القابلية المتجددة للإستحمار
| |
غنيم | |
بقلم: مسعد غنيم
....................
وقف القس الشهير على منصته أمام الآلاف من أتباعه في قاعة الكنيسة الكبيرة، في برنامجه الديني الأسبوعي المذاع تليفزيونيا، يعظهم برحمة الرب بعباده من خلال الميكروفون الذي يمسكه بيده، وفجأه توقف عن الكلام وأدار وجهه قليلا جانبا وكأنه يستمع إلى من يحدثه، وبالفعل قام بالرد على محدثه ووعده بالطاعة قائلا: نعم يا إلهي سأنفذ أوامرك، ما اسمه؟ ... حاضر سأنفذ! وعلى الفور توجه القس الشهير إلى جانب من القاعة الكبيرة مخترقا الجمهور الغفير حتى وصل إلى رجل كبير السن وبجانبه زوجته، ووجه إليه حديثا زاعقا بطريقة حماسية: أنت فلان الفلاني؟ فأجاب الرجل بالإيجاب، فسأله القس: وتسكن في منزل رقم كذا بشارع كذا؟ فيجيب الرجل بالإيجاب وهو مندهش، فيسأله القس مرة أخرى: وأنت تعاني صحيا من مرض كذا؟ فيجيب الرجل بالإيجاب وقد بدا الذهول يظهر على وجهه، فيتوجه القس بالحديث إلى زوجة الرجل عن بعض تفاصيل ما تفعله لمساعدة زوجها فتجيب بالإيجاب هي وزوجها وهما في قمة الذهول. عندئذ رفع القس يده الخالية من الميكروفون، ودفعها بقوة في جبهة الزوج المريض دفعة كادت أن توقعه أرضا، وهلل القس باسم الرب لاعنا الشيطان آمرا إياه بالخروج من جسد الرجل المريض، ثم صاح عاليا مبشرا الرجل بأن مرضه قد ذهب عنه. إنفعل الرجل المريض ووافق القس مؤكدا أنه يشعر بأنه قد شفي فعلا، وهنا ضج آلاف المصلين بالكنيسة بالصراخ والبكاء والتهليل للرب على معجزته، وازداد صياح القس في الميكروفون شاكرا ربه الذي يحدثه مباشرة على نعمته بشفاء الرجل، وعاد تدريجيا إلى موقعه في مواجهة جمهورة استعدادا لأوامر الرب في اختيار الشخص التالي لإحلال بركة الشفاء على عباده، وطبعا لم ينس القس في لحظة القمة هذه أن يذكر جمهور المصلين الطيبين بأهمية التبرع للكنيسة حتى تستمر في تيسير معجزات الرب لشفاء البشر!
تلك قصة حقيقية، ظلت تتكرر على مدار سنوات طوال ثمانينيات القرن الماضي، تمكن خلالها القس "بيتر بوبوف" وهذا اسمه، تمكن من اكتساب شهرة عظيمة ومعجبين بالملايين عبر الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي تمكن من جمع ملايين الدلارات سنويا من تبرعات المصلين الطيبين. بل إنه تمكن من جمع ملايين دولارات أخرى من أجل توزيع طبعات من الإنجيل على شعوب الإتحاد السوفييتي في ذلك الوقت حيث كانت الشيوعية تحارب الدين. وكانت خطته هي نقل وتوزيع الإنجيل بالبالونات الطائرة، ولكن عندما اتضح أن خطته وهمية عاد للظهور لجمهوره باكيا سائلا إياهم أن يتبرعوا بمزيد من الدولارات من أجل إصلاح خطته!
كانت خطة بوبوف فيما يدعيه من شفاء مرضاه بالكنيسة بسيطة. كانت زوجته اليزابيث ومساعداها ريفورد وباميلا يختلطون بجمهور الكنيسة قبل العرض ويستدرجونهم ليحصلوا على المعلومات اللازمة للعرض! وعن طريق جهاز لاسلكي دقيق، بتكنولوجيا الثمانينيات، ومن غرفة خلفية بالكنيسة، كانت ترسل لزوجها المعلومات والتعليمات وتوجيهه نحو الأشخاص المعينين أثناء العرض ليقوم بتنفيذ هذا العرض المذهل من الإخراج والتمثيل. ولكن كان هناك من يسعى لكشف كذبه وادعائه. قام جيمس راندي، وهو أحد أشهر المثقفين الأمريكان المهتمين بالعقل والتفكير العلمي، قام بمساعدة ألكسندر فورهوك باستخدام التكنولوجيا لكشف وإثبات إدعاء القس بوبوف في الاتصال بالرب والقدرة على شفاء المرضى. وبالفعل تمكنا من تسجيل كامل لإحدى حلقاته المذاعة على الهواء وفيها صوت زوجته واضحا وهي توجهه على المسرح وهو يتبع توجيهاتها. في العام 1987 أذاع جيمس راندي ذلك التسجيل في أحد اشهر البرامج التليفزيونية الأمريكية للمذيع جون كارسون وشاهده ملايين الأمريكان، وانكشف القس النصاب.
ما هو رابط هذه القصة بموضوع مقالنا عن القابلية للاستحمار؟ الرابط هو أن تلك القصة لم تنته عند انكشاف أمر القس النصاب بوبوف، حيث أنه استطاع أن يعود بشكل ما إلى جمهوره لفترة محدودة، بل وأن يجمع منهم أموالا أكثر بمليون دولار!
كان الجمهور مستعدا لتصديق ادعاءاته الجديدة وهو البارع في اختراع الأسباب والتبريرات والإقناع بها باسم الدين! باختصار كان جمهور المصلين المتدينين الطيبين قابلا للاستحمار لآخر المشوار!
