كرباج ورا ياسطى!!
...............................................................
| |
العربجى | |
بقلم : غريب المنسى
........................
من داخل ميكروباص بالنفر ترى مصر والمصريون بلا رتوش , ومن على مقهى شعبى تحس بنبضها أكثر , ومن على عربة فول متحركة تحس بطعم حلاوة طعام الملايين , ومن الصف الأخير فى صلاة المغرب تحس بالورع الذى يحافظ على ضبط المواطن ويمنعه من سب دين الحكومة !! وهذا بالضبط ماحرصت عليه فى زيارتى لمصر.. وهذا سبب لى بعض المشاكل البسيطة على المستوى العائلى , فالجميع يرى أنه من البرستيج أن أركب سيارة خاصة وأن أرتاد المقاهى السياحية وأن أتناول الطعام فى المطاعم الفاخرة, وهذا بطبيعة الحال ضد طبيعتى علما بأنه هو أمل كل الطبقة المستورة فى مصر وهى طبقة تعيش فى الوهم الكبير .. هذه الطبقة يستحوز الطعام وأسعاره على الجزء الأكبر من تفكيرها , يليه فى الترتيب امتلاك السيارة .. وهى عادة ماتكون سيارة صغيرة أربعة سلندر تنحشر فيها الأسرة حشرا , ولكنها تظل علامة اجتماعية مهمة تدل على الستر وتحسن أوضاع الاسرة الاقتصادية.. وبعد ذلك ياتى التعليم والملبس والمظهر العام فى قائمة الاهتمامات.
الوضع الاجتماعى العام فى مصر يمكن وصفه بأنه خلاق فالكل يتعامل من خلال منظومة عرفية , تعارفواعليها ووافقوا عليها ولها قوة القانون بعيدا تماما عن قانون الدولة الذى هو ملزم للجميع طبعا اذا فقدت منظومة العرف مصداقيتها. فمثلا قيادة سيارة فى مصر يخضع تماما لقانون عجيب وهو التفاهم التام بين المشاة وقادة السيارات وبين قادة السيارات وبعضهم البعض , لذلك ترى العجب العجاب فى الشوارع والطرق !! هذا الوضع يمكن تشبيهه بنظرية الضرورات تبيح المحظورات !! وهى نظرية أثبتت نجاحها فى ظروف الشدة والضيق ..ففى السجون مثلا يكون اعداد كوب من الشاى فى السر بعيدا عن أعين السجان هو نوع من الابتكار فى حد ذاته ,هذا نفسه هو الابتكار الذى يستخدمه المصريون فى تعاملهم مع الزبالة والمرور والقيادة والبناء والتعمير والزراعة والتعليم.. وفى الحياة بوجه عام .. ويمكن وصفه بدقة بأنه ابتكار سلبى , وأعتقد أنهم لو استخدموا الابتكار الايجابى لتغيرت الحياة بطريقة ايجابية . فمصر هى السجن الجميل المثالى الذى يتعاطف فيه السجان مع المسجون حتى يقضى الجميع فيه وقت عقوبتهم وخدمتهم بشىء من الانسجام اللذيذ , وعلى الرغم من معرفتى المسبقة بهذه الشيزوفرانيا الاجتماعية ورفضى لها , الا أننى وللحقيقة استمتعت بها هذه الزيارة وهى من ضمن الأشياء التى تجعل من مصر ذلك المكان الجميل الذى يقضى فيه الجميع حوائجهم , فالمساجد والكنائس والمقاهى جنبا الى جنب فى كل الطرق والساحات وبينهم وبجوارهم تجد المخدرات والمسكرات وحور العين , وكل مسجون فيها يختار مكان راحته وملذاته وعلى طريقته الخاصة بحرية وانسيابية تجدها فقط فى نيويورك وباريس ولندن . هذه الاشياء وغيرها هى التى تجعل من قيادة مصر السهل الممتنع ,فعلى الرغم من تعقد مشاكل مصر وتشابكها الا ان الحكومة تديرها بكل سهولة ويسر فالحكومة متعاقدة مع الشعب بطريقة عرفية وهى طبعا حكومة مصرية تعرف مزاج المصريون , فطالما لاتوجد ازمات تمونية فالحكومة ناجحة أما الغلاء وباقى المشاكل فهى سنة من سنن الحياة !!.
يصنف الاكاديميون مشاكل مصر بطريقة اكاديميه , بمنظور علمى منهجى يخضع للمدرسة الكلاسيكية فى تحديد الاولويات الضرورية للنهضة العصفورية ولكنهم عجزوا عن تحديد الفلسفة الغجرية فى سياسة الحكم الرشيد والتى هى الأصل فى حكم الشعب المصرى منذ الاف السنين , والرئيس المصرى حسنى مبارك هو الرجل صاحب البعد التاريخى المزدوج والى يتعامل مع المصريون بطرق واعية بعيدة عن الشعارات البراقة والخطب الرنانة , فالرجل يرى أنه لافائدة من اضاعة الوقت فى خطاب الحداثة والنهضة مع شعب فى حالة انسجام ذاتى مع الفكاكة وبالتالى فهو يؤمن لهم الحد الادنى من الحريات الضرورية للتعبيرعن وجاهة الوضع المعنوى الخاص بالجموع الغفيرة التى ارتضت بالوضع العام والتى هى فى أمس الحاجة الى حنان شديد . ولونظرنا للوضع بشىء من التوازن لوجدنا انه رجل عاقل يتفاعل مع شعبه بطريقة ايدولوجية مؤدها : تصرفوا وحلوا مشاكلكم بكل طرقكم !! ولا تضغطوا على فأنا واحد منكم مؤمن بما تؤمنون , وأفضل الحلول الخلاقة التى هى علامة مهمة من علامات الطريق الذى نسيره معا والذى قطعنا فيه شوطا طويلا .. الرئيس مبارك يرى - وهو محق- أن المصريون قادرون على مهادنة الاوضاع الاقتصادية بطرق عنكبوتية عجز خبراء الاقتصاد وعلماء الاجتماع والسياسة من سبغ اغوارها لذلك فهو واحد منا يفهم دماغنا وقادرا على فهم ماهو ابعد من دماغنا. ولهذا تجد بعض من عقلاء المصريون قد علقوا صور السيد الرئيس ممهورة بمبايعات وحتى آخر الزمان .
تسيرعربة القيادة فى مصر المحروسة فى طريقها الدستورى , وفى المؤخرة يتشعبط فريق المعارضة التى تعارض بدون وعى منطقى موزون بنفسية الشعب المصرى التى اصابها فيروس العولمة, فأصبح شعب يلهث وراء قشور الحضارة بدون وعى تاريخى بأهمية المحلية فى العالمية , وكلما جرت العربة جرى ورؤها هؤلاء المعارضون ينادون باصلاحات لست متأكد تماما بأنها فى صالح هذا الشعب المؤمن بالطرق المختصرة فى حل مشاكله.. هذه الطرق المختصرة أصبحت وسيلة حياة.. تماما كما كنا نجرى ونتشعبط فى العربات الكارو ونحن صغارا , وكنا نحزن كثيرا ونتألم كلما نادى أحد الأمناء محذرا العربجى قائلا : " كرباج ورا ياسطى!!".
فهل ياترى المشكلة هنا فى العربجى أم فى العربة الكارو أم فى الركاب ؟؟!! أم فى الحمار ؟؟