مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 غزة بين المسار الدائري والمسار المستقيم للتاريخ
...............................................................

بقلم : مســـعد غنيم
....................

التاريخ مساره دائري غالبا

من أبسط مفاهيم الهندسة الإقليدية أنه كلما كبر قطر الدائرة كلما اقترب مسار محيطها الدائري من شكل المسار المستقيم، ويصبح مستقيما عندما يصير قطر الدائرة إلى ما لانهاية. بمعنى أن العربي الذي ينظر إلى نتائج مجزرة غزة عن قرب، ويقصر رؤيته على موازين القوى الآنية للصراع فى هذه اللحظة من التاريخ، حيث الهجمة الصهيو- أمريكية في أقوى وأعنف مراحلها التاريخية، والعالم العربي في أضعف وأهون لحظات تاريخه، سيرى المسار التاريخي للحدث مستقيما وبالتالي لن يرى له نهاية، وكل مايستطيع رؤيته هو اللحظة الراهنة لهزيمة النظام العربي، وحتما سيسقط هذه الرؤية على المستقبل المنظور والغير منظور، لأنه ببساطة لايرى غيرها، وسيقع حتما في براثن الانتحار الحضاري، وقد انتحرت فعلا بعض الأقلام!. ولكن لحسن الحظ فالمؤرخون لهم رأي آخر، حيث يروا أن المسار الدائري للتاريخ هو السائد حيث أن " إمبراطوريات العالم الكبرى مرت عبر التاريخ بهذه الحلقات الدائرية من مولد ونمو وسقوط" (Peter J. Taylor, Political Geography, 2000)، بمعنى أن رؤية مجزرة غزة يجب أن تكون في إطار المسار الدائري لتاريخ منطقتنا العربية وفي قلبها مصر ذات التاريخ المتعدد الألفية، وذلك حتى نحتفظ بالأمل الذي يخلصنا من الجاذبية الساحقة لثقب الهزيمة الأسود، في اللحظة الآنية.

الجغرافيا أم التاريخ، إلى حد كبير

والجغرافيا أم التاريخ، ولكن في غير حتمية، بينما يعتبر التاريخ معملا للجغرافي ومخزنا للاستراتيجي بحق، هكذا يقول الجغرافيون. ومن ذلك يمكن فهم مجزرة غزة 2009 باعتبارها معملا تاريخيا صغيرا لجغرافية مصر والعالم العربي، ودالة استراتيجية على طبيعة الصراع العربي الصهيوني بكل دلالته الغربية عموما، والأمريكية خصوصا. وهي، أي مجزرة غزة، هي أحدث نقطة بارزة في المسار الدائري لتاريخ ذلك الصراع، بدءا بنكبة 48، فعدوان 56، فنكسة 67، فانتصار 73. فصمود لبنان 2006، وما بينهم من نقاط مظلمة في أغلبها ومضيئة في أندرها، وهي كلها في عرف التاريخ ترسم قوسا قصيرا جدا من مساره الدائري الواسع، فيبدو في اللحظة التاريخية الآنية مستقيما لا نهاية لمرار الهزيمة فيه.

وفي مدى تاريخي أوسع قليلا، يمكن رؤية مجزرة غزة في مسار تاريخي أعمق في إطار الصراع العالمي ونتائجة المترتبة على الحرب العالمية الأولى 1918، في "نقطة" اتفاقية سايكس بيكو حيث تم اقتسام الغنيمة العربية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ذلك المسار كما صوره بحق، الأستاذ محمد حسنين هيكل في تقييمه الجيو-استراتيجي لنتائج المجزرة في غزة. وإذا ما وسعنا مجال الرؤية قليلا بقدر قرن واحد فقط، أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، سنرى إمبراطورية محمد على المصرية، بجناحها الآسيوي حتى الخليج العربي، وجناحها الأفريقي حتى بحيرة فكتوريا، بل وامتدت شمالا فشملت كريت، بل إنها اخترقت قلب الأناضول وهددت الأستانة في وقت ما، وامتدت على مساحة خمسة ملايين كيلومتر مربع: عشر مرات مساحة فرنسا، ونصف أوروبا. وهكذا كلما وسعنا مجال الرؤية اتضحت دائرية مسار التاريخ، وابتعد شبح اليأس والهزيمة.

تلك الرؤية الدائرية الواسعة المدى والبعيدة العمق للتاريخ، هي قطعا ليست مطلوبة من باب "أفيون" العرب، حيث يتم خداع النفس بالاستغراق في الماضي في غيبوبة تاريخية يحلو للبعض القول بأن العرب والمصريين خاصة، لايريدون أن يفيقوا منها. ففي كل الرؤى الإنسانية، هناك دائما الأطراف حيث يقع التطرف، وهناك الوسط حيث تكون الواقعية والعملية. لايستطيع شعب من الشعوب أو أمة من الأمم أن تمحو ذاكرتها التاريخية لمجرد أن واقعها الآني مهزوم، ولا يجب أن يخونها ذكاؤها بالتنكر لتاريخها لمجرد أن أعدائها "يعايرونها" بحاضرها المؤلم.

المنتحر حضاريا لايحدد من يكتب التاريخ

إن من يخونهم ذكاؤهم أو انتماؤهم في لحظة هزيمة – هي عابرة بكل المعايير التاريخية – لا يشعرون أنهم في لحظتم تلك، قد فقدوا أهليتهم ومشروعيتهم في الحديث نيابة عن الأمة أو عن العرب، فهم قد سلخوا أنفسهم بأنفسهم – تاريخيا – من جسد الأمة، ولا أعتقد أنهم قادرون على الامتزاج التام في جسد حضاري آخر، فأقصى مايمكنهم فيما أظن، هو الالتصاق التاريخي الآني، فليس من السهل إنسانيا التخلص من ذلك القابع في النفس والروح واسمه حب الوطن. حتى لو تعللوا فقط بالأمل في أن تعيش أجيالهم القادمة في الأرض الأوسع والأفضل، فهم قد انتحروا حضاريا بالفعل، إن قطعوا الحبل السري الحضاري لأجيالهم القادمة عن أرض أجدادهم بحجة الخجل من هزيمتها العابرة في مسار تاريخي دائري. هؤلاء بالذات ليسوا هم الذين يحددون من يكتب التاريخ، فهم قد خرجوا منه بإرادتهم، وإلى العدم!

نهر الجنون

" يبدو أن الجميع قد شرب من نهر الجنون"، كانت هذه إحدى الإشارات الموحية التي وصف من خلالها الأستاذ هيكل رؤيته لمجزرة غزة أثناء وقوعها، وأكد عليها، واختتم بها حديثه اليوم الجمعة 23 يناير 2009، بعد وقف نهر الدم في غزة، وبعد تنصيب أوباما الرئيس الأمريكي رقم 44، في توقيتات لايخفى فيها التخطيط والتنسيق. من نافلة القول أنه يجب أن نستمع جيدا عندما يتكلم من كان بحجم هذا الرجل، وهو في سن الحكمة، وإن كان ارتباط السن بالحكمة غير لازم، كما أشار هو بنفسه في إشارة ذات دلالة.  لقد عاش الرجل في قلب التاريخ الدامي لفلسطين أقرب مايكون من صانع القرار فيما بعد النكبة. هناك طبعا من يختلف مع الرجل، وهذا شأن الحياة، لاختلاف الرؤية أو المعتقد أو المصلحة، ولاشك أن انتمائه أو ارتباطه بناصر ومشروعه القومي العربي يعد أكثر المؤثرات، وبمعنى أصح، الأسباب في الاختلاف معه أو عليه. ثم أنه إذا كان من الضرورة أن نستمع للأعداء، فمن الحكمة أن نستمع لمخالفينا في الرأي. ولا شك أيضا أن الاستماع لمثل هذا الرجل في مفصل تاريخي حرج في تاريخ العالم العربي والقضية الفلسطينية، أبدى وأحق بالاعتبار لأسباب واضحة. وجدير بالذكر أن الرجل يحسب له، ولا شك، نشر ذمته المالية إعلاميا في رسالة أخلاقية واضحة، حيث لا يجرؤ غيره أن يفعل، أو حتى يفكر، ممن لايستطيعون الرؤية لأبعد من وقع أقدامهم من مسار إنساني مسجل تاريخيا منذ 7 آلاف سنة، ومقروء أنثروبولوجيا منذ حوالي 150 ألف سنة، في دوائر لانهائية!.

23 يناير 2009

 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية