قدْرُ مصر وقدَّرِها، بين ثوابت الجغرافيا والتاريخ ومتغيرات العلم والتكنولوجيا،... وإسرائيل
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
"مصر أكبر من ناصر و مبارك والسادات ". تلك كانت واحدة من علامات الطريق التي تم تحديدها على ضوء، أو ظلمة مجزرة غزة الفلسطينية على مذبح الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية، بيد الوكيل الصهيوني الإقليمي. قام بتحديد تلك العلامات، ببصيرة نفاذة وفكر ثاقب وحس تاريخي عميق، الأستاذ محمد حسنين هيكل، رائد الاستراتيجية السياسية في مصر، كما وصفه جمال حمدان صاحب "شخصية مصر". تعالوا بنا نتفهم أبعاد تلك المقولة التاريخية لهيكل عن قدْر مصر، فعندما يتكلم رجل بمثل هذا الوزن العالمي (أقوى صحفي في القرن العشرين بحسب تقييم إحدى كبريات الصحافة العالمية)، اتفقنا معه أو اختلفنا، يستحق أو يجب أن نستمع إليه، فهو فوق احتفاظه بقدر عميق من تاريخ مصر الحديثة في أرشيفه وذاكرته، يحمل على كاهلة سنين شيخوخة تتنزه الحكمة فيها عن المصالح الصغيرة والكبيرة، ويُكسب الصدق في روايته والذكاء في تحليله، تاريخ ممتد من المصداقية ومنهج صارم في التوثيق العلمي لما يقول ويكتب.
يوما ما في ستينيات القرن الماضي، وكما كتب جمال حمدان "انتصرت مصر انتصارا ساحقا في معركة إسقاط الأحلاف: حلف الشرق الأوسط Medo، والحلف المركزي Cento، وحلف بغداد. لم تكن تلك الأحلاف سوى حلقة إقليمية في سلسلة أحلاف الغرب الاستراتيجية العالمية المضادة للاتحاد السوفيتي حينذاك. وبينما كانت تلك الأحلاف تفترض أو تختلق عدوا وهميا بعيدا هو الاتحاد السوفيتي، كان بعضها يضم عدوا حقيقيا مركزيا في قلب العرب بل العدو الحقيقي الوحيد وهو إسرائيل". حلل الأستاذ هيكل بنفس الحس التاريخي نتائج ذلك الانتصار بـ "أنه منذ تلك المعركة وإلى الآن، أصبح الصراع بين النظام العربي ونظام الشرق الأوسط هو محور ومحك كل السياسة والاستراتيجية في المنطقة، وبه في الحقيقة يمكن أن نفسر كل حاضرها ومستقبلها القريب وربما البعيد أيضا"
في الفقرة السابقة لو استبدلنا كلمة "إيران" بكلمة " الاتحاد السوفيتي" سنجدها منطبقة تماما على الوضع الراهن في المنطقة، وكأنما يعيد التاريخ نفسه، فقط مع فارق واحد، وهو أن مصر أصبحت عضوا مؤسسا في أحد المحاور – بدلا من الأحلاف - تحت مسمى "المعتدلون العرب".
منذ ذلك الحين، وطوال مايقرب من نصف قرن، وبرغم ذلك الانتصار، أو بالأحرى بسببه مع المسببات الأخرى الجيوستراتيجية، جرت في نهر النيل مياه كثيرة، سالت معها في سيناء دماء غزيرة ما بين هزيمة وانتصار ثم محاولة سلام، وجرت في محيطات العالم مياه أكثر، أغرقت معها الاتحاد السوفيتي في عمق التاريخ، وتدفق عبر مضيق هرمز بترول كثير، ومازال هناك الكثير ليتدفق، مما استدعى احتلال العراق بوابة الشرق القديمة، وانتشار قوات الغرب (الناتو وأوروبا وأمريكا) عبر أوراسيا بدءا من أفغانستان وحتى بولندا مقر حلف وارسو سابقا. كل ذلك في محاولة لـ"وضع القدم" حول روسيا المستفيقة من كابوس الاتحاد السوفيتي المنهار، في تثاؤب يذكر الجميع بأنيابها النووية، بعد أن جرى البترول في شرايينها الاقتصادية، واستعادت عافيتها القومية، وجددت طموحاتها الجيوبوليتيكية. وفي نفس الوقت يمكن هذا الانتشار الغربي من تطويق الصين المتنامية بقوة، مرتكزة على رصيد حضاري مستمر لأكثر من ألفى عام، تواصلت به مع العلم والتكنولوجيا في ثقة وثبات.
