في الذكرى الـ17 لرحيله، جمال حمدان شعر بالخطر على حياته
...............................................................
| |
موسوعة شخصية مصر | |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
تأتي الذكرى السابعة عشر لرحيل جمال حمدان (1928 – 1993) عن عالمنا في 17 أبريل 1993 ومصر تعاني مخاضا تاريخيا يشهد لصدق تحليله بانحراف مصر عن دورها التاريخي منذ معاهدة كامب ديفيد، ولعل هذا المخاض لا يخرج عن كونه حملا كاذبا، فقد طال صبر المصريين كما طال اشتياقهم لمصر التي في خاطرهم. رحل جمال حمدان شهيدا في محرابه ومعتزله الذي اختاره بنفسه بعدما تيقن من تخلى مصر السادات وما بعدها عن حلمها مع عبد الناصر بالاستقلال والوحدة العربية، واكتسبت بذلك وجها قبيحا وانزلقت للأسفل بحسب تعبيره، ومازالت تنزلق حتى أوشكت على الاختناق!. مات العالم الجليل في شقته المتواضعة على أثر حريق لم يحل لغزه تماما، والمفاجأة التي وقعت عليها أن الرجل بالفعل استشعر الخطر على حياته، بينما، أو ربما بسبب، أنه لم يفقد الأمل أبدا في تصحيح تاريخ مصر المعاصرة ليتسق مع عبقرية معادلة موقعها وموضعها. فقد سجل بنفسه في مقدمة الجزء الرابع من موسوعته الفارقة "شخصية مصر" هذا النص تحت عنوان "توضيح لابد منه للقارئ":
"إلى أن يزول "وجه مصر القبيح" نهائيا، وكذلك وجه العرب الكالح القميء المتنطع أيضا، فإن من الواضح تماما في الوقت الحالي الرديء الساقط استحالة كتابة هذا الباب كما ينبغي وكما كان في خطة هذا العمل الكبير. ليس ذلك – ليثق القارئ- حرصا على سلامتنا أو حتى حياتنا، ولكن فقط حرصا على سلامة وصول هذا الكتاب إ ليه – وكل لبيب بالإشارة يفهم،........ إلا أن المؤلف بكل الأسف والأسى يستأذن في أن يقدم لقارئه عن استحالة الكتابة والنشر في ظل الظروف الراهنة القهرية القاهرة التي يعرف، إذ لن يصل إليه حرف منها بحال لو حاول،........
......فلقد رأينا أن نعيد نشر الفصل الأصلي كما ورد في طبعته الأخيرة سنة 1970......... ذلك بالطبع، رغم كل التغيرات الانقلابية المحزنة والمخزية التي طرأت لتجعل كثيرا من الحقائق المادية الصلبة أخطاء علمية بحتة، وأسوأ منها لتزلزل كثيرا من الآراء والأحكام القومية والسياسية الأساسية وتجعل منها سخرية مريرة مفجعة....... الأوضاع السياسية الجوهرية انقلبت لتقف على رأسها، إلى آخر الصورة السفيهة المنحرفة...... النص بصورته الأصلية وثيقة تاريخية دامغة مثلما هي صافعة لكل من كان له قلب لم يزل أو ألقى السمع وهو شهيد، وتذكرة وعبرة لمن لم يفقد بعد آخر قطرة من حسه الوطني والقومي.......النص القديم على علاته وقصوره وقصره أقرب إلى الحقيقة العلمية الخالدة منه إلى الأمر الواقع الزائل الذي، بالمقابل، لامستقبل له وإنما لها مهما طال الأمر."
يا ألله... نُشِر الكتاب سنة 1984، بكل هذا الأسى والمرارة لحال مصر، فياترى ماذا كان ليكتب جمال حمدان اليوم بنهاية العقد الأول من الألفية الثالثة ومصر تعانى سكرات ضياع تاريخي غير مسبوق في ذاكرتنا التاريخية الحديثة. لكم كان الرجل، رحمه الله، ممرورا ومحزونا كأعمق ما يكون الحزن مما حدث لمصر، ولكنه كان مفعما ومملواءا بالأمل كأقوى ما يكون اليقين في زوال هذه الغمة عن قلب مصر، وهانحن نشعر بإرهاصات نبض شاب في هذا القلب رأيناه في شباب 6 أبريل الذي لم ترهبه جحافل أمن السلطة من التظاهر في الذكرى الثانية لحركتهم في ميدان التحرير، وليتلقى بشجاعة قسوة الضرب والإهانة والحبس ثمنا لتعبيره عن حيوية قلب مصر.
استعرض الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة المصري فكر جمال حمدان في كتاب له بعنوان حوار الأجيال (2009)، في إطار مساهمات الأجيال المتعاقبة من رموز مصر الثقافية بدءا من زعماء الإصلاح وحتى المحدثين، وشمل التقييم كل من: أحمد أمين، طه حسين، محود قاسم، عثمان أمين، توفيق الطويل، محمد عبد الهادي أبو ريدة، جمال حمدان، ذكي نجيب محمود، عبد الرحمن بدوي، شكري عياد، نصر حامد أبو زيد، وقاسم أحمد. وناقش حسن حنفي فكر جمال حمدان من مدخل استراتيجية الاستعمار والتحرير، واختار للمناقشة شكل المراجعة والحوار.
