ثلاثون عاما على الثورة الإسلامية في إيران: ما فائدة التاريخ؟
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
هل نتعلم من التاريخ؟ بالطبع لا، هذا مايؤكده الفيلسوف الكبير كارل بوبر، حيث يقرر في كتابه "The Myth of the Framework"، نقلا عن كتاب هيجل "فلسفة التاريخ" أن: " ما نتعلمه من الخبرة والتاريخ هو أن الشعوب والحكومات لا تتعلم شيئا قط من التاريخ، ولا تتصرف أبدا طبقا للمبادئ المستنبطة منه". تذكرت تلك المقولة أثناء مشاهدتي لبرنامج وثائقي في قناة BBC عن الثورة الإسلامية في إيران بمناسبة العيد الثلاثين لها، حيث عرض الجزء الأول من البرنامج فترة حكم شاه إيران منذ توليه الحكم 1941، شابا متعلما ومتحمسا لتحديث إيران علمانيا، وإحياء قوتها الإقليمية التاريخية بعد إهانتها بالغزو البريطاني الأمريكي، فبنى خامس قوة عسكرية عالميه في حينه، وحتى الحفل الأسطوري عام 1977 في بريسبوليس عاصمة الإمبراطورية الفارسية منذ 2500 سنة. كانت قمة السخرية في بريسبوليس هي المتناقضة التاريخية عندما وقف كارتر عشية عيد الميلاد المسيحي الغربي يمتدح عظمة وحكمة الشاه في فهمه لشعبه، ويتبادل النخب بكؤوس الشمبانيا، في بلد إسلامي لم يستفد معظم شعبه من ثروته البترولية، فوصلت درجة حرارة ثورته الإسلامية إلى 99 درجة! بفعل الرياح الخومينية القادمة من قـــم، هذا رغم جبروت السافاك، ودعم الـ CIA، والتحالف الصهيوني ضد العدو المشترك في ذلك الحين: العرب وفي طليعتهم العراق. فهل يذكرنا هذا المشهد بمشاهد هنا أو هناك لحكام عرب في مثل حكمة وعبقرية الشاه في فهمهم لشعوبهم؟!، وفي "اعتدالهم" مع المشروع الصهيوغربي (بحسب تعبير أستاذنا محمد عبد الحكم دياب) ضد العدو المشترك الجديد: إيران الإسلامية، أو إسلامية حماس؟!
وفي مشهد آخر قد يوحي بعدم التعلم من التاريخ، فعلى نفس المسار الصراعي لعراق صدام مع المشروع الصهيو غربي، نجد مسئولا إيرانيا يكرر مؤخرا القول بتبعية البحرين لإيران، ولانعرف بالضبط إن كان ذاك المسئول قد استوعب تاريخ الادعاء العراقي بتبعية الكويت، والذي انتهى مسلسله باحتلال العراق نفسه؟ هل لإيران حسابات أخرى في مرحلة مابعد بوش الأيديولوجي؟ أم هي لغة الخطاب السياسي المزدوج لإيران، وبراجماتيته في التعامل مع كل الأطراف؟
من الصعب على الناس العاديين من أمثالنا من غير المتخصصين في التاريخ أو السياسة، أن يستخلصوا رؤية واضحة لما يجري حولنا، رؤية تظهر التيارات التحتانية المحركة لما نراه على السطح من أحداث ساخنة مثلما نراه في غزة مثلا. وحتى نستطيع فهما أفضل فسنستعين بأهل الذكر في فلسفة التاريخ. اختلف الفلاسفة في فلسفة التاريخ وهل للتاريخ الإنساني خطة ما، وعما إذا كان هناك فائدة للتاريخ، ويرى شيخهم المحدث (كارل بوبر – أسطورة الإطار: 2000) أن هناك خطة للتاريخ بصفة عامة، ولكن بمفهوم " أننا يمكن أن نرى مجددا كيف أن معنى التاريخ شئ منا نحن الذين نختاره. إذ بينما تكون هذه الخطة شيئا معطى لنا كنتيجة لاختيارات أسلافنا، فمن الواضح جدا أننا نملك أن نفعل بها ما نشاء. نستطيع أن نتبناها ونتعهد بها ونعززها، أو أن نصرف عنها بالا". ويضيف بوبر " بالكاد أود أن أضيف أنني إذا زعمت بضرورة التعهد بتلك الخطة، فلست أحبذها أو أستصوبها لأنها هي الكائنة التي حدثت بالفعل، بل لأنها تبدو لي جديرة بالاختيار وبأن نجعلها خطتنا، بمعية الدافع نحو التحرر بواسطة المعرفة"، وبمعنى آخر كما يقرر بوبر " أن نمو المعرفة العلمية يشكل شيئا ما يقابل خطة للتاريخ،...وأننا نستطيع أن نعتبر نمو معرفتنا استئنافا للتطور الحيواني ، وهكذا حين ننظر إلى نمو المعرفة من منظور بيولوجي، نستطيع أن نعتبره بمثابة الخطة الأساسية لتطور الحياة". ثم يعود كارل بوبر ليؤكد " أنه لا ينبغي، بطبيعة الحال، التغاضي عن أن مجرد بقاء الأنواع الحية حتى لحظة معينة، لايخول لنا أن نقول أي شئ عن بقائها في المستقبل، نحن لا نستطيع أن نشتق تنبؤات مستقبلية من تلك "الخطة" للتارخ الإنساني".
رغم هذا الشوط البعيد الذي قطعه العلم والفلسفة في الفهم العقلاني للتاريخ الإنساني، فمن المدهش أن هناك قطاع كبير من المسلمين والكتابيين، مسيحيون ويهود، مازال يؤمن بما يسمى هرمجديون! في متناقضة تأويلية للنصوص المقدسة لا تخدم سوى مزيد من الاستيطان والتثبيت للمشروع الصهيوني. في هذا البعد الإيماني يقرر بوبر "أن الإجابة الإيمانية عن سؤال ما إذا كان للتاريخ خطة " بأنها أقدم الإجابات، إجابة من الإنجيل وأشعار هوميروس، فثمة خطة للتاريخ.....وأنه لابد أن ترتبط هذه الخطة بالثواب والعقاب، بنوع ما من التوازن المقدس أو العدل الإلهي، على الرغم من أنها عدالة لايستطيع أن يتبين فعلها إلا ذوو البصائر النافذة. إنه توازن إذا اختل عاد قافلا كالبندول، وقد لعب دوره مع هوميروس الذي رأى اتجاه الناس شرقا في حرب طروادة تفسيرا لقفول لاحق في حروب الفرس باتجاه الناس غربا. وهذه النظرية عينها سوف نجدها حرفيا بعد ثلاثة وعشرين قرنا في رواية الحرب والسلام لتولوستوي، اتجه نابليون شرقا إلى روسيا قد توازن تلقائيا باتجاه الشعب الروسي نحو الغرب". هذا بينما يقرر بوبر أن "كلا من هوميروس وتولستوي لم يتقدما بطرح يعطي انطباعا بنظرية إيمانية. بيد أن الخلفية الإيمانية لا تخطئها العين، هذه الخلفية نظرية عن التوازن المقدس للعدالة مسكوت عنها تقريبا. وهي فضلا عن هذا، خلفية تتوافق تماما مع بنية الفكر الأوروبي بأسرها، والتي هي أساسا بنية لاهوتية في أصولها، تتشبث بتخطيطها الأولي اللاهوتي، على الرغم من الحركات المضادة للدين، وعلى الرغم من الثورة الفرنسية، ومن انبثاقة العلم. ذلك أن ثورة المذهب الطبيعي استبدلت اسم "الطبيعة" باسم "الرب"، لكنها تركت كل شئ آخر تقريبا من دون تغيير". انتهى الاقتباس من بوبر.
إن نظرية كارل بوبر شيخ فلاسفة مابعد الحداثة في الفهم الغربي للتاريخ الإنساني، يؤكدها التوجه الإيديولوجي لليمين المسيحي المتطرف بقيادة بوش الكارثية للصراع من أجل الهيمنة، وأستطيع أن أتفهم الثورة الإسلامية الإيرانية من نفس منطلق النظرية الإٌيمانية للتاريخ، وأحب أن أضيف هنا أني لا أتفهم تهجم بعض من مثقفينا العلمانيين بضراوة على "السلوك والمظهر" الإيماني الإسلامي في مقاومة المشروع الصهيوني باعتبار أن هذا التوجه الديني "غير عقلاني" ويمثل خطرا على المشروع التنموي لليبراليين الجدد، بينما يتجاهلون تماما حقيقة الدوافع والممارسات اللاهوتية للفكر الغربي عموما في فهم وتفسير وصناعة التاريخ كما أوضح شيخنا الفيلسوف الغربي! هل يصب ذلك التشدد الحداثي ضد ما هو إسلامي وعربي في مصلحة الأمة أو المنطقة؟ ألا يشكل الدين والإيمان مركبا جوهريا في التاريخ الإنساني؟ وهل يمكن فعلا إقصاء الدين عن مساره؟ أم أن المقصود هو تحييد الدين الإسلامي تحديدا أو إخراجه خارج معادلة الصراع؟
من مدخل فلسفي، هل يرى ذلك البعض من مثقفينا العلمانيين، في مغالاتهم في حملتهم ضد "تديين القضية الفلسطينية" أن فيلسوف "العقلانية" الأكبر هو مخطئ حين يقرر بأنه " في الحق، يصدق تماما القول عن كل حروبنا تقريبا أنها كانت حروبا أيديولوجية: حروبا دينية أو اضطهادات أيديولوجية – دينية"؟ ومن مدخل سياسي، هل التهجم على إيران الدينية هو في مصلحة القضية العربية أم في مصلحة المشروع الصهيوني، فكلاهما يعزف على وتر لاهوتي ديني، فهناك ثورة إسلامية وهنا تعصب يهودي توراتي، تحالف يوما ما مع الشاه العلماني ضد العراق العلماني، بينما كان التيار التحتي الإسلامي يزداد قوة، في ردة فعل هوميروسية أو تولوستية ضد أوروبا الاستعمارية ومشروع الهيمنة الأمريكية، وانفجر مفاجئا من لايريد أن يقرأ التاريخ من الشرق إلى الغرب، بثورة إسلامية على أشد نظم المنطقة ديكتاتورية وتحصينا أمنيا ودعما أمريكيا وتحالفا صهيونيا. فهل يتعلم أحد، هنا أم هناك، من التاريخ شيئا؟
15 فبراير 2009
مصرنا ©