مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

هل الديموقراطية خطر على التدين؟

 

غنيم

 

بقلم : مسعد غنيم
..................

مجلة ساينتيفيك أميريكان (العلمي الأمريكي)SCIENTIFIC AMERICAN  مجلة ذات سمعة طيبة ولها من العمر ما يزيد عن 150عاما. نشرت مؤخرا في ديسمبر 2013 مقالا للدكتور مايكل شيرمر في عاموده المنتظم بالمجلة بعنوان "تراجع الدين وصعود اللامتدينين". وكنت قد شاهدت في أواخر نوفمبر 2013 ومنذ أسبوعين تقريبا حلقتين متتاليتين على يومين بالصدفة (أو بغيرها!) على قناتين خاصتين في مصر، قدمتا شابين "ملحدين" في حوار مع علماء دين متخصصين، كان أحد الشابين مسلما والآخر مسيحيا. وكانت تلك هي المرة الأولى في حدود علمي التي يناقش فيها الإلحاد علنا على الهواء مباشرة! في مصر. تباينت ردود أفعال الضيوف والمشاهدين المعلقين، فكان هناك من رفض مبدأ إشهار الملحدين أصلا مع التلميح لعقوبتهم بالإعدام طبقا للشائع في العقيدة الإسلامية باعتبارهم مرتدين أو ملحدين، وكان هناك من رأى ضرورة الحوار معهم واستيعابهم من أجل إعادتهم لحظيرة الإيمان. ومن ناحية ثالثة، نشر موقع بي بي سي في نوفمبر 2013 نقلا عن جريدة الصباح المصرية تقريرا يرجح وجود 3 مليون ملحد في مصر، وأضاف التقرير عن بعض من هؤلاء قولهم بأن ثورة 25 يناير 2011 قد فتحت لهم المجال للتعبير عن رأيهم بحرية أكثر. بالمقابل أشارت الـ بي بي سي إلى نتيجة استقصاء أجرته مؤسسة بيو جلوبال عام 2010 بأن غالبية معتبرة من العينة محل الاستطلاع، من الأغلبية المسلمة في مصر، ترى بوجوب عقوبة الإعدام للمرتد عن الإسلام. فهل هناك تعارض بين الحرية والديموقراطية من جانب والإسلام من جانب آخر؟ هذا سؤال أراه يزداد إلحاحا مع التغيير المتسارع في كل مناشط الحياة البشرية على كل الكرة الأرضية وليس في مصر وحدها. من هنا رأيت أنه من المناسب تقديم مقال د.شيرمر في مجلة ساينتيفيك أميريكان للقارئ العزيز لمتابعة مسار هذا التغيير على مستوى العالم.

وقبل أن نعرض للمقال المعني، من المهم أن نتفق على بعض المصطلحات، حيث أن أحد أزماتنا الثقافية والأخلاقية في العالم العربي هي "أزمة المصطلحات". فالمجتمع الثقافي العربي ومنذ عقود طويلة يختلف على مفهوم تعبير العلمانية! فهناك من ينسبه إلى العلم بكسر العين، وهناك من ينسبة إلى العالم بفتح العين. ولكن المعنى الدارج والشائع بين العامة يقابل "الإلحاد والكفر"!، والفضل في ذلك يرجع بامتياز إلى التيارات الإسلامية المتشددة (التيار الإحيائي)، خاصة بعد 25 يناير 2013. ولكن عندما نعرف أن التعبير الأصلي المستخدم في الإنجليزية هو سيكيولاريزم أو SECULARISM، صكه الكاتب الإنجليزي جورج جاكوب هوليوك (1817 – 1906) ، وهو يعني طبقا لقاموس ماريام ويبستر :"الاعتقاد بأن العقيدة الدينية لا يجب أن تلعب دورا في الحكومة، ولا التعليم، ولا المؤسسات العامة الأخرى في المجتمع" ، وهو مايمكن اعتباره باختصار "فصل الدين عن الدولة" ولا يمس بالتالي موضوع الإعتقاد الديني من عدمه!، ولكن بالطبع هناك الغلاة من "العلمانيين" الذين يشهرون إلحادهم، وبالمقابل هناك الغلاة من "المتدينين" في شرقنا العربي الذين يلصقون المعنى بالإلحاد عمدا. ويمكننا أن نفهم هذا العمد إذا علمنا أن تعبير الإلحاد بالإنجليزية هو آثيسيزم أو Atheism، وهو مختلف تماما عن تعبير العلمانية Secularism من المنظور اللغوي على الأقل.

وعودة إلى المقال، يقول د. شيرمر: منذ بداية القرن العشرين، ومع صعود التعليم العلماني الواسع وانتشار المعرفة العلمية من خلال الإعلام الشعبي، فقد تراجعت التنبؤات بموت الألوهية، وفي بعض الحالات – مثل ما في الولايات المتحدة – فإن نسبة التدين قد زادت بالفعل، ولكن تلك النسبة تتغير. فطبقا لاستطلاع رأي في 2013 شمل 14,000 شخص في 13 دولة (ألمانيا، فرنسا، سويسرا، أسبانيا، السويد، تركيا، إسرائيل، كندا، البرازيل، الهند، كوريا الجنوبية، المملكة المتحدة والولايات المتحدة) قامت به مؤسسة ألمانية تدعى بيرتلسمان في إطار سعيها لمراقبة الحالة الدينية، وجد أن هناك إجماع شائع على فصل الدين عن الدولة، كما ظهر أن هناك إنحدارا في نسبة التدين عبر الزمن وعبر الأجيال.

في استطلاع الرأي وعند الاستجابة لعبارتي "فقط هؤلاء السياسيون الذين يؤمنون بالإله هم المناسبون في الوظائف العامة" و "الشخصيات الدينية القيادية يجب أن تمارس تأثيرا على قرارات الحكومة" فقد جاءت النتائج أنه حتى في أوساط المتدينين الأميريكيين المتشددين وافق 25% فقط على العبارة الأولى، و 28% على العبارة الثانية. وفي كل الدول الأخرى يفيد التقرير بأرقام ونسب أقل (أقلهم أسبانيا بنسبة بين 8 و 13 % وألمانيا في المنتصف بنسبة بين 10 و21 % على التوالي). أكثر من ذلك، فإن معظم الدول التي شملها الاستطلاع أظهرت تراجعا في نسبة التدين، خاصة بين الشباب. وفي أسبانيا، مثلا، فإن 85% من المستطلع أراؤهم ويتعدون 45 سنة من العمر أظهروا تدينا يتراوح بين المعتدل والمتشدد، ولكن 58% فقط من الشباب الأصغر من 29 سنة قالوا بأنهم كانوا كذلك يوما ما!، أي أنهم تخلوا عن التدين.وفي أوروبا بشكل عام، فقط من 30 إلى 50% قالوا بأن العقيدة الدينية مهمة في حياتهم.

لماذا حدث هذا التراجع؟ أحد العوامل هو الانتشار الواسع للديموقراطية حول العالم خلال نصف القرن الفائت. فقد اتفق معظم الأشخاص محل استطلاع الرأي أن الديموقراطية هي شكل جيد من الحكم، بدون أي فروق بين مختلف العقائد الدينية. وأحد ملامح الديموقراطية هو التفرقة بين ما هو مقدس وما هو علماني Secular وذلك لأنه في الدول التي تتميز بالأغلبية الساحقة لعقيدة دينية واحدة لا يمكن لأحد أن يعلن عن انتمائه لعقيدة دينية خاصة مختلفة (مثل المجتمع الإسلامي). هذا بينما تتميز الديموقراطيات بمستوى متقدم من التعليم ونظام تعليم عام واسع أدى إلى نمو التسامح مع العقائد الأخرى التي، بدورها، تخفض من درجة قناعتها بامتلاك الحقيقة المطلقة التي تتطلبها معظم العقائد، وبذلك يتم الإقلال من شأن إدعاء عقيدة ما إمتلاك الحقيقة من دون العقائد الأخرى.

العامل الثاني في تفسير تراجع التدين هو فتح الحدود الاقتصادية، مثلما حدث بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيث تم استبدال التبادل المالي على أساس تبادل المنفعة (المجموع غير الصفري) محل القبائلية العقائدية التي تنتهج مبدأ الاستئثار بالمكاسب دون الطرف الآخر في العلاقة الإقتصادية (المجموع الصفري). إن التجارة الحرة ومبدأ تقسيم العمل يشكلان أعظم مولد للثروة في التاريخ، وطبقا لتقرير "مراقبة التدين" باستخدام بيانات استطلاع الرأي، فإن "التعايش المبني على الإقتصاد الإجتماعي غالبا ما ينتج عنه إنحدار في الأهمية الإجتماعية للعقيدة في المجتمع ونقصان في عدد الأشخاص الذين يؤسسون مناشط حياتهم على القواعد والأعراف الدينية. "لماذا؟ إن أحد الوظائف الإجتماعية للدين هو مساعدة الفقراء، بما يؤدي إلى تراجع معدلات الفقر (وكما في السويد والدول الأوروبية الأخرى، فإن البرامج الإجتماعية للحكومات تقدم الدعم للفقراء)، وهكذا أيضا يفعل التدين بعقيدة ما. ولأن الطبقة المتوسطة في معظم الدول تنمو باستمرار من قوة الشباب، فإن هذا يمكن أن يفسر نتائج تقويم التقرير بأنه "تقريا كل الدول التي شملتها الدراسة... أظهرت تراجعا في مركزية وأهمية الدين في الحياة اليومية من جيل لآخر. وكقاعدة عامة، فإن الأشخاص الأصغر سنا هم الأقل في درجة التدين."

وبالرغم من ذلك، فإن كاتبي التقرير كانوا حذرين بشأن استنتاج خلاصة "نيتشوية" نسبة إلى الفيلسوف نيتشة الذي إدعى موت الإله: "هذا لا يعني أن التدين والسلوك الديني قد اختفيا أو سوف يختفيان نهائيا من حياة الناس: ما بين 40% و 80% من المواطنين الأوروبيين أبدوا على الأقل درجة من الإعتقاد الديني طبقا لمعيار مركزية التدين." ولا يزال هذا الإتجاه لا تخطؤه العين في إحصائيات أخرى مستنتجة من تلك الدراسة. إن نسبة الأشخاص الذين قالوا بأنهم "غير متدينين أو ليسوا متدينين جدا" هي نسبة ذات دلالة، حيث تبلغ قيمة النسبة في حالة الولايات المتحدة (حوالي 31%) وهي تتطابق مع نتائج دراسات أخرى.

على سبيل المثال، فإن الاستقصاء الذي أجراه مركز أبحاث "بيو Pew" قد وجد أن الفصائل الدينية الأسرع نموا في أمريكا هي فصيلة "اللادينيين Nones " (هؤلاء الذين لا دين لهم ولا انتماءات دينية) وذلك بنسبة 20% (32% منهم شباب تحت سن الـ 30)، وينقسمون إلى تقسيمات فرعية هي الملحدون Atheists واللاأدريون أو الغنوصيون Agnostics بنسبة 6%، بينما تبلغ نسبة الغير منتمين دينيا 14%. من الواضح أن الأرقام الأولية ذات دلالة صارخة: فمن السكان البالغين في الولايات المتحدة (سن 18 فأعلى) والبلغ عددهم 240 مليون، هذا الرقم يترجم إلى 48 مليون "لا ديني" أو 14.4 مليون ملحد/لاأدري (غنوصي) و 33.6 مليون غير منتمي، وتلك كتلة تصويتية قوية."

كان هذا هو محتوى مقال د. شيرمر عن نتائج دراسة استطلاع رأي عن حالة التدين العالمية شملت 13 دولة منها تركيا وبلغت العينة 14000 شخص. وتخلص نتائج الدراسة إلى أن هناك تراجع في الاتجاه العام للتدين في العالم. وسبق التقديم في مقدمة هذا المقال الإشارة إلى ثلاثة أحداث تخص الشأن المصري بخصوص حالة التدين، ورأينا مؤشرات التغيير الواضحة بعد ثورة 25 يناير، مع تنسم الشباب نسمات الحرية والديموقراطية، وانعكاس ذلك على الحالة الدينية، التي يمكن وصفها تجاوزا بأنها حالة استقطاب حادة ولدها خلط الدين بالسياسة من قبل المتشددين الدينيين، وكانت النتيجة المشاهدة حتى الآن وبشكل سريع (غير استقصائي أو علمي)، هي ظهور حالات اللاتدين دليلا على نموها، وهذا أمر قد يُستغرب، هذا بينما يزداد تعصب التيارات الدينية الإسلامية إلى حد التكفير والقتل والتخريب! وهذا أمر غير مستغرب باستقراء تاريخهم منذ العصر الأُموي!!

فماذا يعني هذا لنا في مصر والعالم العربي الإسلامي بصفة عامة؟ بالطبع يمكننا تجاهل هذه الدراسة ونرفضها موضوعا وشكلا من حيث المبدأ، تخوفا من أن تكون حلقة في سلسلة حلقات مؤامرة غربية مسيحية على الإسلام، هذا ممكن. وبالعكس، يمكننا أن نمحص هذه الدراسة ونستوثق من مصادرها ونستجلي أهدافها قبل أن نستخلص منها "حقائق" تاريخية وإنسانية بصفة عامة، ثم نرى ما هو تأثير تلك "الحقائق" على المجتمع الإسلامي، وبمنطق عالم مفتوح الحدود لتبادل البضائع، ومنفتح الفضاء السيبرناطيقي لشيوع الأفكار، فلابد أن يكون لهذه الحقائق العالمية تأثير ما على المجتمع الإسلامي بصفة عامة. وبالتالي فإن تجاهل مثل هذه الدراسات خوفا أو تعصبا هو أمر ليس في صالح المجتمع الإسلامي بالضرورة.

والخلاصة هي أني أعتقد أن التغيير العالمي المتسارع في عصر المعرفة المتفجرة هو حقيقة تاريخية معاصرة لا يمكن تجاهل آثارها على كل المجتمعات الإنسانية، والتحدي أمامنا اليوم، بعد أن استنفذ جيلنا رصيده في الحياة، هو تصور كيفية تنشئة أبناءنا وأحفادنا في هذا العالم متسارع التغير بما يكسبهم العقلية العلمية المعرفية التي تعتمد العلم منهجا في الحياة، بما يمكنهم من المنافسة وعدم الانقراض الحضاري أمام مختلف الثقافات التي تستوعب عصر المعرفة بذكاء تاريخي، وفي نفس الوقت نؤكد هويتهم الثقافية الوطنية وبالطبع لانفقدهم عقيدتهم الدينية التي فطر الإنسان عليها، وبشرط ألا نسمح للمتعصبين والمتشددين الدينيين المنغلقين عن العصر والتاريخ، لا نسمح لهم بتشويش وتشويه المنهج العلمي والمعرفة الإنسانية لدى الأجيال القادمة بتفسيراتهم المتحجرة في التاريخ والتي أفشلت الحضارة الإسلامية العظيمة بعد إزدهار دام لقرون عديدة بانفتاح العقل والإجتهاد والمنهج العلمي.!

مسعد غنيم
6 ديسمبر 2013
 



06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية