مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 تحركات جيواستراتيجية وغيبوبة عقلية

 

تحركات جيواستراتيجية وغيبوبة عقلية

 

بقلم : مسعد غنيم
....................

بين الهيمنة والمقاومة: الشاب وائل من شباب ثورة 25 يناير لديه إيمان قوي بأن القوة الذاتية للشعب المصري كفيلة بتحقيق النصر لمشروع نهضة مصر رغم كل معوقات الجهل والفساد، ورغم استمرار الهيمنة الأمريكية على المنطقة والعالم، حتى بعد الأزمة المالية والهيكلية التي تمر بها الرأسمالية!. وقد يذهب وائل نفسه وكثير من أقرانه الشباب، ومن غير أقرانه من بعض الشيوخ أيضا، في تفسير أصل تلك الهيمنة من خلال نظرية المؤامرة الكاملة وسطوة الصهيونية أو الماسونية على مقادير العالم. فكيف يمكن أن نفهم ونقوم قدرة مقاومة مشروع النهضة العربية ككل لمشروع الهيمنة الصهيو-غربي في المستقبل المنظور للتاريخ؟!
لعل في الصياغة العلمية للمفكر المغربي المعاصر محمد عابد الجابري لنفس سؤال الشاب وائل مما يؤكد ذكاء وعمق الحدس لدى وائل. ففي الطبعة السابعة لكتابه "العقل السياسي العربي" والذي كتب مقدمتها بنفسه قبل وفاته في مارس 2010، يتسائل الجابري:
" ترى كيف كان سيكون مصير "الحداثة السياسية" في أوروبا لو وجدت قوة خارجية تضايقها وتقمعها، كما ضايقت أوروبا التوسعية وقمعت عمليات التطور والتحديث في العالم العربي والإسلامي؟ ثم كيف كان سيكون مسلسل التصنيع في أوروبا، وبالتالي مسلسل الصراعات الإجتماعية فيها، بدون المواد الأولية والسوق الخارجية التي وفرها الغرب الإستعماري الذي شمل القارات الثلاث. وضمنها العالم العربي الإسلامي؟ وأخيرا وليس آخرا كيف سيكون حاضر العالم العربي اليوم لو أن أوروبا تركت تجربة محمد على تشق طريقها، لو أنها لم تتدخل سياسيا واقتصاديا وعسكريا؟ كيف كان سيكون حال العرب اليوم لو لم تعمل أوروبا على غرس إسرائيل في قلب العالم العربي، لو لم تعمل على إسقاط مصدق في إيران وهزم عبد الناصر في مصر....؟"

للأسف لم يشهد الجابري مطلع الربيع العربي الإسلامي إنطلاقا من تونس وتثبيتا في مصر. فقد رحل قبيل الثورة بعام واحد تقريبا. وإذا كان سؤال الجابري مفهوما ومشروعا في وقت صياغته بمطلع 2010، فإن نفس السؤال يصبح مفروضا ولازما وعاجلا بعد إنطلاق الثورة العربية بمطلع 2011.

إن الإجابة على سؤال الجابري هي التي تحدد ملامح مشروع نهضة مصر الذي لا ينفصل عن أي مشروع للنهضة العربية والإسلامية، وذلك بحكم الجغرافيا والتاريخ. أول تلك الملامح هي تلك الشبكة المعقدة من التدخلات والمؤثرات في الثورة المصرية تحديدا، محليا، وإقليميا، وعالميا. يمكن تقدير حجم وعمق هذه التدخلات في حالة الثورة المصرية بالمقارنة مع حالة الثورة التونسية. فهناك خصوصيات طبيعية مميزة لكل من مصر وتونس. قد يكون العامل الديموجرافي (السكاني) من أبرز عوامل تميز مصر على تونس، إلا أن العامل الأهم والأعظم تأثيرا هو العامل الجغرافي، فبالرغم من الموقع الإستراتيجي لتونس بالنسبة لأوروبا، فمن المفروغ منه الأهمية الإستراتيجية الأوسع للمزيج التاريخي لكل من الموقع والموضع في حالة مصر بالنسبة للعالم كله تقريبا؛ الموقع يعود للجغرافيا، والموضع يعود للموارد وأولها البشر، وثانيها نهر النيل وقناة السويس، وذلك كما عرفهما د. جمال حمدان في عمله الموسوعي "شخصية مصر". أما العامل الأكثر تمييزا في الزمن الحاضر فهو بحكم كل من الجيوسياسة (إستخدام الجغرافيا لخدمة السياسة) والجيواستراتيجي (التخطيط الإستراتيجي طويل المدى من منظور جغرافي)، وقد نتج هذا العامل ذو الصفة المزدوجة عن زرع إسرائيل في أرض فلسطين، وهي الجوار التاريخي لمصر.

إذا كان العامل الجغرافي/التاريخي هو المحدد الأول لتأثير القوى الإقليمية والعالمية، فعلى المستوى المحلي فإن أهم عوامل الحسم هما عاملا "المعرفة أو الأبستمولوجي" و "الأيديولوجي أو العقائدي". وما نراه من تفاعلات على سطح الأحداث في مصر ما هو إلا تفاعلات كل تلك القوى المحلية والإقليمية والعالمية.

إن التفاعلات المحلية وأحداثها الساخنة أو التي يتم تسخينها عمدا، تكاد تملأ على المصريين عيونهم وآذانهم فلا يبصرون أعمق من سطح شاشة التليفزيون، ولا يسمعون أبعد من صوته أو منبر الجامع أو مذبح الكنيسة!. على سبيل المثال، فإن أخبار شخص مثل حازم أبواسماعيل ممثل السلفيين في ترشيحات رئاسة الجمهورية، قد اكتسحت ساحة الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، وكأن مصير نهضة مصر متعلق بشعيرات ذقنه المميزة! هذا في الوقت الذي تمر فيه أخبار التحركات الجيواستراتيجية الأمريكية في المنطقة وكأنها لا تعني مصر في كثير أو قليل!
تحركات جيواستراتيجية

بنهاية عام 2011 وبعد عام من الربيع العربي الإسلامي قررت أمريكا الإنسحاب من أفغانستان (2014) ومن العراق (2013) بعد إنتهاء المهمة الإستراتيجية بكل منهما بشكل أو بآخر، وقامت بتغيير تمركزها الإستراتيجي في المنطقة بانتقال عدد محدود من القوات الأمريكية (2500 جندي) إلى أستراليا. وبالأمس فقط (27 أبريل 2012) تقرر سحب 9000 جندي بحرية من أصل 27000 جندي من قاعدة أويكناوا العسكرية الأمريكية باليابان، وتوطينهم في جزر هاواوي وجوام على الأرض الأمريكية في إطار الحزام الباسيفيكي الإستراتيجي لأمريكا. حركة واذحة لإعادة تمركز القوات الأمريكية في النطاق البحري حول الصين والإنسحاب البري من كل من أفغانستان والعراق مع الإنسحاب البحري من اليابان الملاصقة للبر الصيني، للتركيز على البحر والمحيط جنوب الصين.

رغم صغر هذه الأعداد الرمزية، فإن الأهمية الإستراتيجية للقرار تتضح من قيام الرئيس أوباما بالإعلان عنه بنفسه من مدينة سيدني باستراليا، وحدد الهدف منه بوضوح وهو التأكيد على الإمتيازات الإقتصادية للغرب في بحر الصين الجنوبي وجنوب الباسيفيكي، وضمان عدم تاثر الحركة فيه بنمو قوة البحرية الصينية. بينما ترى الصين في هذه النقلة الإستراتيجية من جانب أمريكا أن الإستراتيجية العامة الأمريكية تجاه الصين تعطي نفس الأولوية لكل من "التعاون" و"المنع" في نفس الوقت!، مع تركيز جهود "الإتزان الأمني" على الصين، مع اتخاذ إجراءات شاملة للضغط على الصين، وحث حلفائها على أن يتولوا أو يشاركوا أو يظهروا التحفظ الشديد مع الصين. وبالفعل، ففي الأسابيع القليلة الماضية، قامت أوروبا الموحدة بدورها في الإستراتيجية الغربية عموما بإعلان سياساتها بشأن التوسع البحري الصيني. هذا الحدث الإستراتيجي الكبير لايحدث إلا كل عشرات السنين؟! حيث أن التمركز الجديد للقوات الأمريكية هو الأول من نوعه منذ استقرار الأوضاع الإستراتيجية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بعد الحرب الكورية وحرب فيتنام! عام 1972.

في السياق العالمي والإقليمي لكل من الجيوسياسة والجيوستراتيجي، فإن مثل هذه التحركات الإستراتيجية الكبرى لا يعقل ألا يكون لها أثر على الدور الإقليمي لمصر، أو بمعنى أصح، على الحدود المسموح لمصر فيها أن تتحرر من التبعية الأمريكية الحالية!، وبالتالي على الآفاق المسموح بها للتنمية الإقتصادية والإجتماعية بها.

لا شك أن علاقة الإقتصاد بالسياسة أمر مفهوم هنا، فمن البديهي أن أي زيادة في قوة مصر هو خصم من قوة إسرائيل، وإسرائيل هي رأس حربة مشروع الهيمنة الصهيو-غربي في المنطقة، وهدف المشروع طبقا لأبو الجيوبوليتيك (الجيوسياسة)، السير هالفورد ج. ماكيندر (نظرية ماكيندر تقول بأن من يسيطر على قلب الأرض أي أوراسيا، يسيطر على العالم القديم بقاراته الثلاث، ومن يسيطر على العالم القديم يسيطر على العالم كله) هو السيطرة على منطقة أوراسيا التي تشرف على روسيا من الجنوب وتطل على الصين من الغرب، والصين التي يتم حصارها الآن من الجنوب البحري!!. فهل سمعنا أو رأينا من الرأي العام المصري إهتماما، أو من النخبة المثقفة تحليلا وإسقاطا على برامج المرشحين لرئاسة الجمهورية، أو على مشروع الخلافة الإسلامية وهو الإطار النهضوي الذي تتبناه جماعة "الإخوان المسلمون" مشروعا للنهضة ضد ألف باء علمي التاريخ والجغرافيا السياسية؟!. لا أعتقد... حيث يبدو أن قضية أبو اسماعيل مثلا، هي الأهم للإعلام الذي يسوق بضاعته، مهما كانت تفاهتها، لصالح صناعة الإعلام وليس لصالح ومستقبل مصر، كما يبدو أن السعي المستميت لحركة "الإخوان المسلمون" نحو السلطة لا يترك لمجال رؤيتهم القاصرة كثيرا ليروا تحركات إستراتيجية بأهمية إعادة التمركز الأمريكي حول العالم!

غيبوبة عقلية
من المفهوم والمقبول أن يتركز معظم إهتمام الإعلام والمثقفين بعد الثورة على الشئون الحياتية اليومية التي تمس المواطنين بدءا من توفير الأمن ورغيف العيش وأنبوبة البوتاجاز! مرورا بالإنتخابات التشريعية واهتماما بصعود تيار الإسلام السياسي ونمو ونضج التيار الليبرالي، وحتى إنتخاب رئيس الجمهورية؛ ولكن أن تخلو ساحة الحوار الثقافي بكل صخبها الإعلامي عبر الفضائيات من مناقشة أهم تحرك استراتيجي غربي في المنطقة منذ أكثر من نصف قرن!!، فهذا هو اللامعقول بعينه! فإن مصر تقع في منتصف الحلقة الداخلية البرية المحيطة بأوراسيا طبقا لتصور ماكيندر، ولهذا تم زرع إسرائيل في منتصف هذه الحلقة أيضا!. هذه الحلقة تبدأ بالمغرب مرورا بمصر والعراق وتنتهي بأفغانستان. والآن يتم التحرك النسبي من هذه الحلقة الداخلية (البرية) إلى الحلقة الخارجية (البحرية) !
إن نقل التركيز الإستراتيجي الأمريكي من أفغانستان والعراق إلى أستراليا يبدو للقارئ العادي أمرا بعيدا عن مصر جغرافيا وسياسيا بالتالي، ولكن هذا الأمر أقرب إلى التأثير على إحتياجاته اليومية مما يتصور!، كيف؟ إن استراليا هي مركز الحلقة الخارجية أو البحرية، للحدود الجيوسياسة التي حددها ماكيندر لأي قوة تريد أن تسيطر عل العالم، وهي الحلقة التي تبدأ باليابان والفلبين وتنتهي بأمريكا الجنوبية. أي أن أمريكا ومن بعدها أوروبا الموحدة قد نقلتا ثقلهما الجيوستراتيجي من الحلقة الداخلية البرية (تتوسطها مصر وتشكل العراق منها مركزا استراتيجيا أقرب لأوراسيا) إلى الحلقة الخارجية البحرية التي تتوسطها استراليا، وذلك في إطار الصراع الجيواستراتيجي مع عملاقي آسيا، روسيا والصين.

هذا القرار الإستراتيجي الأمريكي له مبرراته المعلنة، ولكن له تبعاته الغير معلنة، ومن هنا يأتي دور النخبة المثقفة المصرية في ضرورة تحليل هذا الحدث وإسقاط نتائج التحليل على مصر بعد ثورة 25 يناير.

أعتقد أن كل عوامل وعناصر الصراع السياسي في مصر الآن تتأثر وبشكل مباشر بهذا القرار الأمريكي المدعوم أوروبيا، حتى لو لم يدرك المصريون ذلك، ومن يتصور مثلا أن إنتخاب رئيس الجمهورية أمر قاصر على المفاضلة الشخصية أو الحزبية بين أبو الفتوح وشفيق أو صباحي يكون واهما ومحدود البصر جدا! فمثلا، أثناء اللغط حول مشروع التوريث البائد، قال الدكتور مصطفى الفقي المستشار الأسبق لرئيس الجمهورية قبل الثورة أن أي رئيس مصري قادم لابد وأن يكون بموافقة أمريكا وإسرائيل!! يومها قامت الدنيا في مصر ولم تقعد!، ولكنها نامت واستغرقت في النوم بعد ذلك. لم يقل الدكتور الفقي هذا الكلام من فراغ، ولم يكن بعيدا عن المعقول أو المقبول بدرجة كبيرة. فمن المفهوم درجة تبعية النظام السابق لمشروع الهيمنة الصهيو-أمريكي، ومن السذاجة عدم تصور أن يكون لأمريكا وإسرائيل ضغوطا سياسية وإقتصادية وإجتماعية على مصر (الجمعيات الأهلية العاملة في مجال حقوق الإنسان مثلا).

إن أي رئيس مصري قادم لا يفهم، أو ليس على استعداد أن يفهم، الخريطة الجيوسياسية العالمية على اتساعها سيشكل خطرا حقيقيا على مصر والمصريين. فهو قد يكون ذا توجه إسلامي منغلق داخل مشروع الخلافة الإسلامية وهو مشروع لم نعلم أو نسمع أي أبعاد جيوسياسية له! وهنا سوف يتمزق مشروعه الحزبي أو الشخصي بين دعوات الإستقلال الجوفاء وعدم التبعية من جانب، وحقائق الجغرافيا السياسية من جانب آخر. وسيأخذ الأمر وقتا يطول أو يقصر قبل أن يصحح مساره، والخاسر هنا لهذا الوقت هو مصر. أو قد يكون الرئيس القادم مدركا لهذه الأبعاد الجيوسياسية بصفة شخصية ولكنه يلعب على المسرح المحلي لكسب الأصوات الإنتخابية بادعاءات إستقلالية هو أول العارفين بأنها لن تتحقق كما يقول، وهنا سوف يقع في التناقض مع نفسه أمام الشعب المصري الذي استرد وعيه، وصارت قداسة عدم التعدي على الذات الرئاسية بالنسبة له شيئا من ماض بغيض لن يعود. وبالتالي ستضيع مصداقية مشروعه لنهضة مصر، وتخسر مصر في النهاية.

إن الفهم الصحيح للصورة الكلية للجيوسياسة على الصعيد العالمي يفرض على الإنسان المصري والعربي بصفة عامة أن يفهم تماما مقدار وعناصر وحدود قوة مصر بعد ثورة 25 يناير، وأن يحدد أهدافها الإستراتيجية على ضوء ذلك، دون تفريط أو انبطاح كانبطاح مبارك، ودون مبالغة وأوهام كأوهام الخلافة الإسلامية!!. ولا يمكن أن يتأتى ذلك دون قراءة علمية للتاريخ، ومما يمكن استحضاره في هذا المقام ما كتبه الباحث المغربي عبد اللطيف الخمسي:

"لكل مرحلة فلسفتها التاريخية الخاصة بها. ورهانات الفكر التاريخي المعاصر تتمحور حول الدفاع عن فلسفة التاريخ المبررة لآليات الهيمنة أو الرغبة في البقاء ويترجم هذا في سعي الغرب باستمرار إلى تكريس تمركزه العرقي والحضاري، من جهة، ومحاولة دفاع شعوب العالم التابع عن الحق في ممارسة الفعل التاريخي، ولو عبر خطاب مركزية حضارية جديدة. فمراجعة الوضع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي العربي، لن يستقيم دون إعادة النظر في حقل التاريخ وإشكالاته ومفاهميه، في أفق إعادة الاعتبار، لمجال فكري أبدع فيه العقل الإسلامي، وهو مجال التاريخ، لكن دون أن يبلوره فلسفيا وحضاريا. وإنجاز عقل عربي مستقبلي سيكون بالضرورة إبداعا في حقل الفلسفة والتاريخ على حد سواء."

قراءة تاريخية

تشكل مقالة عبد اللطيف الخمسي إجابة جزئية على السؤال الحدسي للشاب المصري وائل عن كيفية تحقيق النهضة العربية في ظل الهيمنة الغربية، وذلك كما صاغه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في بداية هذا المقال، ولكن إجابة الخمسي تظل إجابة من منظور حقل الفلسفة والتاريخ كما يقول هو، أما إجابة الجابري على نفس السؤال كما ورد في كتابه "العقل السياسي العربي" فقد كانت من منظور تفكيك وفهم العقل السياسي العربي من أجل تجديده ليصبح قادرا على إجابة السؤال. ويحدد الجابري السبيل إلى تجديد العقل السياسي العربي من خلال ثلاث محددات:

العقيدة: والمقصود هنا هو "المظهر السياسي" في الدعوة المحمدية، وما كان لها من دور في تشكيل المخيال الإجتماعي السياسي للجماعة الإسلامية الأولى، وما إذا كانت الدعوة المحمدية قد حملت منذ منطلقها مشروعا سياسيا معينا، وهذا أمر فيه نظر.
القبيلة: بمعنى أعتقاد مجموعات من القبائل في إنتمائها إلى جد أعلى مشترك إنتماء يميزها عن مجموعات أخرى مماثلة، ويفصلها عنها بحيث تكون العلاقات بين الطرفين علاقات تعارض ةتنافس وصراع يحكمها "مفعول القبيلة" في معناه الصدامي.
الغنيمة: بمعنى أن ما يهم "أصحاب الأموال" – في العادة – هو أموالهم، فالغنيمة أو بالأحرى الخوف من افتقادها هو الذي، مثلا، جعل الملأ من بني قريش يقاومون الدعوة المحمدية.

وباستخدام تلك المحددات الثلاثة يضع الجابري تصوره لإجابة السؤال المطروح بداية كالتالي:

"إن إقرار نظام دستوري ديموقراطي حديث تدبير يفسح المجال فعلا لغرس الحداثة السياسية وترسيخها، ولكن العقل السياسي لا يتحكم فيه شكل نظام الحكم وبنوده الدستورية وحسب، بل هو محكوم أساسا بمحددات، إجتماعية وإقتصادية وثقافية. وبالنسبة للعقل السياسي العربي فإن "تجديد محدداته" الثلاثة (القبيلة، الغنيمة، العقيدة) شرط ضروري لٌلإرتفاع به إلى المستوى الذي يستجيب لمتطلبات النهضة والتقدم في العصر الحاضر. وهذا التجديد، تجديد المحددات، لايمكن أن يتم إلا بالعمل من أجل تحقيق النفي التاريخي لها، وذلك بإحلال البدائل التاريخية المعاصرة. ومن هنا ضرورة المزاوجة بين نقد الحاضر ونقد الماضي. إن نقد الحاضر بما يحمله من بقايا الماضي، هو الخطوة الضرورية الأولى في كل مشروع مستقبلي. وبما أن الماضي والحاضر عندنا لا ينفصلان، إن على صعيد وعينا أو على صعيد واقعنا، فيجب إذن أن يتجه النقد إليهما معا، إلى ما يؤسس، شعوريا ولا شعوريا، العقل السياسي فيهما: إلى "القبيلة" و "الغنيمة" و "العقيدة".
"القبيلة" و "الغنيمة" و "العقيدة" محددات ثلاث حكمت العقل السياسي العربي في الماضي ومازالت تحكمه بصورة او بأخرى في الحاضر. أجل لقد دخلت الحداثة بعض جوانب حياتنا منذ أكثر من مائة عام، أي منذ بدأنا نحتك بالحضارة المعاصرة، فظهرت التيارات الأيديولوجية النهضوية والمعاصرة من سلفية وعلمانية وليبرالية وقومية واشتراكية، وقامت أحزاب ونقابات وجمعيات كما غرست بنيات تنتمي إلى الإقتصاد الحديث فتعرضت المحددات الثلاثة (القبيلة و الغنيمة والعقيدة) إلى نوع من القمع والإبعاد وأصبحت تشكل المكبوت الإجتماعي والسياسي عندنا.

وإذن فالمطلوب، وهذه هي بالتحديد مهام الفكر العربي اليوم، مهام تجديد العقل السياسي العربي، المطلوب هو:

‌أ) تحويل القبيلة في مجتمعنا إلى "لاقبيلة:: إلى تنظيم مدني سياسي إجتماعي: أحزاب، نقابات، جمعيات حرة، مؤسسات دستورية....
‌ب) تحويل الغنيمة إلى إقتصاد "ضريبة"، وبعبارة أخرى، تحويل الإقتصاد الريعي إلى إقتصاد إنتاجي.
‌ج) تحويل العقيدة إلى مجرد رأي: فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي إمتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحرية التعبير، لحرية المغايرة والإختلاف، وبالتالي التحرر من سلطة الجماعة المغلقة، دينية كانت أو حزبية أو إثنية، إن تحويل العقيدة إلى رأي معناه: التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوغمائي، دينيا كان أو علمانيا، وبالتالي التعامل بعقل إجتهادي نقدي."

....... إنتهى الإقتباس من كتاب الجابري عن العقل السياسي العربي.
من اللافت للنظر أن الجابري قام بهذا التحليل ووضع هذه الحلول قبيل ثورة الربيع العربي بعام تقريبا. وإذا نظرنا إلى مدى تطور الحال بعد الثورة بالنسبة للمحددات الثلاثة سنجد أنها تطورت بالفعل وتغيرت تغيرا ملحوظا، ولكن في عكس الإتجاه الذي أراده الجابري تماما!! كيف ذلك؟

• "القبيلة": ازدادت القبلية والعشائرية نفوذا وتأثيرا، في ليبيا مثلا وبشكل كبير، وفي صعيد مصر وحتى الوجه البحري.
• "الغنيمة": لم تظهر أي مؤشرات على تحول الإقتصاد الريعي إلى إقتصاد إنتاجي، بل إن ملامح تطويره ما زالت ريعية تعتمد على منتجات البترول والسياحة بصفة أساسية.
• "العقيدة": كانت هي المحدد الأكثر ظهورا وتغييرا وتأثيرا، فقد صعد تيار الإسلام السياسي بقوة بعد "الكبت" الذي اشار إليه الجابري، وصار التعصب أشد، ولم يتشدد في إدعاء إمتلاك الحقيقة فقط، بل صارت الإنتخابات السياسية إلى إنتخابات "دينية" إذا جاز التعبير، فصار التصويت بالنسبة للغالبية من العامة لمن يمتلك "حقيقة" الدين، وليس لمن يدعو لحرية التعبير.

ليس بمستغرب إذن أن يكون تحليل مفكر كبير مثل الجابري، قبل الثورة، قد خلص إلى نفس النتائج التي شاهدناها بعد قيام الثورة أيضا، حيث يقول الجابري:
"لم يتمكن المجتمع العربي من تجاوز تلك المحددات الموروثة من الوضع الإجتماعي القديم وإقرار محددات جديدة عصرية. وذلك بصورة كافية وتامة، لأسباب وعوامل كثيرة، خارجية كالغزو الإستعماري وامتداداته، وداخلية كانخراطنا في الحداثة العصرية من فوق فقط (بصورة سطحية).... فكانت النتيجة ما تعرضنا له من نكسات وإحباطات فتحت الباب على مصراعية لعودة المكبوت (توضيحا من عندي:مشروع الإسلام هو الحل مثلا)، أعني ظهور وطغيان مفعول المحددات الثلاثة المذكورة الموروثة، بعد أن كنا نعتقد أننا تخلصنا منها إلى الأبد. وهكذا عادت العشائرية والطائفية والتطرف الديني والعقدي لتسود الساحة العربية بصورة لم يتوقعها أحد من قبل. وجعل العصر الأيديولوجي النهضوي والقومي وكأنه حلقة استثنائية في سلسلة تاريخنا. فأصبحت "القبيلة" محركا للسياسة وأصبح "الريع" جوهر الإقتصاد عندنا (صار اقتصادا ريعيا يعتمد على بيع الخامات وليس إنتاجيا)، وأصبحت "العقيدة" إما ريعية تبريرية وإما خارجية (نسبة إلى الخوارج)!".... إنتهى الإقتباس

عودة للعقل؟!

إذا كانت نتائج ثورة الربيع العربي هي كلها في الإتجاه المضاد لتجديد العقل السياسي العربي كما يراه الدكتور محمد عابد الجابري، وإذا كانت الغيبوبة الجيوسياسية قد تمكنت من العقل الجمعي حتى على مستوى النخبة في مصر فصارت أخبار مرشح رئاسي سلفي أهم من أخبار أهم تحول للإستراتيجية الأمريكية بعد أكثر من نصف قرن، فهل من حقنا أن نشك، بالعقل، في أن هذه الثورة إنما كانت في جانب كبير منها، نقلة "إستراتيجية" مسبقة التخطيط للإنتقال بالعقل السياسي العربي من ظلام الإستبداد العسكري في مجمله، إلى عصر أكثر ظلاما وهو الإستبداد الديني؟!، لأنه إذا كانت سلطة العسكر تملك القوة بالفعل، إلا أن القوة يمكن مقاومتها بالعقل. أما السلطة باسم "الدين" فهي تملك الحقيقة، وهذا كفيل بغلق جميع أبواب العقل والمقاومة!، وبالتالي قتل أي أمل في نهضة حقيقية. وهذا بالضبط ما يخدم الأهداف الجيوسياسية لمشروع الهيمنة الصهيو-غربي. فهل إلى العودة للعقل من سبيل؟

مسعد غنيم
أول مايو 2012

 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية