القوة الذكية – 2
...............................................................
| |
خريطة نهر النيل | |
بقلم : غريب المنسى
.......................
تعالوا نفترض جدلا أن نهر المسيسبى أطول نهر فى الولايات المتحدة تقع دولة المنشأ له فى أمريكا اللاتينية فيبدأ من شيلى ويمر ببوليفيا وبيرو واكوادور وكولومبيا ليدخل بنما وكوستاريكا والسلفادور ويشق المكسيك من المنتصف على أن تكون الولايات المتحدة هى بلد المصب لهذا النهر العظيم .. لتبدأ رحلته داخل أمريكا الشمالية ليشق معظم ولايات القلب الأمريكى - مينيسوتا, ويسكونسن, أيوا, إيلينوي, ميسوري , كنتاكي , تينيسي , اركنساس، مسيسيبي , و لويزيانا ليصب فى النهاية عند فرعين له فى خليج المكسيك.
ولنفترض جدلا أن كندا دولة توسعية لديها عجز فى الطاقة المائية ولها أطماع فى هذا النهر الخالد منذ الأزل , وحتى تحل مشكلتها المائية لجاءت الى فنزويلا وكوبا باعتبارهم من الدول الاشتراكية فى امريكا اللاتينية ويعادون الولايات المتحدة واقنعتهم بضرورة اقناع كل دول حوض هذا النهر اللاتينى بتغيير الاتفاقية المائية التى تربطهم مع الولايات المتحدة الدولة الجشعة , فى مقابل أن كندا ستقوم بعمليات استثمارية كبيرة فى امريكا اللاتينية وبالذات فى دول الحوض وأنها ستشترى جزء من حصة الولايات المتحدة المائية فى حال تقليصها , وأقنعتهم أيضا بأنه عمل وطنى فى صميمه للتخلص من الدولة الاستعمارية التى تستولى على المياه اللاتينية التى هى حق لكل مواطن لاتينى. وعلى الفور اقتنعت هذه الدول بالفكرة , وقررت بتشجيع اقتصادى من كندا أن تضع سدود على النهر فى دول المنشأ والممر , وأن توقع اتفاقيات فيما بينها لتنفذ مشروعات مائية ومشروعات رى واستصلاح أراضى دون الاعتراف بدولة المصب والرجوع اليها. معرضة بذلك القارة اللاتينية لمواجهة مع الولايات المتحدة .
ماذا سيكون رد الولايات المتحدة على قرار دول أميريكا اللاتينية ؟
هل ستدخل معهم فى حرب عسكرية غير مضمونة مستخدمة " القوة الخشنة " ؟ أم ستدخل معهم فى مناقشات دبلوماسية عقيمة من نقطة ضعف مستخدمة " القوة الناعمة " علما بأن للولايات المتحدة حق تاريخى فى هذا النهر ؟ أم تلجأ لاستخدام "القوة الذكية" لديها كوسيلة فعالة لمواجهة صراع هو فى الحقيقة صراع اقتصادى نجحت كندا فى اضفاء الطابع القومى عليه لدى الطرف اللاتينى وسيظهر للعالم لحظة تفجره بأن الولايات المتحدة هى الدولة الاستعمارية التى تستخدم القوة فى السيطرة على مقدرات وخيرات قارة أمريكا اللاتينية ؟
التاريخ والتجربة والرصد يفيد بأن الولايات المتحدة تستخدم دائما القوة الذكية على ارغام أى طرف فى أى صراع للانصياع للقوة الناعمة والذهاب مجبرا الى طاولة المفاوضات مرغما على توقيع اتفاقية تحفظ ماء الوجه وحتى يتجنب القوة الخشنة ونتائجها التدميرية والاقتصادية السلبية. والولايات المتحدة من ضمن الدول الرائدة فى توظيف القوة الذكية فى خدمة وحماية أهدافها القومية .
كيف يتم ذلك ؟
الكاتب الأمريكى فينس فلين - VINCE FLYNN - يعتبر من أهم الكتاب المغرمين بتسجيل مغامرات بلده فى استغلال القوة الذكية وتوظيفها لخدمة أهدافها الاستيراتيجية والتى ستؤدى بالضرورة الى حماية وصيانة الأهداف القومية , وله حوالى عشرة كتب تسجل هذه المغامرات وهى تكاد تكون موسوعة مفيدة لأى مركز من مراكز القوة الذكية فى عالمنا العربى . وطبقا لما ذكره فالدولة فى العصر الحديث لابد ولزاما عليها أن يكون لديها مركز قوى للقوة الذكية لخدمة أهداف الدولة العليا , وبناء على ماذكره فيمكننا سرد طريقة الولايات المتحدة فى حل مشكلة نهر المسيسبى مع أمريكا اللاتينية فى السيناريو التالى:
أولا : عندما بدأت كندا فى نقاش سرى مع دول اميركا اللاتينية من أجل تغيير اتفاقية المياه التاريخية فأن هذا النقاش والمحاورات ومع العلم بأنها سرية الا أنها فى الواقع ليست سرية لبعض القيادات فى أمريكا اللاتينية القريبة من الأحداث والتى سربت الأخبار لبعض رجال القوة الذكية الأمريكية الموجودين هناك بشكل دائم فى السفارات الأمريكية وذلك فى مقابل منافع متفق عليها وغالبا ماتكون منافع مادية.
