مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

قراءة جيوسياسية لقرار السيسي التاريخي

 

غنيم

 

بقلم : مسعد غنيم
...................

جاءت الزيارة المزدوجة لكل من وزيري الخارجية والحربية الروسيين لمصر في 12 نوفمبر 2013 بمثابة الاعلان الرسمي عن تحول جيوسياسي (توظيف الجغرافيا في وقت السلم) جديد في الشرق الأوسط، خاصة وأن هذه الزيارة المزدوجة هي الأولى من نوعها في تاريخ علاقة مصر بروسيا حتى إبان الاتحاد السوفييتي. وقد تغري النظرة السريعة للمشهد الجيواسترتيجي (توظيف الجغرافيا في وقت الحرب) للاعتقاد بأن هذا التحول هو ناتج مباشر لثلاثة أحداث كبرى متتابعة تبرز في مجموع اتجاهاتها تراجعا واضحا للسياسة الأمريكية في المنطقة؛الحدث الأول هو قرار الشعب المصري الذي صنع ثورة 25 يناير بالإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر في ثورة ثانية في 30 يونيو 2013 بعد سنة واحدة فقط من تولي الجماعة الحكم ديموقراطيا بحسب المعايير أو بالأحرى الترتيبات الأمريكية. وقد شكل هذا القرار ضربة مفاجئة للخيار الاستراتيجي الأمريكي بتمكين تنظيم الإخوان المسلمين من حكم المنطقة في إطار جيوسياسي أمريكي، وذلك باعتبار هذا التنظيم هو الأقوى تنظيما والأعمق تواجدا على الأرض بعد انهيار حقبة الحكم الشمولي الذي فرض على المنطقة لأكثر من ثلاثة عقود.

الحدث التالي هو تراجع القرار الأمريكي بعد تردد واضح بتوجيه ضربة تكتيكية إلى قوات الأسد في سوريا دعما لقوات المعارضة التي يقف وراءها بشدة كل من الغرب وبعض الدول العربية. كان هذا التراجع نتيجة عاملين: أولا، صمود الجيش السوري رغم كل الخسائر التكتيكية على الأرض السورية نتيجة الدعم الروسي الحاسم والمصر على عدم تغيير الخريطة الجيوسياسية للمنطقة لصالح أمريكا، إضافة إلى الدعم الصيني الهادئ لكل من إيران وسوريا. ثانيا جنوح المعارضة المسلحة السورية إلى ضم تنظيمات إرهابية بالمعايير الغربية وفي مقدمتها تنظيم القاعدة، بما قد يشكل تهديدا للغرب ذاته، متوازيا في ذلك مع تداعيات الإطاحة بحكم جماعة الإخوان في مصر بتحولها إلى ممارسة الإرهاب الذي تجيده وذلك في سيناء وفي الوادي أيضا، مما أجبر صانع القرار الأمريكي على دعم مصر في محاربة هذا الإرهاب رغم توتر العلاقات السياسية بينهما وووقف جزء من المعونة العسكرية على إثر الإطاحة بالإخوان.

أما الحدث الثالث والأخير والذي مازال يتشكل الآن على الأرض هو التغيير الواضح والسريع للعلاقة الأمريكية الإيرانية من المواجهة العنيفة إلى حد التهديد بضرب المشروع النووي الإيراني، إلى المهادنة واتخاذ القرار بالمقاربة السلمية في مؤتمر دولي متعثر حتى الآن، وجاء هذا التحول مباشرة بعد تغيير شكل وسلوك الحكومة الإيرانية وتحولها إلى التهدئة بعد انتهاء فترة أحمدي نجاد الصاخبة.

تلك الأحداث الديناميكية المتتالية إذن قد تغري بالقفز إلى استنتاج أنها السبب المباشر في التراجع القسري للسياسة الأمريكية في المنطقة عن إنشاء الشرق الأوسط الكبير أو الجديد! هذا إذا قصرنا النظر على الخريطة الجيوساسية الإقليمية على الشرق الأوسط فقط! ولكن إذا وسعنا المنظور ليشمل الخريطة الجيوسياسية الكونية على مستوى الكرة الأرضية، يستطيع الناظر المدقق والمتابع أن يميز تحولا مبكرا عن تلك الأحداث. تعود بدايات هذا التحول إلى 17 من سبتمبر 2011 عندما أعلن الرئيس أوباما من مدينة داروين في استراليا عن تدشين وصول 2000 جندي بحرية أمريكية، وذلك كنواة للمركز الجيواستراتيجي الجديد للقوات الأمريكية في جنوب بحر الصين، في إشارة جيوسياسية واضحة لانسحاب نوعي من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا. وقد مر هذا الحدث دون صخب إقليمي وذلك في خضم أحداث ثورة 25 يناير 2011 وصخبها.

بدوره، لم يكن القرار الأمريكي بالتوجه بالمركز الرئيس للقوات البحرية الأمريكية شرقا وليد أحداث إقليمية أو تغيرات تكتيكية هنا أو هناك، بل كان نتيجة رؤية استراتيجية كونية لموازين القوى الدولية في عالم ديناميكي سريع التغير، وبعد التأكد من نزول الولايات المتحدة الأمريكية من مرتبة القوة الأعظم والأوحد في العالم بالمعايير الاقتصادية، إلى مجرد قوة عظمى ضمن قوى أخرى صاعدة بقوة وأهمها الصين، هذا رغم أن أميركا ما زالت الأعظم عسكريا، وهو العامل الذي يشكل قوتها السياسية.

أي أن القرار الأمريكي بالانسحاب الجزئي من الشرق الأوسط واتجاه التركيز إلى جنوب شرق آسيا إنما هو إنعكاس مباشر للتغير الاستراتيجي في موازين القوى الاقتصادية الدولية بشدة في الاتجاه شرقا نتيجة تحقيق الصين لمعدلات نمو غير مسبوقة في الفترة من 2000 حتى 2010 بما جعلها المركز الصناعي العالمي متخطية أمريكا في التصنيع، وصاعدة باقتصادها ليكون في المركز الثاني بعد أمريكا وذلك في تقدير زبجنيو بريجينيسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في كتابه الأحدث: رؤية استراتيجية بعنوان فرعي: أميركا وأزمات القوى العالمية (Strategic Vision- 2012). وفي هذا الإطار تحقق الهند تقدما موازيا ومنافسا للصين في الإقليم. ويؤكد بريجينيسكي أن هذا يحدث في نفس الإطار الزمني الذي عانى الغرب فيه من تعسر مالي على نطاق واسع، كما أن أميركا دخلت في أزمات منتظمة بسبب عبء الديون وتباطؤ الاقتصاد الداخلي.

بهذه النظرة الكونية للجيوسياسة العالمية بكل عناصرها الاقتصادية والسياسية والعسكرية يمكن القراءة الصحيحة والعميقة للقرار التاريخي للفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري بالاستجابة لقرار الشعب المصري بالإطاحة بحكم الإخوان المسلمين لمصر بعد عام واحد كان أكثر من كاف لانكشاف ضعفهم وتبين فشلهم الشديد وتأكيد عدم ولائهم لمصر. وإذا كان قرار الشعب المصري ذلك قد جاء نتيجة ديناميكيات داخلية بائسة من جماعة الإخوان، وإحساس فطري متأصل بقيمة مصر في الجغرافيا والتاريخ، فإن قرار السيسي، إضافة إلى مشاركته للشعب في هذا التقدير، نحسبه جاء محسوبا بذكاء استراتيجي عال وقراءة محترفة للخريطة الجيوسياسية الكونية، والأهم من ذلك والأوضح هو أنه قرار وطني مصري شجاع جاء في التوقيت الأمثل، أي بعد وقت كاف لإنكشاف الزيف الديني الذي مارسته الجماعة طوال ثمانية عقود، والفشل السياسي المزري لها، وفي نفس الوقت قبل أن تتمكن من تنفيذ مطامعها السلطوية على حساب الوطن المصري تمزيقا وإضعافا لصالح الجيوسياسة الأمريكية التي مكنتها من الحكم ابتداءا، سواء أدركت ذلك أم لا.

بقي أن نشير باختصار إلى أن القرار الوطني المصري قد أغضب أكثر ما أغضب السياسة التركية وطموحاتها في الزعامة الإقليمية ملئا للفراغ الذي ستتركه الهيمنة الأمريكية وممثلا لها بعد انسحابها الجزئي من الإقليم، طبعا إلى جانب التمثيل الإسرائيلي الدائم لها. ولعل غضب أردوغان الواضح وعصبية ردود أفعالة يعكسان حجم الخسارة التي سببها القرار المصري سواء من الشعب أو من السيسي قائده الذي ظهر في التوقيت التاريخي الأمثل.

قد يكون وقع الداخل المصري المضطرب بإرهاب الإخوان بعد ثورة 30 يونيو أكثر إلحاحا على عقل القارئ الكريم بما له من تداعيات سياسية واقتصادية ومعيشية صعبة نأمل جميعا أن تتعافى منها مصر سريعا، بالتحولات الديموقراطية والتنمية الاقتصادية. ولكن توسيع النظرة الجيوسياسية قليلا يكون أحيانا أكثر إفادة في فهم أفضل لمستقبل هذا الداخل المصري الذي يشغلنا جميعا، فهي تستند إلى الاطمئنان المدروس لصحة قرار الشعب المصري العفوي وقرار السيسي المحترف في المواجهة المحسوبة للسياسة الأميركية ومنعها من التوغل المخل بهذا الداخل المصري لحساب مصالحها، وفي إستعادة التوازن الجيوسياسي مع روسيا الشرق، وغدا مع الصين أيضا. ولعل هذا الاتزان الاستراتيجي العالمي الذي يعرف القدر الجيوسياسي لمصر، ويستوعب أخطاء الماضي كما قال السيسي بنفسه، يكون الضامن لتنمية مصرية ناجحة بغض النظر عن القلق المرحلي الذي تسببه جماعة الإخوان وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.

مسعد غنيم
14 نوفمبر 2013
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية