الشلن
|
الشلن |
بقلم : غريب المنسى
........................
محافظ البنك المركزى الأمريكى يستيقظ كل صباح ليتأكد من أن ماكينة الاقتصاد الأمريكى الضخمة مازالت على الحالة الميكانيكية التى تركها عليها فى الليلة السابقة , ماسكا فيه يده قنيية الزيت ليزيد الزيت قليلا الى الماكينة المجهدة التى فى ظل الأزمة العالمية بدأت تستهلك زيت أكثر من المعدل المعتاد مثلها مثل أى ماكينة انتهى عمرها الافتراضى وتحتاج الى عمرة كاملة , فالرجل اذا لم يتابع الماكينة على مدار الساعة ربما عرض الماكينة الى الدمار. والرجل الذى ائئتمنه العالم الاقتصادى الرأسمالى الحر لمتابعة أكبر ماكينة اقتصادية على مستوى العالم يديه مغلولة الى عنقه لايوجد أمامه متسع من المرونة حتى يستطيع أن يرسل الماكينة الى الورشة لاعادة خرط البساتم من جديد , فهى المكينة الوحيدة وتوقفها معناه انهيار النظام الرأسمالى وبالتالى فالحل الوحيد أمامه هو قنينة الزيت , والزيت هنا بالمعنى الاقتصادى هو زيادة سعر الفائدة أو انقاصها وهذا يعتمد على صوت الماكينة وادائها فى اليوم السابق , فاذا انتظم صوت الماكينة رفع الفائدة قليلا وينتظر حتى يراقب رد فعل الماكينة فاذا بدا صوتها يعلو مزمجرا خفض سعر الفائدة بسرعة الى ان يستقر صوت الماكينة .. وعلى هذا المنوال يعيش محافظ البنك المركزى الأمريكى فى ترقب دائم وخوف محيق من انهيار الماكينة التى هى عهدته باعتباره كبير الفنيين.
وعندما جاء أوباما الى الحكم أراد أن يضخ كمية معقولة من الزيت فى هذه الماكينة فى صورة 90 مليار دولار حتى تنتعش ولكن الماكينة شفطت الزيت كله وتريد المزيد , فكما اتفقنا أنها ماكينة قديمة تحرق الزيت وتحتاج الى اعادة خرط البساتم من جديد وعمرة كاملة بالمفهوم الميكانيكى والاقتصادى للجملة.
وعندما ضخ أوباما هذه الكمية من الزيت وهو يعلم علم اليقين أنها ستذهب أدراج الرياح اتخذ هذا القرار من منطق سياسى وليس اقتصادى, فهو يريد أن يظهر للشعب الأمريكى أنه كرئيس جديد يحاول أن يدفع الاقتصاد للأمام ولكن من الناحية الاقتصادية البحته هذا التصرف لم يدفع الاقتصاد الى الانفراج بل ساعد البنوك التى هى السبب الاساسى لحدوث الأزمة على أن تتنفس الصعداء وتبدأ فى محاصرة المواطن المغلوب على أمره مرة اخرى والذى هو رهينة لمنظومة الرأسمالية الجشعة. فمتوسط مديونية أى أسرة أمريكية للبنوك فقط من خلال كروت الضمان البلاستيك حوالى خمسة وثلاثين ألف دولار غير قرض المنزل وغير قروض التعليم. وهذ من شأنه أن يدفع المواطن الى العمل فى أكثر من وظيفة حتى يستطيع أن يدفع فوائد قروضه فقط واذا كان محظوظا وله عمل متخصص مثلا كدكتور أو مهندس فهو يستطيع أن يدفع جزء من أصل الدين. ولكن طالما أن نسبة كبيرة من الشعب ليسوا متخصصين فهم فى ظل هذه المنظومة الاقتصادية رهائن بكل ماتحمله هذه الكلمة من معنى.
وهنا برز سؤال مهم جدا : لماذا لم يضخ أوباما هذه الأموال الذى دفعها للبنوك مباشرة للمواطنين المطحونين ليرفع عنهم كاهل الديون؟ فلو أن هذه الأموال وزعت على الشعب الأمريكى طبقا لحجم الأسرة ومقدار دينها لانتعش الاقتصاد وارتفعت معنويات المواطنين فليس هناك أصعب على الانسان عموما من هم الدين. لماذ لم يتوجه أوباما مباشرة الى المواطن المطحون ليرفع عنه المعاناة الاقتصادية والنفسية وتوجه بالمساعدة للبنوك التى تسخر المواطن لخدمة منظومتها التى وضعت هى شروطها والتى تفرضها على المواطن تحت ضغط الحاجة؟
الاجابة بكل بساطة أنه لو فعل ذلك سيكون من وجهة نظر منظرى الرأسمالية اشتراكيا وهذه لعنة وكبيرة من كبائر الجرائم الأدبية فى محيط الرأسمالية وبمعنى ادق أن الآلة الرأسمالية المتوحشة لها مدافعون ومنظرون أقوياء فى مراكز صنع القرار لايستطيع الرئيس الأمريكى من مواجهتهم وبالتالى لابد أن يسير على طريقهم لا على طريق المنطق الذى يستوجب على صاحب القرار الأعلى فى الدولة من مساعدة مواطنيه اقتصاديا. المواطن الأمريكى والغربى هو عبارة عن رهينة مسيرة فى منظومة اقتصادية شرسة قوية المستفيد منها نسبة لاتتعدى خمسة عشرة بالمئة من المواطنين أما الغالبية العظمى فهى مسخرة لخدمة هذه المنظومة .
هذا عن أمريكا .. ولكن ماذا عن العالم الثالث واقتصاد تحت البلاطة؟
مايحدث للمواطن الأمريكى والغربى من عبودية مقنعة يحدث مع دول العالم الثالث ومصر نموذجا , فمصر دائما مديونة ومصر تكافح وتحرم مواطنيها حتى تدفع فقط الفوائد على الديون أما حجم الدين فهو ثابت , ومصر ملزمة امام مواطنيها بدعم السلع الأساسية وبالتالى فالعبء الاقتصادى على الدولة مضعف ومسؤولية شاقة جدا .
اذن مالعمل؟
المشكلة هنا أن دول العالم النامى بما فيهم مصر لاتستطيع أن تتخذ قرار اقتصادى بدون التصادم مع الغرب , فالنظام الاقتصادى العالمى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى أصبح وحيد القطب واذا أردت أن تخرج عن منظومة الراسمالية فأنت تعرض نفسك لملاحقات سياسية واقتصادية وسيكولوجية وبالتالى فقيادات العالم الثالث خانعون ليس لأنهم غير وطنيون ولكن لأنه ليس أمامهم خيارات أخرى للاستقلال الاقتصادى.
مثلا .. لنفترض أن مصر عجزت عن سداد قسط أو قسطين من مديونياتها , فورا سيتدخل البنك صاحب القرض وهو عادة البنك الدولى وسيفرض شروطا سياسية واقتصادية على مصر ومن أولها رفع سعر الدعم وترشيد الاستهلاك والنوم مبكرا وبالتالى ستكون هناك اضرابات داخلية من المواطنين الذين يعتمدون على تدعيم الدولة للسلع الأساسية.
هل هناك حل؟
طبعا .. لابد أن يكون المنظر الاقتصادى المصرى ملم بطبيعة المجتمع الاقتصادية فنحن مازلنا الى حد بعيد اقتصاد تحت البلاطة وتصنيفنا كدولة عالم ثالث قد يكون فى هذه الحالة الاقتصادية ميزة جبارة لأن المواطن الى حد ما غير محاصر من جميع الاتجاهات بالجهات الاقتصادية التى تجمع عنه معلومات وبالتالى تعرف كل كبيرة وصغير عن دخله , وبناء على ذلك لابد من وضع سياسات اقتصادية ذات طبيعة ابداعية تتناسب مع ظروف المجتمع وبعيدا تماما عن رقابة المؤسسات المالية الدولية ذات التوجه الرأسمالى الاستعبادى وذات التوجه السياسى التى تستعمرنا من عن بعد.
الطريقة الوحيدة للخلاص من هذه الهيمنة الاقتصادية الدولية هو تكوين منظومة اقتصادية محلية تعمل بكفاءة لضخ رؤس الأمول للطبقات المهضومة حتى ينتعش الاقتصاد فى قاعدة الهرم الاقتصادى بعيدا عن رقابة المراقبين. والمثال الأكبر على ذلك والذى هو ابتكار وابداع هو نظام الحوالة المتبع فى تحويل الأموال فى أفريقيا وآسيا , هذا النظام يصعب مراقبته وبالتالى فهو نظام متكامل صالح لخدمة فئة معينة من المستفيدين بعيدا عن نظام البنوك وعيونها , ونحن هنا نطالب بالابتكار لحل مشاكلنا الاقتصادية بطريقتنا وحتى لو كانت بدائية.
خير الكلام
الموت هو أن ندور فى دائرة واحدة مهما كانت تلك الدائرة. يوسف إدريس