| | | | تطـبــــيع الغـــش التعليمي كارثة أمن قومي لا تضحك ...............................................................
بقلم : مسعد غنيم ....................
الغــش وحده قادر على أن يدمر أقوى الأمم إذا ما تم تطبيعه في ثقافتها وممارسة حياتها اليومية، ويتم القضاء على مستقبل هذه الأمة إذا وصل تطبيع الغش إلى التعليم، فيقضي على بصيص الأمل بعد قضائه على نتاج العمل. ففي حلقة تليفزيونية مساء 10 سبتمبر 2008 في برنامج ترفيهي رمضاني يذاع يوميا على عدد غير قليل من الفضائيات العربية؛ استضاف د. عزت أبو عوف الفنان المعروف فنانة شابة لطيفة هي مي عز الدين، وفكرة البرنامج هي تصور ضيف الحلقة نفسه رئيسا لوزراء مصر ويقوم بتشكيل وزارته من الفنانين وغيرهم طبقا لرؤيته، ولست هنا بسبيل نقد فني أو انتقاد شخصي، فلست أهلا للأولى وليس هناك مبرر للثانية، ولكن المناسبة هنا هي الغــش.
ففي أحد مقاطع البرنامج قررت ضيفة البرنامج باعتبارها رئيسة للوزراء أن تتولى وزارة التعليم بنفسها، وكان أهم دافع لها هو تسهيل امتحانات الثانوية العامة التي عانت منها كما ذكرت هي، وتخفيف المناهج، وإلى هنا والبرنامج الترفيهي في مساره الطبيعي، ولكن المصيبة الكبرى هي ماطرحته الفنانة الشابة – ولا نقد لي عليها شخصيا – من أنها ستقنن الغــش في الامتحانات أيضا ونظرت للجمهور باعتبارها منقذة قد لبت لهم طلبا جماهيريا، وضحك الفنان المضيف وضحكت مصر. هذا هو شكل استجابة شعب تطبع بالغش حتى لم يعد يشعر أنه يغش لأنه فقد بوصلة القيم، وهنا تكمن الكارثة بدونة مبالغة.
وفي مصادفة غريبة، وقبل الحلقة بيومين على ما أظن كانت جريدة الأهرام قد نشرت خبر بصدور حكم قضائي بحبس 17 فرد في إحدى مدن صعيد مصر، منهم مسئول محلي كبير بالتعليم وابن عضو بمجلس الشورى في جريمة شهيرة طرحت منذ شهور وشغلت الرأي العام المصري نظرا لفجاجتها وتورط نخبة مجتمع المدينة الصعيدية في الجريمة، وهي تسهيل وممارسة الغـش في امتحانات الثانوية العامة وبيع الامتحانات لمن يقدر بالنفوذ أو بالمال، وبغض النظر عن تصريحات المسئولين التي تقول بانعزالية الحدث وعد تعميمه، فهو حدث متكرر ومنتشر تم تطبيعه منذ زمن العولمة. لا أعرف هل ضحكت مصر أم بكت على إثر هذا الحكم، وهل استراح ضميرها أو تم تغييبه لتعاود النوم أم استفاق وعيها على هول مصيبة هي وحدها كافية لتدمير أعظم الحضارات فما بالك بدولة عالم ثالت تتعثر في جلبابها وهي تهرول للحاق بركب الحضارة منذ أكثر من قرنين.
هذان حدثان اجتماعيان أحدهما ذو وجه ثقافي والأخر قضائي يدوران حول "قيمة" الغش في المجتمع المصري، ومن نافلة القول أن بديهيات علم الاجتماع تربط هذين الحدثين بمنظومة إدارة المجتمع أي الدولة ككل، بمعنى ضرورة عدم قراءتهما منعزلين عن باقي العوامل السياسية والاقتصادية.
خلص ابن خلدون إلى "أن العلاقات في الدولة، ومنها السلطة والثروة، هي اجتماعية بطبيعتها ولا تُفهم خارج تفاعل جميع أطرافها على أساس واقعٍ اقتصاديٍ وسياسي فيه الحاكم والمحكوم والمنتج والمُسرف، فالخلل الذي يؤدي إلى الدمار يقع داخل هذه العلاقات". وتشير بعض الدراسات البنيوية Structural للفساد عبر قطاعات ومؤسسات الدولة Cross- National إلى أن الفساد في الدولة، ومنها الغش في العملية التعليمية، يعود ضمن عوامل أخرى إلى ضعف مؤشرات الحقوق الديموقراطية – السياسية، والحريات المدنية، وحرية الصحافة والحرية الاقتصادية في الدولة، وكذا ضعف قوة الدولة بالمفهوم الشامل للقوة.
وقد خلص أحد الباحثين العرب إلى أن " الفساد بالمعنى الشامل هو ظاهرة كلية تتشابك مع كل قطاعات المجتمع وعلاقاته بدءاً من الدولة إلى علاقات الأفراد والجماعات، مروراً بالمؤسسات الرسمية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأيضاً مؤسسات الثقافة والإعلام والمجتمع المدني وانتهاءً بالأفراد في تعاملاتهم اليومية. ولا يختلف أحد على أن كافة المجمتعات في الشرق والغرب تحتوي على قدر معينّ من الفساد، إذ لا يوجد على وجه البسيطة ذلك "المجتمع الفاضل" الذي يخلو تماماً من الفساد والمفسدين. ولكن القضية التي تشغل بال المجتمع العربي هذه الأيام، ليست بالتحديد وجود قدر ما من الفساد في معاملاتنا اليومية، بل حجم الفساد واتساع دائرته وتشابك حلقاته وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها مثيل من قبل، مما يهدد مسيرة التنمية ومستقبل مجتمعنا العربي في الصميم." http://www.annabaa.org/nbanews/71/061.htm
إن ما ينشر من أخبار الغش والغشاشين في قطاع التعليم فقط في الصحف الحكومية يمكن بحسبة بسيطة معرفة حجم الغش في تعليم مصر، ومنه يمكن أن نستنتج أن الغش قد تم تطبيعه أو طبعه في نسيج العملية التعليمية. المفروض أن تلك النتيجة لاتشكل أي مفاجأة، لأننا نعلم من نتائج أعمال الحكومات المصرية المتعاقبة طوال ربع قرن، أنه تم تفسير العولمة واقتصاد السوق في مصر على أنه تخلي الدولة القومية عن دورها الاجتماعي. بالتالي تم فتح الباب لسيادة منطق الانتهازية وتبرير الوسائل بالغايات، فالمهم هو تحقيق الربح أو النجاح أو المجموع العالي المؤهل لكليات القمة بأي شكل. كما ارتبط بالعولمة والليبرالية الجديدة شعار دولة سيادة القانون الذي استبدل أو أضاف إلى تخطي القانون و نظام "زوار الفجر" بعدا ليبراليا وهو حرية التلاعب بالقانون كل حسب مقدرته بدءا من استغلال ثغرات القانون إلى تزوير المحاضر في أقسام الشرطة، ومرورا بتمرير القوانين سيئة السمعة تحت قبة المجلس المحترق، وانتهاء بالتعديل القسري للدستور أبو القوانين للحصول على أكبر مجموع من أصوات الناخبين. ولهذا ليس غريبا ان يتم اعتبار أن الغش من الآليات الفعالة في أصول إدارة المنافسة في سوق العلم والشهادات، طالما أن هناك تكييف قانوني جاهز باستغلال النفوذ والفساد، مثل لجان خاصة طبية لأبناء المحظوظين القادرين وغيرها من صور التحايل "القانوني" طبعا.
ولأن الفساد يسقط من أعلى دائما، فإن غالبية المصريين من الطبقة الوسطى المندثرة وما تحتها ممن لايملكون نفوذا أو مالا لم يبق أمامهم إلا أن ينافسوا قدر المستطاع في ساحة اقتصاد السوق الحر، فقاموا بعمل "جمعية" على الطريقة المصرية واشتروا الامتحانات وأذاعوها بمكبرات الصوت على الطلبة أثناء الامتحانات في أوكازيونات شعبية سنوية للغش. أما عن الغش في الشهادات الأدني وفي الجامعات فحدث ولاحرج وحتى شهادات الدكتوراه. على التوازي وباستقراء بسيط لنتائج الأداء المصري في مجال الإنتاج القومي في كل القطاعات وحتى الرياضية منها – وما نتائج دورة بكين، وكارثة حريق مجلس الشورى وضحايا المقطم في الدويقة ببعيد – وبعيدا عن مؤشرات النمو الاقتصادي المعلنه، والتي لا نشكك في صحتها وإنما نقول بطبيعتها الريعية غير الإنتاجية، ولصيقا بالعائد الاجتماعي والثقافي على المجتمع المصري؛ يمكن بسهولة ربط الغش في العملية التعليمية بانخفاض جودة الإنسان المصري، وبالتالي فليس هناك مغالاة في القول بأن الأمن القومي المصري معرض فعلا للخطر.
فإذا كان تطبيع الغش في مجال التعليم في مصر دليلا على كبر حجم الفساد واتساع دائرته وتشابك حلقاته وترابط آلياته، فيمكن أن نستنج من ذلك ومن كون مصر تحتل مركزا متدنيا في قائمة السيطرة على الفساد، أن مؤشرات الحقوق الديموقراطية – السياسية والحريات المدنية وحرية الصحافة والحرية الاقتصادية في مصر متدنية بقدر تفشي الفساد الواضح؟ ويمكن القول بأن الدولة المصرية ضعيفة بالمفهوم العام للقوة الشاملة للدولة، أي أن أمنها القومي في خطر.
ولا يمكن إنهاء هذه الكلمة بدون التعرض للبعد الأخلاقي بصفة عامة والبعد الديني بصفة خاصة، فمن الواضح أن الظاهر الديني للمصريين مسلمين و مسيحين على السواء، في واد، وانعكاس هذا الظاهر في معاملاتهم في واد آخر، بمعنى أن المصريين بقدرتهم العجيبة على البقاء والتأقلم قد "فصلوا الدين عن الدولة" في شأن الغش – الفساد، بغض النظر عن أي نصوص دينية أو دستورية! إن الغش في العملية التعليمية في مصر، وتطبيع المجتمع لها وعدم إحساسه بقيمتها السلبية، ليس أقل من كارثة قومية تستدعي استنفار كل من يهمه الأمن القومي ومستقبل هذا البلد، وتستدعى أكثر من تقرير " أمة في خطر" والذي صرخت به أمريكا في الثمانينات لأن مستويات أداء تلاميذها –فقط- كانت اقل من مثيلاتها في العالم.
12/9/2008 mosaadg@hotmail.com
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|