هذا هو بيت القصيد الجيوستراتيجي للغرب من لعبة الصراع العالمية كما حددها زبجنيو بريجينيسكي مستشار الأمن القومي الأسبق في كتابه الشهير "أحجار على رقعة الشطرنج"، والعرب وفي قلبهم مصر، بالجغرافيا والتاريخ والمشاعر أيضا، رغم أنفهم وأنفها، يدخلون في لعبة الصراع في هذا المسار الجيوستراتيجي بالجغرافيا والتاريخ والبترول أخيرا.
أولا: مصر الجغرافيا
- من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول
- من يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء
- من يسيطرعلى سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير
- من يسيطر على خط دفاع مصر الأخير يهدد الوادي
تلك هي قواعد المعادلة الاستراتيجية لمصر كما صاغها جمال حمدان في الجزء الثاني من رائعته "شخصية مصر" قبل ربع قرن، وكما نرى فإن المعادلة تبدأ بفلسطين، ولاغرابة في ذلك ، فلم، ولا، ولا يعقل أن يختلف أحد من الاستراتيجيين على ذلك، لا الأمس ولا اليوم، حتى مع التطور التكنولوجي الهائل لآلة الحرب، وانتقال العالم إلى جيوستراتيجي الفضاء، لأن الجغرافيا وإن انكمشت فهي لم تمت. وإذا اعتبرنا واقع الأمر، فبعد ماراثون المقاومة للمشروع الأمريكي الصهيوني الذي استمر ثلث قرن، ارتبطت مصر بمعاهدة سلام مع إسرائيل، "العدو الوحيد" بحسب تعبير جمال حمدان، وذلك في إطار هيمنة أمريكية وصلت حتى مشارف كهف الدب الروسي، ولامست سور الصين العظيم. ولكن ومن منظور استراتيجي قح، هل يعني ذلك أن ننسى أو نتناسى أول السطر في المعادلة الاستراتيجية لمصر، وهي فلسطين؟ أو أن نعتبر مجزرة غزة، في هذا المنعطف التاريخي الواضح، شأنا فلسطينيا خالصا كما يقول بذلك السفهاء في غباء فاضح؟ لا أعتقد أن أي وطني عاقل في مصر خاصة، أو من العرب عامة، يقبل بهذا المنطق العبثي، مهما كانت المناورات التكتيكية هنا أو هناك، أو حتى الحسابات الانتخابية المؤقتة، أو نفخ المنتفعون أبواق الشيفونية المقيتة تحت شعار "مصر أولا"، فهؤلاء لايعرفون معنى مصر الجغرافيا. إن مصر الحضارة لاتفقد وعيها أبدا، مهما بدت الجغرافيا ساكنة.
ثانيا: مصر التاريخ
إن جينات مصر التاريخية تعي أن الجغرافيا أم التاريخ، ومصر لاتملك ولايعقل أن تكون خارج التاريخ. يشرح جمال حمدان البعد التاريخي لقواعد المعادلة الاستراتيجية بقولة " لقد أدركت مصر منذ أقدم العصور حقائق الاستراتيجية المصرية الصحيحة وقواعد الدفاع السليمة عن الوطن. أدركت أن الدفاع بالعمق، وأن الهجوم خير دفاع. فمنذ خيتا والحيثيين على الأقل، أي منذ نحو 4000 سنة، أدركت أن الشام هو خط دفاعها الطبيعي الأول، وأن مصير مصر مرتبط عضويا، وتاريخيا، وجغرافيا، بمصير الشام، بل وأدركت مغزى طوروس بالذات لأمنها قبل أن يؤكد ذلك جنرالات الاستعمار البريطاني بآلاف السنين كما يعترف المؤرخ البريطاني هـ.د. كول". وحتى مع التطور الحادث لمفهوم الجيوستراتيجي والنقد الموجه لها، فإن بريجينيسكي لم يسقط عامل القوة الثقافية من معادلة الاستراتيجية الأمريكية، ومصر ترتبط جغرافيا ببوابتها الشرقية في فلسطين ومنها إلى الشام، بعمق في الثقافة والتاريخ لايمكن إسقاطه في حسابات أي استراتيجية جغرافية اقتصادية، كما يتخيلها اللبراليون الجدد عندنا.
