بالعقل...رغم الدم في غزة
...............................................................
مسعد غنيم
...............
يصعب جدا على الإنسان، أي إنسان، أن يتجرد من المشاعر الإنسانية وينزع إلى العقلانية أمام الدم البشري المسفوح ببرود هائل في غزة الفلسطينية، وحتى في إطار المبررات السياسية التي يطرحها الجانب القائم بالقتل وهم الإسرائيليون، يستحيل تبرير قتل مايقرب من مائة طفل وستون إمرأة ضمن مايقرب من 300 إنسان فلسطيني قتلوا في أقل من 24 ساعة، بالتأكيد كان يمكن تجنب قتلهم بدءا من الإطار الإنساني الذي يحيط بقضية هي إنسانية في نتائجها طوال ستون عاما، ومرورا بالإطار السياسي الذي هو أكثر من كاف لتداول مشكلة مزمنة كهذه، وانتهاء بآليات الحرب الحديثة والمتناهية الدقة التي يملكها الطرف الإسرائيلي القاتل، وهي حرب أبعد ما تكون عن التكافؤ بين قاتل يملك مابعد أسلحة الدمار الشامل ومقتول أقصى مايملكه هو أقرب للألعاب النارية، هذا بغض النظر عن مبررات كل طرف لرفع السلاح. يصعب أكثر استيعاب شبه التوافق أو التواطؤ الرسمي – ولا أقول الشعبي - الغربي والعربي على السواء على هذا السلوك البشري الدموي في الألفية العاشرة منذ مولد الحضارة الإنسانية بين رافدي العراق وبزوغ فجر الضمير الإنساني على ضفتي النيل، حيث يصعب توفيق هذه الصورة الدموية وسط هذا الزخم من الخطاب الثقافي والحضاري الذي ملأ الفضاء السيبرناطيقي حديثا عن القرية الكونية الجديدة وعن القلق على مستقبل البشرية مما فعلته أيديها تلويثا وتدميرا في الكوكب.
في تلك اللحظات المأساوية بالذات، ومع تفهم واقعية المشهد المأساوي من أولويات وقف نزيف الدم ودفن القتلى وإنقاذ الجرحى ومواساة الثكالى والأهل وترميم وإعادة بناء المدمر والمتهدم والمطالبة بالحق بمعايير ما اتفق عليه البشر من مواثيق دولية ومعايير أخلاقية، في تلك اللحظات ربما يكون مفيدا أن ننحى مسارا عقليا - رغم صعوبته واستغرابه - يكون أكثر اتساعا من التحيز الضيق في الجغرافيا أو الأسر المتحجر في التاريخ أو التعاطف المفرط مع العشيرة أو التعصب المقيت لعقيدة أو قومية، أو التشيع الأعمى لمذهب هنا أو هناك، بل ربما يكون من الضروري أن نستخدم أفضل وأغلى مواردنا البشرية، وهو العقل، لقراءة المشهد الدامي بأكثر عمق ممكن حتى يمكن التعامل بأفضل مايكون مع هذا الحدث الذي هو في الغالب تاريخي بمعنى أنه سيشكل علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية ومؤشر واضح لمسار الأحداث في المنطقة العربية منذ حرب يونيو 1967 وبدأ تراجع الحلم العربي ودخول القضية الفلسطينة في متاهات السياسة، ثم ما أحدثته خطوة كامب ديفيد من انحراف تاريخي حاد وتعجيل للمشروع الصهيوني كما أعلنه أصحابه، على حساب المشروع العربي، وذلك في إطار المشروع الكوني لهيمنة الإمبراطورية الأمريكية.
