عن العقل والعقلانية
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
يظل العقل دائما في موقع المركز من كل مواطن موجبات التخلف الحضاري العربي وأسبابه، هذا بالرغم من كل تداعبات اللحظة العالمية من انهيار اقتصادي للغرب طال العالم العربي بنتائجه الكارثية عندما وقعت الواقعة، ولم يفكر أن يشركه في مكاسبه التنموية الحقيقية حينما فاضت أنهار العسل المصفى، وتظل العقلانية في قلب نواة أسباب كل داء، وذاك بالرغم من ثوابت الاستبداد السياسي وكأنها حقائق كونية، ومن عوامل التخلف الاقتصادي وكأنها قدر محتوم، ومن مظاهر الانهيار المجتمعي وكأنها لعنة ذاتية.
ينشغل الخبراء قبل العامة بآنية اللحظة ودرجة حرارة الكارثة، فيستدرجون العقل إلى خطابات تكنوقراطية، وميول قناعات أيديولوجية، وتمترس عقائد و مذاهب دينية. ويسقط من الحساب دائما ويغيب دور العقل في اقتفاء الأثر وصولا للأسباب الجوهرية الجذرية التي ينمو منها كل داء ويتفرع منها كل بلاء.
إن العقل والعقلانية هما اللذان دفعا الغرب إلى الاعتراف بالخطأ في الكارثة الاقتصادية أولا ثم هما اللذان دفعاه فيما بعد للإعلان عن السبب الجوهري والجذري وراء الكارثة وهو الخطأ أو الخطيئة الأخلاقية. سيظل الناس دائما على دين مصالحهم، والعقلاء فقط هم الذين تكون مصالحهم استراتيجية، يستبطنون من أجلها التاريخ حتى يمكنهم فهم مصلحهتم الحاضرة بوضوح، ويستشرفون المستقبل حتى يمكنهم تأمين استمرارية تلك المصلحة للأجيال القادمة. والأغبياء فقط هم الذين تكون مصالحهم آنية وتكتيكية فيفرحون بما آتاهم حيث تذهب بعقولهم نشوة النعمة فيظنون أنهم في النعيم مخلدون، ثم يعضون الأنامل عندما يروا العذاب حيث تذهب بعقولهم صدمة الفكرة فينكرون الواقع استكبارا، ويعتذرون بالقضاء والقدر استخفافا، ويتمنون الأماني استحمارا.
يستوى الأغبياء العرب سواء كانو في قمة السلطة أو في قاع القهر، ومابينهما من طبقة متوسطة تشتاق لسلطة لن تنالها، وترتعب من فقر لا مفر منه. كلهم في اللاعقلانية عرب (بدون نقطة على العين).
تكمن المشكلة كما يراها محمد عابد الجابري في "بنية العقل العربي" نفسه، في الكتاب الذي يحمل هذا العنوان، حيث عزا تخلف العقل العربي إلى انحرافه وبعده عن المقاربة "البرهانية" أو العقلية في فهم الكون والإنسان، وانبهاره بالمقاربة "البيانية" نسبة إلى اللغة طريقا للفهم، أو استغراقه في المقاربة "العرفانية" من توجهات صوفية ونحوها من الباطنية والتأويلية في الفهم. أي أن إسقاط العقل هو فعل متعمد في أغلب الأحوال!
لقد انبهر الغرب بالعقل من مطلع الحداثة مع انطلاقة العلم الحديث في القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، وصل فيها إلى درجة القطيعة مع الدين الذي مثلته الكنيسة الغربية أو مثلت به بالأصح، ثم عاد فيما بعد الحداثة في القرن العشرين ليصحح المسار عندما تأكد من قصور العقل باكتشاف مبدأ اللايقين لهزنبرج وأعاد النظر في اعتبار الدين كحقائق إنسانية تاريخية لايمكن تجاهلها تحت أي دعاوي علمية هي لايقينية في الأساس!.
أما العرب، بدون نقطة على العين، فلم ينالهم من الحداثة إلا الحديث عنها مابين انبهار القلة واستنكار واستنفار الأغلبية، مع استمتاع الجميع بنعم التكنولوجيا- بنت الحداثة- من بخار وكهرباء وآلة احتراق داخلي (السيارة والطائرة) وتليفون وراديو وتليفزيون وكمبيوتر، ولم يتعد الاستمتاع حدود الجلد، أي مركز الإحساس الغريزي المباشر مابين فم وجلد وفرج، في الوقت الذي لم يجرؤ العقل على مجرد مناقشة مبادئ الحداثة! اللهم إلا إسقاط نتائجها وكشوفاتها العلمية وتفسيرها بالرجوع للنص البياني، وفي الوقت الذي استعاد الغرب فيه تواضع العقل من مدخل اللايقين، كان العقل العربي ومازال، يقينيا حاسما فيما يفسره بالبيان أو يؤوله بالعرفان، ووقف عند باب البرهان فلم يدخل ولم يبتعد أيضا، فانتقى منه مايبرر به تقاعسه ويخفي به عورته، ونفى منه ما لايجرؤ على طرحه للنقاش أصلا.
وهكذا يتم نفي العقل، وهكذا تتم مصادرة المستقبل بغض النظر عن شكل الاستبداد السياسي والأداء الاقتصادي و الانفعال الاجتماعي، فتلك كلها فروع للأصل وهو العقل، فإن كان العقل عقلانيا ومعقولا فإن الأمل في الإصلاح وتصحيح المسار موجود دائما، أما إذا كان العقل معتقلا من الأساس فلا أمل ولا تصور لأي إصلاح أو تصحيح مهما شرح التكنوقراط ومهما نظر الإيديولوجيون ومهما توعد أو وعد رجال الدين، ويتحول وجود العقل العربي المعتقل إلى مجرد وجود مادي أو حيواني يبقي عليه الغرب والشرق مادامت هناك مصالح لهما في وجوده تماما كضرورة وجود الفصائل الحيوانية الأخرى على الكوكب من منظور بيئي شامل، أو ربما أملا في ارتقاء الغرب بالفهم إلى مستوى مرجعي إنساني أعلى يستلهم منظورا أعظم من مجرد الحياة على الكوكب والصراع على موارده، تطلعا إلى وجود كوني أسمى يستعصي على الفهم من العقل الغربي اللايقيني بطبعه، وقد لا يستعصي بالضرورة على العقل العربي اليقيني المعتقل وذلك بالتفسير الرجعي التاريخي بالبيان أو التأويل بالعرفان، وبالبعد طبعا عن البرهان.
1/11/2008