ويضيف جمال حمدان في موضع آخر:" إذا كان ثمة من خاصية واحدة في شخصية مصر الاستراتيجية مستمرة ومشتركة بين عصري الإمبراطورية والمستعمرة، على ما بينهما من تناقض جذري، فتلك الخاصية هي يقينا أنها كانت دائما مركز دائرة، مركز دائرة قلت أو كبرت، ضاقت أو اتسعت، ولكنها دائما دائرة لها محيط وأبعاد وهي مركز ثقله وجاذبيته ولها الدور القيادي فيه. بايجاز حاسم، كانت مصر باستمرار قطب قوة وقلب إقليم. فحتى وهي مستعمرة محتلة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فلقد كانت مصر – للغرابة والدهشة – مركز دائرة ما وليست على هامش دائرة أخرى. ونادلاة جدا هي المراحل التي انزلقت فيها إلى قوة بينية بدلا من مركز القوة التي كانته غالبا. ولاشك أن هذة الصفة الجوهرية، التي تكاد تنطوي على متناقضة مثيرة، ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة في كيان مصر"
وسجل حمدان سبقه لفهم التغير المستقبلي لمفهوم الجيوستراتيجة، برصد عامل القوة الثقافية والدينية عندما صور خريطة الخطر على مصر وتاريخه، حيث يقول: " ..ثم مع ظهور الحروب الدينية، ثم مع استشراء الأطماع الاستعمارية الحديثة، والحروب الدينية بالذات، ابتداء من الصليبيات وانتهاء بالصهيونيات، كان معناها كان مصر التي هي أصلا عاصمة العالم استراتيجيا، قد أصبحت تشارك في موقع عاصمة العالم دينيا، وبذلك جاءت كمضاعف للخطر الكامن في موقعها الجغرافي والمحيط بثرائها الطبيعي....وقل أن تجد شعبا دفع من دمه ثمنا لحريته، ومن حريته ثمنا لموقعه، مثلما دفع الشعب المصري". ثم يستطرد حمدان: " من الملاحظ أيضا أنه هناك عدو بعينه متربص بها يتمنى ويعمل على سحقها ويرى فيها موطن الخطر ومكمن القوة ومفتاح المنطقة. ثمة كان الصليبيون والمغول في العصور الوسطى، ثم كان الإنجليز منذ محمد على (هل نضيف الولايات المتحدة اليوم؟)، والتساؤل هنا لجمال حمدان أيضا، وكأنه يقرأ الواقع الحالي بدقة المحلل وبصيرة المؤرخ، وذلك منذ أكثر من ربع قرن.
ثم يغامر حمدان بتحديد اتجاه تاريخي عام على المدى الطويل جدا منذ اكتمل ظهور مصر القديمة مع الأسرات حتى الأمس القريب، بقوله: " ...وفي النتيجة فإن مصر في الوقت الذي كان موقعها يزداد خطورة وبالتالي أخطارا، فإنها كانت نسبيا تجد حجمها الداخلي وطاقتها الذاتية تزداد انكماشا وبالتالي ضعفا في عالم متمدد متضخم باستمرار".
ثم يخلص جمال حمدان إلى أن "تاريخ مصر الحديثة، مثلا، ليس في رأي البعض إلا محاولة مستمرة من جانبها لإقامة قاعدة قوة ذاتية مؤثرة، تقابلها محاولة مضادة من القوى العظمى مجتمعة أو فرادى لإجهاض تلك المحاولة وإحباط قيام قاعدة القوة المصرية. وخلال هذا الصراع أو هذه المبارزة الاستراتيجية كان تكتيك مصر هو لعبة التوازن بين تلك القوى ومضاربتها ببعضها البعض، وذلك على شكل تحالف مصر دائما مع الدولة العظمى الثانية ضد خطر الدولة العظمى الأولى، وهذا بغض النظر عن المتغيرات المتعاقبة وتبادل المواقع. مثال ذلك مصر مع بريطانيا ضد فرنسا لطرد الحملة الفرنسية، مصر مع فرنسا ضد بريطانيا أيام عدائها لإمبراطورية محمد على، ثم أيام الاحتلال لمقاومته وطرده، ثم مصر مع الاتحاد السوفييتي ضد الولايات المتحدة أيام عدوانية الاستعمار الجديد في الخمسينات والستينات، ثم أخيرا مصر مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي ودعوى خطر الهيمنة في السبعينات". انتهى الاقتباس.