أدرك حسن حنفي أن مايقوم به من مشروع لتحرر الفكر ابتداء من التراث قد قام به جمال حمدان ابتداء من الجغرافيا. كلاهما وعي بالذات، الفكر أو الموقع، من أجل وعي بالعصر، كلاهما وعي بالعبقرية، عبقرية الزمان والمكان. ويضيف حسن حنفي "شخصية مصر" أعطته الأساس الجغرافي للتاريخ والسياسة والاجتماع، وحولته من مثالية السماء إلى واقعية الأرض، من الثقافة إلى التاريخ، ومن العقائد إلى الجغرافيا، وأصبح كلاهما (حمدان وحنفي) يبحث عن المواطن والشعب، عن الحرية والديموقراطية، يستردها جمال حمدان من الجغرافيا ويسترجعها حسن حنفي من الدين والتاريخ، ويعترف حنفي بأن كلاهما قد يقع في "الرد المنهجي"، تفسير كل شئ بالجغرافيا وتفسير كل شئ بالثقافة، والثقافة بالدين، والدين بالتاريخ، هكذا – يضيف حنفي – كان جيل الستينيات يبحث عن العلل الأولى للأشياء، وحركات الشعب، وقوانين التاريخ.
ينعي حسن حنفي جمال حمدان بقوله: "لقد اختار جمال حمدان أن يبقى في التاريخ شهيدا، قد يعبده الناس، ولكن خسرته الجامعة، وخسرته أجيال عديدة من الجغرافيين الشبان كان من الممكن أن تتلمذ عليه. خسرنا أبناء جمال حمدان وأحفاده. وما فائدة الإمام دون المأمومين؟ وما دور القائد دون الجند، وما ضرورة الرئيس دون الشعب؟..يبدو أن الوجود عدم، وأن من يريد أن يحصل على كل شئ لا يحصل على شئ، ومن يحصل على لا شئ يحصل على كل شئ. الحياة أخذ وعطاء، محو وإثبات، هدم وبناء، سلب وإيجاب مثل أحوال الصوفية: صحو وسكر، غيبة وحضور، هيبة وأنس، خوف ورجاء، محو وفقد، فرق وجمع، فناء وبقاء."
كتب حسن حنفي هذا قبل أن يحدث مايحدث في مصر الآن من شبح للموت يحوم حول قصر الرئاسة، وأمل في الحياة ينبض في الشارع توقا للحرية والديموقراطية، ولعل هذا بعض من تواصل العارفين الذين اقتربوا من العلل الأولى للأشياء، فرأوا بعين البصيرة مبكرا ماتجري به المقادير الآن.
يعتبر حنفي جمال حمدان من أنصار "الأصولية" التاريخية لفهم استراتيجية العصر، وأن "شخصية مصر" بأجزائها الأربعة تعبر عن لحن التاريخ، وتجسد الكلمة فيها بلاغة الموقع وشعر الحدث. وأن أسلوب جمال حمدان لم يخل من الشعر والأدب والمثال والعبارات القصيرة كحكم القدماء، فجمع بين العلم والحلم، بين الشعر والطبيعة، بين الصورة الفنية والمنظر الطبيعي، مثل وصف مصر في علاقة العاصمة بالقطر بأنها رأس كاسح وبدن كسيح. ووصف بلاد العرب بأنها خرقة بالية حواشيها من الدهب، ووصف أمريكا بأنها اشترت بالمكان الزمان.
ويشير حنفي أن حمدان لم يكن فقط أسير المراجع والمصادر التي تجاوزت المائة وعشرة كتابا، بل استطاع تمثلها وعيش تجاربها، ونقلها إلى مستوى الوطن، جامعا بذلك بين هموم العلم وهموم الوطن، وهو ميزان يصعب إيجاد معادلة دقيقة له. فأحيانا يطغى العلم على الوطن، وأحيانا يطغى الوطن على العلم. يطغى العلم على الوطن عندما يقع في التصورات الغربية دون مراجعة لها مثل وضع التاريخ الإسلامي في التاريخ الوسيط طبقا للتحقيب الغربي، وهو بالنسبة لنا عصرنا الذهبي الأول....... أوتسميته الدولة العثمانية الاستعمار الديني أو الاستعمار العثماني وهي التي حافظت على وحدة الأمة ضد أطماع القوى الاستعمارية بالرغم من عيوب الدولة الداخلية من قهر وظلم وتسلط وفساد. وقد يأتي المضمون من الجغرافيا السياسية الغربية مثل نظرية ماكيندر والهارتلاند حتى تبدو الثقافة الغربية هي السائدة بمصطلحاتها ولغتها وألفاظها المعربة ومراجعها فيبدو الإطار المرجعي لاستراتيجية الاستعمار والتحرير غريبا خالصا ودون الاستعانة بالمادة العربية الإسلامية القديمة في المصادر الجغرافية والتاريخية مع قراءة جديدة لها من خلال ثقافة العصر.
ويختتم الدكتور حسن حنفى تقييمه لفكر جمال حمدان بقوله: ...ومع ذلك فقد كان وطنه في القلب يحمله كهم. يستدعي له ثقافته الغربية التي تبدو مطابقة له وإن لم تكن كذلك في أعين الناس. قد يشفع المضمون للشكل، وتلك مهمة أجيال أخرى افتقدت أستاذها في الجامعة كما افتقد الوطن في العمل العام، أخذا وعطا مع الآخرين.
رحم الله جمال حمدان، عرف بخطورة دوره المبكر في كشف ما أسفرت عنه الأيام من الوجه القبيح لمصر الآن، وكذلك وجه العرب الكالح القميء المتنطع أيضا، وارتباط ذلك مباشرة من باب "الجغرافيا السياسية" بمشروع الهيمنة الصهيو-غربي، فاستشعر الخطر، ولكن ذلك لم يثنيه عن الجهاد حتى وإن خفف من الاجتهاد، شأنه شأن كل عظماء التاريخ، نفس ذلك التاريخ الذي لا يخجل البعض من جهل دعواهم بعدم الاكتراث به!، ولايفهمون أن مزبلة التاريخ أكبر بكثير من صفحاته المضيئة.
10 أبريل 2010