مقـــاومة تزييف التاريخ: أكروبات المؤرخين بين كولمبوس وإسرائيل
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
هارييت مالينوفيتز Harriet Malinowitz أستاذة للغة الإنجليزية في جامعة لونج أيلاند- بروكلين – نيويورك، قرأ لنا كتاب هوارد زين Howard Zinn، المؤرخ الأمريكي (مولود في 1922) A People's History of the United States، والذي يعتبر من الكلاسيكيات الآن، كشف فيه زين الحيل البلاغية التي يستخدمها المؤرخون الأمريكان في تثبيت صورة كلاسيكية لكريستوفر كولمبوس مكتشف أمريكا، بحيث يتم تزييف وعي القارئ بعيدا عن حقيقة الإبادة التي تمت، والتطهير العرقي العنصري الذي قام به كولمبوس وخلفه من المستوطنين الأوائل. من إيحاء كتاب هوارد زين، كتبت هارييت في 11 فبراير 2009 بمناسبة النجاح الواضح لليمين المتعصب في الانتخابات الإسرائيلية، مقالا بعنوان Columbus and Israel: Thought for Israel's Election Day، نشرته بموقع CommonDreams.org ، تقارن فيه بين معنى صعود اليمين الصهيوني من جهة، وتبجيل تاريخ كولمبوس من جهة أخرى، على مابينهما، حالة كولمبوس وحالة إسرائيل، من تاريخ مشترك في التناقض الأخلاقي من حيث التطهير العرقي والإبادة في حالة كولمبوس مع الادعاء بخلق عالم جديد، وإنشاء إسرائيل بالإحلال محل شعب آخر، مع ادعاء أنها "واحة الديموقراطية" في صحراء العرب، واقتبست قول إسرائيل شاحاك في وصف محاولات المؤرخين المنحازين في كل من الحالين بالأكروبات العقلية لتجنب المتناقضات الدلالية في ربط المعاني المتضاربة، وما لا يحصى من الأكاذيب التي تعتبر أساسيات في الصهيونية، وفي تبرير وجود إسرائيل.
المعرفة والوعي فرض عين طريقا للمقاومة
هوارد زين Howard Zinn ونعوم تشوموسكي عالم اللغويات والفيلسوف الأمريكي المعارض ، مؤرخان معروفان، وكلاهما يهودي، وهما من أعلام الحركة المناهضة للهيمنة الأمريكية تحديدا ولكل أشكال القهر من منطلق إنساني تاريخي. يشرح هوارد زين موقفه المناهض لحروب الهيمنة الأمريكية بصفة عامة وآخرها غزو واحتلال العراق، رغم أنه كان طيار مقاتل في الحرب العالمية الثانية، بقوله: " نحن لم نولد ناقدين للمجتمع الذي نعيش فيه. فعلى طول مسار حياتنا (في شهر أو في سنة) كانت هناك لحظة ظهرت لنا فيها حقائق أفاقتنا، ثم جعلتنا نتسائل عن المعتقدات والقناعات التي تم زرعها وتثبيتها في وعينا على مدار السنين، من أحكام مسبقة، بمعرفة الأسرة والمدرسة، ومن دس متواصل من الصحف والراديو والتليفزيون." ويركز زين في كتاباته ومحاضراته، شأنه في ذلك شأن نعوم تشوموسكي، على أهمية إظهار الجانب المخفي من التاريخ لسبب أو آخر بمعرفة سلطة الهيمنة، في إفاقة الوعي الإنساني واستثارة الأسئلة وبالتالي الاستزادة من العلم والمعرفة بحقيقة ما تحاول السلطة، أي سلطة في أي زمان وأي مكان، وأهمية مقاومة ما تحاول تلك السلطات بترسانات إعلامها، وأكروبات مثقفيها من خزانات الفكر Think Tanks ، أن تقنعنا بأنه في صالحنا نحن الشعوب المتلاعب بها غربا، والمقهورة شرقا.
