شجون نيلية على ضفاف نهر مارا
...............................................................
| |
غنيم | |
بقلم : مسعد غنيم
....................
أكثر من مليون من الحيوانات وأشهرها حيوان "النو" أو Wild beast تعبر سنويا نهر "مارا" الذي يقع بين كينيا وتنزانيا جيئة وذهابا في هجرة جماعية هي الأروع والأجمل في العالم. مشهد مثير يتكرر كثيرا على شاشة التليفزيون، وتأتي الإثارة والدراما فيه من الكمائن التي تنصبها التماسيح للحيوانات العابرة وتفترس بعض منها لاينقص كثيرا من أعدادها المهولة. كنت محظوظا أن أتناول طعام الإفطار على ضفاف هذا النهر منذ أيام، في 9 مايو 2010، حيث دارت أحاديث كثيرة بين حوالي سبعين من العلماء والممارسين الذين أتوا من كل قارات العالم تقريبا لحضور اجتماع المائدة المستديرة لإدارة سلسلة الإمداد، وهو مؤتمر سنوي ينظمه مركز التجارة العالمي بجنيف والتابع لمنظمة التجارة العالمية. وقد عقد هذا العام بنيروبي في كينيا، وشرفت بحضوره كواحد من أصحاب أفضل عشر قصص نجاح في ممارسة إدارة سلسلة الإمداد بين حوالي خمسين دولة، هم الأعضاء المكونون لشبكة متخصصة في التدريب على إدارة سلسلة الإمداد باعتبارها أحد أهم أفرع إدارة الأنشطة الصناعية والتجارية، وهي أحد أهم المفاتيح لتطوير الاقتصاد العالمي والمحلي على السواء.
ذلك الصباح الساحر على ضفاف نهر مارا الأفريقي، يصعب على مصري عاش زمنا كافيا بالقاهرة أن يصفه، لأنه عاش عمليا في الصحراء وحرفيا في مدينة من علب الأسمنت لاتخفف نسائم النيل المنعشة من تلوث هوائها إلا للحظات يطغى بعدها القبح على كل تفاصيل المشهد القاهري، قبح ترسمه عشوائية خانقة من حركة للبشر والسيارات على خلفية معمارية ساكنة راكدة تبزها في القبح والعشوائية، خلفية تماهت بقتامة ألوانها مع السحابة السوداء الأبدية فوق القاهرة وسجنا سماءها وخنقا قمرها، وليت سواد الأمر في مصر يقف على تلك السحابة التي في السماء وحدها. فقد سمعت خلال أحاديثنا على ضفاف نهر مارا من الأخوة الأفارقة من أثيويبا وكينيا ما يؤكد نجاح نظام الحكم في مصر بامتياز في تكتيل دول حوض النيل واتفاقها دون القاهرة والخرطوم على إسقاط الحق التاريخي لشعب مصر في مياة النيل. إنجاز لم يسبق له مثيل على طول تاريخ مصر العريقة!، ورحم الله جمال عبد الناصر وأبقى لنا "بحيرة ناصر" تنقذ ما يمكن إنقاذه.
ألحت على الشجون وقطعت استرجاع الذكريات الجميلة عن كينيا التي لا أستطيع أن أصف بما يكفي ذلك الجمال البكر للسافانا الأفريقية بها؟ إمتداد للأفق الأخضر الضارب للصفرة يتحدى البصر والخيال، وشجرة الأكاسيا الأفريقية الشهيرة تنتصب وسط محيط السافانا في هدوء سرمدي قاطعة المشهد بتواصل غامض يذوب فيها الأفقي بالرأسي في امتزاج طبيعي ساحر، ويصل المشهد الأرضي إلى منتهاه البصري وعمقه الكوني عندما يتعانق في اللانهاية مع سماء لازوردية تموج بركام سحاب فوق سحاب ينساب في جمال ويسمح برشاقة للشمس من بسط نورها الحاني في كل من الأرض والسماء. يستكمل ذلك المشهد روعته سواء كان بالسكون الآخذ بالأرواح والأنفاس، أو بالضجيج المدهش للأوركسترا الطبيعية التي يأتي في "قرارها" صوت "سيد قشطة" أو فرس النهر، ويتممها في طبقة الـ "سوبرانو" أصوات طيور وعصافير لايفوق جمال وهارمونية أصواتها إلا تنوع وتناسق ألوانها. مشهد يتحدى جمال سكونه رشاقة حركته، وينافس غموض ألوان محيط السافانا بحيواناته البرية سحر ألوان محيط السحابات من فوقه، ليعانقه ويذوب فيه في اللانهاية مشكلا مجرد لمحة خاطفة لوحدة ذلك الكون المعجز، في رحلة عبر الزمن وليس فقط عبر المكان.
ومن غرائب ما وجدته عكس ما أفهم، هو أن وادي سيرنجيتي الشهير ينطبق عليه صفة السكون والصفاء والسلام معظم الوقت، فالحيوانات ترعى وتجول في سلام مدهش والأسود نائمة تتثائب والضباع كذلك، والزرافات تتهادى برشاقة وجمال لا يضاهى، والغزلان من أصغرها ويدعى غزال طومسون، إلى أكبرها من أنواع الأنتيلوب والإمبالا كلها ترعى في سكون وسلام. هذا رغم أن الصورة السينمائية والإعلامية التي ترسخ في أذهاننا نحن المشاهدين لقنوات مثل ناشيونال جيوجرافيك وديسكوفري هي صورة متوحشة يملؤها الدم، بينما الوضع الطبيعي لتلك السافنا الرائعة هو السلام والسكينة والاستثناء هو الدم. صورة تشعرنا نحن البشر بمدى توحشنا وغبائنا في آن، فوضعنا الطبيعي هو الولوغ في الدم بحسب نسب عناوين نشرات الأخبار عن معارك القوات الأمريكية والإسرائيلية خصوصا، والاستثناء هو السلام. وحتى السلام!، لم تجن مصر منه إلا التهديد بضياع جزء من حصتها في مياة النيل والفضل في ذلك يعود بعد نظام الحكم الرشيد إلى "الصديق" الإسرائيلي شريك السلام!. كما أن مشهد الأسود وهي تتثائب بعد الانتهاء من وجبتها والغزلان ترعى قريبا منها في "سلام" ذكرني بإصرار ذلك الشريك المسالم على حصار وتجويع وتركيع أكثر من مليون إنسان في غزة فلسطين مع تفهم تام من الشريك المصري في "السلام!"
عودة إلى ذلك الصباح الجميل على ضفاف نهر مارا وعلى بعد 320 كيلو مترا من نيروبي عاصمة كينيا، كان من الطبيعي أن أسترجع ما كان دوجلاس ر. هوفستادتر في كتابه GEB في طبعته العشرين (عام 1999)، يبحث عنه من ملامح وحدة هذا الكون الذي نراه. كتاب مزج في غرابة تختفي مع الوقت، بين رياضيات جودل (عالم رياضيات) وخيال إيشر (فنان رسام) وموسيقى باخ (موسيقي أشهر) – تشكل الحروف الأولى من أسمائهم عنوان الكتاب - ليخرج بنتيجة مؤداها هو وحدة المعادلة الرياضية التي تحكم الكون كله بكل مظاهره وأشكاله، تلك المعادلة التي كان أينشتين يحلم بالتوصل إليها، وها هو هوفستادتر مازال يحاول ويقول لنا أن الشكل المتموج لرمال الشاطئ من أثر أمواج البحر تحكمه معادلة رياضية، وكذلك منظر الأفق بحواف الجبال والأشجار تحكمه معادلة رياضية، وهذا ما استشعرته مع أول أنفاس ذلك الفجر الرائع وأنا أطل من شباك فندق سيرينا في محمية "ماساي مارا" على وادي سيرينجيتي العظيم ممتدا عبر الحدود إلى تنزانيا، وأستمتع بسيمفونية الطبيعة، يؤديها كورال من أصغر طيورها إلى أكبر حيواناتها، في مطلع تثاؤبي وفي تناغم مذهل مع بدء تسلل أشعة الشمس نحو وادي سيرنجيتي الذي بدأ لتوه في رفع غطاء الندى الكثيف عن جسده الممتد عبر الأفق في مشهد كوني معجز في التوحد ومبهر في العظمة، لا يعكر صفوه إلا الإنسان!.
24 مايو 2010
|
الفائزون بجائزة ادارة سلسلة الإمداد |
|
أتناول طعام الإفطار على ضفاف نهر "مارا" |