ثانيا : بعد تحليل الخبر فى مركز القوة الذكية فى واشنطن عادة تكون التعليمات للرجال الأذكياء المترجلين فى أمريكا اللاتينية بجمع وتحليل وتكوين تقرير كامل يشمل كل الأطراف اللاتينية التى هى فى مراكز اتخاذ القرار فى هذا الموضوع الخطير , ويكون التقرير مشابه للتقرير الأمنى لأنه سيتم بناء عليه تحليل كل شخصية على حده للوصول لنقطة ضعفه الانسانية, وان لم يكن هناك نقط ضعف انسانية يمكن استخدام منافسيه السياسين ضده على أن يكون التخلص منه بالاغتيال هو المحطة الأخيرة.
ثالثا : بينما يكون الرجال الأذكياء المترجلين على أرض الواقع مشغولين بالتقرير الميدانى الذى ذكرناه أعلاه, يقوم قسم الجغرافيا والتاريخ والمباحث فى مركز واشنطن بتحديد القبائل وقيادات كارتل المخدرات وكل أحزاب ورجال المعارضة الموجودة فى دول النهر فى امريكا اللاتينية ليتم الاتصال بهم واعطائهم أمل فى المنافسة السياسية فى بلدانهم لاسقاط هذه الأنظمة العميلة !! وحتى يكون الكلام عمليا لامانع ابدا من ارسال حقائب مليئة بالدولارات من فئة "المية دولار" لهم فى معاقلهم ,والذى لايحتاج الى المال منهم كاكارتل المخدرات فهو يحتاج الى التأمين الأمنى والحماية القانونية !! ويكون كل ذلك فى سبيل المساعدة على اسقاط هذه الأنظمة فى حالة اذا ماقررت واشنطن ذلك.
رابعا : بينما الجميع مشغولون فى تحديد الأولويات فى مركز القوة الرئيسى بواشنطن لا مانع ابدا من تصريح لوزيرة الخارجية الأمريكية موجه لدول المنبع ودول أمريكا اللاتينية عموما , تحثهم فيها على عمق العلاقات التاريخية بين شعوب المسيسبى, ولامانع ابدا من زيارة كندا واعلامهم بنبرة يشوبها التهديد بأن حركاتهم مكشوفة وقرعة ولامانع أيضا من تغطية اعلامية داخلية مركزه نسبيا على مشاكل امريكا اللاتينية وذكر عيوب كل هذه الأنظمة , وأيضا عيوب رؤساء الدول اللاتينية بطريقة موضوعية يكون الهدف منها اخبارهم بطريقة غير مباشرة بأنهم دخلوا فى الدائرة المحظورة وأيضا لتعريف المواطن الأمريكى بالوضع السياسى فى أمريكا اللاتينية.
خامسا : يتم اختيار الدولة اللاتينية الأضعف فى مجموعة الدول المتمردة على الاتفاقية , ولامانع من محاولة قلب نظام حكمها عن طريق معارضة وطنية جدا , وحتى لو لم ينجح الانقلاب فهو لابد وأن يترك أثار سيئة على القيادة السياسية يجعلهم يتناسون موضوع اتفاقية المسيسبى فى الوقت الراهن والتركز على تثبيت الحكم فهو الأهم بالنسبة لهم.
سادسا : يأتى هنا الوقت المناسب لاظهار الجزرة , فالعصا قد رفعت فى الخطوات السابقة والمقصود هنا هو المساعدات الاقتصادية والمشاريع الاستثمارية المزمع القيام بها فى القارة اللاتينية والمستقبل المشرق التى ينتظر هذه القارة فى حالة عدم التغيير فى اتفاقية مياه المسيسبى , وفى هذا الوقت بالذات تكون القيادات السياسية فى أمريكا اللاتينية قد بدأت تحس بالمخاطر الموجودة داخليا وعلى حدودها ومع ظهور قوى المعارضة المستقوية يكون هنا الاختيار محدد بشكل عملى أمام هذه القيادات : اما الموافقة على الاستمرار فى الحكم والرضوخ لمطالب واشنطن أو الذهاب الى الجحيم.
سابعا : بدون أدنى تمهيد تظهر وزيرة الخارجية الأمريكية فى حفل توقيع لاتفاقية جديدة لنهر المسيسبى يحضرها رؤساء هذه الدول اللذين قرروا فى اللحظة المناسبة من زيادة نصيب الولايات المتحدة فى حصة المياه السنوية من 55 مليون متر مكعب الى 70 مليون متر مكعب فالولايات المتحدة تربطها علاقات تاريخية مع دول الحوض .. وهذا طبعا فى مقدمة خطاب الرئيس اللاتينى كارلوس ردريجس زعيم الدول التى كانت منشقة على اتفاقية المياه.
أعزائى : هكذا كان وسيكون استخدام القوة الذكية فى الدول الذكية كعنصر مهم لتجنب الحروب والدمار والخسائر البشرية وعنصر فعال لخدمة القوة الناعمة .
فالحرب دائما هى الخيار الأخير.
القوة الذكية - 3