مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 مصر في مخاض حضاري جديد

 

غنيم

 

بقلم : مسعد غنيم
....................

هل تستطيعي عزيزتي القارئة وعزيزي القارئ أن تقوم بتعريف نفسك تعريفا كاملا للغير بدون ذكر اسم أبويك وأجدادك، ومسقط رأسك، وجيرانك ومعارفك وأصدقائك، وشهاداتك العلمية، ووظيفتك، وثقافتك العامة، وعقيدتك، ثم زوجك وأبنائك وبناتك إن كنت قد دخلت عش الزوجية، طائعا أو مكرها؟ الأمر بالمثل، لا يمكن أن نفهم ما يجري في مصر وعليها من أحداث تستغرقنا فيها جميعا ما بين الرجاء واليأس، وذلك قبل أن نتعرف عليها حق المعرفة، بمنهجية علمية لا تتأثر باللحظة الآنية مهما كانت سخونتها واضطرابها بل وخطورتها المتمثلة في ضغط الحاجة الملحة إلى الأمن ولقمة العيش.

فكما نعلم، مع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وبثورة فريدة في خصائصها في 25 يناير 2011، إنفجر المشهد الحضاري المصري في زخم شديد بمختلف محددات التمييز من أصوات وصور وألوان وروائح ودرجات حرارة!، سواء كانت طبيعية وحية في الشارع، أو صناعية من خلال مؤثرات التكنولوجيا عبر شاشات التليفزيون والكمبيوتر والتليفون المحمول. ومن الواضح أن المشهد يزداد إضطرابا وسخونة مع مرور الشهور مما حير الخبراء والناظرين في معرفة ما ستؤول إليه الأحداث الجارية في المنظور القريب والمتوسط. ولا أعتقد أنه من السهل التنبؤ بذلك بدون نظرة تاريخية شاملة تستشرف الرؤية البعيدة المدى سواء في سحيق التاريخ أو في مستقبله البعيد.

إن الحديث عن المستقبل البعيد في وقت تشتد فيه حرارة معاناة الشعب المصري من فقدان الأمن وصعوبة لقمة العيش يعتبر نوعا من الترف الفكري، يبدو للوهلة الأولى أن الأوان ليس أوانه، إلا أن الأغلبية الساحقة من الحكماء والناظرين والمحلللين وغيرهم غارقون بالفعل في محاولات فك طلاسم اللحظة الآنية وتفسير كل تفاصيلها الدقيقة. ولعل هذا يجيز لنا أن نتطرق قليلا إلى نظرة تاريخية عميقة إلى الأمام والخلف معا، لعلنا نمسك بأطراف المشهد الحضاري المصري ونحدده ونتعرف على كل من مكوناته وعواملة ومحركاته  بعمق كاف.

مكونات وعوامل اللحظة الحضارية

تخبرنا مصادر المعرفة العلمية المختلفة أن مشهد أي أمة في أي لحظة تاريخية ليس مجرد مصادفة جغرافية أو إجتماعية أو ثقافية أو تاريخية، بل هو مزيج أنثروبولوجي (إنساني) من عوامل كلية مثل الجغرافيا والإجتماع والثقافة تتغير مع الزمن فتصنع تاريخ اللحظة، ولولا هذا التغير لما جاءت تلك اللحظة التاريخية أصلا. إلا أن تلك العوامل الكلية تتغير بمعدلات متفاوتة جدا، فالجغرافيا تتغير بمعدل آلاف السنين، ومعها يتغير المناخ فيتغير شكل المجتمع وثقافتة ( برية، صحراوية، بحرية، نهرية، جبلية، ومن ثم زراعية، رعوية، صناعية، تجارية...إلخ).  من ناحية أخرى، يتفرع من تلك العوامل الكلية عوامل فرعية لعل أهمها الدين والعلم والإقتصاد والسياسة والتكنولوجيا. تلك عوامل تتغير مع الزمن أيضا وبمعدلات أسرع بكثير ولكنها متفاوتة أيضا.

من هذه تتفرع الأنشطة الإنسانية المختلفة من زراعة و تجارة و صناعة وعمران بشري ممتد ومتنوع، وتلك العوامل وهذه الأنشطة تتغير مع الزمن لتصنع التاريخ. وبديهيا، تصنع تفاعلاتها المعقدة مكونات اللحظة التي نراها. مكونات تتمثل بؤرتها في صراع متعدد الأوجه ما بين قبلي أو ديني أو ثقافي وأيديولوجي، وتتشكل من تلك البؤرة أطياف مكونات صراع سياسي وقانوني واجتماعي، بل ومذهبي ويكاد يكون طائفيا، نراه على سطح المشهد المصري الحضاري الآني.

كانت تلك مكونات المشهد بطبقاته المتراكبة، وهذا يعني أنه لتشخيص اللحظة الحضارية المصرية الآن تشخيصا صحيحا يلزم أن نلم بكل جوانب تلك اللحظة بكل مكوناتها وعواملها الرئيسية والفرعية، ثم يجب أن نمد تلك اللحظة إلى الخلف في التاريخ وإلى الأمام في المستقبل. وبدون هذا التشخيص لايمكن معرفة الاتجاه المفروض علينا أن نذهب فيه، أو إتجاه نختاره ويجب أن نسلكه. فإلى أين تذهب مصر، تماما نفس سؤال الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل في نظرته التاريخية لهذه اللحظة.

محركات اللحظة الحضارية: الزمن

يعتبر الزمن هو المحرك الأكثر تأثيرا في عوامل ومكونات اللحظة التاريخية. ويخبرنا التاريخ، مثلا، أن مصر غيرت دينها بشكل جذري على مدار حضارتها العريقة ثلاث مرات على الأقل، فقد عبدت آلهة فرعونية عديدة منها رع وآمون وإيزيس وغيرهم من الآلهة آلاف السنين. إلا أنه كانت هناك لحظة تاريخية فارقة تعد استثناء لهذه الحقبة يتمثل في الأسرة الفرعونية الـ 18، حيث حكم إخناتون مصر لمدة 17 سنة قبل 2350 سنة مضت، حول فيها إله مصر من آمون إلى آتون قبل تعود عبادة آمون مرة أخرى في مسارها الأصلي كما أراد كهنتها. وأيا كان الرأي في تفسير وفهم إنقلابة إخناتون، إلا أنها، تاريخيا، لم تصمد أمام عوامل التغيير الأخرى المتمثلة في الرصيد الطويل لعبادة الشعب المصري لآمون ورسوخ مؤسسة الكهنوت المصرية المنسجمة مع مؤسسة الفرعون. 

من زاوية أخرى يروي لنا التاريخ أن الديانة اليهودية لم تنجح في أن تنزرع في أرض مصر ولا أن تجد لها تشيعا رغم أن اليهود مكثوا فيها نحو 430 سنة (ما بين الأسر 18، 19 و 20) وذلك في أرض جاشان في وادي الطميلات والشرقية. إلا أن مصر تحولت إلى المسيحية بقوة وعن جدارة منذ أكثر من 2000 سنة وما زالت المسيحية جزءا أصيلا من تدين المصريين. ثم تحولت مصر إلى الإسلام منذ أكثر من 1430 سنة.

يذكر الدكتور جمال حمدان في كتابه التاريخي "شخصية مصر" أن وجود اليهود كان هامشيا على أطراف المعمور المصري، كما كان هامشيا في حياة المصريين نفسها، حيث تشرنقوا على أنفسهم في خلية متكيسة ومن ثم لم يتركوا أي أثر جنسي في البلد. لقد دخلوا مصر "لا كأعضاء في أسرة واحدة، ولكن كجماعة قائمة بذاتها"...وبعدها عادوا سكان صحراء مثلما كانت تفعل دوريا كثير من القبائل العربية، تحط حينا على أطراف الدلتا ثم ترحل...". هل يذكرنا هذا الوصف لهذه اللحظة اليهودية في تاريخ مصر القديم بلحظتنا هنا مع جماعة الإخوان المسلمين، ذات الأصول الفكرية البدوية في مفهومها للدين الإسلامي؟ بالطبع تختلف جماعة الإخوان المسلمين عن "جماعة" اليهود في أنها مصرية أصيلة من حيث الجنس أو العرق، وتعشش في أعماق الريف المصري كما تسكن الأطراف أيضا، إلا أنهم "تشرنقوا على أنفسهم في خلية متكيسة" مثل اليهود بحيث تحولوا تقريبا إلى طائفة دينية تختلف عن تدين المصريين الإسلامي الوسطي، وها نحن نتبين يوما بعد آخر كم هم "هامشيون في حياة المصريين نفسها"؛ فقط أنظر لحجمهم الحقيقي في "شرنقة المقطم" في مواجهة - لا نوافق على عنفها من قبل أي طرف - لبعض مجموعات صغيرة من متظاهري القاهرة فقط، بينما أضطرت الجماعة إلى استدعاء "ميليشاتها" من قرى مصر (الجمعة 22 مارس 2013). إنهم هم أنفسهم الذين يكفرون المصريين ويخرجونهم من ملة الإسلام طبقا لأدبياتهم المنشورة بالفعل.

يؤكد هذا ما ذكره أستاذ الفلسفة المغربي عبد الإله بلقيز في ندوة فكرية نظمها مركز الدراسات العربية عام 2004 (شارك فيها محمد سليم العوا وحسن حنفي ونيفين مسعد من مصر)، أن ما انتهى إليه الفكر المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين هو: "الدفاع عن هوية ضد " آخر يتهددها، مؤثرة التشرنق على النفس والإنسحاب من العصر والتاريخ، والإنكفاء إلى منظومات ذهنية تقليدية، وأن من يشك في ذلك، ليس عليه سوى ان يقرأ كتابات سيد قطب، ومحمد قطب، وسعيد حيوي، وإلى حد ما – عبد السلام ياسين،.... هذا إن لم يرجع إلى الكتاب التوثيقي المهم لرفعت سيد أحمد، عن الحركات الجهادية الإسلامية لدى جيلها الثالث المعاصر بعد جيل حسن البنا وسيد قطب، ليرى العجب العجاب، مما تشيب لهوله الأبدان؟ ". إنتهى الإقتباس بتصرف. ولعل لنا في أحداث المقطم  نموذجا يمثل تطبيقا مباشرا لما أورده بلقيز حيث ذروة سطح المشهد المصري الحالي في إقتتال دموي بين المصريين إقتصر على الحجارة والأسلحة البيضاء حاليا على الأرجح، فلا نعلم إلى أي مدى يمكن أن يصل تسليح القتال، جماعات تيار الإسلام السياسي في طرف وباقي المصريين في طرف آخر.

الملاحظ هنا بين تعبير جمال حمدان (وهو منقول أصلا عن عالم التاريخ كيث) في وصف جماعة اليهود في مصر، وتعبيرعبد الإله بلقيز في وصف جماعة الإخوان، ومع فارق زمني نحو 40 عاما بين الكاتبين، نجد أنهما استخدما نفس المفردة اللغوية: "التشرنق". ولكن هذا لا يعني أن التاريخ يعيد نفسه، ولكنه يخرج في مشهد متناسب مع ملابسات كل عصر وروحه أو بالتعبير الألماني: Zeist Geist.

محركات اللحظة الحضارية: التكنولوجا

رغم أن محرك التكنولوجيا ناتج عن محرك الزمن، إلا أن التكنولوجيا تتميز بخصيصة فريدة جدا وهي معدل التغير الأسي (مثلا: 10، 20، 40، 80، 160، 320.....وهكذا)، بينما الزمن يتغير بمعدل خطي (مثلا: 10، 20، 30، 40، 50، 60 وهكذا). معنى هذا أن التكنولوجيا قد غيرت مفهومنا للزمن بشكل جذري، وبالتالي مفهومنا لتاثيره في عوامل تشكيل اللحظة التاريخية من عوامل ثقافية واجتماعية، أو أنشطة سياسية واقتصادية. مثلا، فإن الرسالة التي كان يبعثها الفراعنة ومنهم إخناتون من مقره في تل العمارنة إلى أنصاره في الوادي كانت تصل في أيام باستخدام الحصان وأسابيع مشيا على الأرض. وبعد حوالي 4000 سنة ومع دخول عمر بن العاص مصر، لم يتغير في الأمر شيئا، حيث كانت رسائل عمر بن الخطاب تصل إليه في نفس توقيتات عصر إخناتون وماقبله من فراعين، مشيا أو ركوبا للحصان والجمل. هذا بينما تصل تعليمات وأوامر مرشد الإخوان إلى عشيرته اليوم في مطلع الألفية الثالثة في نفس اللحظة على التليفلون المحمول. فماذا يعني هذا؟

ذلك يعني أن محركي الزمن والتكنولوجيا يؤثران في تشكيل اللحظة المصرية الراهنة بأكثر مما نتصور أو نظن، هذا لأننا ما زلنا، في معظمنا، نفكر في الزمن بشكل إستاتيكي أو ثابت، غير مدركين لمعدل التغير الرهيب في التكنولوجا التي تتطور وتتضاعف إمكانياتها كل سنة تقريبا! والمقصود هنا أن عوامل تشكيل اللحظة التاريخية الآنية تتاثر بالتكنولوجيا بأعظم مما يمكن أن نستوعب، وهي عوامل الثقافة والإجتماع، ومن ثم أنشطة السياسة والإقتصاد.

بمعنى مباشر، فإن المكون الرئيسي للمشهد المصري الحضاري الآن هو في حقيقته صراع ثقافي؛ وله وجهان: الأول ثقافة إسلامية وسطية للغالبية العظمى من المصريين مع أقلية مسيحية متعايشة معها، في مواجهة ثقافة "جماعة" إسلامية "متشرنقة" على ذاتها، ومتشددة في منظورها للدين الإسلامي. والوجه الثاني لهذا الصراع الثقافي هو ثقافة علمية لغالبية الطبقة المتوسطة المصرية في مواجهة ثقافة دينية متشددة تعادي العلم في بنيتها الفكرية الأساسية. هناك رأي لطه حسين في كتابه "من بعيد، 1958" يرى فيه أن الخلاف بين العلم والدين جوهري : "فلا سبيل إلى إزالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منهما أن ينسى صاحبه نسيانا تاما." ولكن ليس هذا موضوعنا هنا، فقط أشير إلى ميل الأصولية الدينية بمختلف أشكالها وإنتمائاتها إلى معاداة المنهج العلمي إكتفاء بيقين الإيمان بالنص الديني من وجهة نظرها.

تلك الـ "جماعة" المتشرنقة ثقافيا واجتماعيا تحاول أن تفرض مفهومها " السياسي" الخاص للدين وللدنيا على "أغلبية" وسطية منفتحة ثقافيا واجتماعيا، تارة بالقوة من باب الإرهاب لمعارضتها المتمثلة في الطبقة الوسطى في القاهرة ( حيث يخسر الإخوان المسلمون معظم الإنتخابات المختلفة)، وتارة بالخديعة من باب التقية، وغالبا بالإنتهازية الإقتصادية للطبقة الفقيرة في القرى والعشوائيات ( حيث أفضل نتائج إنتخابات للإخوان المسلمين). وليست صفات الإرهاب والخديعة والتقية تجنيا من جانبي، بل هي أصل أصيل في أدبيات تيار الإسلام السياسي، مثبتة ومنشورة كما أشرنا من قبل.

لماذا سينتهي حكم الإخوان?

إن عوامل المشهد جميعها، متمثلة في عوامل كلية مثل الجغرافيا والإجتماع والثقافة، أو فرعية مثل الدين والسياسة والإقتصاد وغيرها، تحكمها محركات الزمن والتكنولوجيا، وهي بدورها تدفع "التاريخ" الإنساني إلى مسار نراه ونلمسه جميعا، ليس بالضرورة مسارا حتميا، ولكنه واقع ما نراه، وهو ثقافة عالمية تزداد رقعتها اتساقا وتشاركا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى هناك اتجاه عكسي للمجتمعات كرد فعل ذاتي للعولمة. يتمثل هذا الإتجاه في محاولات العودة إلى القبلية والطائفية والعقيدة بديلا عن الدولة القومية التي تتآكل سلطتها تدريجيا أمام سلطات المجتمع المدني العالمي التي تزداد قوة وإنتشارا. هذان المساران  الفرعيان للثقافة العالمية يبدوان متضادين في الظاهر، ولكن حصيلة التفاعل بينهما تتجه نحو التوحد العام وزيادة مساحة التشارك بأكثر من مساحة التقوقع، على ما أظن. ولعل أقوى دليل على ذلك يتمثل في إقرار الأمم المتحدة لقانون حماية  حقوق المرأة والذي فرضته فرضا ووقعت عليه مصر - تحت حكم الإخوان المسلمين – شبه صاغرة في مارس 2013.

كما أن معاداة العلم أو العلمانية بأي معنى كان، تزداد ضعفا يوما بعد يوم مع إكتشافات علمية مذهلة تكتب تاريخ البشرية من جديد، رغم أن معادي العلمانية في إطار مفاهيمي ملتبس لا يتورعوا عن تفسير تلك الإكتشافات العلمية بأثر رجعي طبقا لتفسيرهم للنصوص الدينية، وغالبا ما يكون تفسيرا جديدا. كما أنهم لا يتاونوا عن استخدام نتائج تلك الإكتشافات بلا تردد، وفي انفصال تام عن المنهج العلمي "اللايقيني" الذي ترتكز عليه تلك الإكتشافات. إن القبول بالمنهج العلمي يعني القبول بقابلية الخطأ والتصويب وهو ما يدفع العلم والعالم إلى الأمام، بينما المنهج الأصولي "متشرنق" حول تفسيرات للدين "يقينية" في أساسها لا تقبل باحتمال الخطأ، ومن ثم يبقي أتباعه خارج حركة التاريخ بإرادتهم أنفسهم! فقط يلهثون خلف نتائج العلم ليأصلوها دينيا، وليس هذا أمرا قاصرا على أتباع دين واحد، بل يشمل أتباع كل الأديان السماوية وغيرها، شرقا وغربا.

قد يتصور تيار الإسلام السياسي أن من الممكن له أن يستمر في استمراء تبنى منطقه الديني "المنغلق"، وفي نفس الوقت يقبل الإستحواذ على نتائج المنهج العلمي "المنفتح". وهذا خلل منطقي قد يستمر زمنا على المدى القصير أو حتى المتوسط، ولكنه لا يتفق قطعا وحركة التاريخ على مستوى حضاري، حيث أن التناقض بين الفكر والفعل لا يستمر طويلا مهما كانت قوة خداع الآخرين أو خداع الذات بمعنى أعمق، حيث أن المصالح النفعية أو البراجماتية هي التي تحكم في النهاية.

كان هذا تصورا للإجابة على سؤال: مصر إلى "أين" في هذا المخاض الحضاري؟، وعلى فرض صحتها، بالمنهج العلمي، فإن مصر لا تعيش مخاضا حضاريا لأول مرة، فكم خاضت مثله من قبل، وخصيصة هذا المخاض هو حكم "الإخوان المسلمين" وهو لن يدوم طويلا كما أوضحنا، وليس أمامهم إلا أن يخرجوا من "شرنقتهم" وينسجموا مع التيار الغالب للمصريين، وهذا أمر بعيد الإحتمال، أو يزدادوا تشرنقا فيخنقون أنفسهم بأنفسهم وهذا أمر غير مرغوب، أو ينسحبون إنسحابا ذكيا يوفر دماء المصريين، وهذا هو المأمول. وما بين المحتمل و المرفوض والمأمول يقع العبء والمسئولية على من يتولى مسئولية الحكم، وهم الإخوان المسلمون، وتبقى السلطة الحقيقية في حسم هذا الخيار ملكا لغالبية الشعب المصري، كما كان وسيظل الأمر دائما.

بعد الإجابة على سؤال "ماهية" المآل المحتمل لمسار المخاض الحضاري وهو يرجح زوال حكم الإخوان المسلمين لمصر، بشكل أو بآخر، يبقى سؤال: "متى" تكون الولادة؟ هنا يأتي دور محرك الزمن في هذه المعادلة. لنا فقط أن نتذكر مقدار زمن وصول رسائل الفرعون إلى رعاياه منذ عهد مينا وحتى عصر أسرة محمد علي، وهو زمن ثابت لمدة حوالي 5000 سنة على الأقل، زمن يقاس بسرعة الحصان قبل وصول القطار في عصر أبناء محمد علي. بمقارنة هذا الزمن بزمن سرعة وصول رسائل مرشد الإخوان المسلمين إلى "أهله وعشيرته" على التليفون المحمول، نجد أن النسبة تكاد تصل إلى ما لانهاية!! هنا يجب أن نعي أن التواصل الإجتماعي عبر الإنترنت يحدث أيضا في التو واللحظة بسبب تكنولوجيا الإتصالات، أي أن الزمن قد إنضغط بشكل لم تعرفة الحضارة البشرية من قبل، هذا مع إنضغاط المسافات أيضا بسبب تكنولوجيا المواصلات. أي أننا بصدد تغيير في نمط التقدم الحضاري غير مسبوق في التاريخ، ويكاد لا يعرف أحد ما ستؤول إليه الحضارة البشرية في الأمد القريب وليس البعيد فقط.

متى سينتهي حكم الإخوان؟

الخلاصة هي أن لحظة هذا المخاض الحضاري لمصر ستنتهي بسرعة تتناسب مع سرعة تطور التكنولوجيا التي تضغط المسافات والزمن، أي التي تغير الجغرافيا (مسافات) وتختصر التاريخ (زمن). وكما رأينا فإن الجغرافيا هي أم التاريخ، وقد يكون الإنسان أبوه, أي أن الجغرافيا تغير الثقافة والمجتمع بفارق سرعة يعادل الفرق بين سرعة الحصان من ناحية وسرعة الطائرة إتصالا وسرعة الإنترنت تواصلا كم نتاحية أخرى، ولن يجدي الجماعات المنغلقة ثقافيا أي تشرنق ولن يفيدها أي إرهاب فكري أو مادي، فالحضارة البشرية تتقدم للأمام وليس للخلف، حتى بالنسبة للذين يرفضونها فكرا ومنهجا علميا ويقبلون على استخدام "تليفونها المحمول" و"طائرتها النفاسة" بدلا من استخدام جمل الصحراء وجلبابها القصير.    

قد تتبقى إشارة ضرورية إلى أثر العامل الخارجي على اللحظة الحضارية المصرية، وتحديدا قوة الهيمنة الأمريكية، وهي قوة قادرة وفاعلة في الواقع المحسوس والمعلوم. ولعل طول الأمد الزمني لهذه اللحظة يرتبط بالعامل الأمريكي أكثر منه بالعامل المحلي، قياسا على نسبة قوة الهيمنة الخارجية إلى قوة الداخل المصري الذي يأخذ "شرعيته" الدولية مجازا من قوة الهيمنة!، وهي نتيجة لا يجب أن تصدمنا كثيرا، فمصر تخوض هذا الصراع بكل مكوناته منذ قرنين تقريبا، بدأت بنهضة محمد علي التي أغضبت إنجلترا فضربتها بعنف، ثم نهضة جمال عبد الناصر التي أغضبت أمريكا فضربتها بقسوة، ذلك قبل أن يحط عليها "طائر نهضة" الإخوان المسلمين التي أسعدت أمريكا فباركتها بصورة محمد مرسي على غلاف مجلة التايمز الأمريكية! بعد شهور قليلة من تولي الإخوان المسلمين حكم مصر. إن الذي تغير في الزمن هو فقط التكنولوجيا، وتتغير بسرعة مهولة، لهذا قد تكون هي الأمل الأخير من خلال تبلور حضارة عالمية إنسانية تحقق الوفرة بالفعل الآن، ونأمل أن تحقق مزيد من العدل في المستقبل.

يبقى أخيرا تقدير طول الزمن المتوقع لبقاء ما ستتمخض عنه هذه اللحظة من مناخ حضاري وبالتالي ثقافي وسياسي في مصر، وبمعنى مباشر ما هو الزمن المتوقع لبقاء حكم الإخوان المسلمين؟ قياسا على المدة الزمنية التي تمخضت عنها اللحظة الحضارية السابقة لمصر وهي نهضة محمد علي، نجد أنها استمرت حوالي 200 سنة قبل اللحظة الحالية وهي وصول الإخوان للحكم. إن ما يؤهل هاتين اللحظتين لتكونا لحظات مخاض حضاري هو عمقها الحضاري الفعلي، حيث أن لحظة محمد علي هي لحظة بداية سقوط هيمنة الخلافة العثمانية (1798) بعد التخلف الذي فرضته على مصر طوال ما يقرب من 300 سنة منذ 1517 (سقطت الخلافة رسميا 1923) حتى بدء عصر الليبرالية الحديثة بكل ما له وعليه. هذا بينما يميز لحظتنا هذه عودة وهم الخلافة برداء إخواني باهت، بعد حوالي 200 سنة هي كل عمر عصر النهضة لمصر بكل أشكالها الليبرالية والتقدمية الإشتراكية، وبدء حكم تيار إسلام سياسي حمل فكرة الإصلاح والإحياء للحضارة الإسلامية طوال عصر النهضة الفائت وبالتوازي والتصارع مع أشكالها الليبرالية والإشتراكية، بكل ما لهذا الفكر الإسلامي الإحيائي وما عليه.

تميز مشروع النهضة الفائت بوجهيه الليبرالي والإشتراكي بالتوجه العلمي الحديث بمعنى المنهج العلمي في التفكير، بينما يحكم العصر الإخواني القادم المنهج الديني الأصولي في التفكير الذي يضعنا أمام إشكالية العلاقة بين العلم والدين والتي تبدو بلا حل!. فإذا علمنا أن المنهج العلمي هو الذي يحكم التطور التكنولوجي والإنساني في العالم بحكم الطبيعة المادية للعالم، فنحن أمام نتيجتان محددتان:

الأولى أن نعتبر أن 200 سنة وهي فترة القرنين الماضيين من النهضة ( محمد علي – جمال عبد الناصر) كانت استثناء في تاريخ تقدم المنهج العلمي لمصر قبل أن يعود شبح إخواني هزيل للخلافة الإسلامية في أسوأ وأضعف صورها وهي العثمانية، وأن مصر والعالم العربي أمامهم مشوار طويل بعشرات السنين على الأقل قبل أن نتصور لحظة تاريخية أخرى. وذلك هو تخوف الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري (العقل السياسي العربي، الطبعة السابعة 2010).

الثانية أن نعتبر أن تمكن الإخوان المسلمين ومشروعهم للحكم الديني لمصر هو استثناء في مسيرة التقدم بالمنهج العلمي الذي يحكم العالم، وليس مصر فقط، وذلك قبل أن نأمل في أن تعود روح النهضة العلمية لمصر، وهذا استثناء قد يستغرق عدة سنوات، ومن الصعب تصور إمتداده لعشرات السنوات نظرا لعامل انضغاط الزمن والجغرافيا بحكم التطور الأسي للتكنولوجيا، وزيادة مساحات وعمق فضاء وسرعة التواصل الإنساني عبر الإنترنت.

هذا ما لم يكن لعامل الهيمنة الأمريكية رأي آخر في تلك المدة!!!!           

مسعد غنيم

مدير تحرير مصرنا

30 مارس 2013         


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية