مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 مصر تبحث عن هويتها!

 

مصر تبحث عن هويتها!

 

بقلم : مسعد غنيم
.....................

من المعروف أنه لا يمكن الفهم الدقيق للأحداث الكبرى في حينها ومن داخلها، بل يلزم بعض الوقت غير القليل والإبتعاد قليلا حتى يمكن فهم حدث كبير مثل ثورة مصر 25 يناير 2011. فعلى قدر ضخامة وعمق الحدث يكون بعد مدى الفهم، لذا فإن سيل الكتابات والتحليلات التي أغرقت وما زالت تغرق صفحات الصحف والإنترنت وفضائيات الإعلام، لن تساعد على الفهم العميق بل قد تزيد الأمر سوءا من حيث عدم وضوح الرؤية وإختلاط الرؤى، هذا رغم إجتهاد الكثير من العقلاء والحكماء بالرأي الصائب همهم الأول إطفاء النيران الصغيرة حتى لا تصبح نارا كبيرة تأكل الأخضر واليابس.

بين إطفاء الحرائق وبناء المستقبل

مع هذا الإنشغال المفهوم على المدى القصير، يحتاج الأمر أيضا إلى الإبتعاد قليلا عن التفاصيل الملتهبة للحدث، والتفكير في الكليات ومحركات التاريخ الكبرى على المدى الطويل، وهذا إحتياج لا شك يتكامل ولا يتعارض مع إجتهادات فرض الأمان وإطفاء الفتن وإزالة مخلفات الفساد وبناء خيام الإيواء الإقتصادي السياسي السريع.

مثلا، على مستوى الأيديولوجيا كتب الأستاذ فهمي هويدي في الشروق 29 أغسطس 2011 عن "حلف الفضول" الذي يتمناه اليوم بسبب حالة الإستقطاب الجارية بين ما ينتسب للإسلام السياسي وما يعرف بالليبرالين إلى صراع على الإيديولوجيات بدلا من التركيز على المشترك فيما تبنى به الأوطان: "لست أشك فى أن بين المتصارعين فى زماننا الكثير من القيم المشتركة التى تستحق التضامن والتوافق بين المختلفين، ومن ثم تخرجنا من الاستقطاب النكد الذى نحن مقبلون عليه. لكن المشكلة أنه فى حين لدينا الكثير مما هو مشترك فإن الساعين إلى التلاقى والتوافق قلة خافتة الصوت وقليلة الحيلة".

وعلى مستوى الفلسفة كتب الدكتور جلال أمين أيضا في الشروق 29 أغسطس 2011  عن " العدالة الاجتماعية .. هدف حقيقى أم سراب؟: "العدالة الاجتماعية تتعلق بالفلسفة العامة للدولة، وسياستها الاقتصادية العامة، وكلاهما يتعلقان بالموقف الأخلاقى للدولة من قضية الغنى والفقر، ونمط التنمية المطلوب ونوع النهضة المنشودة. وهذه أمور تتطلب حكومة متجانسة فى ميول وزارائها وكبار مسئوليها، إذ لابد أن يتعاون الجميع لتنفيذ السياسة العامة، ومن ثم يجب أن يتبنى الجميع نفس الفلسفة العامة للدولة. لا يمكن فى رأيى الاستمرار فى عقد الآمال على قدرة ثورة يناير 2011 على تحقيق العدالة الاجتماعية إلا بتحقيق هذا الشرط، وبدونه لابد أن نستمر فى التعامل مع التصريحات المتكررة عن قرب تحقيق العدالة الاجتماعية على أنها مجرد كلام المقصود منه كسب الوقت وإلهاء الرأى العام".

مفهوم الهوية

لو نظرنا إلى موضوعي المقالين؛ الأيديولوجيا وفلسفة العدالة الإجتماعية، من منظور الهوية لوجدنا أنهما يصبان صبا في موضوع الهوية، لذا وجب أولا أن نعرف ما هي الهوية؟ إن سؤال الهوية يبرز في سياقات مختلفة، لكا منها خطابه المميز، وهو ما خاض فيه المتخصصون كثيرا وليس هذا المقال مقامه، ولكن يمكن القول بأن هوية الشئ تتكون من تلك الملامح المكونة له والتي تحدده كهذا الشئ أو هذا النوع من الشئ بدلا من أن يكون شيئا آخر، ويميزه عن الأشياء الأخرى. وتكمن هوية الدول في ملامح مترابطة مثل سماتها الأرضية، ومدى إستقلاليتها، ومدى إنسجام فضائها القانوني، ومفاهيم علاقاتها السياسية من بقية العلاقات الإجتماعية التي تولد أخرى وتجعلها متفردة تاريخيا.

ويمكن أن نستطلع هوية أي شئ مثل الرأسمالية، الحضارة الغربية، الحداثة، الليبرالية، الإسلام أو المسيحية، وأن نسأل في كل حالة ماذا يجعلها ما هي عليه، وما يجعلها متفردة، ويميزها عن الآخريات. وهذا هو الحال أيضا مع هوياتنا كبشر. وبالتالي يمكن عرض مفهوم الهوية على ثلاث مكونات مترابطة ومتدرجة: الهوية الشخصية، والهوية المجتمعية، والهوية الإنسانية.

الهوية الشخصية: البشر هم أفراد متفردون، وهم مراكز وعي ذاتي متميز، لهم أجسام مختلفة، وتفاصيل حياة شخصية، وحياة داخلية غير قابلة للإلغاء، وإحساس بالذات أو الشخصانية.

الهوية المجتمعية: هؤلاء الأفراد موجودون في مجتمعات، ويشكلون أعضاء من مجموعات مختلفة؛ عرقية ودينية وثقافية ومهنية وقومية وغيرها، وترتبط ببعضها بطرق لا تحصى، رسمية وغير رسمية، هذه المجموعات تعرف نفسها وتميزها، ويتم تعريفها وتمييزها من قبل الآخرين، على وجه أو أكثر من تلك الوجوه.

الهوية الإنسانية: هؤلاء الافراد في تلك المجتمعات ينتمون ويعرِفون أنهم ينتمون إلى نوع إحيائي متميز وهو الإنسان، ويعرِّفون أنفسهم ويقررون بشأن الطريقة التي يجب أن يحيون بها بإعتبارهم بشر.

تلك الهويات الثلاث متضافرة ولايمكن فصلها، وكل منها يفترض وجوده مسبقا ويمكن فهمه فقط من خلال علاقته بالأخريات، ويشكل جزءا مما يسميه عالم الإجتماع الإنجليزي بيكهو باريخ "الهوية الفردية" أو الهوية الكلية للبشر.   

وبالرغم من أن لدينا هويات مجتمعية مختلفة، فليست جميعا متساوية في إنتشارها وعمقها، حيث يشكل بعضها مصدرا رئيسا لمنظورنا وقيمنا في العالم، وتنتسب لموضوعات ذات أهمية عظيمة بالنسبة لنا. وتميل الهويتان الثقافية والدينية إلى لعب هذا الدور بالنسبة لمعظم البشر. فبالنسبة للأشخاص المتدينين، مثلا، فإن العقيدة هي مركز حياتهم ومصدر مبادئهم الهادية. وهم يرون الهويات الأخرى من هذا المنظور ويحددون أهميتها ومراتبها تبعا لذلك. إن المسلم أو المسيحي المتدين يهدف إلى أن يكون إنسانا طيبا؛ مدرسا أو جارا أو أبا أو زوجا أو مواطنا أو رياضيا أو فنانا، ويحدد مفهوم هذه "الطيبة" من منظور إسلامي أو مسيحي ويسأل في كل حال ماذا يجب أن يفعل كمسلم أو مسيحي.

رغم هذا فإن المسيحي المخلص ومن هذا المنظور للطيبة في الحياة، لم تنمعه مسيحيته من أن يستعمر بلدان الآخرين، كما يقول "باريخ"، ويضيف أنه ليس من الصعب تصور وجود فريق للكريكيت يتكون من أعضاء مسيحيين متدينين يرون في أنفسهم خداما للرب، ويعتبرون أن كل مباراة هي معركة من أجل الرب، وأن إحراز أي هدف فهو إنتصار للرب، وأن فقدان أي هدف هو خذلان للرب!. ويتسائل "باريخ" كيف يمكن إقناع لاعب من هذا الفريق أنه قد تم توجيهه بالخطأ؟ كيف يمكن إقناعه بأن تجاهل ما تعنيه الهويات الأخرى غير الهوية الدينية يحط من شأن تكامل الهويات وتضافرها في تشكيل النشاط الإنساني السليم. إن مبارة الكريكيت ما هي إلا لعبة، رياضة، لها قوانينها الخاصة وروحها وقيمها ومعايير الحكم عليها. 

قصدت أن أسوق هذا المثال عن المتدين المسيحي من كتاب البريطاني "باريخ" عن "سياسات جديدة للهوية" وذلك لأوضح أن غلبة الهوية الدينية على ماعداها من هويات ثقافية وعرقية وقومية هو أمر عالمي أو شأن إنساني لا يقتصر على التيار الإسلامي السياسي في مصر أو غيرها.

إن الحياة الإنسانية هي موروث جمعي كلي بمفهوم أن مختلف جوانب الحياة هي ذاتية الحكم بدرجات مختلفة وتطرح إدعاءات مستقلة، وأن الهويات المختلفة لا يمكن إخضاعها لأي من تلك الجوانب، مهما بدا من تسيدها على الموقف. إن السياق هو الذي يحدد أي هوية هي ذات صلة بالموقف، وأن تلك الهوية، بتعريفها كمجتمعية، هي التي تملي السلوك المناسب، أي أن لنا هويات مجتمعة مع بعضها البعض وليس هويات متعددة. وعندما تتسيد هوية واحدة باقي الهويات، مثل الهوية الدينية (تيار الإسلام السياسي) أو الهوية السياسية (التيار الليبرالي) فإن الأفراد يرون أنفسهم ويرون مجتمعهم والعالم من حولهم من منظور واحد، لا يفشل فقط في التعرف على الأوجه المتعددة لهم، بل يتبنى أيضا نظرة منحرفة جدا ومشوهة لهم. إنهم يقسِّمون البشرية على محور واحد، حيث يرون الأفراد أو الجماعات إما أعداء وإما أصدقاء، ويتجاهلون المشتركات بينهم والروابط المتداخلة بينهم، تماما كما أشار كاتبنا الحكيم فهمي هويدي.   

بماذا نخرج من هذا العرض لمفهوم الهوية وذلك في إطار الإستقطاب الملتهب بين تيار الإسلام السياسي والليبراليين في مصر ما بعد "الإنفجار العظيم" في 25 يناير 2011؟ منذ الثورة وحتى الآن، فإن التفاعل المتسلسل لهذا الإنفجار العظيم لم يتوقف لحظة. ومن المدهش – مع كل مدهشات الثورة التي أذهلت العالم بما فيه الشعب المصري نفسه – أن يطفو على سطح التفاعلات موضوعا رئيسا واحدا وهو هوية مصر!، هل هي إسلامية أم ليبرالية أم ماذا؟ سؤال لم تجب عليه كل إرهاصات النهضة العربية منذ مفجرها محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، أي بعد قرنين من الزمان لم يكفيان بعد لتحديد هوية مصر، أو هكذا يبدو الأمر!

يبدو لي الأمر متراوحا بين طرفي نقيض، الأول فعل كوامن الحضارة المصرية المتراكمة متمثلا في الإحساس التاريخي بأهمية تحديد الهوية شرطا لبدء النهضة والتقدم، والثاني فعل عوامل التخلف الجاثم على صدر مصر منذ مايقرب من خمسة قرون – بدء إنهيار الحضارة العربية الإسلامية وبدء نهضة الغرب -   متمثلا في عدم تحديد الأولويات وذلك بالتشرذم بعد التجمع في الثورة في صراع على الإيديولوجيات، في وقت يفتقد فيه المجتمع لبديهيات الأمن والإقتصاد!

فهل يصح أن تكون الأولوية الآن فعلا لتحديد الهوية أولا (على وزن الدستور أولا)؟ أم أن تكون الأولوية لإستكمال البناء الديموقراطي بأكبر قدر من التوافق؟ إن من نزل إلى ميدان التحرير يرفع راية "هويتنا إسلامية" يطرح موضوع تحديد الهوية أولا، أي يطرح حربا ثقافية أو أيديولوجية داخل مصر، وأعتقد، مع كاتبنا الحكيم فهمي هويدي أنه ليس لدينا ترف الحرب الأيديولوجية الآن، وأن علينا العمل في المشترك المتوافق عليه أولا حتى يستتب الأمن ويقوم الإقتصاد ويشعر غالبية الشعب المصري في عشوائيات المساكن والوظائف ببعض المردود من الثورة ممثلا في عمل يحفظ الكرامة ودخل يبني أسرة محترمة.

إن الصراع الآن بشأن الهوية، إسلامية أم ليبرالية، هو حقيقة ليس إلا صراعا على كراسي السلطة القادمة، أما أمر الهوية فهو محسوم سلفا، ليس بالنسبة التي تحققت في إستفتاء على 9 مواد أساسية بالدستور نتج عنها موافقة بنسبة (77%) وهو أول إستفتاء حقيقي لشعب مصر، إعتبره تيار الإسلام السياسي إستفتاءا على الهوية الإسلامية، و إعتبره التيار الليبرالي مجرد إستفتاء على بعض مواد للدستور. إنما هو محسوم لأن الشعب المصري موجود وهويته لا تتغير بين عشية وضحاها، وإذا تم الإستفتاء مرة بعد مرة فلن تتغير هويته ليس طبقا لرغبات وأماني تيار الإسلام السياسي، ولا لممانعة التيار الليبرالي.

إن الهوية كما وصفناها في هذا المقال هي نتاج بناء متراكم عبر السنين، وما أطول سنين مصر، من عناصر جغرافية وثقافية وعرقية ودينية وغيرها، لن تغير فيها كثيرا أماني هؤلاء  الذين إكتفوا بنتيجة إستفتاء أول و أوحد بإعتبارها النتيجة النهائية لمباراة وحيدة وكأنهم يخشون من خوض مباريات أخرى!، وأعتقد أنهم في الواقع يراهنون فقط على المدى القصير وهي الإنتخابات القادمة، أو أنهم متعجلون بعد طول غياب وراء القضبان وفي المعنقلات، وهم بذلك قد يتجاهلون حقيقة أن الشعب الذي أسقط الفرعون لأول مرة في تاريخه متعدد الألفية هو شعب مارس الليبرالية السياسية منذ أكثر من مائة عام وهو قادر على أن يطيح بهم، لو إنحرفوا عن الديموقراطية أو فكروا في إستثمار الهوية الدينية لمحو ما عداها من هويات مجتمعية وإنسانية كما أوضحناها. كما لن يغير من الهوية المتراكمة لهذا الشعب ممانعات التيار الليبرالي الذي قد يشتط في إستقطابه ضد تيار الإسلام السياسي إلى حد تجاهل عمق الهوية الدينية في تركيبة هذا الشعب العظيم.

إن سخونة اللعبة الآن هي نتاج اللعب على المدى القصير وهو الإنتخابات القادمة، أما على المدى الطويل فمصر التي كسرت الطوق ستصل إلى ديموقراطية معقولة ومقبولة رغم أي إخفاقات ممكنة على المدى القصير والمتوسط، حيث ستظهر هويتها الحقيقية لا محالة، سواء تلك المفترضة من الإستفتاء الأول المختلف عليه!، أو غيرها.

مسعد غنيم

20 أغسطس 2011


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية