من وادي الحيتان إلى وادي المصريين
...............................................................
|
من وادي الحيتان إلى وادي المصريين |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
إذا وصلت للقاهرة أو كنت تعيش فيها يمكنك ترتيب رحلة لمدة يوم واحد إلى وادي الحيتان، وستحتاج إلى عربة رباعية الدفع والإعداد اللوجيستي المناسب، لقطع مسافة 150 كيلومتر بدءا من القاهرة عبر وادي الريان بمحافظة الفيوم منها مدقات وطريق ترابي بطول 38 كيلومتر إلى وادي الحيتان داخل الصحراء الغربية. وعندما تصل هناك ستعرف أنه قد تم تصنيف منطقة وادي الحيتان فى العام 2005م كمنطقة تراث عالمي وأن اليونسكو اختارتها كأفضل مناطق التراث العالمي للهياكل العظمية للحيتان. ويأتي هذا بسبب أن وادى الحيتان يحتوى على أكثر من 400 حفرية للهياكل العظمية لحيتان كاملة كانت تعج بها المنطقة قبل 40 مليون سنة عندما كان الوادي يقع تحت بحر ضخم بالإضافة إلى حفريات بحرية عديدة لعروس البحر وأسماك القرش وأحياء بحرية أخرى يمكن رؤيتها في المتحف المفتوح الذي يتيح للزائرين إمكانية رؤية الحيتان وعدم المساس بها لحمايتها.
تأتي الأهمية العلمية لهذا الوادي ليس فقط من عدد الحفريات عالية الجودة ولكن مما أكده العلماء من أن وادي الحيتان هو موقع استثنائي لدراسة الحياة القديمة نظرا لأن حفريات الحيتان به تمثل حلقة هي الأهم على الإطلاق في تفسير تطور الحيتان من حيوانات ثديية أرضية تشبه الذئاب إلى حيوانات ثديية بحرية تطورت فيما بعد إلى الحيتان التي نعرفها اليوم، وذلك في إطار النظرية العامة لداروين. أكملت تلك الحلقة المسار البيولوجي لنشأة الحياة في البحر أولا ثم انتقالها إلى البر ثم العودة مرة أخرى إلى البحر على هيئة الحيتان الحالية، وذلك طبعا على مدى آلاف الملايين من السنين!.
قد تقبل أو ترفض نظرية داروين في تفسير التطور البيولوجي على الكرة الأرضية، وغالبا ماسيكون رفضك نابعا من منطلق تفسير ديني لنصوص الكتب السماوية عن الخلق، وخاصة خلق الإنسان، ومن جهة أخرى فقد يرتبط ذلك الرفض بنقص المعرفة عن النظرية أوالفهم السطحي لها. ومع كامل الاحترام للاختلاف في الرأي من حيث المبدأ، فإن الحفريات التي ستراها بنفسك، فقط على بعد 150 كيلومتر من القاهرة، ستوفر لك فرصة معرفية نادرة لرؤية حقائق مادية دامغة تتحدى كل الدفوعات الرافضة لنظرية داروين، بل وتتأكد كل يوم بالمزيد من الاكتشافات العلمية في إطار علم الإحاثة Paleontology .
وعموما فليس إثبات أو دحض نظرية داروين هي موضوعنا هنا ولا هي في مستطاعنا كغير متخصصين، فسواء كنت مؤيدا أو معارضا، دعنا نقتصر على الحقائق الماثلة في وادي حيتان بالصحراء الغربية لمصر غرب الفيوم، وهي حقائق لاتقبل الجدل في حد ذاتها من حيث أنها حفريات حيتان أفواهها تشبه أفواه الذئاب بالشكل والأسنان والأنياب، وأن هذه الفصيلة من الحيوانات البحرية الثديية قبل أن تنقرض منذ حوالي 40 مليون سنة عاشت في بحر ضحل نسبيا يسمى "بحر تيثيس" امتد من افغانستان الحالية وحتى موريتانيا شمل أرض مصر الحالية وكل شمال أفريقيا، ومشكلا فاصلا جيولوجيا يفصل أفريقيا عن آسيا وأوروبا قبل أن يلتحما فيما بعد و قبل أن ينكمش بحر تيثيس إلى حجم البحر المتوسط الحالي، وذلك حسب ما استقر عليه رأي علماء الجيولوجيا وعلم الأرض.
أما الموضوع المعني هنا هو الداروينة الاجتماعية، وهي الاتجاه الذي قال به الفيلسوف الاجتماعي البريطاني هيربرت سبنسر، والليبرالي المتحمس للنموذج الرأسمالي في القرن التاسع عشر إبان العصر الفيكتوري. ذهب سبنسر أبعد مما ذهب داروين في نظريته عن التطور البيولوجي حيث طبق سبنسر نفس المبدأ على طبيعة تطور المجتمع الإنساني، وفي أواخر القرن التاسع عشر تبنى كثير من الأمريكان المتحمسين "الداروينية الاجتماعية" المنسوبة لسبنسر لتبرير ممارسات الرأسمالية المنفلتة. وتقول الداروينية الاجتماعية بخضوع المجتمع الإنساني لنفس قوانين الصراع البيولوجي من حيث البقاء للأكثر تأقلما مع البيئة الاجتماعية المتغيرة وقوى السوق الرأسمالية الليبرالية، وهنا لايكون الحديث عن فصائل بيولوجية من حيوان وإنسان، وإنما عن شعوب بأسرها، وطبقات اجتماعية داخل الشعوب.
من النتائج المباشرة للممارسة الرأسمالية الليبرالية المنفلتة انفجار الأزمة المالية العالمية بأواخر 2008 ومطلع 2009 التي لم يخرج العالم منها بعد. لقد أدرك العالم بدون شك، غربه قبل شرقه، أن النموذج الرأسمالي الحالي قد فشل عمليا رغم عدم وجود منافس بعد الفشل الذريع للنموذج الشيوعي والشك الذي غرق فيه النموذج الاشتراكي. هذا الفشل عزاه بعض المتخصصين بل والسياسيين (ساركوزي الرئيس الفرنسي) إلى خلل هيكلي في النموذج نفسه، بمعنى أن الأمر ليس مجرد خطأ تطبيقي من بعض المؤسسات المالية العالمية الحاكمة في وول ستريت أو من بعض الأفراد النافذين في عالم المال والأعمال. وبالأمس فقط 21 يونيو 2010 أصدر الكونجرس الأمريكي تشريعا يقضي بمعاقبة المؤسسات المالية في حالات إساءة الإدارة وذلك في محاولة لكبح شطط تلك المؤسسات، وهو إجراء من سلسلة إجراءات لم تقنع كثيرين في أمريكا نفسها بجدية الإمبراطورية الأمريكية في الحد من شطط وتوحش النظام الرأسمالي العالمي.
من ناحية أخرى فإن كثير من علماء البيئة يعزون التغير المناخي إلى نفس الخلل المنهجي في النموذج الرأسمالي باستنزافه الزائد لموارد الأرض وإنتاج غازات الدفيئة التي تسببت في احترار الأرض وستتسبب في ارتفاع مستوى مياة المحيطات واختفاء العديد من المدن حول العالم ومنها مساحة كبيرة من الدلتا في مصر بحلول عام 2050. أي أن النموذج الرأسمالي المتسيد في سعيه نحو السيطرة على موارد الأرض لايهمش فقط الطبقات الاجتماعية ذات الأغلبية داخل الدول المتقدمة نفسها، ويسحق شعوبا بأكملها في آسيا (العراق أفغانستان وباكستان) وأفريقيا (الصومال)، بل ويعزل ويسجن شعوبا أخرى داخل حدودها بشكل غير مباشر (زيمبابوي)، بل وبشكل مباشر مثل أكبر سجن في التاريخ وهو سجن غزة الكبير المفروض من جانب إسرائيل الدولة "المحتلة" والمؤمن من جانب مصر الدولة "المعتدلة"، وبرعاية الإمبراطورية الأمريكية طبعا!.
تلك كانت حقائق إحاثية أو باليونتولوجية عن التطور البيولوجي في وادي الحيتان بصحراء مصر الغربية، وحقائق تاريخية إجتماعية عن التطور الاجتماعي طبقا لنظرية الداروينية الإجتماعية، وحقائق تاريخية معاصرة عن النتائج الكارثية للنموذج الرأسمالي على كل من النظام الاجتماعي العالمي والنظام البيئي لكوكب الأرض. والآن إلى حقائق مستقبلية حسبها وحسمها عالم الكونيات أو الكوزمولوجي الأشهر البروفسير البريطاني ستيفن هوكينز. يقرر هوكينز في كتابه "العالم في قشرة جوز" والصادر عام 2001 أن سكان الأرض من البشر بمعدل نموهم الحالي سيصل عام 2600 إلى حد أنهم سيغطون سطح الكرة الأرضية بكاملها شاملة المحيطات والبحار. وقياسا على عمر الأرض الذي يبلغ 4.6 مليار سنة، وعلى عمر البشرية (علميا) على الأرض والبالغ 250,000 سنة، فإن عام 2600 لايبعد أكثر من يوم واحد. ويؤكد هوكينز أنه لتفادي هذا المستقبل الكارثي المحقق والذي يهدد بانقراض الجنس البشري نفسه مع تدمير الأرض، فليس أمام البشرية إلا إعادة الهندسة الجينية للبشر بحيث تتأقلم مع البيئة الإنسانية المستقبلية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويظهر سؤال بديهي لم يطرحه هوكينز ولم يجب عنه بالتالي، بل تركه للعلماء والسياسيين، وهو كيف ستتم إعادة هندسة الجينوم البشري وما هي أولويات تلك العملية، بمعنى مَن مِن الشعوب والأجناس والطبقات والطوائف والأفراد سيقع عليهم الاختيار للتطوير وإعادة الهندسة الجينية للعبور للمرحلة التطورية التالية للجنس البشري؟
قد تظن أن هذا مقال خيال علمي ولكنه للأسف حقيقي أكثر من حقيقة أنك تقرأه الآن بعينيك على شاشة الكمبيوتر!. وكل ما طرح سابقا هو حقائق غير مختلف على وجودها، فقط يوجد الاختلاف على تفسيرها أو تفسير المستقبل في إطارها بين الحسابات العلمية المستندة إلى الحقائق العلمية عن تاريخ الأرض وتاريخ البشرية عليها، والتفسير الديني المستند إلى النصوص الدينية وإلى القدرة الإلهية التي تعلم الغيب وحدها والتي تقرر مصير البشرية بمشيئتها المطلقة. والأمر لك قطعا في أن تأخذ بأي من التفسيرين، ولكن أيا كان اختيارك فإن ذلك لن يمنع من يعتقدون في الداروينية الاجتماعية ويعملون بالفعل بما يمكن تسميته "الداروينية الجينية"على إقصاء وانقراض أكبر عدد من سكان الكوكب طبقا لخططهم الاستراتيجية المبنية بعقول باردة على حسابات جامدة. إننا نشهد بالفعل الانقراض الاجتماعي يتم طبيعيا لدرجة أننا لانحسه، فقط انظر إلى الأسوار التي تقام بطول العالم وعرضه لتفصل الشعوب والطبقات والطوائف المختارة خلفها وتحميهم من خطر الدهماء والغوغاء والرعاع (الكمبوندز والمنتجعات عن عشوائيات القاهرة الكبرى مثلا) أو خطر "الإرهابيين الإسلاميين" في غزة فلسطين على الشعب المختار في فلسطين المغتصبة وعلى الليبراليين الجدد في لجنة السياسات المصرية، أو خطر المهاجرين المكسيكيين على المجتمع الأمريكي المرفه، أو خطر المسلمين الأتراك على أوروبا.
هذا عن الأسوار المادية الآنية، وهناك أسوار أخرى لاتقل واقعية، سياسية وتشريعية واقتصادية واجتماعية، أسوار فصلت المجتمع المصري مثلا إلى مصرين مختلفين تماما، مصر العشرة آلاف الذين يحكمون ويملكون ومن يدور في فلكهم من شريحة محدودة جدا، ومصر الأخرى ذات الأغلبية الساحقة تمنعهم كل تلك الأسوار المعنوية من الحد الأدنى من التعليم والصحة والعمل والعيش الكريم، فتخلق منهم فصائل بشرية جديدة من حيث مستوى التعليم والصحة. هذا بالإضافة إلى أسوار المنتجعات والشواطئ و"الكمبوندز" التي تمنعهم من حتى الحلم بالعيش فيها أو الاستمتاع بمنظر البحر، وبالطبع فهذا لايقلق الساكنين خلف تلك الأسوار، فهناك دائما قوة الجبوش والشرطة التي تقطع الطريق على أي خاطر بالمغامرة لعبور تلك الأسوار، ولعل مقتل شهيد الطوارئ الشاب السكندري خالد سعيد يعطينا فكرة عما يمكن أن يحدث لمن يحاول كشف من وراء سور السلطة بفيلم فيديو مثلا.
كان هذا عن الأسوار المحلية، أما الأسوار العالمية، فالأبسط منها على شكل مادي ومعنوي، وهي تبنى بلا كلل داخل أرض فلسطين المحتلة، وعلى حدود غزة مع مصر، وعلى حدود أفريقيا مع أوروبا، وعلى حدود أمريكا الشمالية مع الجنوبية، وعلى حدود تركيا مع أوروبا. أما الأسوار الأخطر من كل ذلك هي الأسوار البيولوجية التي يتم إعدادها الآن في معامل الهندسة الجينية لتحديد التركيب الجيني الأمثل للفصيل الإنساني القادم، ويتم على التوازي إعداد أو بالأحرى تدقيق الخطط السياسية الاستراتجية لإدارة كوكب الأرض بالعدد الأمثل من السكان لحفظ الاتزان البيئي للكوكب. وقياسا على ذلك يبدو فكر هربرت سبنسر عن الداروينية الاجتماعية في منتهى الرومانسية!.
إذا كنت تشك في أن هذا خيالا علميا أو جنون نظرية المؤامرة فرجاء اقرأ المقال من البداية مرة أخرى لتتأكد أن كل ما ورد به هو حقائق علمية ووقائع تاريخية مجردة من أي تفسير أو إسقاط، ويبقى الأمر أخيرا لك لتفكر ماذا يمكننا أن نفعل؟ هل نسعى بأسباب العلم لنحقق أقصى تأقلم مع مستقبل بيئة الأرض وليكون لجيناتنا، ولا أقول أحفادنا، نصيب في الاستمرار في الوجود، أم نترك أمر الخلق لخالق الخلق من منطلق إيماني بحت؟ في الحالتين فإن من يخططون وينفذون بالعلم وأدواته لا يأبهون باختيارك أو قناعاتك! وإذا تسائلت لماذا لايطرح المثقفون والإعلام العالمي هذا الموضوع الوجودي الخطير للحوار الإنساني العالمي، فأنصحك بعدم التساؤل حتى لاتقع في دائرة السذاجة!!.
وإذا كنت تستبعد فكرة انقراض البشر بشكل جيناتهم الحالي، فاعلم أنه في رأي معظم علماء علم الإنسان أو الأنثروبولوجي، أنه فقط منذ بضع عشرات الآلاف من السنين كان هناك فصيل بشري تماما يعرف بإنسان نياندرتال (بقاياه وأثاره كثيرة) عاش بالتوازي مع الفصيل الإنساني الذي هو نحن، أنا وأنت، وأننا قد قضينا تماما على هذا الفصيل "الإنساني" في صراع بيولوجي طبيعي خضع لقوانين البقاء للأصلح، أما اليوم ولاول مرة في تاريخ الحياة البيولوجية على الأرض فإن الانتقاء لن يكون طبيعيا بل جينيا صناعيا وفي المعامل (إرجع للفيلم الأمريكي Gataca جاتاكا ببداية التسعينات).
طبعا لن يكون من الصعب عليك أن تتخيل أن من يملك السلطة والمال هم فقط الذين سيستطيعون ركوب سفينة نوح الجينية الجديدة، ولن يكون صعبا أيضا أن تتخيل سائحا ذا ملامح فضائية غريبة تشبه قليلا ملامحنا الإنسانية في زيارة لصحراء مصر بعد عدة مئات أو آلاف السنين ينظر إلى حفرياتنا في الصحراء ويقول المرشد السياحي المستقبلي: هذه متحجرات فصيل بشري كان يسكن هذه المنطقة وكانوا يسموا بالمصريين، هذا قبل أن يتوجه بهم من "وادي المصريين" إلى "وادي الحيتان" في الصحراء الكبرى!.
23 يونيو 2010