المقاومة، المقاومة، المقاومة
المقاومة ليست معنى مطلق في الفراغ، وليست مسألة جينات وراثية بيولوجية، كما أن الاستكانة والقبول بالمهانة ليست وليدة جينات اجتماعية طبقية بالضرورة والحتمية. يرى ابن خلدون في مقدمته أن :" تيه بني إسرائيل في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة، لم يأووا فيها العمران ولا نزلوا مصرا ولا خالطوا بشرا، ....حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذي خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام ولا القهر ولا يسأم بالمذلة، فنشأت بذلك عصبية أخرى فتدروا بها على المطالبة والتغلب، ويظهر من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر." وفي تطابق مثير مع تفسير ابن خلدون، أوصى بن جوريون أحد أهم مؤسسي المشروع الصهيوني بأنه يجب على قادة الجيش أن يلقنوا ويدربوا اليهود المهاجرين من الدول العربية إلى الدولة الصهيونية، على العنف والوحشية في قتل العرب إبان اغتصاب فلسطين، وذلك حتى يتخلصوا من شعور الذل والمهانة والخوف الذي عاشوا بها بين ظهرانين العرب حسب قولة، غير أن ابن خلدون لم يخطر بباله أن يهوديا سيقرأ تفسيره لتاريخهم ببداية القرن العشرين، وينتهج نهجا دمويا للتخلص من شعور الذل والمهانة – كما يدعون- بدلا من الانتظار أربعين سنة حتى ظهور جيل حر! . والآن، في القرن الحادي والعشرين، من أين للشعوب المغلوبة على أمرها تيها تتوه فيه أربعين سنة بعيدا عن الامتهان والذل المفروض عليها – بالفعل- في ظل أنظمة حكم تسلطت بالقوة، وتشبثت بالسلطة، وتيبست في التاريخ، وذلك حتى يمكنها أن تكتسب القدرة على المطالبة والتغلب؟، ولا أقول بمنهج دموي عنصري مثلما فعل الصهاينة، ومازالو يفعلون بعقول مغيبة في دهاليز التاريخ المزيف، ومجزرة غزة الأخيرة خير شاهد.
أعتقد أن ثقافة المقاومة، والإصرار عليها ضد التيار السلطوي السائد، هو البديل الوحيد المتاح للشعوب المذلولة، وربما يجب أن أقول للغالبية العظمى من الشعب العالمي باتساع الكرة الأرضية، مقهورا بالعولمة المنظرة بمعرفة السلطة المهيمنة المتمثلة في الليبرالية الجديدة لليمين المحافظ المتطرف الغربي، بمركزيه الأمريكي والبريطاني خاصة، ومراكزه الأوروبية عامة، وأطرافه أو أتباعه على الهوامش العالمية في عالمنا الثالث.
ليس إنسانية وإنما إخفاء تناقض: عدم فوز ليبرمان العنصري
في مقطع آخر من مقالها، تربط هارييت أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة لونج أيلاند، بين كتاب هيوارد زين المشار إليه، ومقال لكاتب آخر هو إيثان برونر Ethan Bronner في افتتاحية النيويورك تايمز بعنوان "A Hard-Liner Gains Ground in Israeli Race," ، حيث يقرر إيثان أن عدم فوز ليبرمان المتطرف بمنصب رئيس الوزراء ليس لسبب إنسانية الإسرائيليين الذين وصفوه بالديماجوجي، وإنما لأنه بتطرفه وتركيزه على التناقض الكامن والمستتر في الحياة السياسية الإسرائيلية – كيف يمكن لدولة تتكون من يهود وعرب أن تعرف نفسها بأنها دولة يهودية وديموقراطية – قد يخل بالتوازن الدقيق للعيش المشترك بين اليهود والعرب.
كل من زين وتشوموسكي، من موقع المقاومة للتيار السائد، حريصان على توعية المواطن الأمريكي بحقيقة تاريخه وتاريخ العالم من حوله، وبالتالي التعرف أكثر على حقوقه الدستورية، ذلك الدستور الذي يترجم العقد الاجتماعي بين الحكم والرعية، من منطلق رعاية الأول للثاني نظير توليه الحكم، وليس من منطلق رعي الغنم من أجل صوفها ولحمها ولبنها. كتب هوارد زين في كتابه الأشهر، عن التلاعب البلاغي اللغوي للمؤرخين الأمريكان في تقييم كولمبوس مكتشف أمريكا، وعن تعمد تزييف وعي المواطن الأمريكي، حيث لم ينكر أحد هؤلاء المؤرخين وهو المؤرخ الأكاديمي Samuel Eliot Morison الذي يعتبر مؤرخ كولمبوس، أن السياسة الوحشية التي سنها لكولمبوس واتبعها خلفه في الأمريكتين قد نتج عنها إبادة وتطهير عرقي تام!. إلا أنه في تعرضه لذلك، وباستخدامه لأقوى لفظ معبر وهو "الإبادة"، قد مر عليها سريعا، وقام بدفنها في كم هائل من المعلومات بدعوى تسجيل الحقائق، كأنه يقول للقارئ في هدوء معدى " نعم، كان هناك إبادة وتطهير عرقي، ولكن الأمر ليس بهذه الأهمية – إن هذا يجب أن يكون ذا وزن قليل عند إصدار حكمنا النهائي؛ ويجب أن يؤثر قليلا على ما نقوم به في العالم".
وتشير هارييت إلى حقيقة أن كاتب مقال النيويورك تايمز، إيثان برونر، قدم بصراحة وبصفة أساسية – رغم أنه بعد ذلك بدأ في تجاهل ذلك (وماتخشاه هاريبت أكثر هو تجاهل قراء مقاله بالتالي) - مقولة منتقدي الصهيونية من أن التناقض يكمن في مركز قلب الدولة الإسرائيلية: أن بلدا يسمي نفسه في نفس الوقت بالـ" الدولة اليهودية" (بالرغم من متناقضة أن 20 % من مواطنيه ليسوا يهودا) والـ "ديموقراطية" (" الوحيدة في الشرق الأوسط " كما يخبرونا دائما) تحتفظ بمنطق وصفها الذاتي فقط من خلال الممارسة الأبدية للتفكير المزدوج Orwellian doublethink الذي أشار إليه جورج أورويل صاحب روايتي "الأخ الكبير" و "1984" . وفي النهاية تشير هارييت إلى مقولة الكاتب اليهودي الإسرائيلي إسرائيل شاحاك وغيره، من أن جزءا من تماسك أسباط الصهيونية يرجع إلى التزامهم – كثير منهم يعدون من الأعلى تعليما، والأكثر إنجازا في العالم – وانخراطهم في نوع من الأكروبات العقلية التي تمكنهم من تجنب المتناقضات الدلالية في ربط المعاني المتضاربة، وما لا يحصى من الأكاذيب التي تعتبر أساسيات في الصهيونية، وفي تبرير وجود إسرائيل.
مقاومة المشروع الصهيوني واجب إنساني وثقافي
إن مقاومة المشروع الصهيوني واجبة، ليس فقط لأنه يقوم على حساب الشعب العربي في فلسطين بالتطهير العرقي والإبادة العنصرية، وأنه رأس حربة لمشروع الهيمنة الأمريكي الذي أغرق العالم معه في كارثة مالية عالمية تتحول إلى كارثة اقتصادية واجتماعية طالت كل الشعوب المقهورة بتلك الهيمنة، وأولها الشعب الأمريكي نفسه، وأنه سند لنظم الاستبداد العربية في تسلط نخبتها الليبرالية الجديدة على ثروة شعوبها، بل قبل كل ذلك وبعده، فالمقاومة للمشروع الصهيوني واجبة لأنه مشروع غير أخلاقي وغير ديموقراطي وغير علمي، فأول من يتلاعب بالعقل والتاريخ هم النخبة الصهيونية نفسها، وهذا أكبر دليل على فساد ذلك المشروع بدءا من رأسه، وقد علمنا التاريخ أنه لا يصح إلا الصحيح، وما انهار المشروع السوفييتي إلا لمعاندته طبيعة الإنسان في النزعة الفردية، وما زال النظام العنصري في جنوب أفريقيا إلا لإصراره الغبي على إنكار الفصل العنصري. إن ذلك التناقض الجوهري في رأس المشروع الصهيوني يطرح سؤالا ذو بعد عالمي وهو متى سيزول هذا المشروع؟ ومن له المصلحة في استمراره رغم ثبوت أو معرفة وتصميم فساده من البدء؟، ويستتبع السؤال إجابة ذو بعد عربي، وهي أن المقاومة ليست فقط سؤالا اختياريا، بل هي السؤال الأساسي والإجابة عليه إجبارية، وهي إجابة أهديها إلى كل المنبطحين والمبررين ولاعبي الأكروبات العقلية من مثقفي العرب أو المحسوبين على العروبة.
2 مارس 2009
مصرنا ©