آخر إصدارات ثقافة الهزيمة: فتوى جديدة بعدم الاستطاعة
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
في مقال لأحد دعاة ثقافة الهزيمة على صفحات "مصرنا" طوله أكثر من 1600 كلمة كرسها الكاتب للهجوم على البشير حاكم السودان على خلفية اتهام المحكمة الدولية له بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور، وتعرض في جملة واحدة فقط طولها 35 كلمة "للجرائم التي ترتكب بحق أي شعب من الشعوب" في معنى مطلق لم يشر فيه إلى إسرائيل مرة واحدة، ولم يذكر محرقة غزة إطلاقا طوال المقال، وذلك بفتوى جديدة تماما وهي السكوت عن المطالبة بالحق لعدم الاستطاعة في المشهد الصهيوني، وإن لم يذكره بالإسم، وتطبيق الحد في المشهد السوداني ببساطة لأننا نستطيع، مع الفارق بين وطن يختلف عليه أهله، واستيطان ينكر الوطن على أهله. لا يختلف المهمومون بالحال العربي على الطابع الاستبدادي لأنظمة الحكم فيه، وتجاوزاتها الإنسانية في سبيل الاحتفاظ بالسلطة، ولكن ذلك لايحرف هؤلاء المهمومين عن أولوية مقاومة المشروع الصهيوني باعتباره العامل الرئيسي في إعاقة المشروع النهضوي الحداثي العربي، وعن مدى ارتباط ذلك المشروع باستبداد السلطة العربية باعتباره نتيجة وشرطا لهذا المشروع في المنتهى، وإن كان جزءا من السبب في البدء. ولكن مروجو ثقافة الهزيمة لهم أولوية أخرى، رغم تبنيهم لنفس الخطاب المقاوم في جزئية الحملة على استبداد السلطة العربية. بقراءة واعية لمقولات هؤلاء في المشهد السوداني في دارفور نكتشف بسهولة أهدافهم من قولة الحق تلك، وهي لاتخرج عن نفس اللحن الهزائمي في تكريس احتقار الذات العربية باستحضارها بشدة في موقف إدانة العدوان على حقوق الإنسان عموما، وفي نفس الوقت يغيبون عن عمد أي ذكر لممارسات المشروع الصهيوني في مشهد مواز أكثر دموية وعنصرية في مجزرة غزة.
من البديهي أن مجرد انطلاق أصوات ما من نفس الخندق العربي الرافض لاستبداد السلطة العربية لايعطيها الشهادة بالبراءة من الترويج للمشروع الصهيوني، ولا يعني أنها تستهدف تحرير وتحديث الإنسان العربي في مقاومة الاحتلال كما في مواجهة الاستبداد. ومن الواضح أن دعاة تقويض الذات العربية يعزفزن التنويعات المختلفة لنفس اللحن حسب المشهد الراهن وفي تناغم لم يعد خافتا مع نوتة مشروع الهيمنة الصهيو – غربي. فاليوم المشهد الساخن هو بشير السودان، والهدف تفتيت السودان وصولا إلى مصر في المشهد التالي، وبالأمس كان المشهد صداميا عراقيا حتى تم احتلال العراق، ويبقى المشهد الإيراني خلفية دائمة لمسرح الصراع الكوني للسيطرة على أوراسيا (غرب آسيا وشرق أوروبا)، الذي تقوده أمريكا ويلعب فيه المشروع الصهيوني دور الملقن غالبا ودور الممثل أحيانا، طبقا لرؤية المخرج الغربي، فلم يلزم أن يكون هناك دور مكشوف لإسرائيل في احتلال العراق، طالما تنطلق القاذفات الأمريكية من القواعد العربية، وفي كل تلك المشاهد يعزف مروجو الهزيمة نفس اللحن طبقا لنفس النوتة الصهيونية.
إن القول ببراءة وحيادية المحكمة الجنائية الدولية في المشهد السوداني، والتعتيم على الجرائم الصهيونية في المشهد الفلسطيني، يصعب أخذه على محمل البراءة والغيرة على الإنسان العربي، بينما يسهل فهمه عندما يقرر أحد مروجي ثقافة الهزيمة مبدءا أخلاقيا مضحكا مبكيا وهو مبدأ "عدم الاستطاعة"، فإن تطبيق الحد على البشير الآن مطلوب بشدة لأننا فقط نستطيع ذلك، أما تطبيق الحد على " كل من ارتكب جرائم بحق أي شعب من الشعوب" فهو أمر لانستطيعه الآن!. إن صاحبنا يخرج علينا بمبدأ فقهي قانوني جديد وهو تطبيق القانون على من نستطيع والسكوت والمداراة على من لانستطيع! هذا علاوة على التركيز والتحديد عندما يتعلق الأمر بالبشير العربي، والتعميم والتمويه عندما يتعلق الأمر بإسرائيل ويصبح الأمر مشاعا بين "أي شعب من الشعوب".
إن الاستخفاف هو أحد مظاهر الاستبداد والاستعمار على السواء، ولا يملك مروجو ثقافة الهزيمة أمام أبجدية التاريخ إلا تكرار نفس اللحن الهزائمي مع تنوع المشاهد، لأنهم ببساطة لايستطيعون تزييف وعى الإنسان العربي طول الوقت، في ظل وعي إنساني متزايد على مستوى الكوكب، وعي استوعب معنى المقاومة في واقعة حذاء الزيدي فرفع الكنديون أحذيتهم في وجه بوش في زيارة مابعد الرئاسة، لكندا بالأمس، بينما لا يرى مروجو ثقافة الهزيمة في ذلك الحذاء إلا السخرية من الشخصية العربية. إن مقاومة مشروع الهيمنة الصهيو – غربي لا يعني السكوت عن استبداد الداخل العربي، ولكنه أيضا لا يعني الغفلة عن مروجي ثقافة الهزيمة حتى ولو تكلموا بلسان عربي وإن انطلقوا من نفس الخندق المقاوم، وعلى كل حال فلسانهم يفضحهم، وسكوتهم عن حقائق الاحتلال وجرائم الاستيطان موضوعا، وإن مارسوا نقدهم شكلا، فهو كحياء عين من امتلأ فمه بطعام من أطعمه.
20 مارس 2009
مصرنا ©