إخترت لهذا المقال إسم القابلية المتجددة للإستحمار تشبها بتعبير "قابلية الإستعمار"، وهو تعبير صكه مالك بن نبي (1905 – 1973) وهو مفكر جزائرى وأحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية فى القرن العشرين. يقول بن نبي أن كل مجتمع يصنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، وأن الدوائر الإستعمارية الغربية ممثلة في المؤسسات العلمية، في سعيها الدائم لضمان عملية الاستتباع بمنهجية دائمة، تقوم بتخليق وتفعيل عوامل التعطيل والركود التي يعانيها العالم المتخلف ومنها المجتمعات العربية الإسلامية. إذا أسقطنا مفهوم بن نبي لـ"قابلية الاستعمار" على قصة القس النصاب بوبوف فسنجد تطابقا تاما بين منهجيتي قابلية الـ "إستعمار" لدى الشعوب على المستوى السياسي وقابليتها للـ "إستحمار" على المستوى الإجتماعي، والسياسي بالتبعبة! فلم يفعل بوبوف أكثر من تفعيل المفاهيم الدينية المسيحية الموروثة بالفعل في المجتمع الأمريكي، فيما يخص الشفاء بالمعجزات، واستخدم التكنولوجيا في خداع الناس وضمان ولائهم له وتدفق تبرعاتهم السخية.
كانت هذه قابلية متجددة للاستحمار لدى الشعب الأمريكي في أواخر القرن العشرين، وما زالت سارية بأشكال وإبداعات أخرى من رجال الدين النصابين، ليس في حالة الشعب الأمريكي فقط ولكن في كل شعوب الأرض، فالنصاب لا تعوزه الحيلة أبدا في النصب على الجمهور القابل للاستحمار أصلا! فإذا كان هذا هو الحال في مجتمع متقدم ومتعلم مثل أمريكا، فلابد أن نقبل عقلا أن الإستحمار في مصر يتسيد المشهد الإجتماعي المصري، لأنه إلى جانب الاستعداد الفطري للإنسان عموما للنصب عليه لأسباب كثيرة يعلمها المتخصصون في علم النفس، فإن هذا الاستعداد ولا شك سيكون أكبر في حال الجهل والأمية في مصر، مقارنة بحال العلم والتعليم في حالة الجمهور الأمريكي للقس النصاب بوبوف. فما هي ياترى أهم عمليات النصب التي تتم في مصر باسم الدين؟ وهل هناك بوبوف مصري؟
بالقطع سيستحضر القارئ العزيز في ذهنه فورا أمثلة كثيرة لهؤلاء النصابين، ولعل أشهر هذه الأمثلة هو ما جسده الفنان الرائع أحمد ذكي في فيلم مشهور: "البيضة والحجر" عن الدجل والشعوذة باسم الدين. هذا كان على المستوى الإجتماعي، ولكن ما لم يخطر على ذهن مقدمي هذا العمل الفني هو أن استغلال الدين على المستوى السياسي سيصل بجماعة سياسية تتخذ من الدين عنوانا لها أن تصل بالفعل إلى سلطة الحكم في مصر. هذا بالطبع أصبح في حكم "المعلوم الشائع" في مصر بعد وصول جماعة الإخوان "المسلمين"، كما يصفون أنفسهم، إلى الحكم، وبدء إنكشاف إدعاءاتهم الدينية "الطاهرة" أمام مناوراتهم السياسية "القذرة" بطبيعة السياسة ذاتها وبتعريف خبرائها وممارسيها أيضا.
إذا كان كل ذلك معلوما وشائعا، فما هو الجديد هنا؟ الجديد هو أن قابلية الاستحمار لاتتوقف عندما يتم القبض على المشعوذ الدجال الذي يستخدم الدين للسطو على نقود الناس، تماما كما رأينا في حال القس النصاب بوبوف، وكما جاء بنهاية فيلم أحمد ذكي، حيث اضطر إلى العودة إلى النصب على الناس تحت إلحاحهم وضغط كبرائهم الذين يعتقدون في السحر والشعوذة!
في أمريكا، إستطاع الحكماء الأمريكان أن يبعدوا المتهوسين الدينين من جماعات المورمون الشهيرة وغيرهم من الوصول إلى كراسي الحكم، ومنهم مرشح الرئاسة الأمريكية في انتخابات 2012 "ميت رومني"، حتى يضمنوا لأمريكا حكما راشدا، يحقق لها استدامة التفوق والقوة والهيمنة العالمية. ذلك التفوق الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالمعرفة العلمية.
وفي مصر استطاع الحكماء الأمريكان، أيضا، أن يضمنوا جلوس المتهوسين الدينين من جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين في كراسي السلطة، ضمانا لحكم غير راشد لمصر، ولتكريس استدامة التخلف والتشتت والبعد عن روح العصر وهي المعرفة العلمية، كل ذلك بما يحقق عملية الاستتباع كما أشار إليها ابن نبي، استتباع للاستعمار الأمريكي وتحقيق مصالحه الجيوستراتيجية في استدامة تفوقه وقوته في التحكم الجيوسياسي في المنطقة العربية والعالم.
من هنا يبرز السؤال على المستوى السياسي، هل الشعب المصري قابل للاستحمار مرة أخرى في الانتخابات النيابية والرئاسية القادمة؟ أم أن هناك من سيعمل على رفع وعيه وتنوير بصيرته السياسية بعيدا عن الدجل باسم الدين الذي يمارسه تيار الإسلام السياسي؟
مسعد غنيم
1 يونيو 2013