مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 حيوية الأمة بين الخطر الإسرائيلي و الخطأ العربي
...............................................................

بقلم : مســـعد غنيم
....................

تحدي حضاري

المشروع الصهيو- غربي هو التحدى الأكبر الذي تواجهه الحضارة العربية الإسلامية على وجه الشمول، وذلك في مسار سعيه الدائم للهيمنة الكونية بالارتكاز على أرض القلب Heart Land في أوراسيا كما حددها سير جون هالفورد ماكيندر أحد أهم منظري الجيوستراتيجي في مطلع القرن الماضي (1905)، ومع بداية القرن الواحد والعشرين يستهدف مشروع الهيمنة ذاك تحجيم العملاق الصيني الذي وقف على قدمية أخيرا، وحصار الدب الروسي الذي اعتدلت قامته بعد الانكفاءة السوفيتية. وبطبيعة الجغرافيا والتاريخ فالكيان العربي الإسلامي لم ولن يكون بعيدا أبدا عن ذلك الصراع أو التفاعل الحضاري الكوني، وليس من قبيل المصادفة أن نقرأ مثلا لـتوبي هوف  Toby E. Huff في كتابه: فجر العلم الحديث The Rise of Early Modern Science (Islam, China and West) كيف أن الكيانات الحضارية التي كانت مؤهلة لبزوغ ذلك الفجر، انحصرت في ثلاث كيانات محددة هي في تعريف وترتيب يحملان أكثر من دلالة: الإسلام والصين والغرب، وأن الصين والإسلام كانا أكثر تأهيلا وعلمية من أوروبا عندما بزغ ذلك الفجر في العصر الوسيط (القرنين الثاني والثالث عشر). والملاحظة الجديرة بالانتباه هنا أنه عرًّف المركز الأول، الإسلام، بالعقيدة، والثاني، الصين، بالهوية القومية، والثالث، الغرب، بالاتجاه الجغرافي، بينما لم يحدد توبي هوف المركز الأول، الإسلام، بالجغرافيا ىشرقا أو غربا، وحصر الثاني، الصين، في حدودها القومية. وقد يكون مناسبا هنا أن نضيف أن الرئيس الفنزويلي شافيز (الناصري) يتفق مع توبي هوف بشكل ما، في إضافة موسكو إلى الغرب وإن كان في تقسيم آخر محوره شمال- جنوب.  

نقلة جيوبولوتيكية

إن عالمنا السياسي قد انقلب رأسا على عقب منذ أواخر سنة 1989 بسقوط الاتحاد السوفيتي، في نقلة جيوبولوتيكية لم يكن أي من الخبراء يتصور إمكان وقوعها بهذا الشكل حتى وقعت بالفعل. ولكن:

" معايشة نقلة جيوبولوتيكية لا تعني بحال أننا في وضع نستطيع معه تصور طابع النظام الجيوبولوتيكي العالمي القادم، ...ونعترف بأننا لا نعرف الكيفية  التي سوف تكون عليها صورة توزيع القوى على الساحة العالمية في المستقبل القريب."Political Geography, Peter J. Taylor 2000

وعقب تلك النقلة، وفي إطار الأراء التي طرحت في ندوة الجغرافيا السياسية التي عقدت في ميامي 1992، كان هناك نموذجان متصوران للجيوبولوتيكا المعقدة المعالم والأبعاد، لكل من دي بليج (deBlij 1992)، وتيلور (1992)، حول وضع قطبي العالم الكبيرين: إذ أكد بليج على استمرار الطاقة العسكرية للاتحاد السوفييتي، وأن إمكانات القوة في "أراضي القلب Heartland في أوراسيا" ماتزال باقية، ومن ثم فإن احتكار الولايات المتحدة للقوة عالميا في أعقاب الحرب الباردة سوف يكون أمرا موقوتا وقصير الأجل وأن العالم سوف يعود إلى حال من هيمنة قطبين كبيرين على الساحة في شكل أو آخر. ويظل هذا السيناريو – في تقدير دي بليج – قائما حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ تبقى روسيا، على رغم ما أصابها...تسعى من جديد لاستعادة نفوذها السياسي الضائع. هذا النموذج هو الذي نرى صحة تحليله بنهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. أما تيلور فنجده يعيد إحياء نموذج جيوبوليتيكي آخر لجالتونج عن الطبقات العالمية، ويقيمه على أساس جديد كما يصفه تايلور في كتابه من:

" منظور "عالم ثالثي" يؤكد صعود الإسلام كقوة عالمية محتملة. فالعالم الإسلامي يغطي مساحة من الجزيرة العالمية تمتد من الشمال الأفريقي إلى جنوب شرقي آسيا، وهو يملك من مقدرات وموارد هائلة تؤهله لكي يصبح قوة عالمية لايستهان بها علي الساحة العالمية. ويملك العالم الإسلامي الإمكانات التي تؤهله للحلول محل الماركسية – اللينينية التي قضت حديثا كرأس حربة لثورة شعوب الأطراف ضد الهيمنة. كانت هاتان الرؤيتان (بليج، وتيلور) تمثلان رأي الأقلية في ذلك النقاش حول مستقبل الجيوبوليتيك."  

وهذا النموذج الأخير أو الرؤية تفسر دوافع وواقع الاستراتيجية الهجومية: الصدمة والرعب Shock and Owe، التي تبناها بوش الجمهوري في قمة الجنوح الإيديولوجي للمشروع الصهيو- غربي، كما توضح العنف الصهيوني اللأنساني في الهجوم على حماس - غزة – فلسطين، وذلك في الأنفاس الأخيرة للهجمة الشرسة قبيل رحيل بوش ونهاية عصرة في "الحرب على الإرهاب!".

مناورة استراتيجية

هذا التحدى للكيان العربي الإسلامي في الإطار الجيوبوليتيكي العالمي ليس جديدا بالمرة، فما الصهيونيات إلا امتداد للصليبيات كما يقرر جمال حمدان. وهذا التحدي هو حضاري الهوية بالدرجة الأولى، وبالطبع فله أبعادة الأيديولوجية والاستراتيجية. واليوم في إطار الاستراتيجية الهجومية المستمرة من الغرب على الشرق، نشهد مناورة استراتيجية بعد انحسار أو انكسار استراتيجية الصدمة والرعب، وبدأ استراتيجية القوة الناعمة Soft Power على يد أوباما الديموقراطي. ولكن هذا، في عرف استراتيجيات الصراع الكوني بين القوى العظمى، لايعنى بالطبع التخلي عن متطلبات القوة ومطامع الهيمنة، فتلك طبيعة التاريخ الإنساني مذ كان. هكذا يجب رؤية و فهم طبيعة المرحلة الراهنة من الصراع الكوني وطبيعته التركيبية المعقدة، ولا يجب أن تتستغرقنا ضبابية الرؤية وتفرق بل وتضاد التكتيكات، ولا أقول الاستراتيجيات، القطرية في العالمين العربي والإسلامي عن رؤية الأهداف الاستراتيجية - المفترضة- للأمة.

حيوية الأمة في قدرتها على امتصاص الصدمات

يبدو أن النظام العربي، بأخطاء العرب قبل هجوم المشروع الصهيو-غربي عليهم، قد وصل إلى أقصى نقطة في القاع أو هو في طريقه إليها، في تسارع مخيف مع ما يبدو جليا من آثار استراتيجية الفوضى الخلاقة لذلك الهجوم، فبعد اغتصاب فلسطين، هاهي بغداد الرشيد، بوابة العرب الشرقية، ممزقة ومحتلة بالغزو المباشر، ودمشق الأموية، بوابة الطريق الحتمي إلينا لضغوط الهارتلاند الآسيوي كما يصفها جمال حمدان، محاصرة ما بين التهديد بالضرب، والغواية باستعادة الجولان المحتلة، أما الرياض، خادمة الحرمين وحاضنة الخليج، فهي أسيرة "ثورة البترول" منذ انتقل مركز الثقل الاستراتيجي في العالم من قناة السويس إلى الخليج، وبالتالي ورث الخليج ومضيقه: هرمز دور وموقع مصر وقناتها إلى حد بعيد جغرافيا واستراتيجيا، مصر تلك التي هي هارتلاند العرب إذا استعرنا كلمة ماكيندر كما يقول جمال حمدان، يبدو أنها قد عَزلت نفسها أو عُزلت بعد كامب ديفيد، أو أنها كما يتخوف جمال حمدان منذ أكثر من ربع قرن:

" ...بكل صراحة أنه لا مانع لدى الاستعمار والإمبريالية من زعامة مصر الإقليمية لا "كــقــائدة" للمنطقة إلى الاستقلال والقوة ولكن للأسف – وحاشا – "كـقــوادة" لها إلى تبعيتهما ومناطق نفوذهما. وإذا كانت هذه الزعامة – العمالة مرفوضة قطعا مصريا وعربيا، محليا وإقليميا، فإنها من أسف شديد ليست غير واردة تماما في بعض الأحيان والحالات."

وقد يرى البعض أن مصر قد وصلت بالفعل إلى إحدى تلك الحالات التي كان يخشاها جمال حمدان. وهكذا نرى أن كل مراكز القوة في النظام العربي قد تم شل فاعليتها بشكل أو بآخر، ولكن ذلك يبدو أنه تم على مستوى نظم الحكم فقط، فمن الواضح مثلا أن الشعب المصري يرفض التطبيع مع إسرائيل بعد مرور ثلاث عقود كاملة. وفي مواجهة ذلك الانحدار يبقى الإصرار على المقاومة الرشيدة هو الدليل الوحيد على حيوية الأمة واستحقاقها للحياة، ومن أولويات وأوليات المقاومة هو الفهم التاريخي والجيوبولوتيكي لما يجري.  كما لا يجب أن يحبطنا  فريق "ثقافة الهزيمة" الذين – بحسب اقوالهم – يحسبون أنهم يحسنون صنعا للنظام العربي في مواجهة المشروع الصهيو- غربي، ونتائج كتاباتهم تقوض ولا تبني، تنقض ولا تنقد، ، تشوش ولاتكشف، تقتل ولا تشفي ثقتنا في الحيوية الحضارية لأمتنا وقدرتها على الصمود والحوار من موقع المشاركة وليس بالضرورة من موقع الصراع.

"الحيوية إنما هي أساسا القدرة على الامتصاص وعلى امتداد الصراع. والقدرة على امتصاص الصدمات، كما يؤكد جوبليه، هي المقياس الحقيقي الوحيد لحيوية الشعوب والدول. ومن الواضح تماما في تاريخ مصر أن المصريين قوة صامدة صابرة وكتلة صماء صلبة غير منفذة للأجنبي بسهولة، وعلى هذه الصخرة بالذات ، حتى بسلبياتها أحيانا أكثر منها بإيجابياتها، تحطمت الغزوات أو تآكلت وأرهق الاحتلال والاستعمار حتى رحل."(B.S.C.G 1959 ـــــــــــ – جمال حمدان – شخصية مصر)

إنتصار المقاومة

المشروع الصهيو – غربي له مركزه الرئيسي في واشنطن بعد انتقاله من مراكزه الفرعية والقديمة في أوروبا (باريس – لندن) فعليا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد فشل المركزين القديمين في لندن وباريس بالتحالف المباشر مع المركز المتقدم للمشروع في إسرائيل في السويس 1956، حيث فشل العدوان في القضاء على مقاومة ناصر الصاعدة للمشروع الصهيو-غربي بعد النجاح الذي تحقق باغتصاب فلسطين في 1948. أما المجموع العربي الإسلامي فلم يعد له مركز، إسلاميا بعد زوال الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن الماضي بنهاية الحرب العالمية الأولى، وعربيا بعد رحيل ناصر جسديا 1970 بعد كسر مقاومته عسكريا في 1967، وبعد قيادته القوية للمشروع القومي العربي في الستينيات من القرن الماضي، حيث حقق من خلاله قمة الفاعلية والتأثير الكوني من خلال حركة عدم الانحياز بالتحالف الهندي ممثلا في نهرو، واليوغوسلافي ممثلا في تيتو. ومن المدهش حقا مقدار حيوية تلك الأمة رغم تفكك أوصالها بل وتقطيعها منذ ذلك الحين، وصمودها في تلقى الضربات العنيفة طوال القرن العشرين في مقاومة لا تموت، حيث أنه ليس من المحتمل أن نخطئ في قراءة مشهد أن يأتي الرئيس الأمريكي من مركز واشنطن ليعلن من المركز العثماني العائد مصالحته مع الإسلام في بدء استراتيجيته الجديدة الناعمة، بعد انحسار أو انكسار استراتيجية الصدمة والرعب بقوة مد غير مسبوقة ضد ذلك الكيان العربي الإسلامي.     

ومن المنطقي، في غياب أي مراكز جامعة للفرط العربي الإسلامي رغم وجود المؤسسات الممثلة مثل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي تصارع على البقاء أو ضد الاحتواء،  ألا نتوقع وجود استراتيجية مركزية مضادة للمشروع الصهيو – غربي. وينعقد الأمل دائما على تلك الحيوية التاريخية للأمة التي تعتمد على قوتها الجغرافية السياسية كما يعرفها جمال حمدان:

" فالقوة السياسية للدولة – والجغرافيا السياسية أساسا "تحليل قوة Power Analysis" مركب بالغ التعدد والتعقيد من عناصر مادية ومعنوية تطوي الاقتصاد والإنتاج والموارد والمواهب والسكان والتنظيم والإدارة والحضارة.....إلخ."

وقد شهدنا ملامح تلك القوة في مصر بالرفض الشعبي التام للتطبيع مع إسرائيل رغم معاهدة السلام منذ 30 عام. وشهدناها قوة رافضة للغزو الأمريكي للعراق منذ بدايته في 2003 وطوال احتلاله حتى الآن، ورأينا المناصرة الكاسحة للمقاومة اللبنانية ضد العدوان الصهيوني ومدى الشعبية التي اكتسبها رمز المقاومة الشيخ حسن نصر الله، وأخيرا لمسنا أكبر حشد ودعم شعبي للمقاومة أثناء المحرقة الصهيونية على غزة بنهاية 2008 ومع  نهاية مرحلة الصدمة والرعب وقبل بدء استراتيجية القوة الناعمة. ولا أعتقد أن هناك أي مبالغة في القول بأن تلك المقاومة وليس أي عامل آخر، هي التي تقف وراء ذلك التحول الاستراتيجي للهيمنة الأمريكية من استراتيجية هجومية بالغة العنف، بعد الغرق في العراق والإحباط في لبنان والجنون في غزة فلسطين، والتيه الأزلي في أفغانستان، إلى استراتيجية ناعمة غامضة الشكل، وإن كانت واضحة الهدف. ومن منظور جيوبولوتيكي فلا يخفى على القارئ الذكي من أين تأتي المقاومة بكل ذلك الزخم من الصمود والقدرة على الاستمرار، فغير خاف المصالح الجيوسياسية المشتركة بين تلك المقاومة بشكل عام والقوى الإقليمية والكونية التي تستهدفها استراتيجية الهيمنة للمشروع الصهيو – غربي مثل روسيا والصين وإيران، بل وحتى تركيا العائدة إقليميا وإسلاميا بقوة يمكن تفسيرها في إطار حيوية الأمة.

ماذا بعد

يجمع حكماء الأمة أن أصل البلاء في النظام العربي المعاصر على " أن العرب قد فتحوا عيونهم على العصر الحديث في سياق اصطدام كياناتهم بأوروبا الزاحفة عليهم بعساكرها منذ حملة نابليون على مصر، مرورا باحتلال الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، وصولا إلى سقوط المشرق العربي في قبضة الاستعمار، وأن أوروبا قد نبهتهم إلى الفجوة الرهيبة التي تفصلهم عن العصر، وكشفت لهم مدنيتها الحديثة عن معضلات وتحديات جديدة اكتشفت نخبهم الفكرية بأن الجواب عنها ليس ممكنا دائما من داخل المدونة الإسلامية الموروثة" كما يقرر عبد الإله بلقيز في مقدمة ندوة فكرية نظمها مركز دراسات الوحدة العربية 2005. ويحدد أصل الداء في:

" انكسار مسيرة العقل في ثقافتنا منذ انهزمت العقلانية الإصلاحية الإسلامية أمام الإحيائية الإسلامية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولم تلبث العقلانية الليبرالية أن لحقت الأولى في نكبتها فتحول أهلها إلى فريق صغير في ساحة الفكر لايكاد يؤثر إلا في جمهور محدود."

من هنا، تبدأ المقاومة الحقيقية باجتثاث أصل الداء.

17 أبريل 2009

 
 

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية