتفكيكه داخليا وخارجيا، لنفهم أن هناك ثلاث قوى فاعلة هنا وهي:

1.    قوة خارجية العنف في بنيتها وتتمثل في الغرب وإسرائيل،

2.    قوى استبداد وديكتاتورية داخلية تتمثل في نظم الحكم المستبدة،

3.    قوى مضادة لنظم الحكم المستبدة هي الأصولية "الإسلامية".   

ويشيرعبد الإله بلقيز أستاذ الفلسفة والمفكر المغربي، في الندوة الفكرية المشار إليها، إلى قوة رابعة يمكن إضافتها إلى القوى الفاعلة في جدلية الحداثة – المقاومة، تلك القوة هي:

4.    قوى العقلانية الليبرالية (الجديدة)

يقول بلقيز في ورقته البحثية بعنوان "نظرة تقويمية في حصيلة العقلانية والتنوير":

" يمكن أن يقال بغير قليل من الموضوعية، أن الغالب على تراث العقلانية الليبرالية هو طابع الدعوى التبشيرية. انصرفت مقالتها – في المعظم من الأوقات – إلى التبشير بمدنية وثقافة حديثتين هما مدنية أوروبا وثقافتها. ولأن المنظومة الفكرية الغربية جاهزة، وفي حوزتها من المعطيات المعرفية والأجوبة الفكرية الكثير مما تسعف به الليبرالية العربية، فقد "اكتفى" هذا الأخير باستعادة تلك المعطيات وإعادة إنتاجها في الثقافة العربية بغير جهد تأصيلي. (...) لذا بدا تراث العقلانية الليبرالية  - في المعظم منه – برانيا غير ذي صلة بالـ "التاريخية الخاصة" للفكر العربي، ومع شدة بأسه، كان يسهل صيده في المناظرة الفكرية مع خصومه (يقصد الأصولية الإسلامية الإحيائية)."

وفي نفس النقطة يؤكد فيصل دراج المفكر الفلسطيني في ورقته بنفس الندوة على سؤال "التبعية" المرتبط بتلك القوى الرابعة، أي الفكر التنويري العربي ، يتسائل :

" لعل السؤال الثاني (سؤال التبعية) هو في أساس تهميش سؤال "الصهيونية" في كتابات تنويرية كثيرة. وقد يبرر هذا النقص بخفاء او هامشية المشروع الصهيوني آنذاك، دون أن يكون التبرير مقنعا، ذلك أن الكفاح الفلسطيني ضد الصهيونية بدأ منذ مطلع القرن العشرين. (...) إن غياب الالؤال الصهيوني عن الفكر التنويري العربي يكشف عن حدود "الوعي التاريخي " بلغة عبدالله العروي، لهذا الفكر."

ويحزنني أن لا يبرئ فيصل دراج مفكري التنوير العربي في مطلع القرن، ولا يقتنع بتبريرنقص الوعي التاريخي، هذا في الوقت الذي لايخجل مثقفوا الهزيمة من المحسوبين على الليبرالية العربية، بنهاية العقد الأول من القرن العشرين، لايخجلون ليس فقط من تهميش السؤال الصهيوني، بل التحالف الخفي أو حتى العلني معه فيما يمكن أن أسميه بغير قليل من الثقة: "الانتحار التاريخي". فقد أبدى الدكتور مصطفى الفقي العلم السياسي المصري المعروف، في ندوة أذيعت على قناة الجزيرة مباشر في منتصف مايو 2009، أبدى ألمه الشديد من نشر جريدة الأهرام المصرية لخبر في يوم "مشئوم"، بحسب تعبيره، عن دعوة أحد المفكرين الليبراليين الجدد في مصر إلى التحالف مع إسرائيل ضد إيران.

مـــاذا نـــقـــــاوم ؟

إذن، فالفكر الليبرالي العربي الجديد بقفزه فوق السياقات يمثل قوة فاعلة في معادلة الحداثة – المقاومة، القوة الرابعة بعد الهيمنة الخارجية، والاستبداد الداخلي، والفكر الأصولي المتحجر، هذا بغض النظر عن القيمة النسبية لتلك القوى جميعا فيما بينها. بمعنى آخر يربطنا بموضوع هذا المقال مباشرة، هو أن تلك القوى جميعا تمثل أهدافا لـ "وعي المقاومة"، أي أن كل منها بشكل ما، وفي سياق ما، منفردا أو مشتركا، يشكل بالفعل أو يمكن أن يشكل قوة عدوان مباشرة على مشروع النهضة العربية المبعثرة بسبب التفاعلات السلبية لكل تلك القوى، والمتصلة بسبب استمرار وعي وثقافة المقاومة. وبالتالي فإن تلك القوى ذاتها، وهي الفاعلة للحداثة كما رأينا، أو الفاعلة فيها بمعنى أصح، هي نفسها التي عوقت وأفسدت، تاريخيا، كل جهود النهضة العربية منذ انطلاقها بعد حملة نابليون. فعلت ذلك من خلال تناقضاتها قبل تفاعلاتها إن كانت، وصراعاتها قبل تحالفاتها إن وُجدت.

والآن، مــاذا نقاوم؟ نقاوم كل نزوع لكل من تلك القوى للحيد بنا عن جادة النهضة العربية الإسلامية، لأننا لا نستطيع أن ننفي أي منها، فهي كما رأينا فاعلة للحداثة وفاعلة فيها ونافية لها أيضا.

ثـقـــافــة المـقــــاومة

كتب إبراهيم غرابية كتابا يجمع أعمال مؤتمر علمي عقد بجامعة فيلادلفيا بالأردن في 13 فبراير 2007، تحت عنوان "ثقافة المقاومة"، ويتضمن مجموعة من الدراسات أدرجت في عدة أبواب، وفيه أنه نشأت في سياق ثقافة المقاومة الإطار النظري والفكري لثقافة المقاومة عقائد وأفكار، يرى د. حسن حنفي المفكر المصري أفضلها تلك التي تجعل العمل من الإيمان، ويرى أيضا أن المقاومة لا تقوم إلا على مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة، والجمع بين الفرق، والتعددية على مستوى النظر، والواحدية على مستوى العمل، وأن ثقافة المقاومة تبدأ من الإنسان والمجتمع والأرض والدولة، وتقتضي ثقافة المقاومة فك الارتباط بين أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة.

فالمقاومة حركة تلقائية في التاريخ تبدأ من رفض العبودية، كما أنها سابقة على النص، ولهذا فإن حنفي يلاحظ أن فصائل المقاومة الفلسطينية تراجعت عن الاختلافات النصية لصالح الشهادة والنضال اليومي ضد الاحتلال. بمعنى مرتبط بموضوع مقالنا، هو أن المقاومة بالنضال اليومي قد قاومت التحجر الأصولي في داخلها الإسلامي، ولم تهن عزيمتها بسبب إسقاطات الليبراليين الجدد وتماهيهم مع المشروع الصهيوني، ولم يزرع اليأس في نفوسهم استبداد أي سلطة كانت، ومن الواضح أن قوة الهيمنة قد فشلت على أعتاب غزة، كما فشلت في جنوب لبنان، فشلت في أن ترهب عزيمة المقاومة. بمعنى أعم وأشمل، فإن المقاومة النضالية اليومية قد تماهت مع مقتضيات الحداثة وتعلمت كيف تنصرف إلى "بناء برامج إصلاح منشغلة بالأسئلة العملية أكثر من انشغالها بتطوير الأدوات النظرية المرجعية، أو بناء الأنساق النظرية المتماسكة"، بحسب تعبير كمال عبد اللطيف.

إن إشكالية الحداثة – المقاومة رغم العدد الضخم من الكتب والأبحاث التي تناولتها، فإن هؤلاء الباحثون هم الذين يقرون بأنها تحتاج إلى أضعاف الجهد في المزيد من البحث والدراسة، ومازالت مقولة محمد أركون التي قالها في مطلع تسعينات القرن الماضي سارية اليوم، حيث كتب:

 " أقول وأكرر بأن المجريات التاريخية والاجتماعية والنفسية – الثقافية التي تقبع خلف الحالة الراهنة المتدهورة لمجتمعات ما بعد الاستقلال، لم تحظ حتى الآن بتحريات علمية دقيقة ومرضية، فالدراسات العلمية لاتزال قليلة في هذا المجال."

وما تم تقديمه في هذا المقال ليس إلا قطرة في بحر المعرفة بإشكالية الحداثة- المقاومة، ولعله يكون حافزا للقارئ على الاستزادة من القراءة في زمن الانفجار المعرفي. ولعله من المناسب أن نسأل سؤالا آنيا، بدون تهويل أو تهوين، هل يمكن أن تكون المقاومة هي أحد المحركات لتغيير الاستراتيجية الأمريكية من "الصدمة والرعب" لبوش، إلى "القوة الناعمة" لأوباما الذي يأتي إلى القاهرة "المعزولة" ليعيد ربطها بعالمها العربي والإسلامي بتوجيه خطاب ود إليهما من قلبها ذي الألف عام؟

أما كيف نقاوم وكيف نحقق الحداثة في نفس الوقت، فذلك سؤال يحاول مفكرو الأمة أن يجيبوا عليه منذ أكثر من قرنين، وما زالوا يفكرون!، ولعلهم يجيبون يوما. أما نحن الناس العاديون، فأعتقد أن دورنا يبدأ من العقل البديهي أو الفطرة، وينحصر في الإصرار الشعبي على المقاومة لكل ما يمنعنا من الحداثة وحقنا في الحياة وفي الحلم بالرفاهية، وأولهم المشروع الصهيو- غربي الذي يغتصب إلى جانب الأرض الفلسطينية، حقنا في الحداثة، مرورا بالنخبة السياسية العربية التي لا تستطيع، تشبثا بالسلطة الاستبدادية، أن تنخلع من تبعيتها للهيمنة الأمريكية ومن منهجية الفساد المتلازمة معها، وتعريجا على الفكر الأصولي المتحجر الذي تتولاه أمريكا بالرعاية والسقاية ليسوغ لها التبرير المستمر في الحرب على "الإرهاب" مدخلا للسيطرة على أوراسيا قلب العالم القديم، وانتهاء بالليبراليون العرب الجدد الذين اختاروا الانحياز للمشروع الصهيوني، صراحة أو ضمنا، من باب الحداثة، وضمانا للتنمية في إطار السلام، تنمية لم تتم بعد ثلاثين عاما، بل تقدمنا لأسفل بحسب تعبير جمال حمدان!! أو هكذا أظن.

30 مايو 2009

 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية