| | | | شهادة أوباما لتاريخ مصر- مبارك: دعم للقيادة أم رشوة للقوادة؟! ...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم ....................
1. شهادة أوبــاما التــاريــيخية! بالرغم من تدني مستوى صحيفة الأهرام مؤخرا، فقد أعجبني للوهلة الأولى، كقارئ ساذج، مقال بعدد 14 مايو 2009 بعنوان : "هنا القاهرة: شهادة للتاريخ..بصوت أوباما"، لكاتبه د. أحمد يوسف القرعي، وهو كاتب يبدو متزنا. سبب الإعجاب بهذا المقال أن القرعي يبدو أنه لم يذهب في قراءته للمشهد الأوبامي المنتظر في القاهرة، حصريا على خلفية قصر الرئاسة الملكية في مصر الجديدة، فيعزف مع جوقة صحافة النظام إلى إرجاع الفضل في قرار الرئيس الأمريكي بتوجيه خطابه للعالم الإسلامي من القاهرة إلى حكمة مبارك الشهيرة. بل عزا د. القرعي الأمر بدرجة من الموضوعية إلى أن الرئيس الأمريكي ربما يكون قد اطلع على ترجمات العالم المصري جمال حمدان في عمله الموسوعي "شخصية مصر"، وتفهم عبقريتها في الزمان والمكان. ورغم عدم اعتراضي على أراء الدكتور القرعي عامة، إلا أن إعجابي الأولي بالمقال لم يدم طويلا، وبدأ يتضح ما بدأ شكا في أن التحليل الذي يسوقه د. القرعي ينقصه شئ ما، ولم يكن صعبا أن أجد مدخلي إلي ما يكمله عندما رجعت إلى بعض المنشور في الصحف الأمريكية عن توجهات أوباما بين البراجماتية النفعية والعقائدية النظرية، وتأكد ظني عندما رجعت إلى المرجع الإمام: جمال حمدان، فله في قلبي حبا لا أنكره، وعلى عقلي سطوة لا أخجل منها.
يبدأ د. القرعي مقاله في الأهرام بتحليل يقول فيه: "وأغلب الظن ان الرئيس أوباما قد اطلع علي ترجمات كتب المفكر الجغرافي المصري الكبير جمال حمدان صاحب الموسوعة الرباعية( شخصية مصر ـ دراسة في عبقرية المكان) وكذا كتابه عن العالم الاسلامي المعاصر, وفي هذا الكتاب أجري جمال حمدان مسحا موضعيا شاملا للعالم الإسلامي, وأشار إلي مصر باعتبارها أرض الزاوية من العالم الإسلامي وجزءا صميما من أرض الرسالة في الإسلام". وينهي مقاله بتأكيد استنتاجه بقوله: "ويبدو واضحا ان اختيار الرئيس الأمريكي أوباما للقاهرة عاصمة للعالم الاسلامي تتفق تماما مع ما ذهب اليه مفكرنا الجغرافي الراحل جمال حمدان, حيث الموقع البؤري في قلب مثلث القارات."
2. أوبـامــا: أيديولوجي عقائدي أم براجماتي نفعي؟ وفي جريدة الدستور المصرية، العدد الأسبوعي 14 مايو 2009، كتب محمد القدوسي تحليلا متزنا لمقالين نشرا في الواشنطن بوست الأحد الماضي 10 مايو 2009 عن رؤيتين متعارضتين لتوجهات أوباما. واحد لـ آليك ماك جيليس بعنوان "يبدو عظيما ولكن ماذا يعنى بالفعل؟"، يرى فيه أن أوباما يتصرف بطريقة براجماتية تخفي منهجا عقائديا. والثاني لـ جاكسون دييل بعنوان " أوباما يغير توجهه بشأن أفغانستان وباكستان"، يرى فيه أن أوباما براجماتي ذرائعي اتخذ موقفا بعيدا عن أي ارتباطات عقائدية أو نظرية. وخلص القدوسي في "الدستور" في نهاية مقاله إلى التساؤل التالي: " هل أوباما براجماتي أم عقائدي؟ لدينا مقالان يحملان إجابتين مختلفتين للسؤال نفسه، وهما معا منشوران في صحيفة واحدة، الواشنطن بوسط في نفس العدد" في حدود تلك القراءات المحدودة، نستطيع أن نستنتج أن مقال د. القرعي في الأهرام منغلق على نفسه وأحادي النزعة والرؤية، بينما مقال القدوسي منفتح يتحرى تنوع الرأي بل تضاده. ولعل ذلك يعطينا فكرة سريعة وموازية للغرض من هذا المقال، وهي أن تلك المقالات هي عينة توضح سبب تدهور وتدني الأهرام المعبرة عن النظام، قياسا إلى نجاح الدستور معبرة عن المعارضة، بغض النظر عن مدى جدية أو فاعلية تلك المعارضة. وإذا ما عدنا إلى المرجع الإمام: جمال حمدان في "شخصية مصر"، فسنجد عالما أرحب من المعرفة والطرح العلم،وغير محدود برؤية سلطوية أو معارضة، كما أنه، وهو الأهم، غير محدود برؤية زمنية قصيرة وأحداث متغيرة، بل يستمد الرأي ويستلهم الرؤية من ثوابت الجغرافيا والتاريخ كما يعبر عنهما حمدان، تلك الثوابت تبدو وكأنها كشاف ضوء كوني يبدو فيه الظرف التاريخي الآني واضح التركيب، والدوافع، والاتجاه، والهدف. وكأنه جسم مجهري تحت عدسة مجهر إلكتروني.
3. رؤية تاريخية أصيلة في رؤية تنبؤية مدهشة، يقوم جمال حمدان، الذي رحل عن عالمنا منذ 16 عاما، بوصف وتحليل زيارة أوباما للقاهرة 2009 قبل أكثر من 20 عاما كالآتي: " ...بكل صراحة أنه لا مانع لدى الاستعمار والإمبريالية من زعامة مصر الإقليمية لا "كــقــائدة" للمنطقة إلى الاستقلال والقوة ولكن للأسف – وحاشا – "كـقــوادة" لها إلى تبعيتهما ومناطق نفوذهما. وإذا كانت هذه الزعامة – العمالة مرفوضة قطعا مصريا وعربيا، محليا وإقليميا، فإنها من أسف شديد ليست غير واردة تماما في بعض الأحيان والحالات." هذه رؤية تاريخية، هي كما ذكرنا، غير محدودة بموقف سياسي معين، ولا بظرف تاريخي آني، ولا بشخوص في السلطة أو خارجها. ولمن لم يقرأ "شخصية مصر"، فالكتاب عمل موسوعي يقع في أربعة أجزاء على مدى 3551 صفحة من القطع المتوسط، عمل عليه جمال حمدان قرابة الـ 15 عام، استند فيها إلى 791 مرجعا أجنبيا، و245 مرجعا عربيا. إذن فإن استنتاج حمدان لموقف مصر الحديثة في علاقاتها مع قوى الاستعمار والإمبريالية باشكالها المختلفة، هو استنتاج بقوة ورسوخ الجغرافيا، وبطول وعرض التاريخ باعتباره جغرافيا ديناميكية بحسب تعبير حمدان. ونستطيع أن نؤكد أن تحديد وحصر دور مصر الحديثة تحت هذا الضغط الخارجي بين "القيادة" و "القوادة" ليس تعبيرا مجازيا قد يومئ إلى إهانة فترات تاريخية بعينها من تاريخها، ولكنه كما أرى وأفهم جمال حمدان، هو تعبير سياسي واقعي على إطلاقه، وبامتياز.
4. يونيو 67: شهادة أكبر واوقع فهل، كما تسائل إبراهيم عيس في الدستور، اختيار تاريخ 4 يونيو جاء اعتباطا؟ أعتقد معه أن الإجابة هي لا، فذلك التاريخ هو تاريخ "الشهادة" الأخرى الأمريكية عندما بدأت في "نفي" الدور القيادي والتاريخي المصري في المنطقة في 5 لايونيو 67.
إن قيمة مصر التاريخية لا تحتاج إلى أوباما أو غيره ليشهد لها "شهادة للتاريخ"، فهي أكبر وأرفع من ذلك بكثير. ولقد كانت الضربة القاصمة التي وجهها المشروع الصهيو-غربي لعبد الناصر في 67 هي أكبر شهادة آنية، لا تاريخية، من الرئيس الأمريكي جونسون في ذلك الوقت لحجم مصر في التاريخ، تاريخ الخمسينات والستينات من القرن العشرين بالذات. شهادة تجلت في استهداف تحجيم أو القضاء على قيادة ناصر في ذلك الحين، لأن تلك "القيادة" لم تنصاع لأمريكا الإمبريالية. ويمكن رؤية اتفاقية السلام المزعوم مع العدو الصهيوني على أنها شهادة آنية أخرى، بمعنى أن الهدف من الاتفاقية هو التخلص من الدور "القيادي" التاريخي لمصر في الصراع مع ذلك العدو، بعدما فشلت ضرية 67 في القضاء التام على "قيادة" مصر لذلك الصراع، حيث قادت الانتصار في 73. وقد تحقق للأسف، الهدف الصهيو-غربي في توقيف، ولا أقول القضاء على، الدور "القيادي" المصري بعد معاهدة السلام.
ويبدو أن قطار "القيادة" المصري لم توقفه أمريكا فقط في محطة القاهرة بعد كامب ديفيد، بل أنها عملت بعد السادات إلى شحنه إلى غيابات جراج التاريخ أيضا. ولكن مصر التاريخية، التي لا تحتاج من أحد إلى شهادة على عبقرية موقعها وموضعها، أي عبقرية تاريخها، لا يمكن لأي قوة أن تبقيها في ذلك الجراج إلى الأبد.
5. دعم للقيادة أم رشوة للقوادة؟ عودة إلى التحليلين الذين عرضهما القدوسي في "الدستور"، بالإضافة إلى تحليل د. القرعي في الأهرام، فكل تلك التحليلات يمكن قرائتها من مدخل مفهومي "الـقــيـادة" و"الـقـــوادة"، وذلك يقودنا إلى تفهم وتفسير زيارة أوباما للقاهرة في 4 يونيو 2009 ليعلن منها توافقه مع العالم الإسلامي والعربي تحديدا. بعد "شهادة جونسون" في ستينيات مصر- ناصر وهي سلبية واضحة تؤكد بالنفي، الدور القيادي المصري؛ هل يحق لنا أن نتسائل عن هوية "شهادة أوباما" في العقد الأول من الألفية الثالثة لمصر – مبارك، سواء كانت تلك الشهادة من منطلق أيديولوجي غير مباشر مغلف بالبراجماتية، أو مباشر في براجماتية نفعية؛ هل تلك الشهادة – التي لا تحتاجها مصر – هي دعما لدورمصر "كـقـــيـادة" تعود فيه لحجمها ووزنها الطبيعيين، وتمارس دورها التاريخي في المنطقة إلى الاستقلال والقوة في إطار الجيوبوليتيكا العالمية والإقليمية بحكمتها التاريخية؟، أم هي للأسف – وحاشا -"رشوة" لدورها "كـقـــوادة" إلى تبعية ومناطق نفوذ أمريكا؟ وذلك كما صاغها جمال حمدان منذ مايقرب من ربع قرن، باستشراف مستقبلي مذهل!. رحم الله جمال حمدان.
15 مايو 2009
مصرنا ©
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|