على المستوى الإنساني العام فإن مايحدث لا يشكل خروجا عن المألوف التاريخي للتراث البشري في القتل وسفك الدماء، وتعي ذاكرة التاريخ المسجل محرقة بريسبوليس العاصمة الفارسية على يد الإسكندر المقدوني، وهذا لا يعني عدم قيام فارس بمجازر مقاربة وإن كانت أقل حجما، كما سجل التاريخ محو حضارة بكاملها من الوجود وهي حضارة قرطاجنة في شمال إفريقيا على يد الإمبراطورية الرومانية في سابقة تاريخية لم تسجل من قبل أو بعد، ولايغيب عن الذاكرة كم الدمار والإهدار للدم البشري بدون مبرر إلا الإرهاب، والذي صاحب موجات الغزو التتاري والمغولي، ثم الحروب الصليبية، كما سمتها أوروبا، التي لم تفرق في القدس بعد غزوها بين الدم المسلم والدم اليهودي فكان نصيب الأول الذبح والثاني الحرق، أيضا كما رصده وسجله الغرب نفسه بأمانة علمية واضحة، بل لم تعصم راية المسيحية الدم الأرثوذوكسي من الإهدار بسيوف كاثوليكية وبروستانتية أوروبا.
وفي أعقاب عصر النهضة سقطت الحضارة الإنسانية في تناقض صارخ مع مسماها النهضوي واستغراقها في المد المسيحي التبشيري، وفي مسار يستعصي على الفهم إنسانيا، بعد سقوط الأندلس بدءا بمحاكم التفتيش الأسبانية، ثم استعباد ملايين الأفارقة لبناء الإمبراطورية الغربية الجديدة في أمريكا، وبالطبع اقتضى الأمر أن يتم إبادة ملايين أخرى من السكان الأصليين، وكل ذلك باسم المسيح، واستمر ذلك حتى استيقظ الضمير الأوروبي نفسه وبدأ تصحيح المتناقضة بعد فوات الأوان.
ولم تحقق كل من الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية – مجازا- رغم إعلانهما المبهر عن الإخاء الإنساني وحقوق الإنسان، لم تحققا الحلم الإنساني حقيقة، بل حققتا جزءا من حلم الإنسان الأوروبي الأبيض في النهضة والتنمية على حساب الأجناس والشعوب الأخرى، حيث فتحت الطموحات الأوروبية باب التاريخ للاستعمار الحديث تحت دعاوي التعمير والتحضير للشعوب المتخلفة، حتى تحفظ لوجهها الحضاري المعلن بعض ماءة، وجرجرت العالم معها إلى حربين أوروبيتين سميتا بالعالميتين نظرا لاتساع رقعتهما لتشمل العالم كله، ذاقت فيهما البشرية انتهاكا نازيا عنصريا مقززا وانتهتا إلى أبشع سفك دموي أو تبخير دموي إذا صح التعبير بالقنبلة الذرية الأمريكية على اليابان بشكل مشكوك في تبريره.
وليست حضارات الشرق بأقل دموية، فسجل الإمبراطورية العثمانية ليس أبيضا ناصعا حتى مع الشعوب الإسلامية نفسها، وسجل الاستعمار الياباني لكوريا والصين مسبوغ بلون الدم، وما زالت مجازر الخمير الحمر في جنوب شرق آسيا حية في الضمير الإنساني، وتاريخ الاتحاد السوفييتي لم يخل من مجازر بشرية من منطلق أيديولوجي، وبالأمس القريب تمت محاكمات مرتكبي مذابح البوسنة والهرسك مجرمي الحرب، وبالأمس أيضا كانت مذابح صبرا وشاتيلا واليوم تجري محاكمات مرتكبي مذبحة المليون إنسان في رواندا الأفريقية على يد الأفارقة أنفسهم، وقد يطالب البعض غدا بمحاكمة من قتلوا أكثر من مليون عراقي في غزو غير مبرر سياسيا ولا أخلاقيا.
كل ذلك يعني ببساطة، أن إستباحة الدم في غير ما حق ومن منطلق القوة ولاشئ غيرها، هو أمر بشري تماما، أجمع عليه الفلاسفة والحكماء منذ أن تعرفت البشرية على نفسها في هذا الكون، ولم تستطع أن توقف جريان هذا الدم أي دعاوي إنسانية أو تمسح بعباءات الأديان، كل الأديان، أو ادعاءات الحرية والديموقراطية أو منشورات حقوق الإنسان، رغم جهود كل المخلصين والحالمين في كل الحضارات والثقافات عبر التاريخ وحتى هذه اللحظة، وليست غزة استثناء من هذا التاريخ الطويل.
فإذا كان ذلك كذلك، وحيث أننا في نهاية المطاف يجب أن نهبط من الأفق النظري في قراءة التاريخ إلى أرض الواقع العملي المعاش بكل أبعاده المتشابكة والمعقدة من استراتيجية وسياسية واقتصادية واجتماعية؟ فماذا يمكننا أن نفعل من منطلق قومي يستند إلى الجغرافيا باعتبارها أم التاريخ، ويفهم الاتصال التاريخي الوثيق بين مايجري وماجرى بدءا من سقوط الأندلس ومرورا بسقوط بغداد بعد بيروت والقدس وما ينتظر في طابور السقوط العسكري السياسي الظاهر منه والمستتر، وانعكاسات أو إرهاصات ذلك في البعد الحضاري الإنساني؟
من المتفق عليه شعبيا أن الحل ليس في انتظار الذي لا يأتي من كرسي السلطة في العالم العربي، وأكاد أجزم أن الحل لايأتي أيضا من عباءة التيارات الإحيائية الإسلامية التي تزامن ظهورها مع الإرهاصات الأولى للمشروع الصهيوني في ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، وبالقطع ليس الحل في عجلة الليبراليين الجدد الذين يتناغمون مع المشروع الصهيوني الأمريكي بدعاوي الواقعية سواء جهرا أو سترا، والتي لا يحملون من الليبرالية إلا اسمها.
في تحديد تاريخ اتجاهات العقلانية العربية، يقول المفكر العربي المغربي عبد الإله بلقيز "أن العقلانية الإسلامية الإصلاحية جربت أن تنشد إلى أصولها التراثية مع الأفغاني ومحمد عبده، لكنها ما استطاعت أن تتفادى الانتباه إلى الفكر الغربي الحديث فتستقي منه مقالاتها، ولكنها لم تقو على تجاهل العقلانية التراثية: الرشدية والخلدونية. وحين نشأت عقلانية نقدية جديدة في النصف الثاني من القرن العشرين، لم تنصرف إلى نقد اللحظتين العقلانيتين: الإصلاحية والليبرالية فحسب، بل اعترفت بتعدد المقالات العقلانية في العالم العربي، وبحثت عن حدود كل منها في خطابات ذلك الفكر."
ويضيف أن " العقلانيات العربية المعاصرة أفضت إلى دعوات تنويرية داخل حدودها الفكرية وتبعا لمقدماتها النظرية، وأن التنوير العقلاني الإصلاحي عني تجاوزا للتقليد والجمود والنزعة النصية، أما التنوير العقلاني الليبرالي فعني تبشيرا بقيم فكرية جديدة ليست لها مقدمات معلومة في تراثنا ولايبحث عنها إلا في المنظومة الفكرية الغربية، وأن الدعوتان التنويريتان التقتا أحيانا في الدفاع عن قيم مشتركة كالحرية والديموقراطيةوالعقل، لكنهما اختلفتا في فهم معنى الصلة بين العلم والإيمان الديني مثلا. ويضيف أن وريثة العقلانية الليبرالية هي مايسمى بالعقلانية النقدية التركيبية المعاصرة والتي تكرست في العقود الأخيرة في معاناة وجودية بعد أن انهزمت الإصلاحية الإسلامية أمام الإحيائية الإسلامية."
نحن إذا أمام محنة العقل، كما يقررعبد الإله بلقيز، ونتمنى معه أن تعيد تلك المحنة إلى العقل سلطانه في مقابل تهافت نقائضه. ومن هذا المنطلق العقلاني يجب أن نقرأ المشهد في غزة على أنه نقطة ذات دلالة نوعية في خط ممدود من الأندلس عبورا ببغداد ومتجها إلى أهداف مخططة بدقة عقلانية هيأت فيما هيأت؛ المناخ السياسي العربي قبل العالمي لقبول تلك المجزرة بعد ست عقود من المقاومة، ويجب أن نفهم أن ذلك يتم في إطار صراع حضاري بالدرجة الأولى لن يكون الفصل فيه إلا بالعقل صانع الحضارة الإنسانية أصلا.
29 ديسمبر 2008