ويمكنني أن أضيف بقدر متواضع من الثقة لايتطاول لمقام صاحب "شخصية مصر"، أن تحالف مصر مع الولايات المتحدة لم يكن تحالفا مع القوة الثانية هذه المرة، بل كان، ببصيرة نافذة من السادات لمستقبل الاتحاد السوفييتي، انقلابا في تاريخها الحديث من التحالفات وبدأ تحالفها مع القوة الأولى، يأسا أو حكمة. هنا ولدت المتناقضة الكبرى في تاريخ مصر، وهي أن تتحالف مصر مع حليف عدوها الأول إسرائيل!. وبالتالي لم تكن مفاجأة استراتيجية، رغم فرقعتها التكتيكية، أن يوقع السادات معاهدة السلام – الذي لايأتي – مع العدو الصهيوني. وبالتأكيد كان لابد لمثل هذا التحالف الاستراتيجي المضاد لمنطق معادلة الاستراتيجية المصرية أن يكون له ثمنه الباهظ، مصريا في الداخل وقد كان بالفعل بشكل أو بآخر، أقله حياة السادات شخصيا، وعربيا في النطاق الأقليمي، وأقله تفكيك تجمع – ولا أقول توحد – عربي هو واقع جغرافي وتاريخي وثقافي، يحدق بقوة في كاميرات الإعلام عبر المظاهرات الشعبية بكل بقاع العالم العربي دون استثناء، انتفاضا من أجل الدم الفلسطيني في غزة، ورفضا للانكسار الحضاري وإعلانا للمقاومة، استراتيجية شعبية في مواجهة واقع الهزيمة العسكرية أمام الهيمنة الأمريكية الصهيونية، ممثلة في احتلال للعراق بعد اغتصاب فلسطين، ومحاولة إخفاء جثتها في غزة بعد الاغتصاب.
ثالثا: مصر التكنولوجيا
مع نهاية القرن العشرين وبدأ الألفية الثالثة، كما ذكرنا، كتب زبيجنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأسبق كتابه الشهير "أحجار على رقعة الشطرنج"، وفيه حلل الجغرافيا الاستراتيجية أو الجيوستراتيجي لمنطقة أوراسيا أو قلب الأرض Heartland ومحل صراع القوى العظمي، وقام بتحديد مزيج من عوامل القوة العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والثقافية، أساسا لفهم الجيوستراتيجي الحديثة، وعدم الاقتصار على الجغرافيا.
" إن دور الجغرافيا في عالم السياسة والاستراتيجية تغير عن الماضي حيث شكلت المحيطات الواسعة والكثافات السكانية والغابات والجبال والصحارى عوائق وتحديات للجغرافيا السياسية. ومع التقدم التكنولوجي المتسارع وبلوغ الثورة الصناعية الرابعة، فإن تلك العوامل الجغرافية لم تعد بنفس أهميتها. ولكن ذلك لايعني بأي حال أن الجغرافيا لم تعد ذات أهمية لمستقبل السياسة والاستراتيجية. فقط ستأخذ الجغرافيا شكلا مختلفا في المستقبل، حيث أصبح الفضاء عاملا مساعدا استراتيجيا أكثر أهمية" (Tuathail 1997). وتبع تنامي التواجد الإنساني في الفضاء، اهتمام خبراء الجيوستراتيجي وتركيزهم أكثر على علاقة المواقع الجيوستراتيجية ومواردها في الفضاء ببعضها البعض.
هذا يعني أن مصر لابد وأنها قد راجعت قواعد المعادلة الاستراتيجية لها، وتوصلت إلى معادلة حديثة تناسب الألفية الثالثة. فإلى أي حد تأثرت الثوابت الجيوستراتيجية التقليدية لمصر؟، وإلى أي مدى انسلخت مصر من مجالها الطبيعي بثوابته التقليدية، لحساب التحاقها بمجالها الجيوإيكونوميك (الجغرافي الاقتصادي) كما يفهمه منظرو الليبرالية الجديدة في مصر؟ وما هو بالتالي حجم الارتباط الاستراتيجي بالكيان الصهيوني باعتباره بوابة بيت المال العالمي في هذا الفضاء الجيوإيكونوميكي؟ وكيف ياترى يمكن تقييم عوامل بناء تلك الاستراتيجية الجغرافية الاقتصادية في ضوء انفجار الفقاعة المالية الأمريكية لسوق العقارات والأزمة المالية العالمية الحالية؟. ومن ناحية أخرى، إلى أي مدى تم إسقاط تلك الاستراتيجية الجديدة لمصر على حجم المتغيرات في سياساتها، حجما واتجاها؟. بمعنى أوضح هل يمكن للاستراتيجية الجديدة تفسير مجزرة غزة في ظل ثوابت مصر الثقافية التي يصعب تصور تغييرها تحت أي تبريرات إقتصادية أو تكنولوجية ؟
رابعا: مصر إسرائيل
" إسرائيل بلا جدال هي أكبر عامل تحريفي منفرد في توجيه مصر السياسي، وفي تحديد زاوية عدم انحيازها من البداية إلى النهاية. ومن المحتمل، بل المحقق، أنها ستظل كذلك، وستظل سياسة مصر تتأرجح ما بين الشرق والغرب مابقيت إسرائيل؟" كانت ذلك استنتاج جمال حمدان ولا أجد أي مكان لأي إضافة بحكم الزمن، لا بحكم العلم، فالواقع أن مجزرة غزة تعتبر تطبيقا مباشرا لهذا الاستنتاج.
إن الدقة في تطابق ماكتبه جمال حمدان قبل ربع قرن مع المحركات الاستراتيجية ونتائجها السياسية على كل محاورها المعتدلة وغير المعتدلة، بل ومحور الشر في العرف الأمريكي، وما أدت إليه من أحداث دامية في غزة، ليس مجرد دقة في التحليل وحس تاريخي عميق لدى أستاذنا فحسب، ولست هنا كرجل عادي في موقع تقييم له، وإنما الأمر يرجع إلى قدرتة على تحديد وعزل ثوابت التاريخ عن متغيراته، وبكلماته هو قال : " وبصفة عريضة فإن الثوابت أكثر موضوعية من المتغيرات، أما الأخيرة فلعلها أقل موضوعية أو أكثر شخصية بدرجة أو بأخرى. وبصفة تقريبية للغاية أيضا، يمكن القول إن الثوابت تعكس توجيه سياسة مصر الخارجية الطبيعي والسوي وكما ينبغي، بينما قد تأتي المتغيرات كعامل تحريف واضطراب لها، الأولى عامل تصحيح دائما، والثانية عامل تصحيف أحيانا. وإذا كان الصراع العربي – الإسرائيلي هو أكبر عامل أدخل مصر في قلب السياسة العالمية على أوسع نطاق، فإنه جاء أيضا أكبر عامل في اضطراب هذة السياسة في النهاية وتعرضها للانقلاب التاريخي غير المسبوق".
في استبصار مدهش للمشهد المأساوي في غزة الفلسطينية، وفي رؤيته العميقة لثوابت التاريخ والجيوستراتيجي رغم الانفجار التكنولوجي، كتب جمال حمدان منذ أكثر من ربع قرن!: " كأنما قدر لمصر بين العرب – والجغرافيا قدر الأمم كما نبهنا ديجول من قبل – أن تزيد مسئوليتها الفعلية كلما قلت قدراتها الحقيقية أو النسبية. ففي الوقت الذي قل وزنها النسبي بين العرب لأول مرة بزيادة قدراتهم وأوزانهم لأول مرة، زادت مسئوليتها عنهم وعن حمايتهم وعن فلسطين السليبة أكثر من من أي وقت مضى. سخرية الأقدار!" رحم الله جمال حمدان.
10 يناير 2009