| | | | البعد الإرهابي في واقعة حذاء الزيدي – بوش ...............................................................
مســعد غنيم ....................
العقل البشري قاصر بطبيعته، وبالتالي فإن أي مخططات له، مهما بلغت عبقرية أو تعقيد إعدادها من حيث مستوى المؤسسات الاستراتيجية أو مستودعات الفكر أو أوكار المخابرات التي تقف خلفها، تلك المخططات هي في نهاية المطاف قاصرة أيضا. سجل التاريخ الصورة الكاريكاتورية لواقعة حذاء الزيدي العراقي وهو يطير نحو وجه الرجل الذي قاد – في الظاهر – الحملة الصليبية الجديدة حسب قوله بلسانه، وماتحمله في طياتها من طموحات إمبراطورية جيوستراتيجية واضحة ومعروفة منذ أطلق السير جون هالفورد ماكندر (1905) نظريتة عن الصراع الجيوستراتيجي بين الدولة البحرية والدولة البرية أو بين البر والبحر، ومفهوم بؤرة الصراع التاريخي العالمي حول الـ "Heartland" أو أوراسيا بالمعنى الجغرافي المباشر، والتي زادها البترول أهمية.
تحمل تلك الصورة بعدا "إرهابيا" بالمعنى الأمريكي لم تطرقه وسائل الإعلام في التقاطها لطرافة الحدث أو تاريخيته أو دلالته عن المزاج العام للشارع العربي المقاوم لمشروع الهيمنة الأمريكي المسيحاني الصهيوني والذي بدأ دورته للقرن الواحد والعشرين باحتلال العراق. ولكي نقرب الفكرة، فلعلنا نذكر حادثة اغتيال السادات وما روي من أنه وقف وأشار إلى منفذي العملية وخاطبهم بلغة آمرة واثقة بأن يرجعوا! فلم يكن ليصدق وهو في قمة سلطته وإحساسه بإنجازه التاريخي بقرار حرب أكتوبر 1973 أن هناك من يمكن أن يفكر في إيذائه جديا! بله في اغتياله وسط جيشه ورموز سلطانه، تلك صورة مأساوية مضت بكل ملابسات اللحظة وإن كنا نعيش في توابعها حتى الآن. ولعل البعض يتذكر أيضا واقعة محاولة اغتيال ريجان في قلب واشنطون – حيث لا إرهاب ولا يحزنون!- حينما انقض عليه في أقل من ثانية كل رجال الأمن وغطوه بأجسامهم بمجرد سماعهم للطلق الناري الطائش، وأشهروا أسلحتهم في كل اتجاه!!
إن لقطة بوش وهو يشير إلى رجل الأمن الذي أسرع إليه بعيد تفاديه فردة الحذاء الطائرة الثانية بما معناه لاداعي للنجده أو الحماية فالأمر بسيط وتافه، قد تحمل بعدا إرهابيا خفيا، كيف؟ فلو أن بوش يصدق فعلا أن هناك "إرهابا" استدعى استنفار أكبر قوة عرفها التاريخ لتطيح في العالم، والإسلامي منه تحديدا، بتكلفة خرافية وضد القانون والعرف الدولي، لانبطح أرضا فور أقل إشارة بعدوان من أي إنسان وهو في قلب بغداد التي مازال يحارب "الإرهاب" فيها! ولكنه تفادى فردة الحذاء الأولي بمهارة لاعبي الكرة رغم دقة تصويب الزيدي، وبدا غير منزعج إطلاقا، بل وتفادي الثانية بمهارة أيضا وبثبات وابتسام! ولم يكن في حاجة ليد المالكي التي امتدت لحمايته، وهي الأخرى كانت ثابته وواثقة وغير خائفة من إرهاب محتمل! ولم يخرج رجال الأمن من الغرفة الخلفية إلا بعد انتهاء القصف الحذائي! ولم يكونوا شاهرين أي سلاح!
ومن ناحية أخرى، فإنه لم يمر وقت طويل على اعتراف بوش بخذلان جهازه المخابراتي له في مسأله أسلحة الدمار الشامل العراقية التي بني قرار الغزو على أساسها، وبالتالي فمن المتصور من رئيس دولة غازية احتلت باسم محاربة الإرهاب بلدا آخر بناء على تقارير مخابراتية غير دقيقة، وهو في عاصمة الإرهاب هذه أن يظهر شيئا من الخوف الإنساني الطبيعي مثلما أبداه ريجان فور بدء محاولة اغتياله، ولكنه لم يفعل، فلماذا؟ الاحتمال الأول هو الشعور بغرور القوة مثلما فعل السادات قبيل اغتياله واستهانته بمهاجمية، والاحتمال الثاني هو غباء بوش المشهور، والاحتمال الثالث هو أنه ليس هناك "إرهاب" ولا يحزنون وإنما هو تلفيق إعلامي استراتيجي.
الاحتمال الأول والثاني يضعفهما أن رجال الأمن لم يبدو ردة الفعل المناسبة للجو "الإرهابي" المفترض وجوده في العراق المحتل بالرغم من أي ترتيبات أمن قصوى، ولم يشهروا أسلحتهم!، ولا ننسى كم رئيس أمريكي اغتيل في ظل كل إجراءات الأمن الأقصى في التاريخ المعاصر منذ لينكولن وحتى كينيدي!!
أغلب الظن أن الاحتمال الثالث هو الصحيح وأن التخطيط المحكم للمحافظين الجدد للهيمنة قد انكشف وجه له في لحظة تاريخية خرجت عن مستطاعهم التآمري بحكم محدودية وقصور العقل البشري مهما بلغت درجة ذكائة وشيطانيته. ذلك التخطيط الذي بدأ من أحداث سبتمبر 2001 بعيد بدء ولايتهم الأولى للحكم في أمريكا لتسويغ غزوهم الموسع والشامل للعالم، وانتهاء بتخطيط انهيار سوق المال العالمي - والذي لم يكن مفاجئا في عرف المتخصصين بل يبدو عملا مخططا ومقصودا بتغييب وسائل الرقابة المالية على أسواق المال أسوة بالرقابة الصارمة على أسواق التجارة في السلع والخدمات، والتي بالمناسبة لاتشكل أكثر من 2% (إثنان فقط) من إجمالي حجم التعاملات Transactions الاقتصادية للعالم كله والباقي معظمه معاملات مالية فقاعية كما ظهر مؤخرا- للاستحواذ على أكبر قدر من الثروة العالمية بنهاية الولاية الثانية لهم.
كل ذلك التخطيط استدعى فيما أظن إعداد وإخراج فيلم هوليودي لتغطية تطبيق استراتيجية السير ماكندر في السيطرة على منطقة أوراسيا بدءا من أفغانستان وانتهاء ببولندا تحقيقا لسيطرة البحر ممثلا في الدولة البحرية العظمي وهي أمريكا، على البر ممثلا في أوروبا العجوز وروسيا اللدود.
إلى جانب العديد من الدراسات الجادة التي استهدفت بيان الخديعة الكبرى في استراتيجية "الحرب على الإرهاب"، فإن لقطة حذاء الزيدي الطائر لوجه بوش والذي أصاب العلم الأمريكي خلفه بدقة في مصادفة رمزية قدرية، قد تحمل في طياتها الكاريكاتورية تفسير البعد "الإرهابي" الزائف في استراتيجية الهيمنة الأمريكية التي لانعلم كيف سيكيفها أوباما لتناسب مرحلة تاريخية جديدة.
16 ديسمبر 2008
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|